fbpx
تصوير: أحمد حمامة

جينز محلي لإخفاء أسى البدانة

أثناء خياطة بنطلون جينز نتعرف على حيل لمواجهة مدينة قلقة ومتوترة.. اسمها الإسكندرية.
ــــــــ المـكـانــــــــ الملابس
7 ديسمبر 2020

تصيبني السمنة بالحيرة. شراء “طقم” مكون من بنطلون وما يفتح به الله علينا من قميص أو تي شيرت مسألة تستغرق الكثير من التفكير، هل بنطلون جينز أزرق فاتح أو غامق يستحق أن تهدر كثير من الأموال عليه؟ أم توفر جلّ المبلغ للجزء العلوي. ما هي الألوان والتفصيلات التي يمكن معها مداراة أسى السمنة. ولكن للأسف تصل لحقيقة أنه لتحصل على بنطلون مقاس نادر ليس أمامك سوى أن تدفع مبلغا محترما لبراند يوفر هذه المقاسات وترضى للجزء العلوي بألوان وتفصيلات ساذجة مناسبة لما تبقى من مبلغ الطقم لديك.

أرشدني مجموعة من الأصدقاء لخياط يفصّل الجينز بشارع 30 في المنطقة الرمادية بين سيدي بشر والعصافرة بشرق الأسكندرية هذا الجزء من المدينة الذي نما وتضخم منذ سبعينات القرن الماضي.

يوسف خريج كلية آداب قسم “مكتبات” تمكن من تعلم الخياطة بالمراسلة، لديه صديق خياط من تورينو يرسل له بصورة منتظمة خطابات بها شروحات و باترونات. بالتجربة والرثاء ومحبة الرجال أتقن الصنعة بشكل يسمح له أن يفتح محل في شارع 30 ليصبح خياط “جاكت وبنطلون”، وبكثير من المراجعات تمكن من أن يعلن عن إجادته لتفصيل الجينز.. بدلة جينز كاملة.

خريطة أساسية

لطالما حل غضب الرب على منطقة “العصافرة“، تاهت بين “سيدي بشر” و”المندرة“. فيلم “الحياة حلوة” بطولة نادية لطفي و حسن يوسف (انتاج 1966) المكان الرئيسي فيه هو “لوكاندة المندرة”، أما في فيلم “آثار على الرمال” بطولة فاتن حمامة وعماد حمدي (انتاج 1954) فطاحونة المندرة التي تعود لعصر محمد علي، كانت المكان الأكثر بؤسًا.

أما سيدي بشر فهي معشوقة القلوب ومحبوبة الجماهير، وقبلة المصطافيين. يكفي أن تعرف أن محطة القطار بها هي إحدى محطتي بمدينة الرب -كما يحب السكندريون أن يسموا مدينتهم- كلاهما تمتلك نفقا يمر تحت السكة الحديد لتصل بين رصيفي المحطة. تقف على الرصيف المؤدي لوسط المدينة ثم في لحظة سحرية تنظر امامك فتجد نفقا تسلكه فتجد نفسك على الرصيف المقابل المؤدي لضاحية أبو قير. أيضا شهدت كبائنها على البحر تصوير أجزاء من فيلم عبد الحليم حافظ الشهير “أبي فوق الشجرة” (1969).

 العصافرة تغلّبت على هذا التجاهل بالشائعات والأسماء الغرائبية لشوارعها وأجزائها. فبداخل العصافرة تجد “أبو خروف” و “العماروة” و “عرامة” وأخيرا “أرض التوتة”، التي وقعت عليها قنبلة فأصبحت ملامح كل سكانها متشابهة، كما نسخر أحيانًا من أصدقائنا الذي يسكنون هناك. 

أيضا خلقت العصافرة سوقًا مهيبًا يسمى ” المعهد الديني”. يبدأ السوق بشارع من شريط السكة الحديد ولا أعلم أين ينتهي. حرمني الخوف من التوغل في الشارع من نعمة معرفة نهايته.

في فترة ما قررت الحكومة للتغلب على رهبة السوق أن تبني في منتصفه أكشاك متقابلة بينها ممر ليترك البائعين الطريق ويتكاتفوا في الأكشاك والممر.

فشلت الفكرة ولم يظل سوى ممر يمشي فيه من لايريد التسوق، تحيط به أكشاك فارغة تأتي من خلفها أصوات مفزعة لبائعين متحفزين. تمشي وحيدًا مرعوبًا لا منتميًا. تجتازه لتعلم أن السوق ينتهي بشارع إسنا. 

بشارع إسنا قماش الجينز سلعة متوفرة ولها زبائن. أسطوانات كبيرة ملفوف عليها القماش مرصوصة على مداخل المحلات بألوان متنوعة.  وقع اختياري علي لون أزرق غامق ولون بني محروق. شجعتني مغامرة التفصيل على التمادي لتفصيل جينز آخر بني محروق.

بالطبع خُدِعتُ في سعر المتر واضطر يوسف للذهاب مرة أخرى معي لشارع إسنا لاسترجاع المبلغ الزائد والذي له علاقة بالتغاشم على من لا يعرف شارع إسنا.

في البروفة الأولى كانت البنطلونات سيئة. لدرجة أن يوسف تركني واقفًا في منتصف المحل  بالبنطلون البني واستأذن ليدخن سيجارة، وعندما عاد طلب مني أن أتركها واحضر غدًا للاستلام. 

في اليوم التالي وجدت يوسف جالس على مكتبه وأمامه كتاب به باترونات حولها كلام يبدو إيطالي وشنطة بلاستيكية بها البنطلونات، نظر لي وقال: “أنا اسف بس البنطلونات باظت وانا عملتها شورتات ممكن تروح بيها البحر أو تنام بيها “، وضحك بصفاء.

جينز محلي لإخفاء أسى البدانة

المندرة. تصوير: أحمد ناجي دراز.

فستان جينز يليق بتمرّد الفتاة

اسكندر ابراهيم هو عاصمة منطقة ميامي المتلألئة، والأكثر غنى، والمواجهة للبحر، بين العصافرة وسيدي بشر. والتنافس للاستيلاء على الميدان الرئيسي به لم ينته منذ أقدم العصور. في البداية كان كشك “ويمبي”، أيقونة عصر الانفتاح في الثمانينات حيث الكيس الورقي الأعجوبة لساندوتش الهامبورجر وصوت الكاسيت الذي لا ينقطع والبنات والموتوسيكلات.

أما في التسعينات والألفينات تبادلت الأدوار على الميدان ما بين موقف أتوبيسات لشركة “سوبر جيت” للنقل الجماعي، وما بين صناديق قمامة حديدية عملاقة تسيل منها على الدوام مياه القمامة لتمنح للميدان رائحة مميزة.

ثم قرر مجموعة من الشباب الملتحي جمع تبرعات لبناء نصب تذكاري في الميدان لشهداء الثورة.  النصب عبارة عن خازوق كبير من بلاطات رخامية مثبتة على هيكل معدني، بعد شهرين من افتتاح النصب تعرّى الهيكل من كل قطع الرخام وانتشرت عربات الأكل والمشروبات بشكل ملفت في الميدان كلها تستخدم بلاطات رخامية في التقديم أو التزيين. 

الشارع مرتبط بتموّجات ميدانه الذي تتغير طبيعته كل حقبة، من شارع هادئ به مركز لتصليح “الأتاري” يديره مهندس كوري، ومحل صرافة -وبئر معطلة وقصر مشيد- ثم مجمع للمقاهي واصطباحات الشباب. حتي انتهي به الحال كمول مفتوح لمحال الملابس الرجالي.

وبالمثل ميامي كلها التي بدأت بكافيتريا أبو هاشم بيافطتها الشهيرة: “لا بيرة لا خمور” عند تقاطع شارع خالد بن الوليد -الشارع الأكثر ازدحاما طوال شهور الصيف- مع الكورنيش لينتهي بها الحال كأحد فروع “عروس دمشق” ملك الشاورما السوري غير المبرر.

في شارع اسكندر ابراهيم كان يوجد مصنع ملابس صغير بجواره معرض لبيع منتجات المصنع يدعي “لي كوبر جينز”. حكى لي صديقي أن والده كان يذهب به دائمًا مع أخته الصغيرة لشراء ملابس الموسم من معرض المصنع. حيث كانت لديه قناعة أن أفضل محلات الملابس هي معارض المصانع، خامات ممتازة وسعر هو الأفضل على الإطلاق.

في إحدى حملات الشراء تمردت أخت صديقي على معرض “لي كوبر جينز” وقرّرت أن تشتري هذه المرة من محطة الرمل قلب وسط المدينة القديم، كانت هذه الأخيرة هي موطن الملابس الراقية في حقبة ما في الاسكندرية.

وافق الأب تحت الضغط على تغيير الوجهة وبعد سعي طويل تم الاستقرار على فستان جميل من محل بشارع الفلكي: فستان  جينز يليق بمحطة الرمل وبتمرد الفتاة. عند العودة للبيت اكتشف الجميع أن التيكيت الداخلي للفستان مطبوع عليه بحروف واضحة “لي كوبر جينز”.

اختراع السمكة

الجينز هو الحل الأمثل للمدن القلقة المتوترة. المدن التي لا تمنحك حق الامتعاض أو بطء الإيقاع. المدن التي لا تمنحك الوقت لتنصب قامتك وتلتفت حولك أو لتنفض بنطالك وتتحاشى الوسخ. الجينز هو الحل الأمثل لمدن الأوغاد الكبار 

لا أعرف سوى الجينز الملتصق بالفخاذ. لا أعرف سوي الجينز المتهتك فيما بين الفخاذ. مهزلة حقيقية أن يكون لديك جينز جديد ولا تستطيع صعود سلم وخلفك شخص أو أن تجلس علي كرسي مقهى وتباعد بين ساقيك في راحة. تخشى نظرات الذئب التي قد تلمح فتحة ما أو شعيرات القماش الممزق.

أن ترتق قماش الجينز المهترئ بقطعة قماش صوف أي كان لونها كان تصرفا بدائيا مثيرا للشجن استُخدم لفترة ثم انتهى سريعا مع الضغط المجتمعي. يمكن أن تضع بادج  ولكنه إشارة فجة على مكان الثقب. وأحيانا كان البادج يتآكل هو أيضا من الاحتكاك.

ما الحل حينها؟ تضع بادج على بادج… بادج على بادج، مثل عنوان أغنية لحورية حسن أعاد غنائها جورج وسوف أو هو أغنية لسعاد محمد لم يُعِد غنائها أحد. انتهى الأمر باختراع السمكة أو هكذا اتفق على تسميتها.

تعرفت على هذا الحل أول مرة في مصبغة ومغسلة “جي جي” بشارع 63 بسيدي بشر. امرأة بشوشة تأخذ منك البنطلون، وتكتب بقلم ازرق جاف على القماش بجوار الثقب مباشرة ” سمكة” وتضعه في كيس بلاستيك فوق كومة تنتظر متخصّص السمك الذي يأتي في موعد محدد يوميا. صِدقا لن تستطيع أن تميز مكان الخرم، مهارة فائقة في مداراة الثقب بسعر زهيد.

عند “جي جي” تقابل أصدقاء الطفولة وزملاء الدراسة تجمعكم البدانة وحسن النية والجينز الذائب من الأفخاذ.