fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft (الصورة الأصلية نادية مبروك)

ذهبت رشا بتهمة التضامن.. فذهبنا معها

أمام المحكمة كان وجودنا مثيرًا للدهشة والارتباك، عدد لا بأس به من النساء يلتقطن الصور التذكارية سويًا، يواجهن المجرمين بابتسامة.. أمر مرعب بالتأكيد
25 أبريل 2022

بملابس زاهية ذهبتُ، السبت الماضي، إلى المحكمة تضامنًا مع المتهمة بالتضامن النسوي، الصحفية والكاتبة المصرية والصديقة رشا عزب. كان يوم السبت هو موعد جلسة النطق بالحكم على رشا، حيث برأتها المحكمة في القضية رقم 255 لسنة 2022 المقامة من المخرج اسلام العزازي، والذي نشرت في حقه ست شهادات اعتداء جنسي. القضية استندت على إتهام رشا بثلاث تهم رئيسية “سب” و”قذف” و”تعمد إزعاج”.

بدأنا في التجمع أمام المحكمة الإقتصادية في صحراء المعادي جنوب شرق القاهرة في الثانية عشر ظهرًا، أغلبنا نساء متضامنات، بيننا نسويات وصحفيات ومحاميات وأكاديميات. كنت أشعر ببعض القلق والتوجس من الحكم المنتظر، حتى دخلت علينا رشا بابتسامة واثقة لامبالية. كانت رشا تواجه عقوبات بين الحبس والغرامة بابتسامتها تلك وتيشيرت أحمر مرسومًا عليه دبابة. طيلة الشهرين الماضيين منذ بدء المحاكمة في 26 فبراير الماضي، كنت أفكر أن أفضل الاحتمالات ستكون الغرامة، واعتدنا المزاح حول الأمر بأننا سنسعى لأن تدفع كل نساء مصر الغرامة. تجاهلت الاحتمال الأسوأ بحبسها، ونسيت تمامًا أن هناك احتمال آخر بالعدالة. 

 برأت المحكمة رشا وألزمت المدعي بالمصاريف، في حكم أول درجة، هكذا قالت لنا عضوات فريق الدفاع بعد خروجهن من قاعة المحكمة بعد أقل من ساعة، ورنت الزغاريد أمام المحكمة وعلى الطريق الدائري، والكباري والمحاور والمساكن الجديدة المحيطة. 

حين سمعت حكم البراءة، شعرت كأنني أنا من حصلت على البراءة. لم تكن البراءة انتصارًا لرشا وحدها، كانت انتصارًا لجميع النساء. ربما لم يزول الخطر تمامًا، فما تزال هناك درجة أخرى من التقاضي في تلك القضية، وربما يقرر المدعي في القضية الاستئناف على حكم البراءة، لكن ذلك لن يمنعنا من الاحتفاء بينما يستمر التضامن. 

تصوير نادية مبروك

في ديسمبر قبل الماضي، نشرت مدونة “دفتر حكايات” تباعًا شهادات مؤلمة فضّلت صاحباتها تجهيل أسمائهن، اتهمت العزازي بالتحرش بهن والإعتداء عليهن جنسيًا. الشهادات لم تستخدم اسم العزازي كاملًا، واكتفت بالأحرف الأولى، لكن العزازي أكد لاحقًا، وهو ينفي التهم عن نفسه، أنه هو الشخص المقصود. هالني ما قرأت، فتضامنت، أنا وغيري، بإعادة نشر الشهادات. وصلت أصداء الشهادات لمهرجان القاهرة السينمائي الذي كان يعرض فيلما للعزازي، حينها، فلغى ندوة الفيلم. 

قابلت رشا للمرة الأولى في نهاية عام 2008. قُبض علينا على خلفية احتجاجات تضامنية مع غزة، وتوسط رئيس تحرير الصحيفة التي كانت تعمل فيها رشا حينها لإخلاء سبيلها، لكنها رفضت الخروج بدون كل المحبوسات، لم تكن تعرفني حينها، لكنها تضامنت معي وكان تضامنها سببًا في خروجي. هكذا أيضًا تضامنت رشا مع صاحبات الشهادات ضد العزازي، فانتهى بها الأمر متهمة. 

قرأت، على مدار العامين الماضيين، المئات من شهادات العنف الجنسي. قابلت وتحدثت مع عدد من صاحبات تلك الشهادات، اشتبكت مع بعض تلك القضايا صحفيًا، وتضامنت مع بعضها نسويًا. بدا أن حماية مجهولية تلك الشهادات والتضامن النسوي معها هما السلاحان الوحيدان أمام قوانين ومجتمعات، محافظة كانت أو تقدمية، لا تنصف المرأة، فلم يبقى لنا، نحن النساء، سوى بعضنا البعض، لأننا نواجه جميعًا نفس الخطر، نواجه جميعا نفس العفن، نفس الجريمة التي تفلت في الغالب من العقاب. 

يتعرض النساء للعنف الجنسي في كل الأوساط في مصر، في أماكن العمل مثل القطاعات الحكومية والخاصة، أيضًا في مجالات الصحافة والإعلام، وفي الفنون، في أماكن الدراسة مثل المدارس وفي الجامعات، في الشارع وفي داخل البيوت على يد أفراد من أسرهن، وعلى يد رجال الدين، في العمل العام وفي العمل الأهلي وفي المجتمع المدني. في أكثر المجتمعات محافظة وفي أكثر المجتمعات ادعاء للتحرر والمساواة.

 

كل خطوة تصنع فارقًا. ربما تكون براءة رشا في تلك القضية وما جرى حولها من زخم عونًا لأخريات، يعاقبن كناجيات أو متضامنات، وربما يكون ما صنعته قضية رشا من حملة تضامنية هي بداية لتحركات نسوية أوسع  

نقضي طيلة حياتنا كنساء في هذا البلد في حالة تأهب دائم. اعتدت منذ مراهقتي وحتى تخرجي من الجامعة على حمل “cutter – قاطع الورق” في حقيبتي كل يوم، كوسيلة للدفاع عن النفس أمام المتحرشين. 

لم يكن مفاجئًا لي أننا جميعا تعرضنا لعنف جنسي بأشكال مختلفة، ولكن كان حجم الحوادث وتفاصيلها، خلال السنوات القليلة الماضية، مرعبًا. صدقت الناجيات لأني أعرف في قلبي وعقلي أن ما مروا به صحيحًا، رأيته مسبقًا. ولأني أعلم نهاية طريق القانون ونهاية طريق الإفصاح علنًا، حاولت وأخريات حماية المجهولية كطريق للبوح، فمع غياب بدائل آمنة للإنصاف والعدالة للنساء، كان هذا هو الاختيار الآمن لنساء يكفيهن ما تعرضن له بالفعل، وكان على رشا وعلينا تقديم الدعم لهن كيفما اختاروا.  

مثلت قضية رشا خطورة كبيرة على الحراك النسوي، فلقد كانت السابقة الأولى من نوعها، لمحاكمة إحدى المتضامنات. كان لوقائع مثل حبس الشهود وإغلاق قضية اغتصاب فيرمونت في أغسطس الماضي،  ثم براءة المتهمين في قضية التحرش الجماعي في ميت غمر، قبل أكثر من عام، انعكاسًا سلبيًا على الحراك النسوي. والآن تذهب المتضامنات أيضًا إلى المحكمة، وكأنها رسالة لكل الضحايا والناجيات من العنف الجنسي أن يصمتنّ هنّ وداعميهن. ذهبت رشا إلى المحكمة فذهبنا معها. 

أثناء تغطيتي الصحفية لقضايا العنف الجنسي، أخبرتني كثير من الضحايا/الناجيات أنهن تشجعن للبوح سواء الكترونيًا أو قضائيًا بعد قضية “أحمد بسام زكي”، أولى القضايا التي حركت الموجة النسوية الأخيرة في مصر، بعد انتشار عشرات الشهادات المجهلة التي اتهمت زكي بالاعتداء الجنسي، وتحركت بعض تلك الشهادات إلى المحكمة وعوقب زكي بالحبس 11 سنة، مثلما في المقابل تسبب حبس الشهود وبراءة المتهمين في قضية اغتصاب فيرمونت في تراجع وخوف من بعض الناجيات في الإفصاح سواء إلكترونيًا أو عبر اللجوء للقضاء.

بعد نشر الشهادات ضد العزازي، تقدم هو ببلاغات بالسب والقذف ضد عدد من المتضامنات في يناير 2021، وحفظت البلاغات، لكن في فبراير من العام نفسه أعيد فتح واحد من تلك البلاغات وضم رشا عزب والمخرجة عايدة الكاشف. وفي نوفمبر الماضي علمت رشا وعايدة عن التحقيق مجددًا في البلاغ، وفي نهاية يناير أحيلت رشا وحدها إلى المحاكمة.  

تصوير نادية مبروك

قابلتُ رشا مع عدد من الزميلات الصحفيات والنسويات في نوفمبر الماضي، حيث أخبرتنا عن البلاغ. تقابلنا في نقابة الصحفيين، حيث اعتدنا أن نتقابل، نحن المجموعة المشاكسة، في السابق لأسباب أخرى. هذه المرة زميلتنا تواجه اتهامًا جميعنا متهمات به.. “التضامن النسوي”. 

كانت المعركة بالنسبة لي شخصية، فتضامني أنا وأخريات مع الناجيات هو تضامن مع أنفسنا، فنحن لسنا آمنات. تشكلت مجموعات مختلفة وعملت سويًا لدعم رشا في قضيتها، ومن بينهن نساء أخذن على عاتقهن قضية العنف الجنسي ضد النساء، وبذلن مجهودات ضخمة، بالذات خلال العامين الماضيين، في فضح المعتدين ودعم الناجيات. شبكة دعم مترامية الأطراف، لم يتقابل جميعهن بالضرورة، نشرن ودعمن وتضامن في النيابة وفي المحكمة وفي الصحافة وعلى مواقع التواصل الإجتماعي. 

أمام النيابة وأمام المحكمة كان وجودنا مثيرًا للدهشة والارتباك، عدد لا بأس به من نساء متأنقات واثقات الخطوة والوجود، يمزحن ويلتقطن الصور التذكارية سويًا، يواجهن المجرمين بابتسامة. أمر مرعب بالتأكيد. 

كان جليًا منذ بدء محاكمتها فبراير الماضي، أن رشا لن تواجه هذا الخطر بمفردها، وإن كانت جريمتها تضامنها نسويًا، فكلنا متضامنات، وإن كانت تهمتها تعمد الإزعاج، فكلنا مزعجات. برأت المحكمة الاقتصادية التضامن النسوي، لكن هناك الكثير من المجرمين المتحرشين والمغتصبين طلقاء، وبعضهم طلقاء بحكم محكمة. 

كل خطوة تصنع فارقًا. ربما تكون براءة رشا في تلك القضية وما جرى حولها من زخم عونًا لأخريات، يعاقبن كناجيات أو متضامنات، وربما يكون ما صنعته قضية رشا من حملة تضامنية هي بداية لتحركات نسوية أوسع “تتعمد إزعاج” المعتدين جنسيًا في كل مكان لحين خلق مجتمع آمن للنساء.  

لا يزال طريق العدالة والإنصاف لضحايا/ناجيات العنف الجنسي طويلا، فنساء هذا البلد في حاجة لمجتمع آمن لهن، لا يلوم الضحية أو يوصمها بينما يسكت عن المعتدين، في حاجة لآليات مؤسسية وقانونية فعالة وآمنة وعادلة لمعاقبة الجناة وإنصاف الضحايا وحمايتهن، ولا سبيل لذلك دون تضامنا، سويًا.