بعد أيام معدودة من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فوجئ العالم بالعديد من الإجراءات السريعة، والتي طالت بالطبع السكان الأكثر هشاشة خارج الولايات المتحدة، ومن بين هؤلاء ما يقارب من مليون لاجئ وطالب لجوء في مصر.
في نهاية يناير/ كانون ثاني الماضي أعلنت إدارة ترامب أنها ستنهي 90٪ من عقود المساعدات الخارجية للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ما عطّل صرف أكثر من 60 مليار دولار من الإنفاق على المشاريع الإنسانية في جميع أنحاء العالم، وقلّص برامج المساعدة الإنسانية والإغاثية في مختلف وكالات ومنظمات الأمم المتحدة، وبالتالي انعكس فوريًا على اللاجئين بالحرمان من عدة خدمات خصوصًا الخدمات الصحية والمساعدات النقدية الثابتة.
ونشرت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر بيان قالت فيه إنها علّقت كافة العلاجات الطبية المقدمة للاجئين في مصر باستثناء الإجراءات الطبية الطارئة المنقذة للحياة. ويشمل هذا التعليق العمليات الجراحية المخطط لإجرائها، وعلاج الحالات الحادة، وتقديم الأدوية للأمراض المزمنة، مثل مرضى السكري وارتفاع ضغط الدم، وهو ما سيؤثر على ما لا يقل عن 20 ألف مريض، بما فيهم العديد من اللاجئين الذين اضطروا للفرار من الحرب في السودان.
وفي أبريل/ نيسان الماضي نشر برنامج الغذاء العالمي بيانًا أعرب فيه عن قلقه العميق إزاء الإخطارات الأخيرة الصادرة عن الإدارة الأمريكية والتي تشير إلى إنهاء تمويل المساعدات الغذائية الطارئة في 14 دولة.
وفي الشهر الماضي أعلنت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر أنها ستخفض عدد العائلات المستفيدة من المساعدة النقدية متعددة الأغراض (المنتظمة) ابتداءً من مايو/ أيار 2025، وستستمر فقط الحالات الأكثر احتياجًا فى الحصول على المساعدة النقدية.
كل هذه القرارات كان لها تأثير مباشر على اللاجئين وطالبي اللجوء من مواطني 61 جنسية مختلفة في مصر، يعتمدون في الحصول على الخدمات الأساسية على مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ويعاني العديد منهم بالفعل بسبب ارتفاع الأسعار والوضع الاقتصادي الخانق، بجانب التحديات المرتبطة باللجوء والفرار من بلادهم تحت وطأة الحرب. ويعيش معظم هؤلاء في بيئة حضرية ويتركزون إلى حد كبير في القاهرة الكبرى ومحافظات الإسكندرية والشرقية ودمياط، وعدة مدن ساحلية أخرى.
ومن المفترض أنه بمجرد تسجيل طالب اللجوء في مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بمكاتبها في مصر، يحصل على «البطاقة الصفراء»، التي تخوله للحصول على تصريح إقامة رسمي، ويصبح مستحق لتلقي الخدمات من مكاتب المفوضية، أو من المنظمات الدولية أو المحلية أو من الحكومة المصرية وفقًا لبروتكولات التعاون المقررة.
وصلت أعداد اللاجئين وطالبي اللجوء وفقًا لبيانات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر، حتى نهاية الشهر الماضي، إلى 981 ألف لاجئ، من بينهم 714 ألف سوداني النسبة الأكبر منهم من النساء والأطفال، ونحو و134 ألف سوري، وجميعهم أصابه توقف عدد من الخدمات الأساسية أبرزها الخدمات الصحية والمساعدات المالية والغذائية والحماية. من بين الذين عانوا بشكل مباشر بسبب توقف الخدمات الصحية صفاء موسى عبد الله، وهي سيدة سودانية أربعينية، يعود أصلها إلى منطقة الضعين عاصمة ولاية شرق دارفور.
تتذكر صفاء وقت وصولها إلى مصر، حيث اضطرت إلى الخروج من السودان مع زوجها وأولادها آخر 2016 هربًا من نظام عمر البشير، وأقامت في منطقة عين شمس بالقاهرة وحصلت على الكارت الأصفر مطلع 2017. وصلت صفاء وهي تعاني من ارتفاع ضغط الدم، وبعد عدة سنوات أصيبت بالسكري واعتلال عضلة القلب، وباتت تحتاج أدوية للأمراض المزمنة للحفاظ على حياتها، ولتعينها على تحمل أعباء إعالة أسرتها خصوصًا بعد أن انفصلت عن زوجها لتتولى مسؤولية سبعة أبناء وحدها.
تعمل صفاء في الخدمة المنزلية، وكانت تعمل لـ 6 أيام ولكن بعد تدهور حالتها الصحية باتت لا تتحمّل أكثر من العمل لثلاثة أيام فقط وبمساعدة من ابنتها البالغة من العمر 21 سنة.
منذ وصولها إلى مصر كانت صفاء تتلقى الخدمات الصحية، سواء الكشف الدوري أو العلاجات المزمنة، من منظمة «كاريتاس مصر»، التي تولت تشخيص حالتها وصرف العلاج الشهري المجاني. وفي أحد مواعيد صرف الدواء، قيل لها إن الجمعية توقفت عن تقديم الخدمة، وعند عودتها للمفوضية عرفت أن التعاقد مع الجمعية قد انتهى، وأن عليها الانتقال لتلقي الخدمة من جمعية محلية أخرى، جمعية مرسال، والتي انتظمت في تقديم الخدمة لصفاء لثلاثة أشهر، قبل أن تصلها رسالة هاتفية بتعليق الخدمات الصحية في الجمعية الجديدة، وتأجيل موعد الكشف الطبي حتى إشعار آخر.
وتقتصر الخدمات الصحية التي حصلت عليها صفاء سواء من الجمعيات المحلية أو من مستشفيات الحكومية على الرعاية الصحية الأولية وصرف الأدوية، دون تغطية التحاليل والأشعات اللازمة لتشخيص وضعها الصحي.
قالت صفاء: «كنت بضطر لعمل التحاليل والأشعة لو معايا قروش دلوقتي مفيش»، ميزانية الأدوية الشهرية لصفاء تصل إلى 3000 جنيه (حوالي 56 دولار أمريكي)، وانقطعت منذ شهر مارس/ آذار الماضي عن تناول دوائها بشكل منتظم بسبب انقطاع الخدمات.
وأوضحت أن ابنها شُخص الشهر الماضي بالربو، واضطرت للجوء إلى جمعية جديدة لتأمين قدر من الدواء، إلا أنها لا تعلم كيف ستتابع حالته وتصرف أدويته بعد انتهاء الحصة الحالية.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
أزمات مركبة
في أكثر من مناسبة وبيان رسمي للمفوضية طالبت المجتمع الدولي بمزيد من الدعم الموجه لمصر خاصة وأنها تسمح للاجئين وطالبي اللجوء الإلتحاق بالمدارس الحكومية، وتتيح وزارة الصحة والسكان اللاجئين وطالبي اللجوء الوصول إلى جميع الخدمات الصحية المقدمة في مرافقها على قدم المساواة مع المواطنين المصريين، ودون تكلفة مالية في كثير من الأحيان.
كذلك عُقدت شراكة بين المفوضية ووزارة التربية والتعليم والتعليم الفني المصرية لدعم التعليم الحكومي في مصر، والذي يتم تقديمه حاليًا للطلاب من السودان وجنوب السودان وسوريا واليمن. وفي العام الدراسي 2022/2023، بلغ عدد الطلاب اللاجئين المسجلين في المدارس الحكومية في جميع المحافظات 60,482 طالبًا لاجئًا.
رغم ذلك لم تتمكن هالة من إلحاق أبنائها في المدارس المصرية، فمنذ 14 عام جاءت إلي مصر مع زوجها، ولم يكن عمرها يتجاوز 15 عامًا، هالة (تم تغير الاسم وفقا لرغبتها) أم سورية لثلاثة أبناء سافرت في السنوات الأولى للثورة السورية على نظام بشار الأسد واشتعال الحرب الأهلية.
مثل باقي العائلات السورية سجلت الأسرة في مفوضية اللاجئين وحصلت على البطاقة الصفراء، وبالتالي تسلمت مساعدات مالية بدأت براتب شهري لكل أفراد الأسرة لمدة عامين فقط، ثم مساعدات غذائية ظلت لسبع سنوات.
خلال الثلاثة أعوام الماضية انفصلت هالة عن زوجها ووقع الطلاق، أبلغت المفوضية وطلبت بأن تحصل على مساعدة إضافية، ووضعت على قوائم الانتظار.
أكبر أبناء هالة عمره 13 سنة وأصغرهم عمره 10 سنوات، كلهم لم يلتحقوا بالمدارس بعد أن اضطرت إلى استهلاك المنحة التعليمية في تغطية تكاليف المعيشة. شرحت هالة أن هيئة الإغاثة الكاثوليكية صرفت منحة تعليمية لأطفالها، مقدارها 1000 جنية (حوالي 19 دولار أمريكي) لمرة واحدة فقط في السنة، ولكنها بسبب الأوضاع الاقتصادية الخانقة، وحتى بعد أن انتقلت من الحي الذي كانت تسكن فيه إلى حي أرخص، كانت تضطر للإنفاق من المنحة على إيجار البيت أو في مصروف البيت، تقول: «اولادي مش بيعرفوا يكتبوا اسمهم ودي حاجة توجع».
على الرغم من كونها مطلقة، وبالتالي تندرج تحت تصنيف الفئات المستحقة للدعم النقدي، إلا أنها لم تحصل على مساعدة مالية منتظمة منذ سبع سنوات كاملة. اقتصر الأمر دائمًا على المساعدات الموسمية، كمنحة الشتاء مرة كل عدة سنوات أو مساعدات غذائية غير منتظمة
منذ وصولها إلى مصر قبل 14 سنة بقيت خدمة وحيدة تتلقاها هالة بانتظام، وهي الرعاية الصحية في كاريتاس ولكنها سرعان ما توقفت، واقتصرت الزيارات الطبية على أبنائها فقط.
وعلى الرغم من كونها مطلقة، وبالتالي تندرج تحت تصنيف الفئات المستحقة للدعم النقدي، إلا أنها لم تحصل على مساعدة مالية منتظمة منذ سبع سنوات كاملة. اقتصر الأمر دائمًا على المساعدات الموسمية، كمنحة الشتاء مرة كل عدة سنوات أو مساعدات غذائية غير منتظمة. الأمر دفعها لأن تقدم طلب لإعادة التوطين في بلد ثالث، لكن قيل لها «لست على قائمة الأولويات».
تعمل هالة كاشير في أحد المطاعم في منطقة سكنها، تقول «لما انقطعت المساعدات صرنا بدنا نشتغل، مجبورين نلاقي شغل مناسب لأطعم الولاد»، غير أن ساعات العمل الممتدة منعتها حتى من تجديد إقامتها، بسبب قوائم الانتظار الطويلة، واستحالة الاستغناء عن أكثر من يوم عمل واحد لإنهاء المعاملات.
وفقا لبيانات المفوضية فإنها تدعم حاليًا حوالي 81 ألف فرد بالمساعدة النقدية، ولكن نتيجة للموارد المحدودة، سيتم استبعاد ما يقارب 2,000 أسرة (6,000 فرد) من البرنامج في الأيام القليلة القادمة.
والجدير بالذكر أن هذا التخفيض الأول يستهدف حصلة مالية متواضعة بالأساس لا تتجاوز 2300 جنيه مصري (حوالي 42 دولار أمريكي) لأسرة مكونة من أربعة أفراد.
وبحسب بيانات المفوضية فإنها تعتمد في قرارات الأهلية المتعلقة بالمساعدة النقدية المنتظمة على مصادر متعددة من المعلومات، تشمل البيانات المسجلة والمعلومات التي تم جمعها من خلال مقابلة التقييم، عوامل أخرى مثل الوضع الاقتصادي للأسرة، عدد الأفراد، مكان الإقامة، الحالة الصحية والوظيفية والقدرة على الوصول إلى أنواع أخرى من المساعدات.
وهذه الإجراءات تتشابه مع الإجراءات المتبعة للحصول على المساعدات الغذائية المقدمة من برنامج الغذاء العالمي، وهم من حاولنا التواصل معهم لمعرفة مدى تأثرهم بقرارات وقف التمويل تلك، غير أنهم طلبوا عدم التعليق على المسألة «في الوقت الحالي».
للقصّر معاناة مضاعفة
بعد رحلة طويلة من إريتريا إلى السودان ثم مصر، تتعقّد معاناة سلوى (تم تغير الاسم بناءً على رغبتها) التي وصلت مصر في عام 2023 ولم يكن عمرها يتجاوز 16 عامًا.
طفلة لأسرة أريترية فقيرة تعيش في العاصمة أسمرة، اضطر والديها لإخراجها من التعليم لعدم قدرتهم على سد احتياجات الأسرة، كما أنها تعمل وتساعد في إعالة إخوتها الصغار. وبعد أن تركت سلوى المدرسة وجدت نفسها تستعد للتجنيد داخل صفوف الجيش الإريتري.
ويخضع الشباب في إريتريا من الجنسين إلى «الخدمة الوطنية الإلزامية» عقب سنتين من استقلال البلاد عن أثيوبيا سنة 1993، ومن المفترض أن تقتصر مدة الخدمة العسكرية على 18 شهر، غير أنها في الواقع قد تصل إلى عشر سنوات، مما يضطر موجات كبيرة من الشباب للهجرة خارج البلاد.
ووثقت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير أصدرته في العام 2019 أن استخدام إريتريا للمدارس الثانوية لتوجيه الطلاب إلى الخدمة الحكومية لأجل غير مسمّى، والتجنيد الإلزامي للمعلّمين، يُخضِع الطلاب والمعلّمين للعمل القسري والانتهاكات البدنية.
وفي 2015 رصد تقرير رسمي للأمم المتحدة أن من بين انتهاكات حقوق الإنسان في إريتريا ما يسمى بالخدمة الوطنية التي يمكن أن تستمر لمدة عشر سنوات أو أكثر، ولا يميز بين الذكر والأنثى، وذكر التقرير أن تلك الخدمة هي أحد الأسباب الرئيسية لفرار آلاف الإريتريين من البلاد على الرغم من المخاطر التي يواجهونها في تلك الرحلات.
دفعها الخوف من التجنيد الإجباري وإمكانية البقاء في صفوف الجيش لسنوات طويلة دون القدرة على إعالة أسرتها، إلى اتخاذ قرار الهروب إلى أقرب دولة مجاورة، وهي السودان، المعروفة بوجود عدد كبير من أبناء جنسيتها. عملت في الخدمة المنزلية وكانت ترسل ما تتقاضاه من أموال إلي أهلها، حتى بدأت الحرب بين قوات الدعم السريع والجيش الوطني السوداني في منتصف 2023، وهنا بدأت فصل جديد من حياتها وخاضت رحلة تهريب أخرى لدخول مصر في نهاية السنة نفسها وعمرها لم يتجاوز 17 عام.
التحقت مجددًا بالعمل في الخدمة المنزلية، لكنها تعرضت، حسب ما روته، للضرب والإهانة على يد أصحاب المنازل. وفي أحد الأيام، تعرّضت لاعتداء جنسي من قبل سمسار كان يتولى توظيف عاملات المنازل
دخلت البلاد عبر مدينة أسوان دون أن تملك أي مبالغ مالية، وعاشت أوضاعًا معيشية صعبة، قبل أن تتمكن من الانتقال إلى القاهرة. هناك، سجّلت نفسها لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وبوصفها قاصرًا غير مصحوبة، حصلت على مساعدة مالية شهرية ودعم غذائي مكّنها من دفع إيجار السكن، وبدأت في البحث عن عمل.
التحقت مجددًا بالعمل في الخدمة المنزلية، لكنها تعرضت، حسب ما روته، للضرب والإهانة على يد أصحاب المنازل. وفي أحد الأيام، تعرّضت لاعتداء جنسي من قبل سمسار كان يتولى توظيف عاملات المنازل.
تتحدث بلهجة تمزج بين السودانية والمصرية، وتبكي كلما استرجعت ما مرت به، تقول: «أنا زعلت لما سبت المدرسة، بس المهم إني أشتغل وأبعت فلوس لأهلي وبس».
بعد تعرضها للاغتصاب، فتحت كل من منظمة «كاريتاس» وهيئة «إنقاذ الطفولة» ملفًا صحيًا لها. أُحيلت إلى المستشفى حيث أُجريت لها الفحوصات الطبية اللازمة، وتم توكيل محام للدفاع عنها، كما بدأت في تلقي جلسات علاج نفسي وخدمات صحية أخرى.
لكن في مارس/ أذار الماضي، توقفت جميع أشكال الدعم، بعد وعدٍ بتحويل ملفها إلى جهة أخرى لاستكمال العلاج، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. ومع بلوغها سن 18 قبل شهرين، توقفت أيضًا المساعدات المالية التي كانت تتلقاها.
خلال هذه الفترة، حصلت سلوى على تدريب مهني في تصفيف الشعر، وهي الآن تبحث عن فرصة عمل في هذا المجال، مؤكدة أنها لا ترغب في العودة إلى العمل في الخدمة المنزلية مرة أخرى.
وفي مقابلة معنا، قال مدير مشروع الصحة بهيئة إنقاذ الطفولة في القاهرة، عمر النعمان، إن الهيئة تقدم خدمات صحية للاجئين وطالبي اللجوء المسجلين لدى مفوضية الأمم المتحدة، بمختلف فئاتهم العمرية، أطفالًا وكبارًا.
وأوضح أن أزمة نقص التمويل بدأت مع اندلاع الأزمة السودانية الأخيرة، ففي عام 2023، كان عدد المستفيدين من الخدمات الصحية يتراوح بين 270 و290 ألف لاجئ وطالب لجوء، وكان التمويل حينها كافيًا لتلبية احتياجاتهم. لكن مع تزايد أعداد الوافدين المسجلين في فترة زمنية قصيرة، أصبح التمويل غير كافٍ لتغطية الطلب المتزايد، مما وضع ضغطًا كبيرًا على الهيئة.
وأضاف أن الهيئة تخدم الآن حوالي 7000 حالة سنويًا، بنفس ميزانية السنوات الماضية، بل وأقل في بعض الأحيان.
وأشار إلى أنه بعد تعليق التمويل الأمريكي، اضطرت المفوضية إلى تقليص خدماتها الصحية، وقصرها على الحالات الطارئة فقط، مثل خدمات الطوارئ، العناية المركزة، الحضّانات، والجلطات. وتغطي هذه الخدمات حاليًا ما لا يزيد عن 500 حالة شهريًا.
كما أشار إلى أن مشروع الرعاية الصحية الأولية، الذي كان يوفر خدمات أساسية للاجئين، قد توقف تمامًا منذ يناير الماضي نتيجة غياب التمويل الكافي.
وأوضح النعمان أن العديد من الخدمات الصحية الضرورية قد توقفت بالكامل، بما في ذلك العمليات الجراحية، والعلاجات الكيميائية والإشعاعية، والعلاج للأمراض المزمنة وعمليات القلب. كما أشار إلى أن خدمات علاج الفشل الكلوي كانت قد توقفت منذ ثلاث سنوات، مضيفًا أن الهيئة تحتفظ بقاعدة بيانات تضم هذه الحالات، بهدف مراجعتها وإعادة النظر فيها في حال توفر أي تمويل في المستقبل.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
«كل ما أحتاجه هو الدعم النفسي»
لم يقتصر تأثير تجميد المساعدات الأمريكية لوكالات الأمم المتحدة على الخدمات الصحية الأولية فقط، بل امتد ليشمل خدمات الصحة النفسية والحماية، التي كانت تقدمها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
هناء، اسم مستعار بناءً على رغبتها، لاجئة أربعينية من السودان، وصلت إلى مصر منتصف 2023، هاربة من الحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع قبل أسابيع. فقدت زوجها وابنها، الذي لم يتم عامه الثالث، خلال الحرب.
وصلت هناء إلي مصر هي وشقيقها وأولاده وزوجته والدتها، ثم لحقت بها شقيقتها وابنها وابنتها، التي تعاني من الإعاقة الجسدية. اضطرت الأسرة إلى الفرار من حي الدروشاب في بحري شمال الخرطوم، بعد تصاعد حدة القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في المنطقة التي تضم منشآت عسكرية عدة.
تروي هناء أن المشهد الذي لا يغيب عن بالها عندما حاصرتهم النيران من كل الاتجاهات، وأطاحت بأجزاء من البيت الذي جمع عائلتها، وأدت إلى مقتل والدها وزوجها، بينما أصيب ابنها وكان عمره لم يتجاوز العامين، حاولت إنقاذه ولكن لم تجد مستشفي متاحة لعلاجه، حاولت إسعافه لأيام، وفي النهاية لحق بوالده وجده.
قبل الحرب، كانت هناء موظفة في شركة كبيرة في السودان، وتتمتع هي وعائلتها بوضع مادي جيد. لم تكن قد زارت مصر من قبل، لكنها اضطرت للمغادرة بسبب الخطر المحدق. وبعد أيام قليلة من وصولها، أصيبت شقيقتها وزوجها بجروح خطيرة، وانهار منزلهم بالكامل، فاضطروا إلى اللحاق بها لتلقي العلاج.
تعيش هناء وأخواتها وأمها وأبناء أخواتها في شقة واحدة في منطقة أرض اللواء بمحافظة الجيزة.
فور وصول هناء وعائلتها إلي مصر حصلوا على بطاقة طالب لجوء، ما مكّنهم من الحصول على إقامة قانونية ومساعدات غذائية من برنامج الأغذية العالمي بقيمة 750 جنيهًا للفرد (حوالي 14 دولار أمريكي)، أي ما مجموعه 6000 جنيه شهريًا (حوالي 115 دولار أمريكي)، ساعدتهم مؤقتًا في دفع الإيجار وشراء الطعام، إلى أن نفدت مدخراتهم مع استمرار اللجوء.
تقدمت هناء بطلب للمفوضية للحصول على جلسات دعم نفسي، وتمت إحالتها إلى منظمة كاريتاس التي أجلت موعدها أكثر من مرة على مدار عام كامل حتى توقفت تمامًا عن تقديم الخدمات الصحية للاجئين، وانتقلت هذه الخدمات إلى مقدم خدمة آخر.
تقول هناء: «أنا بعد الحرب حصلي كل المشاكل الصحية لأن مازال ليا عائلة هناك وبيتعرضوا للضرب وأنا مش عارفه اتعايش مع الوضع، رغم أن مصر أمان ولكن مش وطني أنا مش هنسي منظر الضرب الشديد علينا وبيتنا بقا كوم تراب ولا بنسى لما أبوي وزوجي وابني راحوا… مو قادرة اتقبل الوضع ولا العيشة بدونهم كل اللي محتاجاه دعم نفسي فقط».
ما يزال لهناء ثلاثة أشقاء وخمس شقيقات في السودان. تتواصل معهم متى توفرت الكهرباء وخدمة الإنترنت. أبلغوها أن البنية التحتية هناك منهارة تمامًا، ولا يمكنها العودة رغم تحرير بعض المدن، تقول: «فكرت كتير ارجع ولكن اخواتي بلغوني أن رغم تحرير بعض المدن لكن الخدمات معدومة، وكمان بيتي وبيت أهلي راحوا، حتى الأدوية مش متوفرة، وأخواتي عايشين مهددين».
كانت المفوضية تقدم خدمات الصحة النفسية للاجئين عبر منظمات شريكة، لكن مع توقف هذه الخدمات، بات الضغط كبيرًا على عدد من المؤسسات التي ما زالت تقدم هذه الخدمة بتمويل محدود. إحدى هذه المؤسسات هي «اتجاه» (المؤسسة الاستشارية للشباب والتنمية)، والتي تدير برنامج «سند» لدعم صحة المرأة وتوفير مساحات آمنة للاجئات الناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي.
تقول لنا مديرة «سند»، آلاء صلاح، إنه رغم عدم تأثر تمويل المؤسسة إلا أن هناك تأثير سلبي على المؤسسة وفريقها ومدى كفاءة الخدمات المقدمة، لأنه أصبح علينا تقديم خدمات لأعداد أكبر من طاقة العاملين، وأكبر من التمويل أيضًا.
أوضحت د. آلاء، وهي تعمل طبيبة بالأساس، أن المساحة تقدم خدمات صحية شاملة للنساء والفتيات اللاجئات، تشمل التدخل الطارئ خلال 72 ساعة من الاعتداء الجنسي، المتابعة الطبية والنفسية، خدمات الصحة الإنجابية، تنظيم الأسرة، والدعم النقدي. لكن مع توقف دعم المفوضية، أصبحت المساحة تستقبل حالات خارج اختصاصها وزاد العبء عليها.
منذ فبراير/ شباط الماضي، بدأت «سند» تتعامل مع حالات عنف واعتداءات جنسية ضد الأطفال من الجنسين، وهي فئة لم يكن لديها خبرة مسبقة للتعامل معها. ونتيجة توقف الدعم من منظمات شريكة، أصبحت المساحة ملزمة بتوفير أدوية شهرية لمرضى مزمنين.
شرحت آلاء آلية عمل المساحة، فقالت إن المساحة الآمنة كانت تحيل الحالات التي تحتاج إلى الحجز داخل مستشفى صحة نفسية وتحتاج رعاية متقدمة إلى المفوضية ومنظمات أخرى لديها تعاقدات مع مستشفيات صحة نفسية، ويمكنهم التكفل بالحالة ماديًا وفقًا لما لديهم من تمويل، ولكن حاليًا أصبحت المساحة مضطرة للبحث عن مستشفيات أو حلول بديلة، وفي كثير من الأحيان يقفوا عاجزين على حد قولها.
تضيف آلاء: «في شهر مارس وقفنا أمام حالة تحتاج للحجز في مستشفى صحة نفسية بشكل عاجل نظرًا لإصابتها بمرض نفسي قد يتسبب في أذى لنفسها، فتواصلنا مع كل المنظمات اللي ليهم شبكة علاقات مع مستشفيات الصحة النفسية ومع الأسف مفيش منظمة قبلت الحالة لأن مفيش فلوس لمتابعة حجز الحالة وعلاجها، وساعتها حسينا أن إيدنا متقيدة و اضطرينا الإستعانة بطبيب نفسي يحاول يساعدنا».
وأضافت أن إحدى الخدمات التي توقفت أيضًا هي الدعم المالي المستمر للعائلات المستفيدة من خدمات المفوضية، وكذلك الدعم الغذائي من برنامج الأغذية العالمي. وأكدت أن الضغط على المساحة تضاعف، في وقت لا يمكنها فيه سوى تقديم مساعدات مالية مؤقتة لمدة شهرين فقط، حسب التمويل المتاح.
وأشارت إلى تضاعف أعداد الحالات التي تطلب دعمًا نفسيًا خلال الشهرين الماضيين، لكن المؤسسة لا تملك عددًا كافيًا من العاملين المؤهلين للتعامل مع هذا الحجم، وتسعى حاليًا لتوظيف كوادر إضافية.
من جهة أخرى، حاولنا التواصل مع منظمة «مرسال» – الجهة الجديدة المقدمة لخدمات الصحة النفسية بعد توقف كاريتاس – لمعرفة طبيعة الخدمات المتاحة حاليًا للاجئين، إلا أن إدارة المؤسسة امتنعت عن الرد.
جهود سودانية بديلة
في ظل هذا التدهور، ظهرت مبادرات أهلية لمحاولة ملء الفراغ. فاطيمة إدريس، المديرة التنفيذية للمجلس المصري متعدد الثقافات (تضامن)، وهي خبيرة في شؤون اللاجئين منذ 24 عامًا، أكدت أن الأزمة الحالية هي الأكبر منذ سنوات.
وأشارت إدريس إلى أن زيادة الصراعات المسلحة في المنطقة العربية، وارتفاع حدة الصراعات في السودان واستمرار سوء الأوضاع في اليمن، كانت سببًا مباشرًا في شُح المواد، غير أن بعد قرارات ترامب بوقف التمويل، بات الأمر وكأنه «ضربة قاضية لخدمات اللاجئين».
أوضحت فاطيمة أنها تتلقى يوميًا عشرات الاتصالات من لاجئين، مسجلين وغير مسجلين، يبحثون عن علاج. ومن خلال علاقاتها بالجالية السودانية في مصر، شكلت فرقًا طبية تطوعية من الأطباء السودانيين، لكنهم يواجهون قيودًا قانونية، إذ لا يُسمح لهم بمزاولة المهنة رسميًا في مصر.
لذلك، أطلقت «تضامن» حملات صحية للكشف المجاني تحت مظلة الجمعية، وتشمل تخصصات باطنة ونساء، ويتم تحويل الحالات التي تحتاج إلى تدخل طبي إلى مستشفيات أو عيادات متعاونة بشكل تطوعي.
ولكن ظهرت مشكلة أخرى وهي عدم توافر التمويل اللازم لإجراء التحاليل والأدوية، وبالتالي بدأت في إطلاق حملات للتبرع بالأدوية وجمعها وفرزها من قبل الصيادلة السودانيين، والتأكد من سلامتها قبل تسليمها للحالات، وهذه اللجنة تعمل على كل الجنسيات وتستهدف فتح عيادة يوم واحد في محيط المدارس وأحياء اللاجئين.
وقف فوري.. وحلول غير كافية
تعمل هيئة إنقاذ الطفولة في مصر منذ عام 1982، وتعد شريكًا رئيسيًا للمفوضية في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية للاجئين. لكن قرار وقف التمويل الأمريكي أثّر بشكل مباشر على عملها.
أمنية غمري، مديرة السياسات والحملات والتواصل بهيئة إنقاذ الطفولة- مكتب مصر، أوضحت لنا أن التمويل الأمريكي يمثل 30% من موازنة الهيئة. وتزامنًا مع هذا التوقف، قررت هولندا وألمانيا خفض مساعداتهما التنموية بنسبة 50%، مما تسبب في توقف مفاجئ للعديد من الخدمات.
فتوقف هذا الدعم بين يوم وليلة وبالتالي أوقفنا بشكل مفاجئ كل الخدمات التي كانت تمول من هذا التمويل، عدد المستفيدين الذي انقطع عنهم الدعم 45 الف مستفيد سواء أطفال وأسر مصريين ولاجئين.
القرار وصلنا يوم الخميس الساعة 11 بالليل، وتم تنفيذه فورًا. فجأة اتوقف الدعم عن 45 ألف مستفيد، أطفال وأسر، مصريين ولاجئين. دي أول مرة يحصل وقف فوري مفاجئ كده بدون تمهيد
وأضافت: «القرار وصلنا يوم الخميس الساعة 11 بالليل، وتم تنفيذه فورًا. فجأة اتوقف الدعم عن 45 ألف مستفيد، أطفال وأسر، مصريين ولاجئين. دي أول مرة يحصل وقف فوري مفاجئ كده بدون تمهيد»، موضحة أن الهيئة بدأت حصر الأطفال المتضررين في مصر بالتعاون مع الشركاء، ومحاولة إيجاد مصادر تمويل بديلة، مؤكدة أن المكتب لم يتوقف عن العمل بفضل تنوع مصادره، ومنها تمويلات من أوروبا وكندا ودول خليجية.
في محاولة لفهم مدى تأثير أزمة التمويل أرسلنا مجموعة من الأسئلة إلى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وجاء الرد من كريستين بشاي، مسؤولة التواصل بالمفوضية في مصر، لتؤكد ما وصفته بأنه «أزمة تمويل حادة».
أشارت إلى أن الولايات المتحدة، كونها أكبر مانح، توقفت عن تقديم المساهمات، كما خفّض ربع كبار المانحين الآخرين تمويلهم لأسباب اقتصادية وسياسية داخلية. وأضافت أن المفوضية كانت تعمل بميزانية سنوية تقارب 5 مليارات دولار، وهي نصف ما تحتاجه فعليًا لتغطية البرامج الأساسية، في وقت بلغ فيه عدد اللاجئين والنازحين عالميًا نحو 120 مليون شخص.
في مصر وحدها، يوجد ما يقارب مليون لاجئ وطالب لجوء، بينهم أكثر من 300 ألف في انتظار التسجيل كلاجئين، باتوا مهددين بانقطاع الخدمات الأساسية. وأكدت بشاي أن اللاجئين السودانيين هم الأكثر تضررًا، لاعتمادهم الكامل على الدعم الإنساني في ظل انهيار النظام الصحي ببلادهم، تضيف: «بسبب نقص التمويل، اضطررنا لتعليق عدد من الخدمات الأساسية، منها الأدوية، والمأوى، والغذاء، والصرف الصحي، ودعم الأطفال والنساء، وخدمات التوثيق والتعليم والمساعدات النقدية».
وكانت المفوضية وضعت خطة تقشف شاملة تشمل تقليص النفقات غير الأساسية، وتجميد التوظيف والسفر، ومراجعة الهيكل الجغرافي، إلى جانب تعزيز الشراكة مع الحكومات، ومنها مصر. لكنه بحسب بشاي فإن هذه الخطط تظل مؤقتة، ولا تغني عن الحاجة إلى تمويل عاجل لسد الفجوة الكبيرة، التي تهدد حياة اللاجئين، خاصة أولئك الذين يحتاجون علاجًا نفسيًا أو أدوية للأمراض المزمنة أو تدخلات جراحية باهظة.