fbpx
تصميم: خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

التحرير الذي خسر عابدين

قراءة في العلاقة الملتبسة -والعدائية أحيانًا- بين ميدان التحرير وحي عابدين
28 يناير 2021

هذا النص ليس محاولة لفهم كيف تموضعت الثورة في أهم ميادين مصر، ميدان التحرير، بل هو تأملٌ في ظلال الميدان على واحدٍ من أهم أحياء مصر، حي عابدين التاريخي الذي يقع شرق الميدان. كما أنه لا يهدف لوضع أحد المكانين في مقابل الآخر، الميدان في مقابل عابدين، فهذه ثنائية جامدة لا تقود الا لمزيد من الاختزال لكليهما. 

لكنه يقف على حدود التماس بينهما: بين الميدان والحي، الثورة والاجتماع.

أوسع من الميدان

على أهمية الميدان فالثورة كانت أوسع منه ومتجاوزةً لحدوده، وإلا ما كان للثوار أن يصمدوا يومًا واحدًا فيه. والاجتماع المصري أوسع من الميدان، وهو الآخر أوسع من عابدين.

ولكن في عابدين تكثيف حقيقي ويومي للاجتماع المصري، وربما خلافاً لغيره من أحياء مصر، هو دائم التحمل لظلال الدولة والثورة، كما أنه تاريخياً الحي الوحيد الذي يقبع بين مؤسسات الدولة، وكان ومازال إلى حد بعيد نتاج الحداثة والحكم الحديث في مصر منذ نزل الحكم من القلعة إلى المدينة. 

التفت الجميع لأهمية ميدان التحرير ورمزيته، لانتصاراته وانكساراته، ولما جسده من حالة جماهيرية قليلٌ ما يجود بها التاريخ، ولأنماط التفاعل بداخله، هي مثالية متوهمة في كثير منها وحقيقية في عدة جوانب منها أيضًا.. ولكن لم يلتفت الكثيرون للجغرافيا بشكل أوسع. 

ثلاث معارك في المركز

لم تأت مركزية ميدان التحرير من العدم، ولا شوارع وميادين الإسماعيلية والسويس والإسكندرية. فالمخيلة المشكلة عن الثورة المصرية مخيلة مدينية بامتياز، باعتبار المدينة نتاجاً لفائض القيمة وعمليات التحديث الواسعة شديدة المركزية للثورات الحديثة. 

وهي مخيلة مدينية لسببين، الأول أن كثافة التجربة والحدث تركزا في المدن. ولا يعني هذا أن قطاعات مختلفة من الريف والصعيد المصري لم تثر أو تنتفض، أو أن العمال في المصانع في مواقع ومدن مختلفة لم يكن لهم أدوار حاسمة. 

فبالفعل وقعت مئات الإضرابات العمالية وإضرابات المزارعين. ولكن الحدث كان شديد الكثافة منذ بدايته حتى اليوم حول المدن. ويمكن القول إن طبيعة العمران والتفاعل في كل مدينة قد فرض نسقه على الفعل الثوري، والفعل الثوري تفاعل مع هذه الأنساق الموجودة داخل المدينة. 

فالقاهرة مدينة السرر والميادين، ومركز المركز بها هو ميدان التحرير، ولذلك كانت القاهرة أكثر ارتكازًا على الاعتصامات من غيرها من المدن. في المقابل أخذت الثورة في الإسكندرية طابع الطفو والترحال عبر خطوطها الرئيسية، فهي، وعلى الرغم من تميز بعض ميادينها ومركزيتها، مدينة تشبه رقعة الشطرنج وتنقسم إلى أربعة خطوط متوازية. 

أما السبب الثاني لتشكل المخيال حول المدينة، فهو نتاج الصورة الثابتة والمتحركة. لقد كانت المدينة مسرح الصراع المادي والرمزي ضد منظومة السلطة بشكل واسع وليس فقط ضد نظام مبارك السياسي. ولهذا تمحورت معارك الثورة حول المدينة ومن خلالها. 

وأكثر ثلاث معارك تجسدوا من خلال المدينة وشوارعها كانت معارك النساء وأجسادهم وحضورهم في العام، والمعركة الطويلة والممتدة ضد الأمن وإرهاب الدولة البوليسي المتمثل في خنق المدينة ومنع الحق فيها، والثالث هو صراع الأجساد والذكوريات.

التحرير الذي خسر عابدين

تصميم: خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

عابدين تحت الرادار

لم تكن المدينة والجغرافيا غائبتين عن الوعي الثوري والحركي، بل يمكن القول إن ثمة شيء شديد العبقرية من الناحية الستراتيجية حصل في يومي الخامس والعشرين والثامن والعشرين من يناير 2011.

فالثوار نجحوا في تقسيم الحركة وتوزيعها على المدينة، متمترسين بأفضلية الأحياء وشوارعها الضيقة والأهالي على ماكينة القمع. كان هذا الذكاء كفيل بتشتيت قوات الأمن وضرب قدرتها على خلق تماسك هرمي للقيادة وأفضلية هجومية لإيقاف الزحف الجماهيري السريع والمتنقل، الأمر الذي ببساطة تصادف مع إرادة جماهيرية حقيقية لمقارعة الخوف والقمع وآلياته. ومع الضغط وكثافة الأعداد والصمود الميداني والأخلاقي هزمت القوات، وتبعثرت قياداتها وتشتت في المدن تبحث عن ملاذ للفرار أو الاختباء. 

هذه قصة نجاح مدوّ، سنتناولها في نص منفصل. ولكن لهذا النجاح قصة أخرى من الإخفاق قد توضح بعض جوانب العوار في هذه الثورة. فالمدينة كجغرافيا وسكان واجتماعٍ حيٍّ ستختفي من على رادار الثوار وأولوياتهم، وتحديداً اختفى عابدين من على عدسة الثوار.    

موقع حساس

عابدين حي لديه حساسية معقدة. فأغلب مؤسسات الدولة تقع به وعلى رأسها وزارة الداخلية. كما أن الحي كان يعاني حالة استنفار أمني دائم بسبب وجود الداخلية، وعانى كثيراً من هذا التوتر طيلة عقد التسعينيات الذي شهد “الحرب على الإرهاب”. 

فأغلب الشوارع المؤدية للقلب السكني للحي كانت عبارة عن عدة كمائن ومتاريس دائمة وغليظة في التعامل. وأي اضطراب أو توجس أمني بسيط كان ينعكس بقوة على الحالة العامة للمنطقة. ولكن الحي نفسه لم يشهد توحشًا أمنيًا يوميًا على سكانه مثل قرينه القريب له وهو حي السيدة زينب

وللحي علاقة وثيقة بالبيروقراطية. فقطاع لا بأس به من سكانه كان يعمل أو مازال يعمل في مؤسسات الدولة وقطاع آخر يستفيد ماليًا من تقديم الخدمات لها، سواء من خلال محلات الطعام والتسوق أو خدمات العناية بالسيارات، وما إلى ذلك من نشاطات الاقتصاد الخدمي بشقيه الرسمي وغير الرسمي. 

وعلى الرغم من ظلال الدولة الكثيفة على عابدين، لكن الحي يشعر بنوع من التميز بفضل وجوده بالقرب من الدولة ووسط المدينة، وبفضل بنيته التحتية والخدمات المتميزة التي يحظى بها بالمقارنة بأحياء أخرى انحدرت وانهارت الخدمات فيها بشكل شبه كلي. 

كما أنه كان لا يعاني كثيراً من البلطجة والتعديات مقارنة بالسيدة زينب أيضاً. وبالقطع للحضور الأمني زاوية سيئة وأخرى جيدة، فالمنطقة كانت مستقرة إلى حد بعيد. 

هاجس من الجوار

التركيبية العامة لاقتصاديات المنطقة في عابدين قائمة على الحرفيين -وتحديداً إصلاح السيارات- والمطاعم الشعبية والموظفين والمقاهي والأسواق القائمة على الخضار والفاكهة وتجارة المستلزمات التقنية مثل الهواتف والاطباق الصناعية ومؤخراً كاميرات المراقبة. يجعل ذلك المنطقة شديدة الحساسية تجاه أي زعزعة أمنية. 

كذلك هناك هاجس كبير من السيدة زينب من حيث انتشار العشوائية والبلطجة. وهو أمر قد يشكل قدرًا من المفارقة بسبب القرب الجغرافي والتبادل التجاري الحيوي على المستوى اليومي بين المنطقتين وتقارب المعارف والأصدقاء والجيرة التاريخية والنسب في بعض الأحيان. 

ولكن هذه السردية مسيطرة بشكل كبير على قطاع لا بأس به من السكان في عابدين، وهو ما يعمق شعورهم بالتميز والاختلاف.

التحرير الذي خسر عابدين

تصوير: Gigi Ibrahim. تحت رخصة المشاع الإبداعي

لا مساومة

أما القلب السكني لعابدين، والذي يمتد من ناحية الكثافة السكانية بطول شارع محمد فريد من حدود السيدة زينب إلى ميدان مصطفى كامل طولاً، وعرضاً إلى وزارة الداخلية من ناحية الغرب، والسيدة زينب من ناحية الشرق، فهو لا يقل تميزاً من الناحية الجغرافية والاستراتيجية عن الحي كله. 

فهو يفصل بين مؤسسات الدولة ووزاراتها المتعددة وبين السيدة زينب ومديرية أمن القاهرة، ويتوسط وسط البلد ويتقاطع التخوم المؤدية إلى المنيرة والعتبة ورمسيس. 

هذه الجغرافيا بكل ما تملك من حساسيات استراتيجية واجتماعية ستغيب عن الثوار، وسيكون لها انعكاسات ميدانية وسياسية واجتماعية كبيرة. 

وبالنسبة للسلطة السياسية فحي عابدين والسيدة زينب، كانا من الأحياء التي لا تساوم السلطة عليها ولا تقوم بمنح مقاعد الانتخابات فيها للمعارضة أو تسمح للإخوان والإسلاميين بالتوغل فيها. 

وكان فتحي سرور، البرلماني العتيد ورئيس مجلس الشعب لسنوات طويلة حتى سقوط مبارك، يحكم قبضته على السيدة وجانب من عابدين، وكان الباقي يُترك لرجال الحزب والدولة. 

فهذه المساحة كانت محسومة، وفي حالة المواجهة السياسية لم تكن السلطة تتورع عن استخدام أشكال مختلفة من العنف وتحديدًا أكثر في حي السيدة، ولكن هذا العنف كان يلقي بظلاله هو الآخر على عابدين.  

ظل الثورة الثقيل

إداريًا ميدان التحرير تابع لمنطقة عابدين، ولكن في تلك اللحظة تشكلت علاقة شبه عدائية بين الميدان والحي. عابدين الذي ضم من قبل العديد من الشباب الثوري، من مختلف طبقاته. وكان به حضور ما لمجموعات من حركة 6 إبريل، وبعض المجموعات الشبابية الداعمة للبرادعي. 

لكن نشأت علاقة ملتبسة بين التحرير وعابدين، وعكست هذه العلاقة الملتبسة والعدائية أحيانًا ولو على المستوى الخطابي، خللًا استراتيجيًا وعوارًا واضحًا منذ البداية، إذ لم يأخذ الثوار في اعتبارهم المدينة والجغرافيا كعوامل مركزية في الصراع، وانحصرت الجغرافيا هي الأخرى فقط في رمزية الميدان. 

وبالقطع وقعت أفعال سيئة كثيرة من بعض سكان الحي ضد الثوار، وتعرض البعض لمضايقات فجة من قبل بعض اللجان الشعبية. ولكن “مرحبًا بصحراء الواقع”. وهذا الأمر تكرر في عموم الجمهورية. 

كما أنه في التحليل الأخير لم يأخذ السكان في عابدين أو حتى قطاعات مؤثرة ومعتبرة الحجم منهم قرارًا حقيقيًا بالصراع مع الميدان أو التضيق عليه . 

وأصبحت عابدين تمثل البلطجة والثورة المضادة لقطاع واسع من الثوار. وكانت بعض المشاهد بائسة جدًا بين حالة الميدان وحالة الحي. فالميدان الذي كان يعج بالحركة والأفكار والتطلعات، كان يقابله الحي بتحفظ شديد وتوجس وهلع أمني. 

ومع ازدياد وتيرة الاشتباكات بين المتظاهرين والأمن على مدار سنوات 2011 حتى 201، أصبح قطاع كبير من السكان ينسجم بشكل كبير مع خطابات الأمن والاستقرار والفوضى وهيبة الدولة. 

وبالضرورة عانى الحي من حالة عسكرة ووجود ثقيل لقوات الأمن مع كل حدث احتجاجي. فكل فعل تمترس بالميدان كان يقابله توتر وقلق اجتماعي وأمني في الحي، وانتشار الجنود وعتادهم ليس بالأمر الطيب. فبيادات الجنود بالضرورة لا تراعي الحساسيات الاجتماعية، وتستبيح المكان بكافة الصور والأشكال مهما حاول الجنود الالتزام بأدبيات التعامل والأخلاقيات المطلوبة.. فظلال العساكر ثقيلة. 

ونجح خطاب الثورة المضادة في استغلال هذه الحالة، لتصوير أن كل أشكال المعاناة هذه سببها بعض الشباب الفوضوي. 

في المقابل لم يصبح عابدين -الذي طبقاً لأي تفكير استراتيجي بسيط- بؤرة ثورية بامتياز ومركزًا لتفاعل أفكار الثورة وحضورها الرمزي والاجتماعي والسياسي، بل أهمل تمامًا، وأصبحت مقاهيه وجمهورها متهيئة لسماع عكاشة وغيره من كل أبواق الثورة المضادة في أكثر صورها انحطاطًا. 

وبالقطع الأمر انعكس ماليًا واقتصاديًا على المنطقة، فالدولة ومؤسساتها معطلة والطبيعة الهشة لاقتصاديات المنطقة لا تتحمل هذا القدر من الاضطراب بسهولة. فالمنطقة بشكل عام كانت ساحة حرب دائمة وكر وفر. 

التحرير الذي خسر عابدين

تصوير: Hossam el-Hamalawy. تنشر وفق رخصة المشاع الإبداعي

لو سقطت..

وساعد موقع وزارة الداخلية على فصل الثورة جغرافيًا عن عابدين، الأمر الذي تحول بعد بعض الوقت لحالة هلع عند الحي من سقوط الوزارة وانفتاح الميدان على الحي. فالداخلية كمبنى جسدت أحد أهم وظائف الدولة البوليسية وهي الفصل الاجتماعي. 

الدولة البوليسية تقوم بهذا الدور عن عمد في إدارة وحكم السكان بشكل واسع. ولكن هذه المرة تحقق الأمر بشكل عفوي بفضل المواقع الجغرافية والصراعية في المنطقة. وبغض النظر عن حقيقة هذا الهلع وإمكانية تحققه والمبالغة في هذا التخوف، ولكنه كان قائمًا مع كل اشتباك. 

كذلك فسقوط العديد من المؤسسات الشرطية على مدار الثورة جعل هذا الهاجس ممكنًا لأنه تحقق بالفعل في مناطق أخرى. المفارقة التي لم يلتفت إليها الثوار هي أن الوزارة لم تكن لتسقط بدون تواطؤ ما من الحي أو هجوم مزدوج من اتجاه الحي والميدان في نفس الوقت. 

***

إذن أصبحت الوزارة حاجزًا فاصلًا بين الميدان والاجتماع القريب من الميدان والمقابل له جغرافيًا. السؤال هنا كيف سمحنا لهكذا تموضع أن يحدث؟ وماذا كنا نتوقع في هذه الحالة؟ 

هذا الأمر انعكس بشكل واضح ميدانياً في محمد محمود على سبيل المثال. فلم يكن لدى الثوار أي قدرة حقيقية على تطوير الهجوم على قوات الأمن بسبب انحسارهم في الميدان وشارع محمد محمود نفسه. 

وكانت الداخلية مرتاحة لهذا الأمر، فظهرها مأمن، وظهرنا للميدان ثم النيل. الأمر هنا ليس محض عسكريّ فقط، ولكن لا يمكن للميدان أن يناور بدون غطاء اجتماعي وسياسي في أقرب المناطق السكانية له. 

فلنعد تأمل المشهد بشكل أوسع. ألم تنجح الداخلية والثورة المضادة في وضع أنفسهم كحامٍ وعامل استقرار لقطاعات اجتماعية كبيرة وبين فوضى الثورة؟ 

ألم يكن هذا واضحًا أمامنا في حالة عابدين والميدان؟ كنا أمام حقائق تتجلى في الجغرافيا والاجتماع على خطوط تماس واضحة مثل شوارع الشيخ ريحان ومحمد محمود والتحرير.  

***

في المقابل، نحن لم نلتفت كثيرًا إلى التواطؤ السلبي من قبل الحي تجاه الميدان ولصالحه هذه المرة. وكان هناك إصرار على التصعيد الخطابي ومن خلال التفاعل اليومي مع الحي وسكانه ووصمه بأشياء عدة وافتعال بعض المشاجرات عديمة المعنى بين قطاعات من الشباب من الميدان ضد بعض الشباب من الحي. 

هل يمكن التذكير بأن الموقع الجغرافي لعابدين وعلاقته بالميدان، كان كفيلًا بحسم موقعة الجمل لصالح الثورة المضادة لو قرر سكان المنطقة الانخراط الجاد فيها. فلم تكن قوة الثوار في ذلك الوقت لتتحمل شن هجوم مزدوج من زاويتين مختلفتين. 

كما أن الهجوم على الميدان من خطوط الشيخ ريحان، ومحمد محمود، وشارع التحرير، كلها اتجاهات عابدين التي تصب مباشرة على الميدان، مع الهجوم الذي شنته الجمال من ميدان عبد المنعم رياض واعتلائهم كوبري 6 أكتوبر، كان كفيلًا بإلقاء الثوار إلى النيل مباشرة أو الاعتصام على الجانب الآخر من كوبري قصر النيل. حتى الارتداد لشارع القصر العيني لم يكن ليكون متاحًا بسبب قطع هذا الخط من ناحية الشيخ ريحان. 

أما النقطة الأخرى والتي لم يعترف بها قطاع كبير من سكان عابدين وقطاعات من الثوار، فهي منافذ الطعام والتسوق. فكثير من الثوار كانوا يأتون بالطعام ولوازم الميدان من عابدين، وهذا انعكس بالضرورة في شكل دخل مالي مباشر، أنعش بعض قطاعات المنطقة في ظل الاضطراب الأمني وعدم الاستقرار الذي قوض حركة التجارة. 

هنا تكمن المعضلة. نحن فقط فرحنا بالميدان، وتركنا خطوطنا الخلفية عارية وعرضة لانقضاض الثورة المضادة سواء بشكل خطابي ورمزي أو بشكل مادي فيما يتعلق بالترتيبات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية. ودارت حالة برجوازية رثة من قبل بعض الثوار بسبب تعرضهم لبعض المضايقات الشخصية أو تحدي ذكوريتهم في بعض المواقف. وسيطرت أحياناً حالة ذاتية على تقدير الموقف. 

لا أود أن يفهم من هذا التحليل أن الثورة لم تحقق نجاحات كبرى أو أخفقت بسبب سوء علاقة الميدان بحي عابدين. ولكن ما أود الإشارة إليه أن ما حدث خلف الميدان حيث السكان والاجتماع الحقيقي، يستحق التأمل والوقوف عليه والتعلم من دروسه لاحقاً.. فليس هناك حمق أكبر من الاستخفاف بالاجتماع والجغرافيا في تحرك جماهيري بهذا الحجم. 

مساحات فارغة

لم يمض وقت طويل، حتى صار فراغ المساحة العامة خطراً على النساء وحركتهن. وتحولت هذه الشوارع التي رسمت جدرانها برمزيات الثورة والوانها إلى مناطق هلع وكرب للنساء. ولم يكن تحرك الثوار والنخب السياسية بأي حال من الأحوال يرتقي لحجم الهجوم الذي وقع بشكل ممنهج على النساء. 

لا أشير هنا أيضاً أن ما تعرضت له النساء كان محض مؤامرة أمنية. فالحقيقة لو كان ثمة مؤامرة أمنية فهي لن ترقى لأقصى من ثلث ما حدث فعليًا. 

الأمر كان واضحًا وغريزيًا عند قطاعات اجتماعية واسعة.. النساء ذهبت أبعد من اللازم في حضورهن المادي والرمزي بشوارع مصر. كما أن ضلالات وهلاوس أن الشعب المصري تحرر من كل قيوده أثناء الـ 18 يوم وبعد التحرر من مبارك وطغمته، حكمت الأفق السياسي والاجتماعي لهذه الثورة. 

ولم يبق للنساء والشوارع غير بعض المتطوعين مع بعض المؤسسات النسوية الذين قاموا بعمل مجموعات للردع، وضد التحرش. 

أمر مثير للحزن، ثورة في عز مجدها وانتصاراتها لا تستطيع تأمين حركتها في عدة شوارع مطلة على نفوذها وميدان تحريرها الذي أصبح رمزها الأكبر. 

مرة أخرى، الكشف عن هذه المساحة، يوضح العلاقة بين المدينة، والحركة والسكان والفعل الثوري ومحاور النضال. كذلك كانت هناك بعض الخطابات السياسية الفوقية من نوعية أنه بحال تحرر الوطن لن تعاني عابدين، أو أن عدم الاستقرار ضريبة يجب أن يدفعها الحي في سبيل تحرر مصر. 

أي ثورة تخلق حالة من عدم الاستقرار والاضطراب الأمني. ولكن ما يجعل السكان وتحديداً في بعض المناطق الحساسة يتحملون تبعات الثورة ليس الردود المجردة من نوعية.. “أنت لا تعرف حلاوة الميدان وروح الميدان وصدق الميدان”! 

ما يجعل الأمر محتملاً وقابلًا لاستمرار هو انخراط هذه القطاعات في صراع جاد، وتمفصلهم مع الثورة وفعاليتها وليس تحيدهم من الصراع وطلب التحمل بشكل مجرد. 

كان من الممكن أن تنقلب المعادلة لصالح الثورة، وتصبح الدولة جغرافيًا محاصرة بين الميدان والحي، لا أن يصبح الميدان محاصر بين النيل والدولة وخلفها عابدين.

التحرير الذي خسر عابدين

تصوير: Gigi Ibrahim. تحت رخصة المشاع الإبداعي

من يمتلك عابدين..

المفارقة أن قطاعاً من القوى السياسية كان لا يبالي بكل هذه الأحداث متعللين بأنهم يناقشون ويتصارعون على قضايا وطنية أكبر. 

وهو أمر مثير للسخرية بمنطق تافه وبسيط مثل منطق معارك الشوارع: إذا كنت لا تستطيع تأمين حيز حركتك في الشارع، فكيف ستستطيع الانتصار في باقي المعارك “الكبرى”! 

خطوة بخطوة اتسعت الفجوة بين القدرة على بلورة خطاب ثوري والتحدث به داخل عابدين وبين قطاعات سكنية مختلفة. وعلى مستوى الرمز وعلى مستوى تنوع الاجتماع، كان فقدان عابدين كمركزٍ للثورة، وليس فقط تحييدها أو خلق علاقة غير عدائية معها، كان جريمة حقيقة بحق الثورة. 

فعلى مستوى الرمز، عابدين كحيّ هو تجسيد للحداثة ومشروعها في مصر. وعلى المستوى الاجتماعي، هو أحد أقدم أحياء القاهرة وأكثرها تنوعاً من الناحية الاجتماعية، حيث النوبيين (يوجد أكثر من 40 جمعية نوبية في عابدين وحدها)، ورجال الدولة ومؤسسات الدولة نفسها. 

وهناك تنوع طبقي كبير، وطبقات كان من المفترض أن تكون هي تحديدًا أهدافًَا مركزية لأي فعل ثوري، بالإضافة إلى سهولة اللغة والحوار بين أبناء الطبقة الوسطى والوسطى الدنيا، وهو أمر عسير أنثروبولوجيًا في مناطق أخرى حيث سيتعثر الثوار على مستوى اللغة والمجاز في خلق أرضية مشتركة، إما بسبب التفاوت الطبقي الكبير والطابع الرأسمالي والبرجوازي، أو بسبب الانهيار الاجتماعي والمعيشي والتردي المروع للحياة المادية في مناطق أخرى. 

وعابدين لحمة مركزية مع السيدة زينب والدرب الأحمر.. من يمتلك عابدين يمتلك أحد أهم مفاصل القاهرة، اجتماعياً ورمزياً.           

الميدان ليس المدينة

ثم جاءت الأسوار لتعمق من عوار الثورة في هذه المساحة. أولى الأسوار شيدت بعد ملحمة محمد محمود. وضع جدار عازل ليفصل ماديًا بين الميدان وإحدى أهم الطرق إلى المنطقة السكنية بعابدين. ثم توالت الجدران، وتوالت الخسارات، وتوالى انحسار الثورة أكثر فأكثر عن الاجتماع الحقيقي بشحمه ولحمه.    

الخلل كان يكمن في أمرين، الأول خلط الفضاء العام بالمدينة، أو اختزال المدينة في بعض الفضاءات العامة. والثاني هو اختزال الفعل الثوري والثورة في أبعاده الرمزية، وكلاهما سيتشابكان مع بعضهما البعض ليشكلا أكبر ملامح العوار في الثورة المصرية بشكل واسع. 

ميدان التحرير والميادين الأخرى، الشوارع حين تفرغ وتصبح ساحات للتظاهر، هي فضاءات عامة يمكنها أن تشكل جانب من المجال العام بمعنى تداول الأفكار والنقاش والرؤى والتأثير على صنع القرارات، ولكن هذه المساحات ليست المدينة. 

المدينة هي حضور مؤسس سلفًا وفي حالة تجدد دائم، وهياكل لقوى اجتماعية، لنفوذ وحدود ومساحات للممكن وغير الممكن، للمقبول وغير المقبول، للحركة والمنع، للحرية والقمع. 

فبإخلاء المدينة من قوات الأمن، وهو ما تحقق بعد هزيمة الداخلية، تحررت الفضاءات العامة، ولكن هذا ليس كافٍ للدخول في عمق المدنية وحياتها اليومية وهياكل القوى بها وسؤالَي الحرية والمساواة حينما يتجسدان في الحركة بداخلها ومن خلالها. 

تخيل الفضاء العام كبديل لحقائق المدينة وصراعتها وتوزيع السلطة بداخلها، كان شديد الاغراء للقوى الثورية وأقل تكلفة من الدخول في صراع حقيقي على المدينة. 

لا يوجد أفضل من خلق مساحة محررة ووضع قواعد بسيطة لفرض حد أدنى من الانضباط وبعض القيم لاحترام الآخر والتعايش معه. ولكن هذا أيضًا شديد التضليل. ببساطة هذا ليس المجتمع وهذه ليست المدينة. 

أن تكون ثائرًا.. من عابدين 

لذا حدث أمر غريب في هذه الثورة، فقد تحول الفضاء العام لمجال تعويضي عن نقص قدرات المجال السياسي، كما ضعف الحضور الاجتماعي ومقومات السلطة عند ما عرف بـ “شباب الثورة”. 

المفارقة أن أغلبنا كان شديد/ة القوة، واسع/ة القدرات، ممتلئ/ة المهارات وربما خطيب/ة مفوه/ة. وبالعودة إلى مناطق المعيشة والسكن، حيث ظلت هياكل القوى كما هي ومنظومة السلطة فقط مرتعشة ومترقبة، كنا بلا معنى مادي ولا نفوذ ولا قدرات ولا حتى تأثير. 

وقد تجلى ذلك في الانهاك الخطابي الواسع الذي خاضته هذه الثورة بمجرد انتقال الثوار من حيز لآخر في المدينة، وفي عابدين تحديدًا ولأصحاب الهوية المزدوجة في هذه الفترة، وهي أن تكون أحد سكان الحي وفي نفس الوقت أحد الثوار، كان الأمر ثقيلًا، وهو منطق معكوس وملتبس. 

فبدلاً من أن تمكّن الثورة أبناءها في هذا الحي كانت عبئاً عليهم في الحركة والهيبة والنفوذ. فاذا قمت باستغلال هويتك كأحد أبناء الحي ستظل محافظًا على موقعك الاجتماعي به، وإذا قمت بإخراج هويتك الثورية فستكون مطالب بتحرير الحي من أعبائه وعرضة دائمة لنقد لاذع وتهكم دائم وتنفس للضيق الذي يتعرض له الحي في وجهك.

الأمر الذي جعل معارك الفضاء العام شديدة الرمزية هو أننا في لحظات كثيرة أصبحنا لا نمتلك إلا الرمز. وهو ما قاد إلى خلق حالة ميتافزيقية رجعية في مكوناتها حول الثورة والمدينة واليأس والنوستالجيا في ذروة لحظات نصر الثورة لا بعد الهزائم المتعددة التي تلقتها. 

وأصبحت المدينة محملة بعبء استنساخ حالة الثمانية عشرة يومًا التي بها من التوهم أكثر من الحقيقة. 

ولو افترضنا حقائق عدة في مجملها حول الميدان وروحه وتوحده وتناغمه، فهي حالة شديدة الاستثناء وتضافر لقوى ولحظة تاريخية شديدة التباين والتعقيد. ومن هنا صارت علاقة المدينة بالثورة علاقة شبحية مرتبطة بالحدث والتواجد الجسدي برمزيته في الفضاء العام. 

المدينة تم ارهاقها أيضًا من خلال استنزاف أحد تكتيكات الفعل الثوري مثل التظاهر تحديدًا. ولعل أبرز مثال على هذا الأمر كان علاقة الميدان بحي عابدين. 

المجتمع ليس قابلًا للاستدعاء

أخيراً لا يمكن إحالة الأمر برمته لغياب تنظيم ثوري ضخم يقود الثورة ويخطط معاركها. ببساطة كان هناك نجاحًا مبهرًا في التعامل مع المدينة في لحظات مختلفة مثلما أشرت في البداية. وهذا النجاح تم بدون هذا التنظيم الكبير، ولكنه تم عبر شبكات وحركات صغيرة ونخب مختلفة من الشباب والقيادات السياسية، وخطاب كان قادرًا على التواصل في لحظة ما مع الجمهور، وتخطيط وتفكير به قدر كبير من الذكاء الاستراتيجي. 

تعامل الثورة مع الاجتماع بكونه شبح يستدعى لملء المكان بالأجساد كان أحد أخطاء الثورة الجسيمة.