بعد أزمة “كوفيد 19” وجدت نفسي وجهًا لوجه أمام نَهمي للطعام، لقد انهالت صور الوجبات والخبز والأطباق الملونة على فيسبوك من كل الأشخاص تقريبا متباهين بقدرتهم الجديدة على الطبخ، كأن فعل الأكل أُخترع حديثا بعد العزلة، مؤكدا على فكرة أننا أصلا كائنات بيولوجية يحركها غريزة البقاء قبل أي شيء.
كان ذلك الاحتفاء الجماعي دافعا شخصيًا للتأمل، ومحركًا لسؤال قديم كنت أسأله لنفسي عن علاقتي الحميمة مع الطعام. وتماهيت مع هذا الجوع الذي ضخمته العزلة ولم أعارضه، رغم أنّي على مدار شهور مضت كنت قد بذلت مجهودًا في حمية غذائية مجهدة ومرهقة أتت ثمارها السعيدة أخيرا، لكن هذه الثمار ذبلت، حيث اكتسبت الوزن مرة أخرى في “الكارنتين”، كأنني حفرت حفرة في جسدي الذي كان يسعى بكل قوته لسدها، أو كأنني لا أمتلك القدرة على إعادة تشكيله.
لكن لماذا هذا السعي نحو تخفيف الوزن، أو بالأحرى لماذا هذه الرغبة الملحة والدائمة للأكل؟، كنت دائما أقول ” أنني أستطيع التخفف من أي شيء إلا الطعام” ، كانت علاقتي بالأكل -ومازالت- علاقة معقدة ومحورية لم أكن قد اكتشفتها إلا مع نضج ما، وكان هذا القول حول التعلق بالأشياء واهٍ وضعيف أمام نفسي، حيث أنني مادمت لم أفك علاقتي بالأكل لم أكن أستحق شيء.
الأحكام التي تطوقنا
يبدو أن هذا التطرف في حكمي على نفسي بسبب حب الطعام منبعه كوني امرأة استمدت أحكامها الأولية عن نفسها من مجتمع عائلي يمتلك أحكامًا صارمة لوصف الشيء أو الشخص “الجميل” وفقًا لذوق سأصفه بالتقليدي، حيث أن لون البشرة السمراء سُميّ ” قبح”، والشعر الخشن المموج وصم في حق النساء، وتكتمل الصورة المجروحة من المجتمع الأكبر، مع رؤية أي زيادة في الوزن إعاقة أو نقصانا للأنثوية.
أتساءل، هل يمتلك الرجل نفس الأسئلة عن الجسد، عن شكله ومقاييسه وقبوله؟، هل زيادة الوزن أو نقصانه الشديد قد تشير في الأذهان إلى نقصان الذكورة مثلا؟، أظن أن الأسئلة مشتركة لكن تظل الصورة الأولية -صورة الطفولة- محافظًا عليها أو غير ملعوب فيها إلى حد أكبر عند الرجال في مجتمعاتنا، وكل ذلك يحدث على خلفية كسر العالم الحديث صورة الإنسان، رجلًاوامرأة، عن نفسه وجعله يلهث وراء شكل يرضى عنه السياق العام وفقا لذوق مثالي قد يبدو خياليًا.
رغبة في التخفي
تُرجع التفسيرات النفسية اضطرابات الطعام سواء النهم أو الرفض التام له، إلى رغبة شديدة في التخفي، حيث الاختباء خلف جسد غير متناسق وسمين يخفي الملامح الأنثوية، أو قص الأنثى نهائيا عن طريق الوصول لوزن ضئيل جدا تختل بسببه الهرمونات. وفي الغالب تنشأ هذه الاضطرابات مع الطفولة.
أفكر، هل كان الطعام بالنسبة لي هو الأب البديل؟ لقد كان الطعام هو النجاة . شيء أشعرني دائما أن الحياة مستمرة، وأنني قادرة على فعل شيء. أن أطبخ لنفسي، وأطعم جسدي، وهكذا هما الحنان والحب أمنحهم لنفسي بنفسي.
يقول الشاعر الإنجليزي جورج هربت ” يقول الحب، لابد أن تجلس وتتذوق لحمي، وهكذا جلست وأكلت”.
في رحلة السعي نحو إنقاص الوزن يقفا لي الطعام والجسد موقف شريكين في علاقة ثلاثية ممتدة ومستمرة، كـ نِّد وكموضع تساؤل ومحرك أساسي لتشكيل الحياة وطريقة تسييرها وفهمها أحيانا.
ولتغيير شكل تلك العلاقة،كان لابد أن أدرك أن حفاظي على جسدي شرط أساسي لحب نفسي والحنو عليها.
ليس فقط من أجل الوصول لصورة مرغوبة من الجماعة عن الجسد، ولكن لصورة أحبها أنا عني، كي لا أقع في مشاعر الندم في كل مرة آكل فيها، لأحب الطعام بطريقة جديدة حبا خالصا غير مشوب بالكراهية والذنب.
محاولة تقصي للشعور
في مدينة من مدن محافظة القليوبية التي تكونت في الثمانينات على أطراف القاهرة الشمالية، بدأت رحلتي مع الريجيم في المرحلة الثانوية في أوائل الألفية الثالثة، كنا كمواليد الثمانينات من أبناء الطبقات الوسطى، نفتح وعينا على مجتمع جديد محدث دون تنمية حقيقية، نعتمد فيه على أطعمة مستوردة رخيصة الثمن بلا مصدر معروف، فبدأت تنتشر فيه الأطعمة المعلبة المليئة بالسكر وأطنان الكاربوهيدرات، والدجاج المحقون بالهرمونات، بالإضافة إلى أزمات اقتصادية حُرم فيها أرباب البيوت من وظائف ثابتة، بمواعيد محددة، يترتب عليها مواعيد منتظمة لوجبات أساسية مع الأسرة، فكانت فوضى الطعام، وبدأنا نحن أبناء الطبقات غير المرفهة في المدن الجديدة مرحلة جديدة، تحولت فيها أجساد النساء إلى السمنة والضعف وأمراض فقر دم وما إلى ذلك من سلسلة طويلة خلقتها رداءة جودة الغذاء.
لم أبدأ وحدي هذا السعي لنقصان الوزن فكانت ترافقني زميلات دراسة وقريبات وصديقات، جربنا الذهاب لأطباء فاشلين في التغذية، لينصحونا بالإفطار ببيضة أو تفاحة، وما إلى ذلك من الأشياء التي لا تصمد أمام الجوع. .
وجربنا أدوية سد الشهية ودخلنا في اكتئابات مبكرة، وغرقنا في دوامة الخجل من أنفسنا ومن أجسادنا، حتى الألم الذي يمكن أن تمر به مراهقات وفتيات في مقتبل العمر كنا نخجل منه.
عن الخوف من القرارات التعسفية
بعد نهاية الجامعة تقريباً اتخذت صديقة لي قرارًا بإجراء جراحة لتكميم المعدة، رغم أنها لم تكن بدينة لهذا الحد، لكنها كانت ترى أنها لن تمتلك القدرة على إنقاص وزنها بنفسها، هذا الوزن الذي كان سببًا لرفضها الزواج، وكانت تُعنف من أهلها من أجل الأمرين. دخلت بعد العملية في دوامة مؤلمة جسديًا.. أيام من النزيف، وانغلاق المعدة، وتقيؤ الطعام واشتهاؤه وعدم القدرة على الحصول عليه.
بدا هذا القرار التعسفي الذي اتخذته، كأنه عقابًا لنفسها على زيادة وزنها، دفعها الجميع لاتخاذه ولم يستطع أحد مساعدتها على إيجاد بدائل أو تقبل نفسها كما هي.
عن نفسي، كنت أتعاطى حبوب سد الشهية بعد دخولي إلى الجامعة، وبدورها أدخلتني في فترات اكتئابية كنت مستعدة له ساعتها، لكن وصلت لوزن كان مُرضيا بالنسبة لي.
منذ سنوات قريبة، وبعد أن مررتُ بتجربة الحمل، والولادة، وأيضا انفصال عاطفي، بدأ وزني يزداد مرة أخرى وصلت فيه لمرحلة ضايقتني، ومع تجربة صديقتي بدأت أشعر بالرعب من أن أجد نفسي أكرر تجربتها. وبدأت رحلتي مع أنظمة الريجيم منذ عامين تقريبا. وكانت هذه هي مرحلة جديدة في علاقتي مع الطعام والجوع. ربما أستطيع تسميتها ” مرحلة الإدراك” للذات والجسد وليس مجرد الرغبة في شكل معين لهما.
كان مصدري الأول للوصول لهذه المرحلة هو نفسي، وإدراكي أن هذه الرحلة هي فردية لن يخوضها معي أحد.
رحلة بين الأنظمة
بدأت بالدخول إلى شبكة الإنترنت ومشاهدة فيديوهات اليوتيوب التي تعج بربات بيوت خسرن وزنهن، أو أصحاب تجارب حولوا تجربتهم إلى تعليم للآخرين. بدأت أفهم ما تعنيه السعرات الحرارية، وما يعنيه الكربوهيدرات والبروتين والدهون وكل هذه المعلومات الأولية، ثم بدأت أكتشف أنواعا مختلفة من الأنظمة الغذائية، ولكل نظام جروبات تضم مئات الآلاف، ولكل نظام مريديه الذي قد يصل بهم الحال للدفاع عن نظامهم لسب الآخرين، أو اعتبار أنفسهم فئة أعلى وأرقى ممن هم خارجهم.
يعِدُ كل نظام أعضائه بالصحة الوافرة عن الآخرين، العمر المديد وبالتأكيد بنقصان الوزن.
كل من يخسر وزنه لالتزامه بوصفة نظام سحرية ينشيء جروبًا وينصب نفسه حاكمًا سياسيًا له، كان ملفتًا ما رأيته على أحد هؤلاء الجروبات المتبعة لأحد أنظمة “اللو كارب”، كانت “مالكته” قد ترجمت مبادئه عن التركية ثم كتبت مانفيستو للقواعد المتبعة، اتخذت هذه السيدة القواعد من الإطار العام الذي يقوم عليه النظام الغذائي، لكنها جعلت من قواعدها الخاصة أمرًا واجبًا، فترى شخصًا ما يصور وجبته مثلًا، فتدخل إحدى أفراد “شرطة” الجروب وتعلق: ” لكن كذا ناقص، أو لابد أن تأكل كذا”.
في هذه المجموعات أنت لست شخصًا يستفيد من “ريجيم” ، أنت ستتحول لتابع أو مصوت لنظام غذائي ضد الآخر، عملية سياسية بديلة عن العمليات السياسية البلافائدة في بلادنا.
نباتية.. ولكن
في رحلتي بين أنظمة الحمية المختلفة أتوقف عند تجربتي مع نظامين، الأول النظام النباتي، وأعترف أن دافعي للتحول إلى النباتية لم يكن لإنقاص الوزن بقدر التخفف الروحي، كنت أحاول الاتصال مع الطبيعة، أن أرهف للحيوانات.
كنت -ومازلت- أتأذى ومازلت من مناظر الدم في كل الشوارع في طقس عيد الأضحى. فقررت أن أكون نباتية، لكني لم أمتنع عن أكل الأسماك أو الأجبان، وبدأت أشعر بتحسن نفسي مرده فكرتي الأساسية التي كونتها.
مرة تشجعت، ووضعت وصفة لطبق من السمك على صفحة إحدى المجموعات، انهالت ضدي تعليقات خرق النظام، وعدم التزامي والأذى النفسي الذي سببته للبعض. نفس الجروب كان يسمح بوضع صور لإنسان يُذبَح من بقرة.
لم أستمر كثيرًا في كوني نباتية تأكل الأسماك، التزمت 6 أشهر تقريبًا، كنت أشعر بعدم مرونة الوضع، وأيضا وببساطة.. أنا كائنة تحب اللحوم. رافقني إحساسا بالذنب لفترات، وكنت أتذكر “أننا نأكل ألم الحيوان أيضا مع لحمه”.
ساعتها قرأت قصة كانت مريحة ومقنعة لي، عن.. “ زوجين يربيا أرنبا يحباه كثيرًا، وفي إحدى المرات عادت الزوجة للبيت فوجدت زوجها قد جهز عشاء فخمًا، فجلسا وأكلا معا، وفي لحظة أدركت المرأة غياب أرنبهما وفهمت أنها تأكله الآن، فهرعت إلى الحمام تتقيأه، بينما ظل الرجل يأكله سعيدا منتظرا أن يتحول الأرنب لجزء من لحمه ونسيجه”
أعرف أن الحكاية قد تكون عنيفة للبعض، لكنها جددت معنى الحب داخلي، حب الطعام وطريقته، والتصالح مع قدرنا نحن البشر ككائنات تأكل اللحم ، وقدرة الحياة على الاستمرار، لأنه بدرجة، وبعيدًا عن الأسئلة الأخلاقية التي قد يثيرها أكل اللحوم، لولا اللحوم ما كان الإنسان ظل موجودا على الأرض.
طيب.. ومن ناحية أخرى، ماذا عن مشاعر النباتات؟ بدا لي أن هذا النظام يدفعني للتكفير عن ذنب ما، وأنا يكفيني ما يملؤني من ذنوب الحياة.
قد يبدو تبريرًا، لكن على الأقل كان اختياري مقنعًا بالنسبة لي ولكثيرين غيري، حتى وهو يقابل بنظرات متعالية من النباتيين أحيانًا.
بالمناسبة قرأت خبرًا عن سائحة أوروبية ذهبت إلى المغرب، ووقفت أمام محل بائع الدجاج، تصرخ وتسب الرجل وتحاول إخراج الدجاج من أقفاصه ويحاول الناس تهدئتها. لا أعرف لماذا لم تفعل ذلك في بلادها مع مصانع اللحوم مثلا، وفضلت أن تأتي من آخر الدنيا لتطلق صرختها ضد اللاحمين هنا في الشرق الأوسط المتوحش.
مرحلة البروتين..
النظام الثاني الذي جربته وأثّر عليّ نفسيًا وماديًا هو نظام “الكيتوجينيك” الغذائي، هناك تمتنع تمامًا عن أكل الكربوهيدرات والفواكه والألبان، لكن في المقابل يسمح لك بأكل الدهون والبروتينات بكميات كبيرة، وهذا يدفع الجسم للتحول من حرق السكر إلى حرق الدهون. كانت تلك الحمية فعّالة لبعض الوقت، وبدأت أرى النتائج. كل الخطاب الموجه لمؤيدي هذا النظام يقول أنك ستنعم بالصحة وتكتسب النشاط ولن تشعر بالجوع مرة أخرى.
يحولك نظام ” الكيتو” مع الوقت لمهووس يبحث عن أقل مكون في الأكل حتى لا يخرجه من النظام، عن وصفات خزعبلية لأقل شيء تشتهيه، عن مكونات باهظة وكثيرة لتخبز رغيفًا. مع الوقت شعرت أنني دخلت في دوامة تحتاج لرفاهية لست أمتلكها، وعاد إحساسي بالجوع مرة أخرى وبشكل أكبر.
كما شعرت أني داخل نظام عقابي، حيث الحرمان هو الأساس، لعدم قدرتك على التحكم في النفس. مشكلة تلك الحمية أنها لم تحل التأزم في العلاقة بالطعام، ما يحدث هو يستبدل نهم الأكل بنهم أكل أنواع معينة فقط، والحرمان التام من أنواع أخرى.
ظللتُ ملتزمة بهذا النظام حوالي 6 أشهر أخرى، وكسرته مع بداية حظر كوفيد 19، ومع أول كسر للنظام، مع ضآلته، اكتسبت الوزن مرة أخرى.
الطعام وتقاطعاته
ما أقسى هذا الألم وارتباطه بالطعام. وارتباط الطعام بحب الحياة والرغبة في معيشتها، التهام جاء بعده جوع لكل شي، للحب والمعرفة والمغامرة والعواطف الإنسانية حتى أقصاها.
لقد عرفت أخيرا أن الحب يتقاطع مع فعل الأكل في التراث الإنساني للبشرية كلها، فعندما تحب شخصا تطبخ له، أو تأكل معه، والنص القرآني يحتفي بالطعام ليس كفعل غريزي ولكن كفعل محبة بين الرب والعبد” الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” ، ويصبح الأكل مكافأة أساسية لأهل الجنة ” وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ*وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)، وقال: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ”.
وفي المسيحية يعتبر طقس “التناول” أساسيا في العلاقة مع الرب، وتتخطى علاقة العبادة إلى علاقة الإتحاد والتلاحم، يقول القديس يوحنا ” “إنه يلزم أن نفهم عجب هذا السر، وما هو، ولماذا سلم لنا، وما هي المنفعة من ممارسته، لأننا نصير جسداً واحداً وأعضاء من لحمه وعظامه، وهذا يتم بالأكل الذي سلمه لنا مجاناً كهبة.. لأنه هيأ جسده على مستوانا لنتحد به كما يتحد الجسد بالرأس” . يبقى جزء من تحول لوحة “العشاء الأخير ” لليوناردو دافينشي إلى أيقونة، أنها خلّدت الخيانة التي حدثت ولم تراعي حرمة الأكل من طبق واحد.
فعل الأكل مرتبط بتاريخنا وعواطفنا ويكاد يكون فعل جنسي في بعض الأوقات، تمتليء به الكتب والقصص والسير الشعبية حتى قصص الأطفال، وذاكرتي ممتلئة به وصعب فك طلاسمها أو إطلاق حكم هين على العلاقة معه. كان يحكي لي أبي سيرة ” أبو زيد الهلالي” وأنا طفلة صغيرة وفي قلب الأحداث تصنع “الجازية” طليقة أبي زيد الهلالي سلامة مائدة كبيرة لعلية القوم والفرسان، تفرش بساطا بطول قاعة الطعام، وتضع المنضدة الضخمة آخرها، وتشترط أن من يريد الأكل لا يخطو فوق البساط، ولا يكسر الرغيف ولا يغمس في الطبق، وينجح أبو زيد في الاختبار وينفذ شروطها، لكنه يكتشف أنه فخ منها لإجباره على الذهاب إلى تونس لمحاربة الزناتي خليفة. دائما ما وقفت مبهورة أمام هذه الحكاية الفرعية ودلالاتها وتخيلاتها.
وأنا أقرأ حكايات “ الأخوين جريم” لطفلي استوقفتني حكاية أخرى عن عملاق ضخم – وكثيرا يذكر العمالقة في التراث القصصي الغربي- يختطف طفلا وُلد على هيئة عقلة الأصبع، فيرضعه من صدره، حتى يكبر ويكبر ويتحول إلى عملاق ويصير على هيئته، وعندما يستقل عنه يذهب لأبيه البيولوجي الذي يطرده بسبب نهمه للطعام الذي لا يشبع ” . اندهشت كثيرا من الحكاية ومعانيها المتعددة، ولاحظت أن طفلي على عكسي استقبلها ببساطة الخيال الأول.
تقريبا كل حكاية تتخذ دلالتها أولا من داخلنا، وثانيا من معرفتنا، وأخيرا من حقيقتها، وبين إسقاط ذواتنا على الأشياء وبين حقيقتها، قد تكمن عشرات الأشياء الأخرى التي نجهلها وقد ندرك بعضها مع مرور الوقت.
يصبح الطعام والجوع أيضا حكاية لها دلالتها المتعددة داخلي وداخل كل فرد مر برحلة سعى فيها إلى إعادة تشكيل علاقته بالطعام وبالجسد بالتبعية.
عن جسدي.. وأجسادنا.. والكتابة
في تأملي لهذه العلاقة حاليا لاحظت أن الجوع كان دافعي الأول لكتابة الشعر، وسألت نفسي كيف ساعدني الجوع على كتابة الشِعر؟ ولاحظت أنني في مجموعتي الشعرية الأولى كررت كلمة وفعل “الأكل” في كل قصيدة تقريبا، وصدرت الديوان بهذا المقطع ” “….في البداية كنا ننام في الظلام، ثم ضعنا، ثم ضحكنا، ثم نسينا أو نسيتُ رأسي داخل بطن أبي.” كأن الأبوة الضائعة كانت التهاما لي.
وفي قراءة ربما تكون متسرعة مني، لاحظت أن الأدب الذي تكتبه النساء في عالمنا العربي ينطلق غالبًا من تجربة الجسد، سواء بالتعبير عن ألمه، أو محاولة فرض شيء عليه. قد تقف كاتبة عند هذا الحد من الكتابة، وقد تتخطاه أخرى للحديث عن معان مجردة أكبر أو أعمق.
لكننا لم نمتلك -نحن النساء- رفاهية الانطلاق في الكتابة من نقطة أخرى، ربما لأننا مررنا بتاريخ طويل من العنف المادي ضد الجسد، وأيضا العنف المعنوي من فرض صور مجتمعية محكومة بقوانين ذكورية شئنا أم أبينا الموافقة على ذلك.
فيظل سؤالنا الأول وبشكل بديهي عن الجسد، لابد من طرحه أولًا والوقوف عليه لإعادة تشكيله، أو حتى لمجرد التعبير عن الجرح الناتج من قهرية الجبر على وضعه في قالب معين طوال الوقت.
وأظن أن هذا منبعه أننا -كنساء- ننطلق من ذواتنا لطرح أكبر الأسئلة وأكثرها تجردا، وربما لأننا لا نسعى إلى قصدية التأثير التي يسعى إليها الرجل عند كتابته. فالرجل حتى لو كانت صورته عن نفسه مجروحة داخله، غالبا ينطلق من مبدأ السيد صاحب العلاقات أو القادر على خرق الآخرين، وحتى هذه الكتابة غير الواقعية هي مفروضة من السياق العام حتى لا تجرح الصورة المفترضة أو تخرق قوانين الجماعة.
كسر الدائرة
بعد رحلتي كنباتية، ثم مغرقة في تناول اللحوم، أفكر.. يبدو أن تطرفي دفعني إلى نقيضين، النظام النباتي في مواجهة نظام تُشكل اللحوم أساسه. لكن لم يسأل أي نظام أو أي طبيب أو أي منتقد عن سبب التعلق بالطعام، عن تصورنا عن أنفسنا، عن أجسادنا التي نريدها، ظل الجميع يروج لأفكاره كأنه نبي بدين جديد.
ولم تنكسر هذه الدائرة إلا مؤخرا عندما أدركت كل هذه الأشياء وكل الأسئلة داخلي. إلا عندما هدأت ألمي وشعرت بوجودي.. هذا الوجود الذي لا يحتاج للأكل ليؤكده.