fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

رحلة إلى منطقة حدودية ودينية حساسة، النهر فيها يمثل حداً فاصلاً لا يمكن عبوره
ــــــــ المـكـانــــــــ ماضي مستمر
3 يناير 2022

لم يستطع النيل بعظمته أن يمنح اسمه لأيٍّ من ضفافه أو لبلد من البلدان التسعة التي يمرّ بها، على العكس من نهر الأردن النحيل والمُحتضر، بمياهه الضحلة العكرة ومهمته السياسية الثقيلة، منذ قطعه يوحنا المعمدان للشرق في تأريخ غير متفق عليه، وحتى نزْع الألغام من جنباته بعد توقيع معاهدة “وادي عربة” بين الأردن وإسرائيل عام  1994.

نهر مقدّس

لم يكن النهر بحد ذاته ما يحمل الآباء العَمّانيين، على وجه الخصوص، إلى اصطحاب عوائلهم لهذه المنطقة، بل كان الهدف أقل قدّاسة بزيارة جنوب النهر أي البحر الميت، حيث تشير الأصابع الدينية إلى البحيرة المالحة بوصفها مكان غضب الله على قوم النبي لوط، وربما كان الهدف أكثر إيلاماً بالإشارة إلى قطع الجسر الخشبي من قبل فلسطينيين، يحملون أكياس نايلون محشوة بأوراقهم الثبوتية، أشرفت على أرقامها بشكل شخصي الأمم المتحدة بعد احتلال الضفة الغربية في العام 1967.

أما النهر.. نهر الأردن، بوصفه مجرىً مائياً بحتاً؛ فقد أثار شهية الرحابنة لنظم شعر غنائي عنه: “يا جسراً خشبيّا يسبح فوق النهر/ ضحك الفجر وحيّا وصحت قمم الزهر/ لونك فرح الماء وبك العطر يجنُّ/ أخشابك أفياء تحت الخطو تئنُّ/ وبصمت وصفاء ينطلق الأردنُّ/ يزرع في الأوداء موسمه القدسيّا”.

هذه الحالة الشعرية، على سذاجتها، ساهمت برتق جانبي النهر، إذ تجاوز الرحابنة الحديث عن ضفتيه ككيانات مستقلة؛ فتركزت الصورة على الجسر واحتفالية الفرح من حوله، وإن أخذنا توقيت الأغنية لوجدنا أنها جاءت عام 1957، بعد إعلان ضم الضفتين ببضع سنوات، على زمن الملكية الثالثة في الأردن، في عهد الحسين بن طلال الملقب بـ “الملك الباني”.

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

صورة من الأرشيف الألماني لنهر الأردن عام 1934

حتى 1967، عام النكسة، كان ينظر لنهر الأردن كحاجز طبيعي يتنقل عبر ضفتيه السكَّان -المتوزعون في المنطقة وما حولها شرقاً وغرباً، ويشار على وجه الخصوص لمنطقة الـ “شْريعة” فيه لتأكيد اجتياز الماء، لكن مع احتلال إسرائيل للضفة الغربية تحوَّلت المنطقة لمجال عسكري مُغلق، واستولت إسرائيل على فضائه بماديته ومعنويته، ولم تشكّل الدبابة والقناص والسواتر الترابية وحدها مظاهر السيطرة، إذ أنّ الألغام على طول ضفتي النهر تولت الباقي، إما باترةً لأطراف مدنيين وعسكريين، أو قاتلةً لهم ولأي كائن حي.

الرحابنة ذاتهم بعد عقد أشاروا للنهر في واحدة من أكثر الأغاني شهرة “زهرة المدائن”، وعلى مقام العجم انتقلت فيروز بتكنيك الغناء وبإحساسها، من الهجومية إلى الحميمية في مقطع النهر على وجه التحديد، يصاحبها قرع الأجراس، في إشارة مباشرة للرواية المسيحية المقدسة عن النهر الذي تعمّد به السيد المسيح: “وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية/ وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية”.

نحو النهر

منذ طفولتي لم تختلف الجبال الرسوبية على الطريق من ناعور نحو الأغوار الجنوبية، تتلوى قممها الكالحة مثل أسنمة الجمال، عن يمين رحلة الهبوط، تمتد سفوح متلاصقة لمحيط سد “الكَفْرين”. كان بابا يقود سيارته التويوتا كريسيدا موديل 1985، قاطعاً الطريق المعبّد القديم، وبسبابته الثخينة يؤشّر ويأمرنا أن نمعن النظر فيما اعتبَره أحجية ربانية تستدعي الاندهاش.

في خلفية المشهد عبد الحليم حافظ يغني “اللي شبكنا يخلصنا”، وفي الكرسي الخلفي رؤوس بعيون شاخصة تلتقط ذكرياتها بدقة ووضوح يضاهيان كاميرات 4k. الدهشة الحقيقة تكمن في قدرة المنطقة على بعث الاحساس ذاته بعد ثلاثين سنة، برودة الانطلاق باكراً، الطست البلاستيكي وفي داخله الزوادة، الحصيرة والموقد الصغير، الشجار الساذج الإلزامي، الغناء الجماعي، قرصة الجوع قبيل الإفطار، والملاحظة نفسها “لولا الاحتلال لوصلنا قريتنا في الأرض المحتلة خلال ساعة”. بالنسبة لي، أعرف بالضبط الوقت الفعلي للوصول لتلك القرية، تأخذ الرحلة الواقعية ما بين 8 -9 ساعات بتوقيت الجحيم، ليس في الأمر أي شاعرية، بل جهد مضني ينزلق من عيون الناس وأكتافهم الباحثة عن حقائبهم وأطفالهم الملولين.

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

أثر المكان يدفعك للتوقف والتأمل، وإن أمعن الرائي النظر ستتجلى أمامه أبهة جبال السلط المأهولة إلى الشمال الغربي، بوصلة لا تخطئها عين أهل المنطقة ممن امتهنوا العمل على استراحات الطريق الطويل للبحر الميت. أحدهم استخدم حافلة نقل متوسطة معطلة وافتتح فيها مقهى صغيراً يقدّم فيه المشروبات الساخنة والباردة السريعة إلى جانب أنواع بائسة من الكيك والشكولاتة المغلفة.

قدّم لي الشاب ما طلبت، كان ببشرة سمراء وشعر أسود استطال حتى كتفيه، لم يكن من رواد مدرسة العبث أو الأناركية، انهلت على الرجل بأسئلة فضولية، فأثرت شكوكه وجعلته يرتاب مني.. كان لابد من المضي في طريقي والخروج من عالمه الذي لم يغادر تسعينيات القرن الماضي، لولا هاتفه المحمول ذو الشاشة المشعورة لكنت أقسمت أنني في العام 1995.

أفتح عيناي على وسعهما لأكتب عن هذا الدرب بكلّ أمانة. جهزت للرحلة سيارتي القديمة، عبأتها بنزين، وتأكدت من هواء الإطارات، وماء الراديتور. في زمن ما، كان في الطريق ذاته مصائد لأرواح بشر قبل أن يصبح بهذا العرض وعدد المسارب.

لحسن الحظ شُقّت الطرق في الأردن بالكثير من السخاء عبر منح متعددة خليجية وأجنبية، أبرزها منحة جايكا اليابانية التي أهّلت طريق جسر الملك حسين، حيث وجهتي إلى الحدود الغربية مع ما بات يعرف بـ “الضفة” فما من داع لذكر صفتها الغربية. تشوّش موجات محطات الراديو الإسرائيلية على البث الخاص بالإذاعات الأردنية على مشارف ناعور، ويبدأ شعور واضح بالضغط على أذنيّ، بفعل نزولنا أخفض بقعة في العالم، شيء لا يتكرر دائماً، أن تنزل نحو 420 متر تحت خط وهمي عالمي يسمى اصطلاحاً بمستوى “سطح البحر”.

على طول الطريق، ترتص الشاحنات وصهاريج الاسمنت، تتحرك تباعاً مثل أسراب نمل تتخللها سيارات أجرة بطبعة خاصة بجسر الملك حسين، أحد المعابر الثلاث مع الأرض المحتلة، والمعبر الوحيد الذي يسمح للفلسطينيين بالمرور من خلاله، يسمّى أيضاً معبر “الكرامة” نسبة للمعركة والقرية التي أوقف بها الجيش الأردني والمقاتلون الفلسطينيون تقدّم قوات الاحتلال شرقاً، أما الإسرائيليين؛ فيسمونه “جسر أللنبي” نسبة للبريطاني إدموند أللنبي قائد القوات البريطانية التي احتلت فلسطين في العام 1917.

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

بلغة الرحلات، تعد هذه الرحلة قصيرة؛ فخلال أقل من ساعة أصل الأغوار الجنوبية. وفي السوق الرئيس تمتد محلات الخضار والبسطات العشوائية على الأرصفة الرثة ومحطات الوقود والإطارات، إلى جانب المخابز والدكاكين التي تبيع مستلزمات السباحة لزوّار البحر الميت. هذه هي المحطة الأخيرة من الأسعار المعقولة، قبل أن يصل الزائر منطقة الفنادق ويتحوَّل الموقع طبقياً للميسورين والأثرياء. تنبلج الاستثمارات السياحية التي قضمت عشرات الكيلومترات من شاطئ البحيرة؛ فعن يمين الطريق فنادق 5 نجوم وعن يساره شاليهات جديدة نسبياً لم ينجح تسويقها كما يجب. أما السكان المحليون؛ فهم خليط من بعض القبائل البدوية التي استقر بها المقام، وبعض اللاجئين والعمال الوافدين من مصر ومن شرق آسيا، من يعملون في مزارع الموز والخضار والحمضيات والتمور. 

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

للمغطس.. انعطف إلى اليمين

في زيارتي الأولى للمغطس، كنت متسكعة قاصدة للبحر الميت، أثارتني الشواخص المرورية الكثيرة التي تؤشر على المكان الذي اعتقدت أنه للمسيحيين فقط. قلت لأجرب طعم المغامرة، لا ضير سيما وأن المسافة قصيرة.. لا ازدحامات مرورية، بضع سيارات وحافلات سياحية تمشي على مهل في طريق لطيف من مسربين، بعد المفترق الإجباري. هناك تورية تحملها الآرمة في سؤالها الأخير قبل الوصول: نهر الأردن أم البحر الميت؟ النبي عيسى أم النبي لوط؟ حسمت أمري وتيامنت ميمّمة وجهي للشمال الغربي.

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

جغرافيا الموقع مألوفة للزوار وكأنها على حالها منذ الأزل. أشجار الطلح والنخيل تنبت وسط أرض قاسية تحت لهيب شمس حفرة الانهدام. الذباب يثير الجنون، تفقس بيوضه في روث الدجاج الذي يسمّد به المزارعون بساتينهم، والنتيجة مذهلة، إذ تتدلى عراجين الموز والرطب ببركة المناخ الاستثنائي.

لطالما اسودت صفحات كتبنا المدرسية وهي تصف سلة المملكة الغذائية، حيث تنبت المحاصيل على مدار العام. المفارقة أن الأردن لم يحقق اكتفاءه الذاتي سوى من محاصيل البندورة والزيتون، بل انفتح باب استيراد الخضروات والفواكه سيما من على الضفة الأخرى، غنيمة الإسرائيليين بعد حرب استغرقت ستة أيام فقط، أخذوا بعدها الأرض والماء وحتى اليد العاملة، ومع فارق التكنولوجيا والعطش تجرّع صغار المزارعين في الأردن المر، وهجر الكثيرون منهم الفلاحة بعد أن يبست الأرض.

على عكس طوبوغرافيّة عمّان الجبلية، تمتد أراض الغور مثل كف اليد، والجبال الجرداء تحتل الأفق، ما بين جبال فلسطين والأردن يسيل النهر المقدّس في الوادي، ويستمد قوْته من أمطار الشتاء التي شحّت بالتزامن مع تحويل مياه بحيرة طبريا إلى صحراء النقب الفلسطينية، مما ترك النهر ضحلاً. من هذه البقعة، يبدو مفهوماً هوس رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو بضمّ الأغوار الفلسطينية بشكل رسمي لأراضي إسرائيل، نظراً لضيق عرض الأراضي الفلسطينية من البحر للنهر، مما يشكل عقبة للتصدي لأي تهديدات تستدعي استخدام سلاح الجو؛ أي أن الزمن والمساحة الأفقية لا يلعبان لصالحهم ما لم يسيطروا على أطول امتداد يوفره الغور الفلسطيني تجاه الضفة الشرقية كخطوة احترازية، وهذه بالذات شكّلت هاجساً لإسرائيل منذ عقود، وقد سبق لها محاولة التقدّم شرقاً في آذار/مارس 1968. وعلى الرغم أنها منيت بهزيمة في معركة الكرامة إلا أنها حققت مكسباً استراتيجياً تمثّل بإبعاد المقاومة الفلسطينية من الأغوار إلى الجبال الشمالية في الأردن، قبل ذلك بعام، وفور احتلالها للضفة الغربية عام 1967، أعلنت السلطات الإسرائيلية المناطق المحاذية لنهر الأردن “400 ألف دونم” مناطق عسكرية مغلقة، وتم إنشاء 90 موقعاً عسكرياً في حينها. كان القصف على الأراضي الأردنية يتمُّ من هذه الجبال الخرساء أمامي ومن متاريس تبعد بضعة كيلومترات.

الآن تبدو الأمور هادئة وطبيعية، ونادراً ما يعلن عن حدث أمني على الشريط الحدودي الضخم من أبعد نقطة شمالاً في محافظة إربد وحتى العقبة جنوباً.

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

الوصول لعتبة المغطس

ما أن يصل للمغطس حتى تتبدى للزائر تعقيداته؛ فمن ناحية هو منطقة حدودية حساسة، ومن ناحية أخرى يمثل موقعاً دينياً حيوياً للديانة التي يعتنقها نحو ثلث سكان العالم. على المدخل الرئيس غرفتان منفصلتان يعلو كل منهما العلم الأردني، وآثار بادية لأعمال بناء، هذا يعني أن المكان لم يصل لهندسته النهائية، بل العمل فيه أقرب للحذر منه للإنجاز، كيف لا ونحن نتحدث عن معقل التعبّد في الديانة المسيحية.

الحركة هنا محدودة ولا يمكن تغييرها، بضعة أمتار تُلزم الزائر بالانعطاف يميناً نحو المحطة الرئيسية حيث شباك التذاكر للرحلة التي تستغرق أكثر من ساعة بقليل. تنتصب في الساحة مظلات محدودة للسيارات، لا تتناسب مع “طموح” المكان كمحج معترف به دينياً ودولياً.

بانتظار حافلة متوسطة ستنقلنا لمكان بداية الرحلة، أتفرس بوجوه السياح العرب والأجانب، يتصفح البعض منشورات عن الموقع بكل اللغات، وآخرين يلتقطون الصور أو يهشون الذباب من على رقابهم المعروقة، قليلون يتحدثون العربية، أما الباقي فيمكن القول إنهم متقاعدون متدينون جاؤوا مستشعرين سكينة الروح القدس، صغار السن غير متدينين اكتفوا بالتقاط صور للمكان لأمهاتهم حتى تقرّ أعينهن في بلاد بعيدة.

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

بيت عنيا.. ملاذ يوحنا المعمدان

منذ ان اندثرت المعالم التاريخية لمكان انطلاق الدعوة الواضحة للديانة المسيحية شرق النهر، وتعاقبت الحضارات، بقي أهل المنطقة وحدهم من يدّلون الحجاج والمؤرخين على مبتغاهم. يقودونهم بثقة من منطقة الكفرين والرامة القريبة إلى تل يسمونه “مار إلياس” نسبة إلى النبي إيليا وهو نفسه إلياس، الذي تبع يوحنا أثره، وجاء ليكمل الدعوة من بعده وكان أهل المنطقة في عصره يسألونه إن كان المسيح فينفي وإن كان إيليا فينفي فاستغربوا كما جاء في الإصحاح 25 من إنجيل يوحنا وفي الآيات من 1-26 (ما بالك تعمّد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي).

إذاً، هذه العلامة للتل المنقولة شفوياً من أهل المنطقة المسلمين لها توثيق مكتوب في انجيل يوحنا، الاصحاح الأول الآية 28 (هذا كان في بيت عنيا شرقي نهر الأردن حيث كان يوحنا يعمّد)، وفي الانجيل ذاته الاصحاح 10 الآية 40، يشار للمسيح (فأرادوا أن يمسكوه فأفلت من أيديهم ومضى عبر الأردن إلى المكان الذي كان يوحنا يعمّد فيه أولاً ومكث هناك)، ودلالة أولاً في الآية تعني تعدد أماكن العمّاد على الجانب الشرقي من نهر الأردن.

أما سبر غور معنى الاسم، فهي متعة خالصة إذ استفاض بها د. محمد وهيب، مدير بعثة اكتشاف مكان عمّاد السيد المسيح، ومدير مشروع التنقيب عن آثاره، في كتابه الصادر عام 2014 عن المغطس، إذ جمع آراء الباحثين الذين حاولوا تفسير الاسم فكان بيت عنيا يعني بيت النخيل عند ديكسون، أما دتش من المتحف البريطاني؛ فخطّأ رد الاسم للعبرية واعتمد السريانية وبذلك يكون “بيت البؤساء والفقراء”، كما يوجد غيرها من التفسيرات العارضة لدى باحثين آخرين. يميل وهيب إلى التأكيد على دلالة المعنى للاسم التي تشير إلى عيون الماء والينابيع العديدة التي تتدفق قرب تل مار إلياس شرقي النهر، سيما وأن الاسم يلفظ أحياناً بإضافة ياء “عينيا”.

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

يبدأ المسار الفعلي لمكان العمّاد، بعد ركوب الحافلة التي تقطع بسرعة متوسطة مسافة صغيرة، تتوقف عند نقطة عسكرية أردنية، يعلن المرافق الرسمي “أنتم الآن في منطقة حدودية والنهر يمثل الحد الفاصل، يرجى الالتزام بالتعليمات”. بالقرب من الثكنة العسكرية يوجد مبنى صغير من حجر قديم ضارب للصفرة، للوهلة الأولى يعتقده المرء جزء من آثار الموقع، ولدى سؤالي عنه تبين أنه مسجد أقيم في ضيافة المكان.

أعادت لي هذه الدقائق في حضرة جغرافيا غور الأردن، كامل ذكرياتي عن المسافة من جسر العرب إلى جسر اليهود كما يُسمى شعبياً، فالمنظر متطابق، هو بالفعل على بعد عدة كيلومترات من هنا. شعور متضارب من الخوف والشوق والأسى، ورغم أني على الضفة الشرقية إلا أن وطأة الاحتلال جاثمةً. أتفرس في وجوه الركاب الآخرين لأجد إن كان لديهم نفس الشعور؛ فأجدهم يثرثرون ويشربون الماء، أحدهم يتناول موزة وأخرى تدهن كريم واقي من الشمس، وحده رجل في منتصف أربعيناته، بوشم لصليب على ظهر كفِّه وبلهجة مصرية واضحة يدعي بكامل خشوعه “يا رب توب عليّ وتوِّبني”.

يطلب منا المرافق الرسمي أن نترجل من الحافلة، يبدأ المسار الترابي في طريق محدد بأعمدة خشبية، بعض من المسار مسقوف بمظلة مصنوعة من سعف النخيل. تُرك المكان على سجيته، لا آثار مصطنعة، ولا تغيير في الغطاء النباتي بزرع شجر جديد، حتى قنوات الماء وبعضها مسقوف بالحجارة بقيت كما هي مع أعمال ترميم بسيطة.

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

بدأ التنقيب في المنطقة عن الآثار، بعد استكمال نزع الألغام في العام 1996، ولم يستغرق الأمر أكثر من شهرين حتى ثبتت توقعات البعثة الأردنية، وكان مكان البحث يمثل الآثار المسيحية الأولى في العالم. أسفرت أعمال التنقيب عن اكتشاف 10 كنائس تتبع أسلوب الكنائس من الحقبة ذاتها والمتوزعة في أماكن قريبة من الغور، إذ تشترك بأرضياتها من الفسيفساء والكتابة اليونانية، إضافة لكهوف الرهبان ومغارات تعبدهم.

هذه المكتشفات ليست عشوائية، فهي تمثل رحلة الحج المسيحي من القدس إلى نهر الأردن، ومكان العمّاد، ثم صعوداً نحو الجبال المجاورة كجب(ل؟) نيبو، المكان الذي يعتقد أن النبي موسى وقف فيه ورأى أرض الميعاد ولم يدخلها، ومكاور حيث يعتقد أنه مكان قطع رأس يوحنا المعمدان. هذه الرحلة المضنية هي السبب وراء الآثار المكتشفة من كهوف للإقامة والعبادة وبرك للتعميد في أماكن مختلفة والنظام المائي القريب من الكهوف، وصومعة عبادة كلها تعود للعهد الروماني والبيزنطي في بداية عهد المسيحية، وبشكل أكثر تحديداً، غالبية هذه الآثار أمرت ببنائها القديسة هيلانة أم الامبراطور الروماني قسطنطين أول امبراطور روماني يعتنق المسيحية، ومن بعد ذلك أصبح اسم بيت عنيا لدى البيزنطيين عين نون صفصاف.

الزائر العادي مثلي ومثلكم لن يتمكن من رؤية هذه الآثار كلها التي تنتشر على المساحة البالغة 294.155 هيكتار، لكن التواجد في قلب بيت عنيا والوقوف أمام المكان الذي اتُفق أنه البقعة الأدق لتعميد المسيح، يملأ المرء رهبة خفية. الرجل القبطي وحده من غمرته اللوعة وهو يطلب النزول لجمع بعض الماء، لكن المكان مغلق أمام الزوار، إلا إن كانوا يشغلون الكرسي الرسولي إذ نزل للمكان بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني، والبابا بينديكيت 16، والبابا فرانسيس، (أما البابا بولس السادس فقصد نهر الأردن عام 1964، قبل الكشف عن الموقع الأثري)، كما قصده باباوات الأقباط المصريين شنودة الثالث وتواضروس الثاني، وبطبيعة الحال العديد من المطارنة والأساقفة، من كافة كنائس العالم ولم يفوّت الزيارة رأس البطريركية الأرثوذوكسية في الأردن والقدس ثيوفيلوس الثالث، (كل من يشغل هذا الكرسي يصادق على ترسيمه ملك الأردن، ويمنحه الجنسية الأردنية باعتبار أن العائلة الهاشمية لديها الوصاية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس).

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

إذاً، هنا تشير الدلائل كلها لمكان عمّاد المسيح. أجمل ما في هذه البقعة هندستها، بقايا المباني تعود لثلاث كنائس، يذكر د. محمد وهيب أن اثنتين منها بنيتا فوق بعض. الدرج الطويل يشير لاضطرار النزول لنهر الأردن الذي تغيّر مجراه منذ عصر المسيح. وهناك كنيسة رابعة مجاورة تسمى كنيسة الرداء الصغيرة المقامة على أربع قواعد ما أن يغمرها الماء حتى يتشكل صليب، وهو الشكل المكرر لأحواض التعميد البيزنطية. الآن، يكاد يخلو المكان من الماء، بسبب تغيّر طبيعة النهر ومجراه وانخفاض منسوبه، إضافة لتفريغ الموقع من الماء خوفاً من ملوحته على بقايا الآثار.

طوائف وكنائس

بعيداً عن المركز الأثري للمغطس، تلفت الزائر الكنائس الجديدة القائمة بمعمارها المختلف تبعاً للطائفة، إذ تنسجم الأبنية مع المكان وكأنّها جزء أصيل منه. التمايز فيما بينها يزيد من ألقها، وتجاورها مهيب، لا يمكن أن تجد تجمعاً كنسياً لطوائف مختلفة في الأردن إلا هنا؛ فقد وافق مجلس الأمناء الذي يشرف على المغطس على طلبات الطوائف المسيحية بتدشين أماكنها الخاصة للعبادة، وعلى أرض تعتبر وقف ديني وهبه لكل منها الجانب الأردني باسم الملك عبدالله الثاني. هذه الخطوة عززت إدراج المغطس على لائحة التراث العالمي، بعد أن  اعتمدته طوائف الروم الأرثوذكس الروس واليونانيين، اللاتين، الأقباط، اللوثريين، الأرمنيين، السريان، المارونيين، الأثيوبيين، الروم الكاثوليك والأنجليكانيين. بشكل فعلي، بنت معظم هذه الطوائف كنائسها، أكبرها الكنيسة الكاثوليكية وهي أكبر مجمع كنائس في الشرق الأوسط بمساحة 30 ألف متر مربع. إلى جانب الكنائس يوجد الأديرة وبيوت للحجاج افتتح أهمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2012.

خطوة بوتين هذه مع شكلها الدبلوماسي إلا أنها تشير إلى تطلعات الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في مزاحمة نظيرتها اليونانية التي تسيطر على بطريركية القدس، والبعد السياسي المرتكز على هذا التنافس سيما وأن بطريرك القدس منذ 1534 يمثل الجانب اليوناني مذ تحالف العثمانيين معهم. ما بين موسكو أثينا، تحاول عمّان الوقف بشكل أكثر حيادية وتقاس أي خطوة في هذه الاتجاهات بميزان الذهب، لارتباطات هذا التنافس بجوانب أخرى أكثر دنيوية مثل غاز البحر المتوسط وسعي اليونان لتعزيز العلاقة من دول شرق المتوسط وعلى رأسها الأردن.

الجولة للسياح العاديين، لا تشمل الدخول للكنائس الحديثة إلا إن كان الترتيب بواسطتها خلال مواسم الأعياد أو إقامة الصلوات، إلا أن جولتنا في قلب المنطقة الأثرية مكنتنا من دخول كنيسة صغيرة للأرثوذكس اليونانيين هي الأقرب لنهر الأردن أقيمت في العام 2003، تعلو الرسومات سقفها أما أرضيتها المعمولة من الفسيفساء جاءت لتحاكي الطابع البيزنطي في المكان. يمكن اعتبارها مزار صغير، فصحن الكنيسة محدود في صدره صندوق يضم عظاماً أخبرنا خادم الكنيسة أنها تعود لقديس من القرن السادس الميلادي. المذبح مغلق أمام السيّاح، يمكن التقاط الصور والأنفاس والهرب من أشعة الشمس، والاستعداد للتعميد لمن أراد النزول للنهر الذي يبعد أمتار قليلة عن الكنيسة.

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

الماء أخيراً

لدى الاقتراب من نهر الأردن، بدت الفوارق واضحة بيننا كمشرقيين وبين الأوروبيين والأفارقة. أنظر بعين دقيقة لكل شخص في الرحلة، هناك المستمتعون والضجرون، استذكرت جملة سمعتها في محاضرة للدكتور جوزيف مسعد، أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا بنيويورك، حين قال واصفاً حوار مع طلابه عن المسيحية، أنّه لا يفهم كيف تحوّلت المسيحية التي هي من بلادنا في الأساس للقارات الأخرى وهي جزء من موروثنا نحن ونابعة منه. هذا يفسِّر علاقتي بالماء الذي أمامي، علاقتي به عضوية لا عقائدية بحتة.  هو ماء مقدّس بشكل حقيقي مع أنه عكر، يحتاج الوصول لسطحه هبوط بضع درجات، ومنطقة النزول الفعلي محاطة بشبكة وعوّامات. منسوب الماء منخفض يصل لأسفل صدر شخص بطول متوسط، لم ينزل أحد منّا، حدّقنا جميعاً بالجانب الآخر حيث يرفرف علم إسرائيل، ومجموعة من المتدينين المسيحيين بثوب التعميد يصلون سوياً بشكل كرنفالي دخل الماء.

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

“هناك”.. أجمل

ثلاثة من السياح الكنديين يتأملون الجانب الآخر من النهر، بناء حجري حديث، أشجار نخيل وأرضيات مرصوفة، قال أحدهم إن “هناك” أجمل. تبدو لصوصية تل أبيب بادية هنا؛ فالمكان محتل من أراضي الضفة الغربية التي كانت لغاية 1967 جزء من المملكة الأردنية الهاشمية، عدا عن الترويج الإسرائيلي للمغطس من ناحيته الغربية كجزء من رحلة الحج المسيحي إلى القدس، صحيح انه يوجد تفاهمات أردنية إسرائيلية مرجعيتها اتفاقية السلام بين الجانبين بهذا الخصوص، لكن الاصطدام بعلم إسرائيل، شكل التواجد الأمني، الأسوار العالية، كاميرات المراقبة، كلها تشتت التركيز وتقتحم اللحظة خصوصاً لمن يعرفها سابقاً. 

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

يطلب منّا الدليل أن نتحرك، نتجاوز الجنود الأردنيين المتواجدين، تبدو الحماسة أقل ونحن ندخل متحف المغطس، نجد مقتنيات لبطاركة ملابس كهنوتية وصولجانات، وصور تجمعهم مع الملك حسين، أناجيل وكتب، صحف تعود لمنتصف الخمسينات، أدوات فخارية وفلزية أثرية، رسائل من زوّار عُلقت بلاصق الأسعار للتذكارات التي يمكن شراؤها. 

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

في المتحف، لقطتان لخّصتا رحلة المغطس برمتها، وكأنهما تختصران الألفي سنة وتعاقب الأمر من قبل ومن بعد، اللقطة الأولى لرسالة تحمل الآية 59 في الإصحاح 3 من سفر مراثي إرميا (رَأَيْتَ يَا رَبُّ ظُلْمِي. أَقِمْ دَعْوَايَ) واللقطة الثانية شباك عنكبوت في صندوق عرض بعض الأحجار والقلائد القديمة.

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد

كيف شقّ الاحتلال نهراً مقدّساً

تصوير أسماء عواد