قبل عقود، كان رحّل المغرب عشرات الآلاف، يجوبون الصحراء والجبال بحرية، واليوم لم يتبقَّ منهم سوى قلّة تصارع الريح، الأرض العطشى، والزمن الذي لا يلتفت إليهم. في أرض المغرب، يسير البدو الرحل على خطى أجدادهم، رجالًا ونساءً وأطفالًا، يحفظون إرث الترحال كسرٍٍّ آخر من أسرار الصحراء. والترحال بالنسبة إليهم ليس مجرد أسلوب حياة، بل هوية عصية على الذوبان في صخب الحداثة. لا تعرف أقدامهم ثباتًا على أرضٍ واحدة، فهم أبناء المسافات، يلاحقون الماء كما يلاحق النبض الحياة. حيثما تدفّقت ينابيعه، أقاموا خيامهم وعاشوا شهورًا، وربما أعوامًا، حتى تُطبق قسوة الطبيعة قبضتها، فتدفعهم بصمتٍ نحو أفقٍ جديد. يرحلون مجدّدًا بلا ضجيج، يطوون خلفهم المسافات برفقة مواشيهم، محمّلين بمقتنياتهم البسيطة، وخيامهم التي تحفظ حكايات الليالي الطويلة. هكذا كان الأمر في السابق، قبل الجفاف الهائل الذي يهدّدهم بالاستقرار، وقبل مشاريع الطاقة الضخمة التي باتت تلتهم ما تبقّى من أراضيهم الرعوية.
الأرض التي لا تُملَك
منذ أن بدأت قبائل الرحل في التنقّل بين الأراضي الشاسعة لشمال إفريقيا في العصور القديمة، استمرّت قبائلهم في هذا النمط من الحياة حتى عرفتهم الشعوب باسم “النوميديين” في القرن الثالث قبل الميلاد. غدت الأرض التي احتضنت خطواتهم تسمى نوميديا، تلك التي لم تهدأ فيها القوافل سعيًا وراء الحياة، ووراء الحرية التي صارت وطنهم المتنقّل، وحدودهم التي لا يُفرّطون فيها لغازٍ، ولا يسلّمونها ليدٍ دخيلة.
قبل أن تصل المنظّمات العالمية إلى يقينها، وقبل أن تُسطَّر السياسات البيئية، وتُشيَّد مشاريع الطاقة العملاقة، أدرك الرحّل بفطرتهم أن الأرض لا تُملك، بل تُرعى وتحفظ. كانوا أول من خطّ قوانين الحماية، وأوّل من فهم أنّ الماء والمجال والكلأ ثالوث لا يمكن المساس به دون حساب. هكذا ولدت محميات “أكدلان” التي لا تُترك فيها الأرض نهبًا للرعي الجائر، ولا تُستباح مواردها بلا ضوابط، بل تحكمها أعراف صارمة، وقوانين يسنّها الأمغار، شيخ المحمية وحارس توازنها. وهكذا اعتاد الرحّل على استهلاك ما يحتاجونه فقط، بلا جشع أو إسراف؛ زبدة الماعز، حليب النوق، صوف الأغنام، كل شيء له قيمة رمزيّة قبل أن تكون ماديّة. والقطعان مثلًا ليست فقط مصدر رزق فحسب بل رصيد اجتماعي، رمز للمكانة، وأساس لاختيار القيادات، حتى إنّ بعضهم تقلّد مهام “الأمغار” لما أثبته من حسن تدبيرٍ في إدارة هذا الرأسمال.
يُعزى تراجع أعداد الرّحل إلى عوامل عدّة منها الجفاف، تراجع الموارد الرعوية، الضغط العمراني، وسياسات التوطين القسري التي دفعت العديد من الأسر إلى الاستقرار
أحدث الزمن تغيّرات كبيرة في حياة تلك المجتمعات. في القرن التاسع الميلادي، تحت تأثير الفتح الإسلامي، زادت حركة الترحال وانتشرت في مناطق جديدة من شمال إفريقيا. ومع الاستعمار الفرنسي للمغرب عام 1912، بدأت محاولات فرض الاستقرار على الرحل، ما أدى إلى تغيير جذري في نمط حياتهم. اجتاحت القوّات المستعمرة الأراضي الرعوية التي كانت مصدر رزقهم، وأدى التوسع العمراني إلى تدميرها، ما جعل الرحل يعانون من نقصٍ في الموارد الضرورية مثل الماء والمراعي. حتى اليوم، لا تزال مجتمعات الرحل تَشُقُ طريقها في ظلّ التحديات العديدة مثل الجفاف وتقلّص المياه في الأماكن التي ترتكز فيها في المغرب، أي في المناطق الشرقية والجنوبية من المملكة، مثل درعة-تافيلالت الواقعة جنوب شرق البلاد، وهذه تضم مدنًا مثل زاكورة والريصاني، وگلميم-وادي نون جنوب غرب المغرب المعروفة بكونها “باب الصحراء”، وتشمل مدينة گلميم وطرفاية، إلى جانب العيون-السمارة الواقعة في الصحراء الجنوبية وتشمل السمارة وبوجدور، وسوس-ماسة بالساحل الجنوبي الغربي، وتحديدًا مناطق مثل تيزنيت وتافراوت. كما تنتشر القبائل الرحلية أيضًا في مدن مثل طانطان، فكيك، وسيدي إفني.
إلّا أنّ حضور الرحل الثابت في كافّة محطّات التاريخ المغربي بات مهدّدًا نتيجة تناقص أعدادهم وفق إحصائيات “المندوبية السامية للتخطيط” (HCP). رصدت هذه الإحصاءات تراجع أعداد الرحّل في المغرب بين عامي 2004 و2014، فخلال سنة 2014 بلغ 25,274 شخصًا من البدو الرّحل، ما سجّل انخفاضًا بنسبة 60% خلال عقدٍ واحد. ويُعزى هذا التراجع إلى عوامل عدّة منها: الجفاف المتكرّر، تراجع الموارد الرعوية، الضغط العمراني، وسياسات التوطين القسري التي دفعت العديد من الأسر إلى الاستقرار، رغم تمسّكهم بالهوية الرحلية. ولم تقتصر التحدّيات على الجفاف فحسب، بل تأثّرت هذه المجتمعات بظروف الحياة الحديثة من صعوبة تأمين الرزق، مما أجبر العديد من الشباب على التخلي عن أسلوب الحياة البدوية والبحث عن سبل أخرى للعيش في ظلّ مشاريع كبرى لا تلتفت إليهم.
العطش.. ضيف ثقيل في الخيمة
حين التقينا عزّة (اسم مستعار)، وهي امرأة من الرّحل في الأطلس، لأوّل مرة، كان ذلك في سوق الأحد بمدينة ميدلت الواقعة بمحاذاة جبل العياشي. إنّها امرأة شابّة، لكن ملامحها حملت تجاعيد مبكرة. بجسدها النحيل ووشاحها الأحمر الباهت الملتفّ على رأسها كراية صامتة حكت قصصًا عن الأيّام العصيبة. حكت عن سنوات من الكفاح بين الأرض والسماء. إنّها في أواخر الأربعين من عمرها، امرأة ضئيلة القامة، تأتي إلى سوق الأحد على حمارها الذي يرافقها في حلّها وترحالها، تحمّله بما ستشتريه لعائلتها وما ستبيعه من لبن وعسل وأعشاب جمعتها من البراري. لكن القحط بات يأتي كضيفٍ ثقيل وثابت، ينثر الجفاف في المراعي، لهذا اضطرّت إلى بيع مواشيها شيئًا فشيئًا، حتى لم يبقَ لها اليوم سوى عنزة وحيدة، بالكاد تمنحها بعض الحليب، تحتفظ به لأطفالها، وإن طلبه أحد معارفها في المدينة، تخصّص له القليل.
عزّة ابنة الجبال والصحاري وُلدت بين الخيام، وتعرف الأرض كما يعرف العطش ظلّ الماء. “هذه حياتنا، نحن قوم أحرار، ننتقل من مكان إلى آخر، بحثًا عن المراعي والمياه، ننصب خيامنا ثم نرفعها من جديد. المدينة ليست لنا، لا نعرف صخبها ولا قيودها.” قالتها بحزم.
اقترحت المرأة أن نذهب معها من السوق إلى خيمتها الواقعة في منطقة تبعد بضعة كيلومترات عن قرية ميبلادن الأمازيغية وسط غربي المغرب (تنتمي لإقليم ميدلت بجهة درعة تافيلالت) لترينا كيف تعيش، وتحكي لنا عن الأيام التي مضت، وعن أيّام الجفاف التي لم تعد مجرّد حديثٍ في الأخبار، بل حقيقة تخترق يومياتهم. تبدو الخيمة من بعيد كجزء من المشهد الصحراوي، قطعة قماشية متواضعة تصارع الرياح والشمس، لكنها في الحقيقة أكثر من ذلك. إنها بيتها، وملاذها الأخير في عالم يتقلص حولها يومًا بعد يوم. تحت قماشها المشدود بأوتادٍ خشبية، يختبئ القليل مما تبقى لها: حصائر منسوجة يدويًا، أغطية ثقيلة تحتمي بها في الليالي الباردة، صندوق خشبي صغير تحفظ فيه ما تبقى من ذكرياتها. تتذكر المرأة طفولتها البدوية، تحكي عن النساء اللواتي لم يعرفن المدارس، عن أياديهن التي تتقن صنع الخيام ونسج الزرابي، وعن رحلاتهنّ التي لا تنتهي لجلب الماء.
في إحدى الزوايا، وُضع موقد بسيط فوق الحصى، وعليه إبريق شاي أسود يكاد لا يفارق النار. بقربه، قِربة ماء من جلد الماعز، لا تُملأ إلا بصعوبة بعد ساعات من البحث عن نقطة ماء لم تجف بعد. تتحدث عزة بصوت هادئ لكنه مثقل بالهموم: “كنا نعيش على الأرض، نتحرك مع المطر، نبحث عن المراعي، لكن المطر أصبح شحيحًا، والعشب جافًا، ولم يعد أمامنا سوى التأقلم أو الرحيل”. في هذا الركن الصغير من الصحراء، تحاول عزة أن تصمد. تجمع حطبها قبل أن يشتد الحر، تخزن ما استطاعت من مؤونتها البسيطة، وتنتظر. تنتظر مطرًا قد لا يأتي، أو موسمًا أقل قسوة يمنحها فرصة أخرى للبقاء. “ثماني سنوات من الجفاف، منذ طفولتي لم أشهد مثل هذا. في السنة الأولى قلت: ستمر، سنتدبر أمرنا. كنا ننتقل بحثًا عن الماء، عن أرض تستطيع أغنامنا أن تجد فيها ما تأكله، لكن كلما مرت الأعوام بلا مطر، ازداد الأمر تعقيدًا”.
رغم كل هذا، لا تزال عزة وفية لحياتها، لكنها تعلم أن الزمن لا ينتظر أحدًا، فقد بدأ زوجها يفكّر جديًا في شراء منزل، وفي جعل حياتهم أكثر استقرارًا، رغم أنّ الفكرة نفسها تصيبها بالقلق: “لا أستطيع فعل ذلك. فكّرت كثيرًا، لكن حياة المدينة ليست لي. هنا أشعر بالأمان، حتى على بناتي. في المدن، لن أجرؤ على تركهن والذهاب لإنجاز ما عليّ، هناك لا أحد يحميهن. المدينة تخنقني، تسرق مني أنفاسي“.
قروض لشراء الحياة
ثماني سنوات من العطش، ثماني سنوات من التشقّق الذي لم يعد يصيب الأرض فقط، بل يتسلّل إلى أرواح الرحّل، إلى قطعانهم، وإلى نمط حياتهم الذي ظلّ صامدًا أمام الزمن لكنه يترنّح اليوم أمام المناخ القاسي. يحدّثنا سعيد سكونتي عن التحديات التي تواجه الرحّل، هو الذي ينحدر من عائلة رحّل (من منطقة درعة تافيلالت) ويعمل في منظمة “إيمال” (مركز أبحاث مناخي غير ربحي بمنظور أفريقي وعربي ومتوسطي). يخبرنا أنّه “بالنسبة للرحّل في منطقة درعة-تافيلالت، خاصة قبيلة “إيت عطا”، التي عملت عليها وأعتبر نفسي جزءًا منها، فإن التغيرات المناخية تظهر من خلال سنوات طويلة ومتتالية من الجفاف. إذا استثنينا بعض الأمطار المتفرّقة، فنحن الآن في السنة الثامنة على التوالي من الجفاف”.
الرحّل، الذين اعتادوا أن يكونوا أسياد الأرض، أصبحوا مكبّلين بالحسابات، كل يوم هو معركة مع الأسعار والقروض، ومع قطعان تذبل أمام أعينهم كأوراق شجر جافة: “هذا الجفاف له تأثير عميق على نمط الحياة الرحلي، خاصة بسبب نقص المياه في الجبال والصحاري. ولكن الأهم من ذلك، نقص المراعي”، وفق سعيد. يضطّر الرحّل، والنساء منهم تحديدًا، إلى قطع مسافات بحثًا عن المياه والقليل من العشب المتبقي لإطعام ماشيتهم، لأن بيع الماشية هو المصدر الرئيسي لدخلهم. ولكن، وفق سعيد “يجب أن نقول إن الجفاف ليس ظاهرة جديدة في المنطقة، إذ عانت منها مناطق الجنوب المغربي عبر التاريخ، وكان الرحّل قادرين على التكيف معها. المشكلة الآن أن تغير المناخ يزداد سوءًا عامًا بعد عام. وهذا ما تؤكده التقارير العلمية مثل تلك الصادرة عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)”.
تطال الأزمة البيئية المجتمعات الأكثر هشاشة كما يشير تقرير صادر عن “البنك الدولي” عام 2023 حول المناخ والتنمية في المغرب. يضيء التقرير على التأثير العميق للتغيرات المناخية على المجتمعات الرعوية، إذ تواجه 93% من الأراضي الرعوية في البلاد تدهورًا بيئيًا خطيرًا، مما يهدّد سبل عيش أكثر من 200,000 من الرعاة الرحل وشبه الرحل الذين يعتمدون على هذه المراعي لتأمين معيشتهم.
بينما تعتمد هذه المجتمعات على الأراضي الرعوية لتأمين حياتها، فإن الارتفاع المستمرّ في درجات الحرارة وانخفاض معدل هطول الأمطار جعل الحياة في هذه المناطق أكثر صعوبة. مع انخفاض الغطاء النباتي المتاح للرعي بنسبة تزيد عن 50% في بعض المناطق، بدأ العديد من الرعاة الرحل في تغيير طرق تنقلهم التقليدية، واضطّر آخرون للبحث عن مصادر دخل بديلة، مثل العمل في المدن أو التكيف مع أنماط حياة شبه مستقرة.
المشكلة لم تعد مجرّد سنة جافة، بل متوالية من القحط، كأن الصحراء قرّرت أن تبتلع أحلام أبنائها دون رحمة لثماني سنوات متواصلة. إذن، كيف يتكيفون؟ “من خلال الديون” يلخّص سعيد هذا المأزق الذي يواجه الرحّل، مضيفًا “لكن الديون ليست استراتيجية جديدة، فهم يلجؤون إليها منذ سنوات، إذ يقترضون المال لشراء العلف لبضعة أشهر ثم يسددون الديون بعد بيع ماشيتهم. المشكلة الآن أصبحت مزدوجة: فهم لا يستطيعون بيع الماشية بأسعار جيدة، وفي نفس الوقت يضطرون إلى شراء العلف بالدين على مدار السنة، مما يجعلهم عالقين في حلقة مفرغة من العجز المالي”.
يواصل سعيد: “من الضروري تكثيف الجهود، خصوصًا فيما يتعلق بالسياسات المناخية. فمنذ 2015، وقعنا على اتفاقية باريس للمناخ، ولدينا مساهماتنا المحددة وطنيًا (CDN)، التي تصدر نسختها الثالثة هذا العام. لكن عندما نجد أن وثائق التكيف مع التغيرات المناخية لا تشمل المجتمعات الأكثر هشاشة، يحقّ لنا أن نتساءل عن مدى جدوى هذه الاستراتيجيات”، يضيف سعيد متسائلًا “ما جدوى التخطيط إذا كان لا يلامس الأرض؟ ما فائدة الاستراتيجيات إن لم تكن انعكاسًا لاحتياجات من يعيشون وسط الجفاف؟ الحقيقة واضحة: لا بد من مضاعفة الجهود، لا بد من تحرك أعمق وأكثر تأثيرًا”. والحل هنا بسيط ومعقد في آن واحد: الإنصات. “السياسات العامة، كما تعلمنا، يجب أن تستجيب لحاجات الناس. وإذا كان الرحَّل يعانون، فمن الواجب أن يُسمع صوتهم. لا يمكن وضع خططًا للتكيف مع التغيرات المناخية داخل المكاتب المغلقة، ولا يمكن رسم مستقبل الرحَّل دون استشارتهم. لكن ما يحدث اليوم مؤسف: تُعقد الاجتماعات، تُناقش الملفات مع منظمات دولية، بينما أصحاب القضية الحقيقيون غائبون عن الطاولة”.
المسألة ليست أرقامًا ولا مخططات اقتصادية فقط، بل تتعلق بوجود مجتمع كامل يكافح للحفاظ على نفسه. نحن لا نتحدث عن ملايين، بل عن بضعة آلاف من الرحَّل المتبقين، عن تراث يعيش أيامه الأخيرة، وعن عالم يختفي أمام أعيننا بصمت.
صوت خافت في العراء
في مواجهة هده التغيرات المناخية المتسارعة، تظلّ مجتمعات الرحَّل من بين الفئات الأكثر هشاشة، ليس فقط لأنهم يعتمدون بشكل مباشر على الطبيعة لتأمين موارد حياتهم اليومية، بل لأنّهم غالبًا ما يتمّ تغييبهم عن المشاريع الغربية في المنطقة وعن النقاشات السياسية وصياغة الاستراتيجيات المناخية، أو حتى عن المشاركة في وظائف ضمن هذه المشاريع. أمام أعينهم، تتحوّل الأراضي التي يعتمدون عليها في الرعي، إلى مساحات مسوّرة بأسلاكٍ شائكة.
هنا ثمّة اختلاف عميق في النظر إلى القضايا البيئية ما بين التقارير الدولية التي تحتسبها بالأرقام، وبين الرحل الذين يصيب التغير المناخي تفاصيل حياتهم، من توفر الماء والكلأ إلى إمكانية استمرار نمط عيشهم القائم على الترحال. “لماذا يتم استبعاد المجتمعات الرحَّلية من النقاشات والقرارات المتعلقة بالسياسات المناخية، رغم أنهم أول من يدفع الثمن؟” سؤال يطرح نفسه بإلحاح، لكن جوابه ليس بسيطًا، إنه أكثر تعقيدًا مما يبدو، فهو جزء من مشكلة أعمق، مشكلة هيكلية تتجاوز المناخ وتمتدّ إلى كل السياسات العامة في المغرب. لا يقتصر إقصاء الرّحل على قضايا البيئة، بل يطال التعليم، الصحة، وحتى الوصول إلى أبسط الخدمات الإدارية.
لماذا يتم استبعاد المجتمعات الرحَّلية من نقاشات السياسات المناخية، رغم أنهم أول من يدفع الثمن؟ الجواب أكثر تعقيدًا مما يبدو، فهو جزء من مشكلة أعمق، مشكلة هيكلية تتجاوز المناخ وتمتدّ إلى كل السياسات العامة في المغرب
غير أنّ تغييبهم ليس محليًا فقط، بل عالميّ أيضًا. في كل نقاش عن تغير المناخ، تغيب أصوات الرحَّل، رغم أنهم يعيشون يوميًا آثار هذا التغير، يعانون من الجفاف، من انحسار المراعي، من تآكل أسلوب حياتهم. لعلّ هذا الإقصاء متوارث، من النظرة الاستعمارية للصحراء على أنّها مكان فارغ، أو في أحسن الأحوال على أنّها مكان يحتاج إلى رعاية الرجل الغربي على الدوام. في كتاب “تحدّي الرأسمالية الخضراء” (2023) لحمزة حموشان وكايتي ساندويل، ينطلق الكاتبان من التمثيل الآني لصحراء شمال أفريقيا التي توصف عادة بأنّها “أرض فسيحة وشاغرة وميتة ونادرة السكان، وبالتالي تبدو وكأنّها فرصة مثالية لتقديم الطاقة الرخيصة لأوروبا الحريصة على نمط حياتها الاستهلاكي الباذخ واستهلاك الطاقة المفرط”. هذا جزء من المشكلة، إذ أنّ السردية التي تقول بأنّ الصحراء مساحة جرداء وفارغة، تسلب سكّانها من أصواتهم النابعة من علاقتهم الطويلة مع المكان، والتي تعدّ جزءًا أساسيًا من ثقافتهم ووجودهم بشكل عام. المشكلة إذًا مشكلة سرديّات، وتحديدًا السرديات التي تصوّر هذه المناطق الصحراوية على أنّها مساحات خالية من السكّان وبالتالي يسهل التصرّف بها من دونهم.
وفي هذا السياق، يكشف ديفيد تشاندلر في مقاله “تحرير الصمود من الاستعمار: إعادة التفكير في المعرفة المحلية، التعتيم والاستعمارية“، عن حقيقة مريرة، فيشير إلى أنّ العديد من مشاريع التنمية فشلت لأنّها لا تأخذ بعين الاعتبار الواقع المحلي، بل تُصمّم على أساس فرضيات غير مرنة، بعيدة عن التنوع الفعلي للمجتمعات المحلية. وتزداد هذه الفجوة عمقًا في ظل إغفال احتياجات المجتمعات المحلية، ما قد يساهم في تدمير الثقافة المحلية. لذلك، يؤكد تشاندلر على أن الاستماع الفعلي للمجتمعات المحلية وفهم سياقاتها البيئية والاجتماعية هو السبيل لتطوير استراتيجيات مرونة فعّالة، لا تستند فقط إلى الحلول الخارجية، بل تأخذ في الاعتبار تقاليدها وطرق التكيف القديمة التي طالما ساعدتها في التغلّب على التحديات. لكنّ التحديات تنتقل إلى الرحل، الذين يعانون مسبقًا من شحّ المياه الذي ستعمّقه مشاريع الطاقة الكبرى، كونها تحتاج إلى كمية وافرة من المياه.
مرايا الطاقة تعكس التهميش
بالقرب من أبواب الصحراء في منطقة درعة تافيلالت، ترتفع صفوف لا تنتهي من الألواح اللامعة التي تلتقط أشعة الشمس وتعكس ضوءًا أبيضًا يخترق الأفق كأنّه وعد بمستقبل نظيف ومُشرِق. من بعيد، قد يبدو المشهد تجسيدًا لانتصار التكنولوجيا الخضراء، ولكن عن قرب، تكشف التفاصيل وجهًا آخر أكثر تعقيدًا.
في المغرب، كما في أجزاء أخرى من شمال إفريقيا، أصبحت مشاريع الطاقة المتجدّدة – التي تُعرض كحلولٍ بيئية رائدة – مرتبطة بشكل متزايد بمنطق الهيمنة، والاستغلال المنظّم للموارد الطبيعية لصالح أطراف خارجية، على رأسها الاتحاد الأوروبي. ففي سباقها نحو “التحوّل الأخضر”، تسعى أوروبا إلى تقليص اعتمادها على مصادر الطاقة الأحفورية (النفط والغاز)، مستبدلة إياها بمصادر نظيفة. وهذه غالبًا ما يتمّ إنتاجها في دول ومناطق الجنوب وتُصدَّر إلى الشمال عبر شبكات تربط الدول الأوروبية بدول الجنوب. “الاستعمار الأخضر” في هذا السياق لا يحمل السلاح، بل يأتي محمّلًا بوعود التنمية، والوظائف، والتكنولوجيا، لكنه يُعيد إنتاج أنماط التبعية القديمة: مصادرة الأراضي الزراعية، طرد السكان المحليين، التلاعب بمصطلحات البيئة لتبرير مشاريع لا تخدم إلا الأسواق الخارجية.
داخل القرى المحاذية لمشاريع الطاقة الضخمة مثل “نور ورزازات” أو “نور ميدلت“، نُزعت ملكيات، وأقيمت أسوارًا، ومنع السكّان من الوصول إلى أراضٍ كانت تشكّل موارد رزق لعائلات عاشت معتمدة عليها لأجيال. سكان هذه المناطق لا يرون “التحوّل الأخضر” إلا من خلال أعمدة الكهرباء التي لا تنير بيوتهم، وأسلاك شائكة تفصلهم عن أراضيهم، ومياه شحيحة باتت تُحوّل لتبريد محطات عملاقة لا تصلهم منها إلا الوعود. في ظلّ غياب الشفافية، تُمرّر هذه المشاريع دون استشارة الساكنة أو إشراكهم في القرار. وهكذا يُعاد رسم خريطة السلطة والموارد في المغرب، لكن هذه المرة باسم “البيئة“. ليس “الاستعمار الأخضر” مجرّد استعارة، بل واقعٍ جديد يتغلغل في السياسات المناخية ويحوّل الجنوب إلى مزود طاقة صامت، يُطلب منه أن يُنتج، ويُنظّم، ويُصدِّر.. دون أن يُسأل عن الثمن البيئي والاجتماعي الذي يدفعه.
مشاريع عملاقة تلتهم الصحراء
خلال شهر أيّار (مايو) 2022، أطلقت المفوضية الأوروبية خطّة RePowerEU، وهي خطّة تهدف إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الأوروبي بشكلٍ جذريّ من خلال تقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري، والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجدّدة. وفي قلب هذه الخطة يقبع الهيدروجين الأخضر: طاقة المستقبل التي تعوّل عليها أوروبا لتشغيل صناعاتها، مع هدف واضح يتمثّل في استيراد 10 ملايين طن منه بحلول عام 2030، الجزء الأكبر منها من شمال إفريقيا.
ولتجسيد هذا الطموح، رُصدت استثمارات ضخمة تتجاوز 100 مليار يورو، إلى جانب إطلاق بنك أوروبي للهيدروجين بميزانية تصل إلى 3 مليارات يورو، لدعم المشاريع وتسريع وتيرتها. وفي ظلّ هذه الحماسة للـ “الانتقال الأخضر”، تتجاهل السياسات الأوروبية في كثير من الأحيان الأسئلة المحرجة: من يدفع ثمن انتقالات الطاقة هذه في الجنوب؟ وعلى حساب من تُشيّد هذه البنية التحتية الضخمة في الصحاري والقرى الهشّة؟
وسط جبال الأطلس، وتحديدًا في مدينة ميدليت، يُخطَّط لإطلاق واحدة من أكبر محطات إنتاج الكهرباء في المغرب: محطّة نور ميدلت 1، بطاقة إنتاجية تصل إلى 800 ميغاواط، ستستخدم الطاقة الشمسية لإنتاج ما يُعرف بـ”الهيدروجين الأخضر”. المشروع الذي تبلغ كلفته 20 مليار درهم مغربي (ما يعادل حوالي 1,86 مليار يورو) أُسند إلى شركة تابعة للمجموعة الفرنسية العمومية EDF Renouvelables، إلى جانب ائتلاف من شركات مغربية محلية، وشركتي ACWA السعودية و “مصدر” الإماراتية، وقد بدأ العمل عليها سنة 2019.
بالإضافة إلى ذلك، يُعدّ مشروعي نور ميدلت 2 و3 من الركائز الأساسية ضمن برنامج الطاقة المتجددة بالمغرب، حيث تستهدف كل محطة قدرة إنتاجية تقارب 400 ميغاواط، مع أنظمة تخزين بطاريات بسعة 400 ميغاوات-ساعة تسمح بتوفير الكهرباء خلال فترات الذروة وحتى في غياب الشمس. العرض المشترك الذي قدّمه تحالف “ناريفا-أكوا باور”، وهو ائتلاف مغربي سعودي، لهذين المشروعين يوفّر مزايا اقتصادية وتقنية عبر التكامل بين المحطتين. يُذكر أن تكلفة مشروعي نور ميدلت 2 و3 تقدر بحوالي 9,1 مليار درهم مغربي لكل منهما محطة تقريبًا.
عبر مشاريع كهذه، يهدف المغرب للوصول إلى نسبة 52% من الطاقة المتجددة ضمن مزيج الطاقة الوطني بحلول عام 2030، ويُتوقع اتخاذ القرار النهائي بخصوص منح عقود محطات نور ميدلت في غضون عامي 2025 و2026.
وقد كان مجمع نور ورزازات الشمسي، الذي يبعد مئات الكيلومترات جنوب ميدلت، هو المشروع الأول الذي مهّد لهذا التوسع لدى إطلاقه عام 2016 بدعم مالي وتقني ألماني وأوروبي، وبلغت كلفته حوالي 2,6 مليار دولار، ليصبح واحدًا من أكبر الحقول الشمسية في العالم، بطاقة إنتاجية تصل إلى 580 ميغاواط. إن تهيئة 2500 هكتار من الأراضي لمشروع نور ورزازات لم تمر دون ثمن، مثلما تخبرنا الباحثة في الهندسة البيئية والتنوّع البيولوجي أسماء التي فضّلت ألّا تكشف عن اسمها الحقيقي: “هناك، دخلت قرى بأكملها في إضراب عن الماء احتجاجًا. مناطقنا شبه قاحلة أصلًا، تعاني من الجفاف وتغير المناخ، وهذه المشاريع تأخذ ما تبقّى لنا من مياه قليلة“، خصوصًا أنّ التكنولوجيا الفوتوفولتائية التي استُخدمت آنذاك كانت قديمة وتستهلك كميات كبيرة من المياه في التبريد والتنظيف.
الشمس التي تُنير أوروبا.. تُطفئ قرانا؟
تسوّق هذه المشاريع الكبرى على أنّها ابتكارات بيئية ستحوّل الطاقات المتجدّدة – مثل الطاقة الشمسية والرياح – إلى موادّ قابلة للتخزين والنقل مثل الهيدروجين السائل أو الأمونياك، تُصدَّر نحو أوروبا عبر الأنابيب أو السفن، كما يُفترض أن تستفيد منها الأسواق المحلية. غير أنّ هذه المنشآت تُقام على أراضٍ زراعيّة ومراعٍ تقليدية كما تشير أسماء، مضيفة إلى أنّ هذه المنشآت تُجرّد السكّان من مصادر رزقهم، خصوصًا النساء اللواتي يعتمدن على الأرض كموردٍ أساسيّ للعيش. وسواء كانت هذه المشاريع موجّهة للتصدير أو للاستهلاك المحلي، وسواء كانت تقوم على طاقات متجدّدة أو تقليدية، فالنتيجة، واحدة، وهي انتزاع الناس من أراضيهم، أو تعرّضهم للإقصاء من خلال الأسلاك الشائكة والحواجز، وفق تعبيرها. ومن هنا، يتّسع الجدال ليأخذ بُعدًا جيوسياسيًا أكثر عمقًا، يتمثّل بالـ “الاستعمار الأخضر”، الذي تمارسه دول الاتحاد الأوروبي، من خلال توقيع اتفاقيات ثنائية مع أنظمة سلطوية في دول الجنوب، مثل المغرب، الجزائر، تونس ومصر.
في بحث أعدّته الأكاديمية أميمة جماد، المتخصصة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، بعنوان “في تاسيلمانت، نساء يكشفن غموض الطاقة الشمسية” تتكشف تعقيدات مشروع نور ورزازات الذي طالما رُوّج له كنموذج للانتقال الطاقي في المغرب. البحث المنشور ضمن كتاب جماعي “المغرب: العدالة المناخية والضرورة الاجتماعية” (2021)، يرسم صورة مغايرة لوعود التنمية المستدامة التي رافقت هذا المشروع الضخم. تقابل أميمة بعض النساء المقيمات في قرية بجانب المشروع، في دوارتاسلمانت وهو دُوَّار يقع بجماعة آيت زينب، إقليم ورزازات، جهة درعة تافيلالت في المملكة. تتحدث رابحة، وهي من النساء المتضررات من المشروع، بنبرة تختلط فيها المرارة بالسخرية: “الشمس التي تحوّلونها إلى كهرباء هي الشمس التي تحرق زراعتنا وتجفّف مياهنا. نحن لا نرى سوى الأسوار والحراس، ولا نملك حتى الحقّ في السؤال عمّن يقرّر مصير أراضينا”. توضح الباحثة، أن السكان المحليين لم يُعاملوا كشركاء حقيقيين في المشروع، بل كمتلقّين سلبيين لقرارات ألقيت عليهم من الأعلى.
سواء كانت مشاريع الطاقة المتجدّدة موجّهة للتصدير أو للاستهلاك المحلي، وسواء كانت تقوم على طاقات متجدّدة أو تقليدية، فالنتيجة، واحدة، وهي انتزاع الناس من أراضيهم، أو تعرّضهم للإقصاء من خلال الأسلاك الشائكة والحواجز
إحدى النساء اللواتي قابلتهنّ الباحثة أيضًا هي فاطنة التي تحتفظ ببعض الوثائق لاجتماعات واتفاقات بيع الأراضي، وتظهر بوضوح غياب أي مشاركة نسائية، وحتى الذكور الموقّعون لا يمثلون فعليًا تطلعات السكان. “لم يسألنا أحد عما نريده”، تقول، “ولو سألونا، لاقترحنا مشاريع تناسبنا: تربية، زراعة، تجارة، من دون مرايا تعكس حرارة لا نتحمّلها”. في التحقيق نفسه، تشرح إيمان، وهي كهربائية شابة من المنطقة، تفاصيل الأنظمة الحرارية المعقدة التي تستخدمها المحطات الشمسية، لكنها تحذّر من المخاطر البيئية المرتبطة بالزيوت الصناعية، ومن الفجوة التقنية التي تجعل الطاقة المنتجة غير مستقرّة ودون تأثير إيجابي مباشر على المنطقة، فتقول “إن كانت هذه المشاريع تُقدَّم كحلٍّ لأزمة المناخ العالمي، فهل يُعقَل أن تُبنى على حساب المجتمعات الأضعف؟ كيف يمكن الحديث عن عدالة مناخية في ظل تغييب السكان المحليين، ومصادرة أراضيهم، وإقصائهم من أي نقاش حول مستقبلهم؟ وإذا كان الجنوب يُنتج الطاقة لأجل الشمال، ويتحمّل التكاليف البيئية والاجتماعية وحده، فهل ما نعيشه هو انتقال طاقي… أم إعادة إنتاج لعلاقات استعمارية بثوبٍ أخضر جديد؟”.
السماء تراقب قوافل الرحّل بصمت
كما رأينا في جبال الأطلس، حيث تتلاشى مساحات الرعي وتذبل المراعي في درعة تافيلالت، فإن المشهد في الشرق المغربي لا يختلف كثيرًا. في فجيج وبوعرفة، وعلى امتداد هذه الأرض القاحلة، يعيش الرحَّل المصير ذاته: جفاف يستنزف الموارد، وتصحّر يزحف ببطء، وعزلة تفصلهم عن كل أشكال الدعم. ما عايشناه مع بدو الأطلس، يتكرّر هنا بأسلوب آخر، لكنه يحمل الألم نفسه، والضياع ذاته.
من الرباط إلى وجدة، ومن وجدة إلى بوعرفة، ثم إلى فجيج، تمتدّ الطريق طويلة، مستوية، ومملة. في الحافلة، وبعد عبور ممرّ تازة، تتحول الطبيعة إلى لوحة قاحلة، حيث الأرض تشققت من العطش، والسماء تراقب بصمت قوافل الرحَّل في بحثهم عن الحياة. ورغم أنهم بعيدون عن صخب المدن واستهلاكها المفرط، إلا أنهم الأكثر تأثرًا بأزماتها، من تغير المناخ، إلى الجفاف، والفقر الذي لم يشاركوا قط في صنيعه.
هنا أيضا مجتمع يعيش على الهامش، خارج النظام الصحي، والتعليمي، وخارج دوائر الاهتمام الوطني. كما في الأطلس، يعتمد الرحَّل هنا على تربية الماشية، متنقلين بحثًا عن الماء، عابرين مئات الكيلومترات بين الهضاب والوديان، لكن الأمطار لم تعد تأتي كما كانت، والمراعي التي صمدت لقرون، لم تعد تكفي. أما أسلوب حياتهم، الذي يشكّل جزءًا أصيلًا من الإرث الثقافي والحضاري المغربي وشمال إفريقيا -تمازغا-، يواجه خطر الاندثار أمام أعين أبنائه، في غياب سياسات تنموية تستوعب خصوصيته التي تعدّ مكوّنًا أساسيًا من الثقافة المغربية، قبل أن تكون نموذجًا اقتصاديًا قائمًا على الترحال بحثًا عن الماء والكلأ للماشية.
وبينما يلتهم التصحر الأرض بهدوء، ويثور المناخ بلا رحمة، يضيّق التهميش الخناق على الرحل الذين وجدوا أنفسهم اليوم في مواجهة مع الزمن. حتى المخطّطات الوطنية لا تضعهم في حساباتها، وتهدّد بأن يظلّ وجودهم مجرّد ظلال عابرة إلى أن ينطفئ آخر قنديل في خيامهم. فإضافة إلى تأثيرات التغير المناخي على مجتمعات الرحّل، ثمّة علاقة مرتبكة ما بين الاستعمار الاستيطاني وإمكانية التكيف مع التغيرات المناخية كما يشير تقرير “الاستعمار المناخي والاستعمار الاستيطاني: التكيف ومستقبل السكان الأصليين”. وفقًا لهذا التقرير، ينظر السكان الأصليون إلى التكيف مع التغير المناخي من خلال أكثر من 10,000 عام من التعايش مع أراضيهم الأصلية، بينما يرى المستوطنون التكيف كإدارة للأراضي، مما يعكس الفجوة بين النظرة التقليدية لمجتمعات الرحّالة والتوجهات السائدة في سياسات التكيف مع التغير المناخي.
الاستعمار الاستيطاني، كما يوضح التقرير، يساهم في إبعاد السكان الأصليين عن ممارسة تقاليدهم الثقافية وتهميش معارفهم البيئية والطبيعية. هذا الأمر يعكس الواقع الذي تواجهه مجتمعات الرحّالة في المغرب، والتي تمّ تجاهل العديد من ممارساتها التقليدية في مجال التكيف مع التغيرات المناخية، رغم أنّ دمج معارفهم التقليدية في تلك السياسات قد يكون هو السبيل لضمان تنمية مستدامة ومتوازنة للمجتمعات الرحّالة. الدراسة أيضًا تشير إلى أن الاستعمار المناخي يساهم في تفاقم التفاوتات البيئية والاجتماعية، ويؤكد على ضرورة الاعتراف بحقوق ومصالح المجتمعات الأصلية في مواجهة التغيرات المناخية. ولذلك، فإن مواجهة تحديات التغيّر المناخي في مناطق مثل درعة–تافيلالت تتطلب أن تُعطى الأولوية لمشاركة الرحّالة في صياغة السياسات الوطنية والدولية.
* يُنشر هذا المقال ضمن مشروع “غرين بانتر” بالتعاون مع مؤسسة “تاز بانتر“