fbpx
بابلو كما ظهر في أغنيته الأخيرة. مصدر الصورة الأصلي: يوتيوب

مروان بابلو.. الجالس على القمة

ربما أراد بابلو من خلال مسيرته القصيرة حتى الآن، أن يخلق من نفسه تلك الأسطورة
ــــــــ رُبع صوت
2 مارس 2021

كنت مع صديقي في جولة سريعة بسيارته في الطرق المجاورة لسكنه، في محاولة للفصلان من مزاج العمل والمذاكرة حين سمعته لأول مرة. لم يكن الصوت أو اللحن مألوفًا لي، فقد انقطعت عن تلك الأغاني منذ عشر سنوات أو أقل بقليل.

آخر عهدي بالراب العربي أو المصري كان “إيجي راب سكول“، و الـ “Y-Crew“، وبعض أغاني شاهين، حتى مع ظهور  أحمد الجوكر لم أنضم لكتيبة سميعته، ولا أتذكر أنني تحملت أغنية واحدة له لأكثر من دقيقة. لذلك فبعكس صديقي الذي كان منسجما مع الأغنية، يردد كلماتها بحماس، كنت صامتًا أحاول إيجاد رد فعل لا يفصله عن الموود، ولا يورطني في المزيد من تلك الأغاني.

لا أعلم كيف هداني عقلي إلى أن أسأله عن اسم المغني، لأنه ما إن سألته حتى أخفض صوت المشغل وأجابني باهتمام بالغ كمن يبشر لطائفه دينية جديدة، أو يقوم بإقناع شخص محايد بتشجيع فريق كروي ينتمي إليه.. “ده مروان بابلو… أهم إسم في الراب سين دلوقتي”.

عندما عدت إلى المنزل وجدت صديقي قد أرسل لي توليفة من أغاني الراب.. ويجز، داما  -علمت بعدها بأن داما هو لقب مروان بابلو في فترته الأولى قبل توقفه المؤقت  في بداية  2016-  مستر كردي، أبيوسف، وبالطبع أحمد الجوكر.

لم يرق لي إقتباس كردي من ثقافة العصابات اللاتينية، ولم أشغل بالي إن كانت أغاني الجوكر قديمة أو حديثة لأنه لا يزال يقدم نفس المواضيع بنفس الطريقة. داما ذكرني بالأغاني القديمة لإيجي راب سكول خلال عقد الألفية الأول. وجدت ويجز وأبيوسف مسليين للغاية، لم أمنع نفسي من بعض التنطيط وأنا أسمع “باظت” (2019) ، و”خنزؤور” (2018)، لكن مع تشغيل أغاني بابلو  كان شيء ما يجذبني للكلمات واللحن؛ الطريقة التي يلقي بها “الفيرسات”،  أعيد الأغاني مرة تلو الأخرى. 

لم أشارك صديقي رأيي في أغاني بابلو، وجدت أنه ربما يكون سبب الإنجذاب هو العودة مرة أخرى لأجواء الراب المصري، استعادة نوستالجيا أيام الإبتدائية. لكن وجدت نفسي أكرر نمط إستماع واحد بشكل يومي في المساء؛ أغنيتين لـ ويجز لتجديد النشاط، ثم الاستلقاء وتشغيل أغاني بابلو وداما وأنا أقرأ رواية أو كتاب. 

لم يتح لي مقابلة صديقي بعد ذلك لفترة طويلة امتدت لثلاثة أسابيع بعد جولة السيارة، وبعد صدور كليب “الجميزة” (2019)  حدثت صديقي بالموبايل، وقبل أن يرد قلت له “الجميزة دي غريبة فشخ، مبطلتش أسمعها أهو بقالي ييجي تلت أيام، مش فاهم حقيقي الواد ده وأغانيه فيها إيه؟!”، “الكلمات مش بقوة خناقات راب زمان، البيت مهرجاناتي، والشغل اللي في الكليب فيه نحت كتير”، ليرد علي “هو بابلو كدة … فشيخ بلا سبب، كاريزمته بس لوحدها بتكفي”.

كاريزما..؟ 

لم أهضم رده، وبشكل عام لم أعتد قبول مثل تلك التفسيرات التي دائمًا ما تحيط بأي ظاهرة بالصناعات الترفيهية. أراه مثل مصطلح “شخصية البطل” في كرة القدم، أو “الطلة”، و”الحضور” في مجال التمثيل. ولا يقدم أصحاب تلك التفسيرات رأيهم بشكل رومانسي يجعلك تتقبل عدم منطقيتها، بل يقدمها كإجابة حاسمة، وبأداء يليق بإجابة منطقية تدعمها تحليلات منطقية. 

لو كان الأمر يتعلق بصديقي فقط لم أكن لأعيره ذلك الاهتمام، ولكن لأن “الجميزة” (2019)  كما فتحت النار على صاحبها، من نقد، لتنمر، لاحتقار لما يقدمه، فإنها وطدت علاقته بقاعدته الجماهيرية من محبي موسيقى الراب المصري، تلك القاعدة التي بدأت أكتشفها عن قرب في دوائري المقربة من زملاء الدفعة بالكلية، أو رفاق جلسات القهوة أو الكيف.

كان هنالك إحساس إعجاب واحترام تجاه بابلو لم يكن مفسرًا بالنسبة لي. ليس مجرد احتفاء باسم جديد يرمي حجر في مياه راكدة، أو موجة جديدة تدفع السأم، بل إعجاب يليق بأسطورة حية، وتماهٍ تام مع شخصيته وأسلوبه. وهو ما شجعني في البحث وراءه، في رحلة لم أخرج منها حتى عودته منذ أسبوع بعد اعتزاله في أوائل العام الماضي، بفيديو كليب “الغابة” الذي تم إطلاقه منذ أيام..

مروان أحمد مطاوع، رابر سكندري من مواليد 1996، عرف بإسم داما قبل توقفه في أوائل عام 2016، وبـ مروان بابلو بعد عودته من فترة توقف قصيرة في أواخر نفس العام .

لا يتواصل مع جمهوره بأي وسيلة، فقط حفلاته المعدودة حينها في “درب 1718” بمنطقة مصر القديمة، أو “الجريك كامبس” بوسط القاهرة، وكمقابلات له على اليوتيوب فقط ثلاثة فيديوهات؛ حوار  مع “ياسين زهران” (2018) ناقد الراب المعروف، ووثائقي قصير بعنوان “الأب الروحي للتراب” (2019) من عشرة دقائق على موقع “فايس Vice”، وآخر ضمن برنامج “راب-كة” (2019) الذي ينتجه موقع “Scene Noise”. وظهر فقط في فيديو “سايفر المعادي” التي أنتجته  مجلة “معازف” في 2019 برفقة مجموعة من الرابرز الجدد والقدامى مثل شاهين، فيفتي، ويجز، شب جديد، والناظر وغيرهم.

لكن فترة الظهور التي لا تتعدى الساعة فسرت لي بشكل كبير سر “كاريزما” بابلو، ووضحت ليه اتجاهه، شخصيته، وإستراتيجيته التي يعمل من خلالها.

***

يبدو مروان شخص قادر على التعبير عن أفكار جيله من الطبقة المتوسطة التي ينتمي لها بوضوح، جيل ما بعد التعويم الخارج عن عباءة الدولة، خائف من القادم والمستقبل رغم تطلعه له، لديه رغبة في الاكتشاف، ونظرًا لتوحش المجتمع المحافظ وغلق المجال العام والكبت، فهو غرق في أزمات نفسية تتعلق بالهوية، تمنعه من إقامة علاقات إنسانية وعاطفية صحية.

لديه رغبة في التمرد على النوستالجيا، وكل قيم الطبقة الوسطى التي تقدس التعليم العالي والوظيفة الثابتة، والتي لم تعد مجدية مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة. يقع في تناقض بين “الحضرة” منطقته الشعبية بالأسكندرية، ومدرسته ذات المستوى المادي المرتفع، ويدرس بها طلبة وطالبات حتى المرحلة الثانوية -على عكس معظم التعليم الرسمي المصري الذي يفصل الذكور عن الإناث- ونضيف إلى ذلك أنه شخص منطوٍ، يجد صعوبة في الاختلاط بالناس، ومع ذلك تتحسس الثبات من حديثه.

تعبيره ليس فقط في حديثه، بل بمظهره الخارجي، بين المراهقة والشباب؛ طويل القامة، نحيف، أسمر، شعره أكرت، يجمع بين اللون الأسود وخصل باللون البرتقالي الباهت الذي يدل على استعمال صبغة رخيصة؛ ليس وسيمًا، أو “حليوة” بلغة التنميط المجتمعي، لكنه شديد الثقة بنفسه.

يرتدي في معظم الوقت “الهودي”، “الجاكيت الجينز”، والبناطيل الرياضية. الإفّيه دائمًا حاضر على لسانه حتى في أوقات الأزمات، مدخن شره لا يتوقف عن التدخين حتى في اللقاءات، وفي تجمع “سايفر المعادي” ظهر وهو يغني ممسكًا في يد بزجاجة بيرة وفي اليد الأخرى بسيجارة. يتحدث بلغة تمزج بين العامية والانجليزية في حديثه الطبيعي، ولا يكف عن إستعمال الألفاظ الخارجة و السباب البذيء للتعبير عن الفرحة، أو الاستياء، أو المبالغة. 

يعمل على موسيقاه في شقة بسيطة على جهاز كمبيوتر، ولوحة مفاتيح يستعملها كبيانو، و يحاكي في حفلاته الأداء الحركي لمغنيين التراب والراب الأمريكين مثل دريك، ترافيس سكوت، وفيوتشر، وهم مغنون معروفون لنسبة ليست بالقليلة من أبناء الطبقة الوسطى المجيدين للإنجليزية. 

***

أيضا علاقة الحب بينه وبين جمهوره متبادلة، فمقابل الطاقة التي يعطونها له، يعدهم دائمًا منذ عودته كـ بابلو بتقديم أفضل جودة يستحقونها، وبأن يجعل الإسكندرية المهمشة مركزًا يأتي له مغنو الراب القاهريين. ومهما كانت الصعوبات فإنه لن يتراجع عن إقامة أي حفلة مهما كانت الظروف لأن الجمهور “جيه هنا علشان يسمع راب”، وتلك الأفعال تجعل الجمهور يشعر بأهميته في منظومة الراب الجديدة التي يطمح مروان لأن يكون من مؤسسيها.

إستراتيجية الـ”مين ستريم” 

“الصح إنك تعمل راب بفلوس”- وثائقي “الأب الروحي للتراب” 2019

كان بابلو يدرك أن مشهد الراب المعاصر له لن يُقدم للجمهور العام بطريقة ناعمة، مثلما قدمت نماذج راب سابقة مثل شاهين و Y-Crew بفيلم “ميكروفون” (2011) الذين قدموا من خلال السينما المستقلة، أحمد مكي في 2008 بعد نجاح فيلم “H دبور” (2008)، تبني فريق “كايروكي” لتجربة زاب ثروت في فيتشرات صدرت بمشاركته بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. 

كان بابلو يعلم أن مشهد الراب يحتاج إلى أن يكون أكثر جدية، وهو لم يلمس بين “المحيطين” من مغنيي الراب المصريين تلك الجدية بالشكل الكافي، أو كما يقول “واخدين الموضوع بتفاهة”، وهو ما جعله يلغي أغاني داما تمامًا ويقوم بحذفها، باعتبارها شخصية تجريبية، ولن يقدم أغنيتين أو ثلاثة بالأسبوع، بل سيعطي وقتًا أكبر لموسيقاه حتى تنضج قبل إصدارها، كما أنه لن يضع الـ Rap battles كمحل اهتمام وهدف رئيسي، لأنها تقدم محتوى بكلمات ثقيلة لن يستسيغها الجمهور العام، وسيركز على الفيديو كليب وتقنياته، وعلى أن يخرج بألبومات للجمهور. 

***

متطلعًا إلى نماذج مجاورة مثل مجال الراب المغربي الذي يراه إحترافيًا وله شخصية واضحة -وهو يريد للراب المصري أن يكون مثله له شخصية واضحة مستقلة. ولأن النهضة تعتمد على إنتعاش الساحة بأكملها- فهو يخطط لمشاركة العديد من مغنيي الراب المصريين والمنتجين في موسيقاه.. “عشان كله يظبط الدنيا”.

“عايز أدّخل واحد ماشي بيسمع أغاني عادية.. بيسمع مهرجانات والكلام ده، عايزه يبقى في البلاي ليست أغنية راب عربي، مصري بالتحديد”، كما يقول في وثائقي “الأب الروحي للتراب”.

بتلك الاستراتيجية بدأت أغاني بابلو الجديدة مثل “كاس“، “فلكلور” (2018)، “أبو مكة، “فري“، و “الجميزة” (2019) تنتشر، وانعكس ذلك بتنظيمه لعدد حفلات أكبر في “درب 1718″، وفي “الجريك كامبس”، و “كايرو جاز”، كما حل ضيفًا على حفلتين من حفلات “كايروكي إمباير Cairokee Empire” في 2019، و شارك في حفلة لتامر حسني بالجامعة الأمريكية في نفس الفترة.

قدم إعلانين –إعلان شيبسي لبطولة كأس الأمم الأفريقية، وإعلان بيبسي بلاك في العام نفسه- ورغم أن الإعلانين برفقة أبيوسف، إلا أن بابلو هو من كان محور الضجة والأضواء بشكل أكبر. مع ملاحظة أن دخول التراب ساحة الإعلان كان إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في الانتشار شعبيًا، بعد أن كان الظهور في الإعلانات التجارية حلما صعبًا لمعظم الرابرز، ثم بعد ذلك سلاح يتبارون به في “الديسات” بعد شهرتهم.

وسع ذلك من القاعدة الجماهيرية لـ مروان بابلو وأضاف لها مستمعين جدد من خارج سرب مهوسي الراب والتراب. آمنت قاعدته الجماهيرية التي ساندته منذ بداية المشوار به وبنجاحه. الموسيقى التي يستمعون لها بشغف أصبحت محل جدل بالرأي العام المصري. ليس ذلك فقط، بل بتقديم أقل التنازلات وبمعادلة جمعت بين جودة المحتوى والانتشار، وهي معادلة لم ينجح بها إلا قلة قليلة من مغنيي الراب.

***

لهذا كله شكل اعتزاله المفاجىء صدمة لذلك الجمهور، خاصة وأنه أتى عقب نجاح فيديو كليب “فري” (2019) بفترة قصيرة. وتضاربت أسباب هذا الاعتزال بين “التوبة” وبين إرهاقه من مشهد الراب المصري بأكمله.

كليب “فري” كان طفرة من نوعه، ليس فقط على مستوى كليبات أغاني الراب، لكن كليبات الأغاني المصرية بشكل عام، لما احتوى عليه من إمكانيات وفنيات عالية شجعت المنتجين على الاستثمار في مجال كليبات موسيقى التراب -كليبات مثل “دورك جاي” لويجز، أو “شيراتون” لمروان موسى كانت لتتأخر في الظهور لولا “فري”.

تمسك الجمهور بأن يكون سيناريو الاعتزال هذا مثل اعتزال الممثل أحمد الفيشاوي في منتصف الألفينات، قبل أن يعود بعدها للتمثيل مرة أخرى، أو أن تلك استراحة محارب مثل استراحة داما. كان بابلو في تلك الفترة وحيدًا على القمة، ولم يعطي ويجز علامات بعد على أنه سيكون نجمًا بقوة بابلو إلا بعد اعتزال الأخير.

شعر المتابعون أن بابلو مهد طريق لكنه لم يبنى بشكل كامل. ترقبوا أي إشارة عودة، وعندما قام الموزع الموسيقي مولوتوف برفع أغنية “ديناميت” (2020) على اليوتيوب  والتي سجلها بابلو  قبل الاعتزال – أنكر بعدها بابلو علمه المسبق برفع تلك الأغنية وأنه لا زال على موقفه في الاعتزال- في ظرف ساعات قليلة كانت مروان بابلو و”ديناميت” تتصدر تريندات مواقع التواصل الإجتماعي، وأكثر من صديق بمناطق مختلفة بالقاهرة والاسكندرية كانوا يسمعون صوت الأغنية صادرًا من الكثير من السيارات في أوقات مختلفة من اليوم.

حدثت نفس الحالة من الترقب في بداية العام الحالي حين أعاد مروان تفعيل قناته على اليوتيوب وقام بتغيير صورة صفحة الفيسبوك، ومع إعادته لصفحة الانستجرام وتسريب فيديو من مرحلة تصوير كليبه الجديد “غابة”، كان الجمهور قد وصل لمرحلة الترقب القصوى، ليس فقط مستمعين الراب، بل أيضًا جمهور سميعة الموسيقى العام، بعد أن استنزفت ساحة موسيقى المهرجانات، والتراب والراب نتيجة ظروف الحجر الصحي بسبب “جائحة كورونا”.

تلك الظروف التي أدت لإلغاء معظم الحفلات الموسيقية، وإلى ضبابية في مشهد الحفلات في الفترة القادمة نتيجة عدم الوصول لحلّ للتصدي لتلك الجائحة، حيث لم يجد الفنانين وسيلة دفاعية للحفاظ على ظهورهم الدائم وإبقاء مصادر دخلهم إلا منصات العرض مثل اليوتيوب، وتقنية الـ”لايف” بمواقع التواصل الاجتماعي مثل الانستجرام وفيسبوك ويوتيوب نفسه. 

***

أربع ساعات فقط من رفع الكليب على اليوتيوب كانت كفيلة بأن تحدث عطلاً في سيرفر موقع اليوتيوب، فلم تستطع تقنيات الموقع مواكبة الإقبال الهائل في عدد المشاهدات الذي وصل قرابة المليون مشاهدة في الساعات الأولى. ولاقت عودة بابلو إحتفاءًا واسعًا من المستمعين، الممثلين الشباب، مغنيي الراب العرب والمصريين، والمراقبين لمجال موسيقى من نقاد ومذيعي برامج راديو مثل “Big Hass” ، الذي اعتبر ذلك الكليب وعودة بابلو نصرًا لمجال الراب العربي، يجب عليهم أن يحتفلوا به جميعًا.

محتوى وهوية

بعد صدور كليب “الجميزة” (2019)، وفي ظل الهجوم والنقد الحاد الذي كان يتعرض له الكليب، أقام بابلو حفلة في “درب 1718″، وفي منتصف الحفلة هتفت مجموعة من الجمهور بإسم أغنية “الجميزة” عدة مرات، وهو ما جعل مروان يرد عليهم في إحدى الإنقطاعات بين الأغاني بـ “مش دي الجميزة اللي كنتوا بتكرهوها”؛ قالها مازحًا قبل أن يغنيها.

تزامنا مع الجميزة وفي نفس الفترة أصدر ويجز كليب “باظت خالص”(2019)، والذي لاقى هو الآخر هجومًا نقديًا، لكن ليس بنفس درجة “الجميزة”، لأنه اعتمد في كلمات الأغنية على مرجعيات أفلام كوميدية مثل فيلم  “الناظر”، بالإضافة إلى الإكسسوارات الظاهرة في الكليب مثل الشنب المستعار ومسدسات المياه، كل ذلك جعل المتلقي يتعامل معه كفيديو بارودي رديء الصنع.

عكس ذلك الاتجاه هو ما خرجت منه “الجميزة”، والذي اعتمد فيها بابلو على محاكاة عنف العشوائيات بمنطقة حضرية شعبية، وهو ما جعل الصورة صادمة للمتلقي. القميص المشجر بالألوان الفاقعة والذي تلاقى مع لون صبغة شعره، الأشولة المحملة بالجثث التي تنقل على السلالم، وتترك آثار للدماء، وتعبيرات وجه مروان نفسه طوال الفيديو. وربط عمليات القتل المتسلسلة تلك بطموح الترقي المادي والإجتماعي، “عايزين عيشة من النضيفة … عايز أصاحب المضيفة”، والتأكيد على الفعل “أعمل جناية أعمل مصيبة.. هنتسبب في حريقة”.

***

يملك بابلو جرأة في التعبير عن أفكاره وطموحاته وتطلعاته أمام الكاميرا دون مواربة، ودون أن أن يضعها في إطار قالب أخلاقي، أو أن يساير كود مجتمعي، ولا يجعل لأهدافه أغراض نبيلة، ولا يخلق لها مبررات إلا ما يقتنع بها، أو كما يقول في أغنية “أبو مكة”: “مفيش دراما هنا لأ…. زميلي وريني المادة … عايزين ناكلوا عيش نعملوا فتة”.

ينطلق معظم مغنيي التراب من خلفية واحدة على المستوى اللغوي باستثناء بعض الفروقات الطفيفة، والتي تتمحور حول استعمال اللهجات المحلية شديدة الخصوصية لمنطقة معينة يعيش بها المغني، أو بعض المواضيع المتناولة، ويمكن القول بأن المجموعة السكندرية من الموجة الجديدة لموسيقى التراب تتميز بإجادة نطق اللغة الإنجليزية، ومزجها بين العامية واللغة الإنجليزية، وربما يعود ذلك إلى التحاق معظمهم بمدارس لغات.

بابلو نفسه قال أكثر من مرة بأن الجانب اللغوي ليس من أولوياته، ولا يعطيه أهمية كبيرة في مشروعه، فكل الغرض من الكلمات أن تكون سهلة وبسيطة بحيث يستسيغها المستمع العادي.

لذلك فهوية بابلو المميزة خرجت من تصوير أغانيه، الذي يحمل سمات واضحة، وعلامات مشتركة مع اختلاف المواضيع المتناولة، فهو يخلق لنفسه تيمة يتحرك من خلالها.

فالبيئة المحيطة به دائما بيئة مدينية؛ عمارات سكنية مأهولة، أو عمارات على الخرسانة، جراجات، أو بالشارع وهو يؤدي رقصاته، أو يخرج رأسه من سيارة مسرعة ليتطاير شعره في إشارة للتحرر، وقد يشمل ذلك أماكن تصوير داخلية مثل صالة أو غرفة نوم بشقة بسيطة.  ومن ذلك المركز إما أن ينتصر بداخله أو ينتقل بأسطورته إلى أماكن أخرى مثل القصر في كليب “فري” أو الغابة والصحراء في كليب “غابة”.

ولا تتغير الملابس عند بابلو الذي يظهر في الحفلات إلا في حالة الترقي، حيث يبقي على تسريحته ومظهره مع بعض التغييرات البسيطة مثل البدلة الزرقاء في كليب “فري”، أو الجاكيت الجلد المنقوش بنقشة النمر في كليب “غابة”. 

ويحرص دائمًا على أن تكون تكوينات الصورة بسيطة، والعناصر قليلة، لتجذب عين المشاهد، وقليلًا ما تضاف مؤثرات بصرية على المشهد وتتعلق أغلبها بالإضاءة، وذلك يكون بغرض اضفاء موود عام مثل الضوء الأخضر والأزرق النيون بالـ”نايت كلاب”.

وتعج كليبات بابلو دائما إما بالحركة أو الاشتباك البدني. وينقل حالة الإعتزاز بالذات والتباهي من خلال زوايا وأحجام اللقطات، حيث يعتمد كثيرًا على حجم اللقطة الـ Close، و زوايا High angle، وLow angle. 

ذكاء بابلو أيضا يوظف في الأخذ من ظواهر من الثقافة الشعبية ليطعم بها كليباته، فيرتدي في أغنية “أبو مكة” تي شيرت محمد صلاح بنادي ليفربول، وأيضًا النسخة المضروبة التي يتم تداولها في الأسواق الشعبية.

ليس فقط الظواهر الشعبية لكن أيضًا يقتبس مشاهد ولقطات من أفلام عالمية ومصرية، ويعيد توظيفها حسب كلمات الأغنية، مثل الإستعانة بلقطة حقيبة السيارة الشهيرة في فيلم “Pulp Fiction” ليوظفها في كليب “فولكلور”، أو إطار لقطة عادل إمام الشهيرة تحت لافتة إعلان توشيبا في فيلم الحريف في الثمانينات، لينتج لقطة مشابهة يقف فيها بابلو تحت لوحة إعلانات خالية مضيئة بلمبات الليد، هذا بالإضافة لاقتباسه مشهد دخول أحمد زكي للغابة في فيلم أرض الخوف.

بشكل واعٍ أو لا واعٍ تتماس كليبات بابلو مع سمات ما يمكن أن نسميه تيار الواقعية الجديدة؛ الانطلاق بحرية بالكاميرا في الشارع، مؤدون غير مدربين يظهرون معه بطبيعتهم.

من الهامش إلى المركز

ربما أراد بابلو من خلال مسيرته القصيرة حتى الآن، المليئة بالمنعطفات ولحظات الصعود والهبوط، أن يخلق من نفسه تلك الأسطورة، أسطورة القادم من الهامش السكندري، ليصعد بمجال الراب، وربما ساقته الأقدار لذلك.

لكن الواقع هو أنه ترك تأثيرًا في قطاع ليس بالقليل من شباب الطبقات المتوسطة، وأثبت بالإخلاص والدأب والتخطيط صدق رؤيته التي هاجمه فيها الكثيرين، حتى داخل مجاله.

طريقته التي وصفت بالنرجسية، ملاحظاته وترفعه عن الاشتباك مع مجاله المحيط في ساحة الراب المصري التي جعلته يوصف حينها بالنرجسية، جعلته اليوم يوصف من وجوه لها طول باع في مجال الراب بـ “الأكثر نضجًا“. قصص نجاح بذلك الشكل، وتلك الأسلوبية، وبأقل التنازلات لم تنجح كثيرًا، وهو رد على تردد الكثيرين في الخروج من المنظومة التقليدية وكسر النمط السائد.