fbpx
بيروت، ديسمبر 2022. تصوير مروان طحطح

بماذا أخبرنا مونديال قطر عن أنفسنا؟

لا يحق لأحد أن يصادر على مشروعية الحلم. يمكن لفوز المغرب أن يلهمنا بالطبع. لخص أغلبنا مشاعر السعادة والفخر بفوز المغرب في كلمات دالة: "نفخر بالمغرب لأنهم يشبهوننا"
ــــــــ العملــــــــ ماضي مستمر
18 ديسمبر 2022

كنت أتحدث مع طالبة سودانية تدرس الطب في جامعة الإسكندرية، وحين تطرق الحديث إلى الكتابة تحدثت الطالبة عن ضرورة الاهتمام بالثقافة العامة في مصر، ثم أخبرتني أن الحد الأدنى من المعلومات العامة يوشك أن ينعدم. وتأكيدًا لانطباعها قالت: “تصور أن طبيبًا اخصائيًا قد تعجب أنني أتحدث العربية، قائلا لي: جميل أنك تتحدثين العربية رغم كونك سودانية!”. 

ذكرني ما قاله هذا الطبيب بالمذيع الرياضي الذي كان يستضيف في برنامجه شابًا من موريتانيا، ثم سأله متى تعلم اللغة العربية، و”هل الشعب الموريتاني بيتكلم عربي؟”. 

الطبيب والمذيع كلاهما لا يعلم من هم العرب. لكن إذا نظرنا إلى المسألة من زاوية أخرى قد نراها معبرة عن جزء من “اللاوعي الجمعي العربي”، إن جاز التعبير. ألا يمكن أن يكون هذا الجهل ناتجًا عن معرفة مسبقة تلقائية بوجود إثنيات وقبائل ولغات متنوعة داخل الأوطان العربية الإفريقية؟

بين حلم “المونديال” وكابوس “الضواحي”

أكتب هذه السطور بعد هزيمة منتخب المغرب أمام المنتخب الكرواتي وحصوله على المركز الرابع في مونديال قطر 2022. ربما لم تشكل خسارة “أسود الأطلسي” قبلها أمام فرنسا فارقًا أو تغييرًا في رؤية معظمنا لطبيعة الإنجاز المغربي غير المسبوق. كان صعود منتخب عربي وأفريقي إلى المربع الذهبي فوق مستوى الحلم. وحين يتطابق الحلم مع الواقع إلى هذه الدرجة، تبدأ الذات في التعرف على نفسها من جديد. تُعيد لحظات الانتصار إيماننا بمن نكون، سواء كان النصر رياضيا أو عسكريًا، أو شعبيًا كما في الانتفاضات والثورات. 

ربما لهذا طغى سؤال من نكون حقًا، أو سؤال الهوية. وهل المغاربة عرب أم أمازيغ؟ وهل يُنسب هذا النصر إلى المغرب وحدها أم إلى العرب أو القارة الأفريقية؟ لكن خلف هذا الجدل الهوياتي يتواري السؤال الأهم؟ هل حققت المغرب نصرها لأنها اكتفت بما “تكونه”، أي بالحدود والشروط المادية والجغرافية والثقافية الجامدة المعطاة سلفًا؟ لماذا لا تكون الأولوية للسؤال عن “كيفية” تحقيق النصر وليست للبحث عن جوهر قبلي لمن حقق النصر؟      

تشير التقارير الصحفية إلى وقوع أعمال شغب واشتباكات في شوارع باريس ونيس ومونبلييه من مشجعين مغاربة بعد الهزيمة أمام منتخب فرنسا. وحدثت كذلك مصادمات مع قوات الشرطة في العاصمة البلجيكية بروكسل. وتذكر التقارير أيضًا مقتل صبي عمره 14 عامًا إثر دهسه بسيارة وسط اندلاع الشغب بأحد شوارع مونبلييه. كان الصبي ضمن مجموعة من مشجعي المنتخب المغربي، بحسب ما ذكرت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية. 

تواجه فرنسا “أزمة الضواحي” منذ عقود. نشأت الضواحي على حدود وأطراف العاصمة “باريس”، وغيرها من المدن الفرنسية الكبيرة، لتسكين العمالة المهاجرة والوافدة، كمشاريع إسكان اجتماعي للمهاجرين والفئات المهمشة. ومع التحولات الاقتصادية والسياسية، عانت الضواحي من الإهمال والتهميش والبطالة والنبذ العنصري، حتى تحولت إلى “غيتوهات”. وانتشرت بين سكانها من المهاجرين العرب والأفارقة تجارة  المخدرات، وسيطرت على أغلبها التيارات الإسلامية المتطرفة. لذلك تعيش الضواحي حالة دائمة من الاحتقان والغضب. وتتوارث الأجيال داخلها الشعور بالاضطهاد العنصري وغياب المساواة. 

يعبر سكان الضواحي عن غضبهم سواء انتصر فريقهم أو خسر. قنبلة موقوتة لم تقدر الكرة على نزع فتيلها. لن تستطيع مباراة كرة قدم أن تعيد الهيكلة الاجتماعية بما يحقق العدالة والمساواة ويزيل الاحتقان. لهذا تتساءل الأجيال الجديدة من المهاجرين: من نحن حقًا؟ هل ننتمي إلى هذه البلاد التي نعيش فيها الآن أم إلى تلك التي ولد فيها آباؤنا؟

“نصر من الله”: عودة الفتوحات الإسلامية 

لم نكن في حاجة إلى النصر أو هزيمة من أجل الصدام مع الآخر. بدأ الشد والتجاذب بين الأطراف المختلفة قبل بداية المونديال.

قبل شهر من بدء البطولة، أعلنت العاصمة الفرنسية باريس انضمامها إلى عدة مدن قررت الامتناع عن عرض مباريات المونديال، على شاشات عملاقة أو تخصيص أماكن للمشجعين.وبرر رؤساء بلديات المدن الفرنسية، مثل مارسيليا ونانت وبوردو وستراسبورج،  قرارهم بملف حقوق الإنسان في قطر وسوء معاملة العمال وما يشاع عن وفاة أعداد كبيرة من العاملين في بناء منشآت المونديال القطري وملاعبه الثمانية، فضلا عن توفير الطاقة.

في مارس من العام الماضي، نشرت صحيفة الجارديان البريطانية تقريرًا يكشف أن أكثر من 6500 عامل مهاجر من الهند وباكستان ونيبال وبنجلاديش وسريلانكا لقوا حتفهم في قطر خلال العقد الفائت، منذ أن فازت قطر بحق تنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022. طالبت منظمة العفو الدولية قطر بإجراء تحقيق مستقل في وفاة العمال المهاجرين، والمرجح وفاتهم في أعمال البنية التحتية والمنشآت الخاصة بالبطولة.

نفت قطر الأرقام الواردة في التقرير ورفضت اتهامها بانتهاك حقوق العمال. ومع بدء العد التنازلي للبطولة أعلنت  ترحيبها بالعالم لكن وفق بعض الشروط التي تراها متوافقة مع عادات البلد وتقاليده. وصدرت عن المشروع الإعلامي للحفاظ على الهوية القطرية حملة “اظهر احترامك”، وتضمن منشورها سلسلة من التعليمات الموجهة للبعثات، ومجموعة من السلوكيات الواجب على الجمهور الزائر تجنبها احترامًا “لدين وثقافة المجتمع القطري”.

ربما كانت الحملة، غير المنسوبة إلى السلطة القطرية بشكل مباشر، نوعًا من الدعايا المضادة للحملات الناقدة. أرادت قطر إعادة تقديم نفسها من خلال تنظيم المونديال واستعراض قدراتها الاقتصادية والسياسية. وفي سعيها لتكوين رأي عام عربي ومسلم داعم لها، عمدت إلى مغازلة الروح الدينية المحافظة لدى غالبية الجماهير العربية. 

تلقفت الأصوات الأكثر حماسة –وتشددًا- البروباجندا الثقافية القطرية كانتصار مدوٍ للإسلام. لن تلبث البعثات القادمة إلى قطر أن تدخل في دين الله أفواجًا. في الوقت نفسه، كان هناك تباينًا بين الخطاب القطري الموجه باللغة العربية، ونظيره باللغة الإنجليزية. 

يوضح توماس باور في كتابه “ثقافة الالتباس” أن التصورات حول السياسة والجنس، والسلوكيات تجاه الغرباء في العالم الإسلامي أثناء العصر الكلاسيكي (الممتد من عام 900م حتى 1500م) كان يسودها القبول الرصين للتنوع وتعدد المعنى. تلاشى هذا التسامح في يومنا هذا. ومن خلال آليات “أسلمة الإسلام” يتم تخليق ثقافة إسلامية دينية موحدة تظهر بالنسبة للحضارة الغربية الحديثة كشيئ شديد الغرابة، أو مناقضًا لها تمامًا، كما يقول باور. 

 ما يوده الباحث الألماني المناهض للاستشراق هو التأكيد على ظاهرة “التعدد الحضاري” في الوعي الجمعي الإسلامي سابقًا، والذي نشأ من تجاور خطابات مختلفة في المجالات الاجتماعية، أي قبول “تعددية الخطاب”. لذلك يشير باور إلى أن تلك الصورة عن “المجتمع الإسلامي” الذي “يتغلغل فيه الدين بلا منازع” هي “صورة مشوهة تناسب الخطاب الاستعماري جيدًا ويمكن استغلالها لأهداف سياسية حاليًا”.

“بعد أربعة أعوام من الآن، لن نسمع أحدًا يتكلم عن السجون الأمريكية التي يقبع بها 25% من إجمالي المساجين في العالم. لن نسمع عن السجون الممتلئة بأصحاب البشرة السوداء، أو عن جرائم القتل في المولات التجارية الأمريكية، أو عن الخمسين دولة التي غزتها أمريكا أو دبرت انقلابات فيها”

تكمن المفارقة في أن قطر والعالم الغربي يناقضان من خلال خطابهما الحالي المفاهيم التي يحاولان تقديمها عالميًا. 

تنقض قطر الصورة الحضارية المأمولة، رغم التجهيزات المبهرة، لعدم استيعابها أن الحضارة العربية والإسلامية قامت على التنوع وقبول روافد متعددة. أما الخطاب الغربي، وخاصة الأنجلوساكسوني، فيسعى إلى مراقبة مدى التزام السلطات بمواثيق حقوق الإنسان، ومناهضة التمييز ضد المجموعات المضطهدة، مثل مجتمع “الميم”، وفق إطار من “سياسات الهوية”. 

تحتفي تيارات الهوية بالثقافة الأصلية للمجتمعات ولا تنظر إلى الحقوق الإنسانية كصفة كونية. هذا هو تفاعلها (السلبي) مع استمرار المجتمعات غير الغربية في رفع شعارات هويتها الثقافية الخاصة التي يمثل هذا الإطار الغربي الحقوقي اعتداء عليها. لكن التعامل الغربي مع الحالة القطرية كان أقل قبولًا لفكرة تحديد المجتمع نفسه لمفاهيمه الخاصة عن المساواة والعلاقات الجندرية.  

يعلق السياسي البريطاني والنائب البرلماني السابق جورج جالاواي على تصريح أليكس سكوت، المعلقة بقناة بي بي سي، عن انتهاكات حقوق الإنسان في قطر حيث قالت إنها تأمل ألا نضطر لخوض مثل هذه النقاشات في دورة كأس العالم القادمة. يرد جالاواي قائلًا إنها بالتأكيد لن تحظي بمثل هذه النقاشات مرة أخرى.. “بعد أربعة أعوام من الآن، لن نسمع أحدًا يتكلم عن السجون الأمريكية التي يقبع بها 25% من إجمالي المساجين في العالم، رغم أن كأس العالم القادم سيقام في أمريكا. لن تتحدثي عن السجون الممتلئة بأصحاب البشرة السوداء، أو عن جرائم القتل في المولات التجارية الأمريكية، أو عن الخمسين دولة التي غزتها أمريكا أو دبرت انقلابات بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أوعدك، لن تتحدثين عن أيٍ من هذا”. 

ويضيف جالاواي “المثلية الجنسية غير مشروعة في قطر أو أي دولة مسلمة في العالم وكذلك أي دولة إفريقية، عدا دولة واحدة. وهذه هي الحال أيضًا في بولندا التي خرج رؤساء بلدياتها معلنين خلو مدنهم من الـ LGBTQ. ورغم ذلك نرسل إلى بولندا المال والسلاح، ونقيم بها قواعد لأسلحة نووية أمريكية من أجل تهديد روسيا.. هذا النفاق مثير للغثيان”.

بيروت، ديسمبر 2022. تصوير مروان طحطح

النصر بين التأويل والاستلهام 

بعد خسارة المنتخب القطري جميع مباراياته في دور المجموعات، قال مشجع قطري لمراسل قنوات بي إن سبورت: “إننا فزنا اليوم. فزنا تنظيميًا.. وأخلاقيًا” وعندما رد عليه المراسل “لكن النتيجة في الملعب أحزنتنا”، قاطعه المشجع قائلا: ” لا يهم.. كل الفرق ستخسر في النهاية ما عدا واحدة.. الأرجنتين خسرت.. هذه حال الدنيا”. بالنسبة لي، تمثل هذه النقطة الدرجة الصفر للحلم. حالة تامة لانعدامه. أو هي حالة من فيض الرضا التي لا تسعى وراء أي شيء. لذلك كانت الانتصارات المغربية فريدة وملهمة. 

أرى أنه يجب التفريق بين أمرين، بين استلهام أي نصر كروي أو رياضي من جهة، وتأويل ذلك النصر سياسيًا أو تاريخيًا، وربما عاطفيًا وإيديولوجيًا كذلك. ورغم أن الحدود بين الاستلهام والتأويل تكاد تكون مموهة، إلا أن الغاية أو النتيجة النهائية لكل منهما تتباين بشدة.  

التأويل المقصود لا يعني محاولة الفهم أو التفسير بقدر ما يشير إلى الإسباغ القسري لمقولات سياسية وثقافية على الإنجاز الرياضي. وما سبق لا ينفي تقاطع الرياضة، وكرة القدم بشكل خاص، مع السياسة والظروف الاقتصادية والاجتماعية. فمشروعات تنمية المواهب، وبناء الاستادات والمؤسسات الرياضية، والعناية بالتغذية والطب الرياضي، كلها أمور تنظمها السياسة ورأس المال. لكن فوز المغرب على إسبانيا لا صلة له بفتح الأندلس مثلًا، وكذلك الانتصار على البرتغال أو فرنسا لن يمحي إرث الكولونيالية. هذه أمور بديهية، وربما تلك الإدعاءات غرضها ساخر بالأساس. إلا أن نشوة النصر تُذهب عقول البعض لهذا تبالغ في خلق الرمزيات ثم تؤمن بواقعيتها. ولعل في المبالغة ذاتها دلالة على الأزمة العميقة التي تعيشها الشعوب “العربية”.   

يتخذ البعض من فوز المغرب، أو أي فريق عربي، دليلًا على إمكانية نجاح الإنسان العربي عالميًا، وأنه “ليس أقل من غيره”، إلى آخر تلك العبارات. هنا يتداخل الإلهام مع التأويل الذاتي المُسبق.  فالاستنتاج الذي يبدو بديهيًا ومعتزًا بالعروبة يكشف عن نظرة دونية للذات، الذات التي تجاهد دومًا لإخفاء شعورها بالعجز خلف الاستعلاء العرقي تارة، والحساسية الدينية المفرطة تارة أخرى. 

هناك من العرب من نجح في شتى المجالات بالفعل، فلا علاقة للأصول الإثنية أو العرقية بملكات الإنسان الذهنية وإمكانياته البدنية. لكن منطق الهوية يرى ذلك، ربما بشكل لا واعٍ لأنه يقدم الهوية نفسها كصفة قارة داخل الإنسان، وبالتالي يستتبع وجودها جملة من الخصال الشعورية والنفسية والذهنية المتأصلة داخل الفرد. وفق ذلك المنطق، تصبح الصفات، الحميدة أو المذمومة، حقائق بيولوجية، “فطرية”، متجاوزة للتكوينات الاجتماعية والثقافية.

في معنى “العروبة”

يثير جدل الهوية التفكير في علاقتها بالفردانية من جهة، وارتباطها بالمحددات السياسية والتاريخية من جهة أخرى. 

يوضح المفكر والاقتصادي المصري سمير أمين أن الخطاب القومي يحصر العروبة في عدد محدود من السمات الرئيسية “دون بذل المجهود المطلوب لفهم تنوع تفاعلها مع أوجه أخرى للحياة الاجتماعية الخاصة بهذه المجتمعات”. ويرى أمين أن اعتبار سمات العروبة منعزلة عن النظام الاقتصادي ونظام الحكم “لا يعدو كونه عرضًا سطحيًا، كأن هناك نظامًا ثقافيًا قائمًا بحد ذاته، مستقلًا عن النظام الاقتصادي والاجتماعي وعن نظام السلطة، بحيث إن العروبة تصير معادلًا لهذا النظام الثقافي القائم على وحدة اللغة والدين”.

سمات العروبة هي وقائع حقيقية في ذاتها، لكن يمكن عبر مجموعة أخرى من الوقائع، مثل حركات الهجرة داخل الوطن العربي واستيطان “قبائل” في مناطق “عربية” متفرقة، استخلاص أطروحة “تنوع القومية”، أي وجود “قوميات محلية”، كما يبين أمين. 

يتماثل التأكيد على أن المغاربة ليسوا عربًا بل هم “أمازيغ”، مع القول بأننا “مصريون” لا عرب، في الرؤية الغير متصالحة مع “الفتح الإسلامي/ الغزو العربي” كواقعة تاريخية. ولأننا في لحظة هزيمة ممتدة، هزائم اجتماعية وسياسية واقتصادية، فإن البعض يُرجع سبب تخلفنا الحالي إلى اللحظة التي تحولنا فيها إلى “عرب”، طوعًا أو قسرًا. يؤكد سمير أمين أن عملية “التعريب” و”الأسلمة” ظلت بطيئة في البلدان التي أصبحت “الوطن العربي”. “فالأغلبية الكبرى من سكان المغرب استمرت في استخدام اللغة الأمازيغية حتى عقود غير بعيدة،إلى أن تجاورت معها العربية، وهناك حركة إنعاش “الذاتية الأمازيغية” في المغرب والجزائر”.

أذكر الوقائع السابقة لا كي أثبت العروبة أو أنفيها، بل من أجل توضيح أسباب فشل خطاب العروبة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. فالفكرة القائلة بأن القومية العربية أمر ثابت متواصل عبر تاريخ الشعوب الناطقة بالعربية هي مقولة ذات “طابع أيديولوجي بحت”. لذلك يقول سمير أمين إنه من الأفضل والأصح أن نعترف بأن للفرد “العربي” “ذاتيات” عديدة منوعة لا ذاتًا مفردة، تتناقض في بعض الظروف، وتتعايش دون صعوبة في ظروف أخرى. 

بعد مباراة مصر والجزائر في مدينة أم درمان المؤهلة لكأس العالم 2010 بجنوب إفريقيا، دخل الإعلام المصري في حالة شعبوية صارخة. تعاملنا مع المصادمات بين الجماهير الجزائرية والمصرية لا كأمر طبيعي يحدث في عالم كرة القدم وإنما إيذانًا بنهاية فكرة الأخوة العربية.

عشت حيرانًا في تلك الأيام. هل صارت الوحدة العربية من مخلفات الماضي؟ وهل كانت كل الأوقات التي قضيناها مستمعين إلى أوبريت “الحلم العربي” هباءً ؟ وما طبيعة هذا الحلم الذي توقظنا منه مباراة كرة قدم؟

الآن، أعلم أنني من أنصار الوحدة العربية، لكني أراها كركيزة هامة في العمل السياسي الذي يمكنه أن يجمع القوى العربية التحررية الراغبة في التغيير، لا كشعارات شعبوية فارغة. وأعلم أيضا أن التصورات التي مفادها أن “الوعي العروبي يسود من تلقاء نفسه في صفوف الجماهير العربية مجرد وهم “. وكما يؤكد سمير أمين، فإن “تحقيق الوحدة العربية منوط بالاعتراف بالتنوع والتعامل معه، الأمر الذي يقتضي بدوره ممارسات ديموقراطية صحيحة”.

بيروت، ديسمبر 2022. تصوير مروان طحطح

من الحلم إلى الواقع.. وبالعكس 

من جهة أخرى، فلا يحق لأحد أن يصادر على مشروعية الحلم. يمكن لفوز المغرب أن يلهمنا بالطبع. لخص أغلبنا مشاعر السعادة والفخر بفوز المغرب في كلمات دالة: “نفخر بالمغرب لأنهم يشبهوننا”. 

فما أوجه الشبه بيننا وبين المغاربة؟ 

كانت صور اللاعبين المغاربة مع أمهاتهم ملهمة بحق. ستبقى لقطات مثل احتفال اللاعب سفيان بوفال راقصًا مع أمه، وصورة والدة أشرف حكيمي وهي تقبله، في الذاكرة طويلًا. تستمد هذه الصور أيقونيتها من الحكايات التي وراءها. حكاية كدح وشقاء الأمهات والمهاجرين في بلاد أوروبا من أجل إعالة أولادهم. 

بات من المعلوم الآن أن والدة حكيمي قد عملت في الحقول وخدمت في البيوت من أجل ابنها، وكذلك فعلت والدة سفيان بوفال. حين تنظر إلى صورتيهما ستشعر أنهما تشبهان أي أم مصرية كادحة.. صورة والدة بوفال تذكرني بأمي أكثر من أي صورة لامرأة مصرية من أعضاء نادي الروتاري مثلًا.        

المعاناة تجمعنا في رباط أقوى من روابط اللغة والعرق. لكن من يستنكر السعادة العربية بفوز المغرب يمكنه أيضًا أن يشكك في قوة روابط التضامن والمعاناة. 

فالأصول الطبقية للاعبي المغرب لا تنفي طبيعة الأوضاع التي يعيشونها اليوم. يمتلك اللاعبون المحترفون منهم أموالًا طائلة في حساباتهم البنكية، وبيوتًا فارهة بمساحات خضراء. هكذا يمكن لأصحاب المزاج العكر دومًا أن يجردوا النصر من معاني الكفاح والكدح إن أرادوا. لهذا أرجع إلى ما قلته سابقًا. الأولوية، في رأيي، هي التساؤل عن كيفية تحقيق هذا النصر لا هوية أو انتماء من حققه. 

لم ينجح وليد الركراكي، المدير الفني لمنتخب المغرب، لأنه مدربًا وطنيًا فحسب، بل لأنه في حالة تعلم دائمة من أجل استيعاب التكتيكات الفنية المتنوعة، وتحسين مراحل اللعب المختلفة من بناء واستحواذ وتحولات وضغط وغيرها. يحضر الركراكي فاعليات تطوير المدربين التي يعقدها الاتحاد المغربي لكرة القدم، ويحرص على معرفة وفهم آخر تطورات اللعبة.

كان منتخب المغرب غنيًا لأن خواصه متغيرة وعناصره متنوعة. ولا يقلل ذلك من فرادة إنجازه أمام المنتخبات الأوروبية بل يزيده أهمية؛ لأن هذا الفريق قد نجح فيما أخفق معظمنا

وكما ذكرت صحيفة الديلي ميل، فإن الركراكي قد حضر سيمنار مع المدير الفني لفريق الأرسنال الإنجليزي ميكيل أرتيتا منذ عام عبر تطبيق زووم. وتركزت أسئلته إلى الأسباني أرتيتا حول الكيفية التي تمكن بها من الصمود دفاعيًا أمام استحواذ فريق مانشستر سيتي للكرة. تولى الركراكي إدارة المنتخب قبل مائة يوم من كأس العالم. ولو لم يكن على مستوى عالٍ من الخبرة المتراكمة والبناء المعرفي لما استطاع أن يحقق مثل هذا الإنجاز التاريخي. لكنه وقبل أي شيء، امتلك شجاعة الحلم. 

من أهم  الأسباب وراء تحقيق منتخب المغرب إنجازه المستحق وغير المسبوق، تنوع الخبرات والعناصر ذات الجودة العالية داخل الفريق حيث يلعب أكثر من لاعب في أكبر الأندية الأوروبية. ولديهم عناصر أخرى محترفة في أندية أوروبية متوسطة الجودة. يحمل بعض اللاعبين جنسيات أخرى بجانب الجنسية المغربية، كالهولندية والفرنسية والإسبانية. ومنهم من ولد في فرنسا وإسبانيا، لكنهم اختاروا اللعب تحت اسم المغرب. ولا شك أن العناصر المحلية، التي تنافس في الدوري المغربي، قد استفادت معنويًا وأدائيًا من العناصر الأكثر ثراءً وتنوعًا في الخبرة والجودة.

يؤكد الروائي الإسباني خوان غويتسيلو أن “الثقافة النقية ثقافة فقيرة”. فـ”أي ثقافة – فردية أو وطنية- هي المجموع الكلي لجميع  المؤثرات فيها، وكلما ازدادت عناصرها وتغايرت خواصها ازدادت غنىً، وكلما كانت أكثر نقاءً استحالت أكثر فقرًا”. 

اختار غويتسيلو خلال حياته المنفى الاختياري، حيث استقر في “مراكش”. ويتسق اختياره لمدينة مراكش المغربية كمنفى مع رغبته في كشف وإظهار الموروثات العربية لبلده إسبانيا. يقول غويتسيلو إن “التفكير الإسباني المحافظ عمل طوال المائتي سنة الماضية على طمس ثقافة البلد الساميّة، أشباح العرب واليهود الإسبان التي يود الجناح اليميني الكاثوليكي استئصالها ومحو من الماضي، حد تعبيره. 

لشعوب شمال إفريقيا، واليهود أيضًا، حضور تاريخي أصيل في الثقافة الإسبانية. يضيف غويتسيلو: “ربما تكون اللغة الإسبانية لغة لاتينية جديدة، لكن هناك أكثر من أربعة آلاف كلمة إسبانية مستقاة من اللغة العربية”. 

كان منتخب المغرب غنيًا لأن خواصه متغيرة وعناصره متنوعة. ولا يقلل ذلك من فرادة إنجازه أمام المنتخبات الأوروبية بل يزيده أهمية؛ لأن هذا الفريق قد نجح فيما أخفق معظمنا. نجح في الاندماج كذات واحدة، في استيعاب التنوع والتعامل معه، وفي خلق الحلم من رماد العزاء. ولهذا يمكنه أن يلهمنا جميعًا.