أرملة الحرب

أنجبت حنان طفلًا أسمته أحمد، على اسم الأب الذي لم يره أبدًا
ــــــــ ماضي مستمر
12 ديسمبر 2025

التقيتُ حنان في الأزقّة الضيّقة والخانقة لمخيم شاتيلا في بيروت، قبل عشرة أعوام. في الحادية والثلاثين من عمرها، كانت أمًا لخمسة أطفال. خرجت كلماتها بعناء لدى لقائنا الأوّل، وفي لحظات طويلة من حديثنا، كان يغلب الصمت، ذلك الصمت الذي يختبئ في صدور من رأوا ما يفوق قدرتهم على الاحتمال. قالت لي: «كنت أطبخ طعامه المفضل، وأنتظر عودته لنتغدى مع الأطفال، بعدها يستريح قليلًا ثمّ نشرب القهوة معًا قبل أن يعود إلى عمله… هذا ما أفتقده، التفاصيل الصغيرة العادية». تفاصيل اختفت منذ أن قتل زوجها أحمد في كانون الأول (ديسمبر) 2011 لأنه رفض الانحياز إلى أي طرف في حرب لا تعترف إلّا بالولاء المطلق أو الموت.

إما القتال أو الموت

امتلك أحمد بقالة متواضعة في إدلب، ومع بداية الانتفاضة ضد حكم بشار الأسد، جاءه مقاتلو المعارضة يطلبون منه الانضمام إلى القتال. رفض ذلك، أخبرهم أنّ زوجته حامل، وعليه أن يعيل أطفاله.. «لا أريد المشاركة في القتال»، قال، وفق ما تنقل لنا حنان. مع اقتراب نهاية العام الأول من الانتفاضة السورية عام 2011، كان العنف يبتلع إدلب، لهذا بدأ أحمد يخطّط للهرب إلى لبنان، لكنّه أراد انتظار ولادة طفلهما الأصغر.

قبل يكتمل مخطّط الرحيل، توقّفت سيّارة أمام البقالة. ترجّل منها شبان ملثمون، أطلقوا عليه النار، ثم اختفوا بعدها. رأى ابنه محمد، ذو الثمانية أعوام حينها، كلّ ذلك. استعاد منظر الدم في البقالة «شفت كيف قتلوا أبي، وقع عالأرض والدم كان بكل مكان، عالحيطان وعالأرض..».  بعد ثلاثة أيام من تلك الحادثة، أنجبت حنان طفلًا أسمته أحمد، على اسم الأب الذي لم يره أبدًا.

من إدلب إلى شاتيلا

حين غرقت إدلب في الفوضى، هربت حنان مع أطفالها ووالدة زوجها، تاركة خلفها البيت، وبقالة أحمد، ويوميات حياتهما. عبروا الحدود إلى لبنان، ووصلوا إلى مخيم شاتيلا، المكان المثقل بذاكرة منفى آخر للاجئين الفلسطينيين في لبنان. في البداية، تكفّلت منظّمات الإغاثة بتسديد إيجار المنزل، وقدّمت للعائلة قسائم الطعام قبل أن تجفّ المساعدات سريعًا.

تخوض حنان معارك جديدة منذ أن وصلت إلى المخيّم. «قبل الحرب كان أولادي يأكلون ثلاث وجبات في اليوم. الآن نكون محظوظين لو أكلنا وجبة واحدة»، وتضيف «كل يوم معركة، معركة على الأكل وعلى الدواء وعلى الإيجار.. لكن أصعب معركة هي في الداخل، ألّا أستسلم».

في كانون الأوّل (ديسمبر) 2024، سقط نظام الأسد واحتفل العالم بتحرير سوريا. من غرفتها الصغيرة في شاتيلا، شاهدت حنان الأخبار بصمت، وهمست بعدها «تحرير؟ على يد الرجال الذين قتلوا زوجي؟». ترفض العودة إلى سوريا، الفكرة نفسها ترعبها، خصوصًا حين ترى ابنها محمد الذي يجلس طويلًا بلا كلام، كأنه رأى مشهد قتل والده للتو.

ما بعد النجاة

دفعت الحرب ملايين السوريات إلى أن يصبحن أمًا وأبًا في آن واحد، وأن يتناوبن على كلّ المهمّات.. تقف حنان الآن وحدها، تربي خمسة أطفال في مخيم لم يكن يومًا منزلًا. تقول دون تردّد لكن بصوت خافت «كل يوم بتمنى لو إني مش عايشة، ما بقدر على البؤس والقسوة. بس ما عندي خيار. لازم أوقف منشان الأولاد».

مع ذلك، تتعلّم حنان كلّ يوم أن تتحمّل وأن تتنفّس في مكان لا يشبهها، علّ الحياة تحمل لهم ما يفوق النجاة. ما حدث لزوج حنان الذي قتله ملثّمون أمام بقالته قبل أعوام، يتكرّر اليوم في سوريا، التي لا تزال تتخبّط في الفوضى رغم «تحريرها» ..