خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

عزيزتي عبير.. لا تكبري وتصيري مثلي

التقدّم في السن لم يمنحني التوازن ولا السلام، بل جاءني بالرعب. حيث أكثر ما يُخيفني، أن أتحوّل إلى نسخة "محترمة" من ذاتي، النسخة التي قد يرضى عنها الجميع.
ــــــــ تقدمـ العمـر
2 سبتمبر 2025

منذ وُجد آدم وحواء هناك في قلب الحكاية الأولى، منذ أن تقاربا ليكتمل الخلق ولتبني الأرض مرويتها فوق جسدين لنسلٍ من الخطاة، توزعت الأدوار كما لو أنها قدرٌ من عمر الأبد، فالمرأة للغواية، والرجل للبأس. ومنذ ذاك البدء البعيد، حملت المرأة الجمال مثل مؤونة منسربة لجوع لا يشبع،  مثل رمل في دورق، ينزلق على رخام الوقت كأنه زيت العود الأبدي المخصص للقرابين.

في البدء كنا، وكان الزمن، وكما في كل ماض وأسطورة، ثمة ربة تُصارع الشيخوخة. “عشتار” تنزل إلى العالم السفلي لتستعيد الحياة، و”أفروديت” تغتسل في دم الزهور لتحفظ نضارة وجهها أمام خصمٍ لا يُقاوم إلا بطقوسٍ من السحر والشعوذة والمكر. حتى بنات الآلهة، ربّات الزمن القديم، لم يُعفهن الخلود من الهلع من التلاشي والذبول.

في الأديان السماوية، كما في كل الحكايات، فلم يحبنا الله كثيرًا، ولم يُرفق بمن أسقطتنا من جنات رحمته ونعيمه. وللانتقام، وللسيطرة، وربما للخوف من الغواية المتجددة لأجسادٍ شابة، جُمّدت صورة المرأة في لحظة الخطيئة، في ثانية أقصر من برق، وأبعد من تحدي، ومضة قضم فيها أبونا آدم تفاحة حمراء كنار ربنا الملتهبة. مجرد تذوق مراهق للمحرم والممنوع، تحوّل بعدها جسد أمّنا موضوعًا للريبة، ومرآةً للفتنة، وأُبقي على نسلنا من بعده أسيرًا لتوقعات لا يمكن تحققها، أو القبض على برق الأمنيات فيها، إلا بأعجوبة الفناء والذهاب طوعًا إلى العجز. وهكذا ظل الزمن يدور بمعتنِقاته، المتربصات بحركة الأيام في حناياه. هناك، حين أتت الجميلة الأولى لتطرق عتبة الوقت في ترجي مهين: أن اتركني جميلة للأبد.

نعم، منذ بدء البدء، تقطّعت أنفاس النساء في الجري وراء اللاشيء، يعدون لاهثات، يذهبن في رحلات جحيمية أطول من الملل، وأكثر تيهًا وضياعًا من مسعىً جلجامشي لم يقبض على إكسير الخلود سوى أفعى ما قبل التاريخ، تلك الرابضة على باب الأسطورة. وهكذا كنَّ وسيبقين، الإناث: جواري أعمارنا، الأكثر حزنًا من قلبٍ بلا حب. حيث تعرف الأنثى تفاصيل حكايتها كما يُعرف طعم الحليب منذ العَمى الأول، وتعي أنها إن شاخت، ذبلت قيمتها، وإن تجمّلت، تصابَت. بينما، وفي لعبة اللاعدل، يكبر الرجل مطمئنًا، ويهفو جسده للسكون، وتتحلى هامته بالوقار.

ولهذا كلّه، بدأت أفهم لماذا نُصرّ، في أدبياتنا وفلسفتنا وكتبنا السماوية والروحية، على معاملة التقدّم في السن كتجربة روحية، متعالية عن حُمّى الجسد. كأن إقصاءها عن خذلان كينونتنا الحسيّة، بأوجاعها، بانهيارها، بتعقيداتها، وإحالتها لمفاهيم الحكمة والقبول والتصالح الآتية من العجز والقدرية، هو شكل من أشكال التهذيب القسري، تهذيب الخوف وتهذيب الألم. كأن علينا أن نتجمّل كي لا نُثير فزع الآخرين، أو لا نخون صورة الذات الماضية. لا نمنح الشيخوخة حقّها في أن تكون فوضوية، عصيّة على التنميط، ولا نتيح لها المساحة كي تُعاش كاختبار يوميّ للهوية، لا كنهاية لها.

فنحن نخاف من وحش السنوات القادم لالتهامنا، نرتعد من ذاك الانحدار البطيء صوب الهشاشة، والخوض عميقًا في الحقيقة، نخاف من ذاك العراك الطويل مع الانطفاء.

وأنا، مثل الكل، لم يجلب لي التقدّم في السنّ الحكمة المأمولة التي انتظرت، لم تحمل لي السنوات على ظهرها أكياس التصالح والقبول لأخبزها حلوى، وأذهب بها لنرقص على أرصفة هذا الكون لاهين. بل أتت مثقلة بـ”شوالات” الغضب، مُرّةً مثلما هو خبز الفقراء. حيث كلّ ما كنت أريده من هذه الحياة البليدة، أن أنشب أظافري في وجهها البشع، خيوط دماء، أو أن أنبش شعرها الرمادي المستتر بطرحات الجدات وأفضحها بالعويل. لم يمشِ العمر صوبي بتؤدة، بل أتى شابكًا القلق بمرفقه، وأتت السنوات لتمارس كلّ يوم لعبة من تلك التي تطلّ عليك من المرآة: “أتعرفين هذا الوجه؟”

رشوة الحكمة

عندما تحملين على جسدك آثار السنوات الكثيرة، قد يُقبل الآخرون نحوك، قد يسألونك أسئلة تقل أو تكثر. كما لو أنّ فيكِ حكاياتٍ ناضجة تنسجينها بخيوط التجربة. لكنهم، في الحقيقة، يأتون، في الغالب، مسلّحين بالضجر. يأتيكِ الجيل الجديد بنفسٍ مُطّلع، متعالٍ، حاسم، كأنكِ صفحة قديمة في كتاب لم يعد يُطبع. وأنتِ، بالمقابل، فكلّ ما كنتِ تعنينه لذاتكِ ولهذا الكون المتسارع، يتلاشى أمام بريق من هم أصغر، لا بعدد سنواتهم فقط، بل بلياقتهم، بقدرتهم البرقية على التعلّم وتشرب المعارف، وهندستهم الجينية المتطورة عن جيناتكِ الفقيرة، ضعيفة الأداء. تبهت صورتك أمام لغاتهم، وتكنولوجياتهم، وخفّتهم.

أكره السنين

أعلم أنني أخذت السنوات “على صدري”، لم أُناورها، لم أهادنها، ولم أعلن انبهاري بها. إذ أجبرتني على خبرة لا أعلم إن كنت أمتلكها، ونسبت إليّ زورًا عقلًا راجحًا لطالما شككتُ بوجوده. فأنا، وبالرغم من تراكم الأرقام في ذاكرتي، لم أهدأ، لم أرتّب قلقي في صناديق حريرية، ولم أرمم أخطائي بتعويذات العمر. كل ما فعلته أنني عشت، اعتنقت تلك الرغبة العارمة في عيش مضاعف يتيح لي كتابة هذه الحياة كما كانت: غير متناسقة، غير خاضعة، مليئة بالحُفر والانزلاقات والمجازفات الصغيرة التي لا تُدرّس في كتب التنمية الذاتية.

أعلم أن التقدّم في السن لم يمنحني التوازن ولا السلام، بل جاءني بالرعب. حيث أكثر ما يُخيفني، أن أتحوّل إلى نسخة “محترمة” من ذاتي، النسخة التي قد يرضى عنها الجميع.

لا.. لا أستطيع أن آكل سنيني بلا إدام، مجرد لقيمات لم تتعشّق بها نكهات العمر، ولم يعلَق بها لهيب الحواس، ولا تليق بها الذاكرة ولا الحكايا. فأنا مليئة بالشك والأسئلة حد الكفر بالنِّعَم، حدّ الخدر. ومع هذا، أحبّ مرور الوقت، أعشق كلّ ما هو مرميّ في المستقبل، أحبّ الاختلاف، السباحة في مياه لا تهدأ بل تتجدّد من عدم. أعشق السير إلى أمامٍ أحبّه أن يظلّ أمامًا. أحبّ الحداثة، لكن لا شيء يبدو حديثًا في زمن العولمة هذا، حيث النجومية صارت شهرة، واللغة تحوّلت إلى خُطبٍ صمّاء صاخبة عن “الحرية” و”الجسد”، حرية مرهونة بالسكنى في كل شاشةٍ مسطّحة ثلاثية، أو رباعية الأبعاد.

لو صار ونجوتِ، لا تكونيني

أكتب لكِ يا عبيري، بعد أن تركت لكِ روحي في خمس روايات، دون أن أكتشف نفسي بعد، وها أنا أبحث عن الرواية السادسة، طمعًا بأن أجد إجابة عن سؤالٍ عتيق: إن وُجدت فعلًا!

أهرب أحيانًا في متاهة من صنعي، تُرعبني سكينة الصمت، فكلّ ما فيّ متشظٍّ، ومتردّد، ومفتوح. إن أحببتُ أن أكتب لعبير، تلك التي لا تزال في عشرينياتها، وتريد الذهاب بعيدًا في عمرٍ يأتي، سأقول لها: لو كنتِ صديقتي، لأحببتك كثيرًا. سأحبّ شراستكِ، دفاعكِ العنيف عن نفسك، تمسّككِ بأخطائكِ كأن لا حقّ لكِ في الحياة دونها. سأحبّ تبجّحكِ الآتي من المعرفة، سأحبّ إصراركِ على الجمال، حتى في عداوتكِ، سأحبكِ حتى في تلك القسوة التي لا تُخفي جمالياتها، والتناقضات التي تُصرّين على الغوص بها كما يغوص العشّاق في مناجاتهم الأولى: ببهجةٍ لا تخلو من الدم.

لا تكبري لتصبحي مثلي.
لا تكونيني.
فقد خذلتُ كلّ ما أحببته بكِ.

وعدتُكِ بسفريات أطول، وأبعد، وعدتكِ أن نكتشف المدن المجهولة سويًا، أن نضحك من لهجتنا في البرتغالية الرديئة، والفرنسية المغرغرة بالراء وبالدمع، أن نحضن الأماكن بلا خوف، وعدتكِ بأفلام نصوّرها، بمدن نكتب عنها، وبمقاعد قطارات نترك فوقها قلوبنا وأسماءنا… وفشلت.

وعدتكِ بألّا أعترف بالفشل، وها أنا أفعله كلّ مرة، ببلاغةٍ أحيانًا، وبصمتٍ قاتل أحيانًا أخرى.

إلى عبيري التي كانت لا تملك وقتًا للنظر في المرآة لأن حياتها كانت تسبقها، أقول: صرتُ أملك كلّ الوقت… ولا أفعل شيئًا سوى أن أسكن تلك المرآة.

كبرتُ يا عبير، لكن لا كما أردتِ.
لم أكبر لأحتضن العالم، بل كبرتُ لأحضن روحي، وانغلقتُ عليّ كصدفةٍ مرمية على شاطئ بلا موج.
أكبرُ الآن لا كي أراكِ، بل كي أهرب منكِ.
أكبرُ لأضع المسافة بيني وبينكِ، مسافة تمنعني من لومكِ على أحلامكِ، ومن لوم نفسي على خيانتها.
أكبرُ الآن، بينما كلّ ما فيّ يصير سوريًّا: المنفى، اللغة، الملامح، الشوق، الذنب، حتى الغضب…
وسوريا، هذه التي كنتُ أريدها حُضنًا أول، صارت أُخطبوطًا أفْعوانيًّا يمدّ أذرعه من تحت الأرض، ويبتلع كلّ ما كان مدهشًا فيكِ… وفيَّ.
سوريا التي في الغربة أكثر شراسة من سوريا التي كنا نظن أننا هربنا منها.

وما من أحد ينجو.

لا تكبري وتكونيني.
خذيني يدًا بيد، واذهبي أبعد، لا توقفي خطواتك حيث مشيتُ، لا تشربي من نبع أخطائي المسموم. وإن كانت لكِ أخطاؤكِ، تمسّكي بها كما كنتِ تفعلين: كأنها مفاتيح البيت.
عيشي في العالم، لا في الذاكرة.
كوني ابنة العالم، لا ابنة الثورات والقضايا ولعنات الهوية، لا الخسارة، ولا الخوف من المعنى والجدوى، يا لتلك الأهداف الباهتة! كوني كما أحببتُ لكِ أن تكوني دائمًا: أميرة على جسدكِ، ووقتكِ، ومجازفتكِ، دون التفاتاتٍ للوراء. أعلم كم تكرهين تماثيل الملح. وإن عبرتِ الستين، لا تكتبي لي. ولا تسألي عني. أخشى أن أكون قد خذلتُكِ للمرة الألف.