fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

أنشودة في حب برج العرب

هناك البقاء للأكثر إنتاجًا، حرب بلا هوادة بين العمال على صعيد المعرفة والقوة البدنية والاستمرارية بنفس الطاقة طوال وردية تدوم إثني عشر ساعة.. حرب الاستطاعة.
ــــــــ العمل
9 أبريل 2021

“نود أن نصنع أنشودة عظيمة عن برج العرب، ليست في عظمة مايكل جوردان لدي فريق شيكاغو بولز بل بعظمة سكوتي بيبين لنفس الفريق، تلك العظمة الأقل التي لا تنسى”

 

مصانع الورق تعتمد على ورق “الدشت” كمادة خام، ورق الدشت هو ما يتم جمعه من صناديق القمامة بواسطة مقاولين متخصصين في ذلك، يقوم المقاول بتسريح أفراد لجمع الورق من صناديق القمامة يطلق عليهم” النّبيشة” حيث أنهم ينبشون الأكوام من أجل استخلاص الورق، يقوم المقاول بتوريد المجموع إلى مصانع الورق لإعادة تدويره مرة أخرى، الورق الأبيض أغلى ثمنًا، يُطلق عليه “فينو”، الباقي يندرج تحت مسمى “البلدي” أو “الكرافت” وهو الأرخص ثمنًا.

 ***

لم أبدأ العمل في مصنع الورق الكائن بمنطقة برج العرب الصناعية غرب الأسكندرية، بل في موقع فرعي بجواره مخصص لفرز ورق الدشت إلى “فينو” و”كرافت”، ثم باستخدام مكبس هيدروليكي يمكن كبس الورق لعمل مكعبات كبيرة، يسهل نقلها للمصنع ليتم عجنها وتبدأ دورة انتاج الورق.

الموقع الفرعي كان أرضًا محاطة بسور قصير ممتلئة بجبال من الورق وكلاب ضالة والمكبس الهيدروليكي.

العمالة اليومية بالمصنع قادمة من محافظات الجنوب، تعمل لفترة ستة أو سبعة شهور متواصلة وتعود في زيارات خاطفة لقراها في المواسم والمناسبات، يقيم العمال في أكشاك خشبية بحرم المصنع، أمر على الأكشاك الخشبية في طريقي للحمام، في الوردية النهارية غالبًا ما تكون الأكشاك مغلقة لا يظهر منها سوى ملابس بالية مغسولة ومتروكة لتجف على سطح الأكشاك. 

الأكشن والإثارة تبدأ ليلًا، تجمعات الأكل ومشاهدة المسلسلات، الغناء الجماعي، تقاسم الاصطباحات، كل مظاهر الترفيه المتاحة للتعافي من يوم عمل قاس.

العمل بموقع المكبس كان مصدر لزيادة دخل عمال اليومية، بعد الانتهاء من الوردية في المصنع يختار بعض الأفراد أن يقتطع من وقت الراحة ويعملون ساعات إضافية بأرض المكبس، عمل ممل مجهوده البدني قليل، يفتح الأفق لكثير من التراخي والمرقعة.

أنشودة في حب برج العرب

تصوير: هيثم الشاطر

في إحدى المشادات بيني وبين مجموعة منهم تمكنت كلبة من سرقة طعام غدائهم، خطفت كيس الباذنجان بالصلصة في غفلة منهم، أثناء هدنة المشادة لمح أحدهم فم الكلبة أحمر وتمتلئ عينيها برضا الشبع، نظر لكيس الباذنجان فلم يجده فصرخ بفزع حقيقي وقذف الكلبة بطوبة وبيأس من فقد غدائه، حرم العمال من الغداء، بعد وقت تقبل العمال ما حدث وتم استبدال كيس الباذنجان بعلبة جبنة مثلثات تدعي “الفراودة”. 

في البرج لا مكان للمنتجات المتوسطة أو حتى الرديئة، البرج هو مكان للمنتجات المجهولة، في حالة جوعك وعدم مجيئك بطعام من البيت لا ملجأ لديك سوى كشك يبيع منتجات مجهولة وسندويتشات.. هناك دائمًا سندويتشات شئ ما بصلصة، رغيف خبز بلدي دائري يتم فرد ما هو بصلصة بخط طولي ثم يلف الرغيف ليصبح كأسطوانة محشوة وتغلف من الخارج بورق أبيض مكتوب عليه مسائل رياضية محلولة أو معادلات كيميائية. 

تجد بسكويت بالشيكولاتة يدعي “شيكو وان” حقق نجاحات فتم استثمار هذا النجاح في إصدار بسكويت ويفر يدعي”شيكو تو”.. ستجده هناك في برج العرب.

***

انحصر عملي في الموقع الفرعي في الجلوس على برميل زيت فارغ في مواجهة لوحة التحكم الخاصة بالمكبس، أتأكد من وضع الورق داخله، أضغط زرار الكبس، ثم أضغط على الزر الخاص بلف سلك معدني حول ما تم كبسه، بالإضافة للإشراف على العمالة، تكررت المشادات بيني وبين العمال وتكرر سرقة الكلاب للطعام وشعرت بألم متزايد في مؤخرتي من طول مدة الجلوس على البرميل، حاولت وضع كراتين فارغة على البرميل ولكن الفارق لم يكن كبير، شعرت بالحزن وطلبت نقلي من أرض المكبس.

في المصنع البقاء للأكثر إنتاجًا، حرب بلا هوادة بين العمال على صعيد المعرفة والقوة البدنية والاستمرارية في العمل بنفس الطاقة طوال وردية تدوم إثني عشر ساعة متواصلة.. حرب الاستطاعة.

أعمل كمهندس صيانة، وردية نهارية لمدة أربعة أيام، راحة يومين، وردية ليلية لأربعة أيام أخرى، راحة يومين وهكذا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

أنشودة في حب برج العرب

تصوير: بلال حسني

ينتج المصنع بكر ورق “كرافت”، هو المادة الأساسية لصناعة الكرتون المقوى، الطاقة الانتاجية للمصنع هي بكرة كل ٢٠ دقيقة، بكرة يتجاوز ثمنها العشرين ألف أو يزيد، إذا حدث عطل ما بالماكينة يتوقف المصنع عن الإنتاج ويبدأ العد التنازلي، كل عشرين دقيقة تمر ولم يحل العطل يخسر المصنع عشرين ألف جنيهًا أو يزيد. 

عندما يرن هاتف المكتب للإبلاغ عن العطل والمشورة في طريقة الحل، ينقبض قلبي فالعد التنازلي سيبدأ الآن، تحدي يومي لمدى حظك وخبرتك وفعلك الطيب، تحدي لقابلية استمرارك في العمل، ومدى سيطرتك على أفراده، تحدي لنجاحك المتكرر فيه يزيد كراهيتك للمجتمع وانتهاء تسامحك مع الضعف البشري.. تتفهم تمامًا التدين الزائد لمهندسي الصيانة بشركات الورق التي تنتج بكرة كاملة كل عشرين دقيقة.

أمر على  عامل الفرويلة – الماكينة المسئولة عن تقطيع بكرات الورق الضخمة حسب الطول المطلوب – فأرى نشاطه المفرط حول الماكينة واتساع عينيه  وشراسته فأدرك أن مفعول قرص الترامادول في ذروته، ألقى علي التحية و أطلعني على أحدث اختراعاته، أنبوب نحاسي مفرغ له سن مربوط به صامولة مغطاة بأجزاء من فلتر قديم لعمل ما يشبه البايب لتدخين الفركة ( مخدرات مخلوطة بتبغ يساعدها على الاشتعال) ، الفرويلة هي مقبرة العمال، كثيرًا ما تخلى العامل عن حذره فتجد الأسنان الخاصة بتقطيع الورق قد التهمت جزء منه، أغلب من يعمل على الفرويلة لديه أصبع أو عقلة مقطوعة.

تستطيع تمييز وظيفة العامل على ماكينة الورق من جسده، ماكينات تصنيع الورق تتكون من دورين، دور سفلي به مجموعة من المضخات وأحواض ممتلئة بألوان سائلة وكثير من المياه في كل مكان، كل من يعمل في هذا الدور يرتدي شبشب يظهر منه جلد قدم مهترئ من المياه، الدور العلوي به مجموعة من الدرافيل الضخمة ينبعث منها هواء ساخن لتجفيف الورق، كل من يعمل بالدور العلوي يسعل بصورة مستمرة، مستقرة، طبيعية، وبالطبع من يعمل على الفرويلة لديه طرف مقطوع.

كل من يعمل في هذا الدور يرتدي شبشب يظهر منه جلد قدم مهترئ من المياه، الدور العلوي به مجموعة من الدرافيل الضخمة ينبعث منها هواء ساخن لتجفيف الورق، كل من يعمل بالدور العلوي يسعل بصورة مستمرة، مستقرة، طبيعية، وبالطبع من يعمل على الفرويلة لديه طرف مقطوع.

بعد كل troubleshooting  فاشل كنت أقرأ على نفسي الآتي..

سأقوم بإخراج فيلم مستقل بنفسي

سأقسّم الشاشة فيه إلى ثلاثة أجزاء عرضية

بكل منها امرأة روسية فاتنة

تبحث بشهوة عن ذكر شرقي هائج

سأكف عن العمل الذي يستغرق مني 16 ساعة يوميًا

وأتفرغ لتصفح الانترنت ومتابعة التعليقات على تويتر

لن أكثف انشطتي في أيام العطلات الرسمية

و استمتع بالمياه الغازية الكحولية وقتما شئت

لن ألعب دور المتدين بعد ذلك

سأتعلم الألمانية بمفردي في 7 ايام

وسأنتظر تأشيرة دخول لكسمبورج حيث لا وطن للعجائز هناك

وحيث يمكنك النوم حتى الظهيرة بدون الكثير من المنغصات

 ***

في المصنع تفرض الانجليزية كلغة رسمية للتعامل في الورقيات والإبلاغ عن الأعطال وخلافه رغم أنف العمال، لذا يلجؤون لجمع المؤنث السالم للتعبير عن متعدد مريح  فمثلا “handrail” تجُمع على هاندريلات، “proposal” تجُمع على بوربوزولات، “Emergency switch” تُجمع على آميرجنات وتحذف switch للتخفيف، البعض قرر التمرد وإستخدام جمع التكسير فتجد “Bearing” تُجمع على بيارنج، “manual” تُجمع على مناول بفتح الميم والنون،”sensor” تُجمع على سناسر، “worker” تُجمع على وراكر وهكذا، طريقة ناجحة لكسر إدعاء الشركة في تعميم الإنجليزية في معاملاتها.

 ***

بالمصنع ماكينة صغيرة لصناعة ورق “المانيلا”، ولمن لا يعلم ورق “المانيلا” هو ورق الكارتون الأحمر الشهير الخاص بتغليف اللحم والفاكهة في الثمانينات والتسعينات قبل اكتساح الأكياس البلاستيكية مجال التعبئة، يدير ماكينة “المانيلا” وما حولها شخص غامض يدعى هارلي، علمت أن لديه دراجة نارية من نوع “هارلي” لذا ارتبط اسمه بها، يرتدي قفاز جلدي مهتريء تظهر أصابعه منه، لديه طريقة كلام أنثوية مخيفة تربكك.

يعلم هارلي كل تفاصيل العمال أكثر من تفاصيل ماكينة المانيلا، يعلم أنك غير مواظب على الصلاة أو تأتي للعمل تحت تأثير المخدرات، يعلم أنك تنام خلال وردية الليل، أنك تشتم صاحب المصنع على صفحتك على فيسبوك، يعلم محاولاتك لأخذ رقم فتيات صاحب المصنع، يعلم كل ما يدينك، يضغط عليك الهارلي في العمل بناء على ما يعرفه ضدك، يضغط عليك حتى تظهر الهالات السوداء تحت عينيك، لا مساحة للتسامح على مكن المانيلا، عندما يريد صاحب المصنع تكدير عامل ما يُنقل ليعمل على ماكينة المانيلا ليغرق في الصبغة الحمراء ويقع تحت سيطرة الهارلي الذي لا يرحم.

أنشودة في حب برج العرب

خطــ٣٠ / Copyleft

في وردية الليل في مكتبي اسمع ضحكات فتيات الليل الصاخبة صادرة من السيارة الفارهة لأحد ملاك المصنع الذي قرر أن يباشر سير العمل ليلا ومعه فتياته، فتيات جميلات أو هكذا نتخيلهم في البرج، يقضون الساعات الاخيرة من الليل في قلب مصنع ببرج العرب يحملقون في العمال بابتسامات وضحكات جريئة، نفحة مسائية للعمال من خلف زجاج السيارة الفارهة لتعادل الجو المتوتر المنبعث من سب الدين المستمر لصاحب المصنع لأحد العمال اعتراضا على تفصيلة ما في العملية الإنتاجية، تجرأت إحدى الفتيات مرة وقررت النزول من السيارة لتدخين سيجارة في هواء البرج الجاف فتحول سب الدين إليها لتسرع بالدخول في السيارة مجددًا. 

يصل صوت الضحكات لقاطني الأكشاك الخشبية وأخشى أن أذهب للحمام الذي يقع بجوار الأكشاك بمفردي ليلًا.

 ***

عمل عبده في السعودية كسائق لسيارات نقل منذ منتصف الثمانينات، أخبرني عبده أن لسيارات النقل نصف دستة من “الغيارات” ثلاث للسرعات المنخفضة وثلاث للسرعات العالية وللتفرقة بينهما يطلق على غيار السرعة المنخفضة اسم عجوز فيقال ثاني عجوز او ثالث عجوز، أفكر.. “ثالث عجوز” يصلح عنوان لألبوم موسيقي تجريبي.

عاد عبده للأسكندرية وتولي قيادة الأتوبيس الأكبر للمصنع ، ينقل ورديتين يوميًا، العمل على مدار الأسبوع بدون راحات أو عطلات، شئ يذهب العقل ويدفعك للجنون، العمل يوميًا لمدة تزيد عن العشرين عامًا يجعلك تتعامل مع كل الأمور باستخفاف وتختلط عندك الحقائق بالأوهام.

مشوار يبدأ في السادسة لتصل للأرض الكابية في تمام الثامنة، عبده هو قائد المسيرة، أصلع أسمر في أوائل الخمسينات يرتدي صديري على اللحم دائمًا وبنطلون قماش أسود مريح ولا تفارقه النظارة الشمسية، يعلم أن الاستثنائيين فقط هم من يستطيعوا المحافظة على نظافة أتوبيس مرسيدس حديث من عبث عمال وردية ليل لمصنع ورق بالبرج،  قسوة متطرفة تشعلها أغاني شفيقة وطارق الشيخ، لا يقابل حوادث الطريق سوى بسؤال لا يتغير.. “كام حتة ع الأرض يا حسني؟”

 عبده لا يفوت فرصة تناول الشاي من مقهى في طريق الذهاب ولا يفوت لوم العمال علي البلابل.. “ياريت الناس وهي بتشد الستاير تشد بالراحه علشان البلابل متتكسرش لأن دين أم البلابل دي لو اتكسرت أنا مش حركب غيرها وحسيبكم في الشمس”

*** 

في مشوار الذهاب والعودة أهرب من  عبده بأغاني ألبوم ٢١, وما الذي يضاهي سماعك لـ Adele في اتوبيس 27 راكب يقلك من منزلك حتى برج العرب لقضاء وردية ليل في مصنع كئيب كابي ينتج  “كرافت” يدخل في تصنيع كرتون مقوي لتغليف ثلاجة توشيبا يتجاوز ثمنها الـ 8 آلاف جنيه تكفي لإيجار شهرين لشقة ممتازة في وسط العاصمة لتمارس التكاثر سرًا.. وتشعر أنك تمتلك ناصية الحياة والحب.