خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

مصيدة أمريكية لحصد الغزيين

بين الانتظار الطويل والموت المفاجئ، هناك ما هو أكبر من الحاجة إلى الغذاء، هناك شعور متكرر بالإهمال، التخلي، الإهانة، العجز أمام نظام لا يُرى، لكنه يتحكم بمن يأكل، ومن لا يأكل، وماذا يأكل وإلى أي حد
ــــــــ المـكـان
23 يونيو 2025

في غزة، لا تتعلّق المجاعة فقط بنقص الطعام، بل بما يعنيه أن تقف لساعات في حشود بلا نهاية، بين مئات الوجوه المتعبة، لتكتشف في النهاية أن حصتك انتهت قبل أن يأتي دورك، وأن ترى أمًا تعود إلى خيمتها خالية اليدين، تحاول أن تُقنع أبنائها أن الأرز لم يكن متوفرًا، وليس أن أحدًا سحبه من يدها تحت تهديد السلاح.

المساعدات الشحيحة التي تصل هنا لا تسدّ جوعًا فحسب، بل تختبر كرامة، ففي كل نقطة توزيع، تختلط أصوات الصراخ برائحة الخبز اليابس، ويصبح الحصول على كرتونة طعام معركة بين البقاء والانكسار، بين الانتظار الطويل والموت المفاجئ. وفي كل مشهد، هناك ما هو أكبر من الحاجة إلى الغذاء، هناك شعور متكرر بالإهمال، التخلي، الإهانة، العجز أمام نظام لا يُرى، لكنه يتحكم بمن يأكل، ومن لا يأكل، وماذا يأكل وإلى أي حد.

في ظل المجاعة التي تضرب قطاع غزة بفعل حرب الإبادة عليه،  تتراكم مشاهد التزاحم حول مراكز توزيع  المساعدات، فيظهر مشروع «مؤسسة غزة الإنسانية» بوصفه الوجه الظاهري لمبادرة دولية جديدة لتقديم المساعدات لسكان القطاع، فهذه المؤسسة التي تأسست مطلع عام 2025  ومقرها الولايات المتحدة، جاءت  كما يدعون  لملء الفراغ الناتج عن تراجع دور الأمم المتحدة، وكي لا تصل المساعدات إلى أيدي حركة حماس، لكن خلف هذه الصيغة المقنعة، تقف عملية هندسة تجويع ممنهجة، تشرف عليها شركتان أمريكيتان خاصتان:  Safe Reach Solutions SRS و UG Solutions ، تقودان نموذجًا جديدًا للمساعدات يبدو في حقيقته تنويعًا على أشكال مختلفة للإبادة.

فكرة المبادرة لم تكن وليدة اللحظة، بل بدأت ملامحها تتبلور منذ أواخر عام  2023،  بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها الفصائل الفلسطينية، وما تلاها من حرب عنيفة، فشرعت تل أبيب  بتنسيق مكثف مع جهات أمريكية  في تجاوز المنظمات الدولية، لصالح تفويض المهمة لشركات خاصة أمريكية مدعومة سياسيًا وعسكريًا من الولايات المتحدة وإسرائيل، وتعمل تحت مسميات إنسانية.

يقود المشروع فيليب ريلي، الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية  CIA، وأحد أول ضباط الاستخبارات الذين أرسلتهم الولايات المتحدة إلى أفغانستان عقب هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، وظهر مؤخرًا في فيلم دعائي أميركي على منصة «نيتفليكس» عن تعقّب أسامة بن لادن.

تولّى ريلي، كمدير تنقيذي لـ SRS مع فريقه  الذي يضم مخططين عسكريين وضباط استخبارات سابقين،  تصميم البنية اللوجستية للمشروع بالتعاون مع رجال أعمال إسرائيليين، وقد جمعت شركته  SRS  في غضون أيام أكثر من ألف شخص، معظمهم من المحاربين القدامى في الجيش الأمريكي، ونشرتهم في مواقع عدة أهمها محور نتساريم، وأما الشركة الثانية،  UG Solutions،  فيديرها جيمس جيوفاني، الجندي السابق في القوات الخاصة الأمريكية، والمدعوم من الحكومة الإسرائيلية مباشرة.

ولكن المبادرة، رغم غلافها الإنساني، أثارت تحذيرات واسعة من منظمات الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة، التي رأت فيها آلية لفرض مسارات نزوح قسري، لا سيما أن توزيع المساعدات يتركز في مناطق محاصرة وخطيرة في جنوب القطاع، مما يجبر المدنيين على الانتقال جنوبًا، بعيدًا عن الشمال الذي بات مهددًا بالاحتلال الدائم.

فالمشروع بحسب مراقبين، ليس سوى واجهة لعملية عسكرية غير مباشرة، هدفها فصل السكان عن حركة حماس، وخلق اعتماد كامل على مراكز توزيع تديرها جهات أمريكية تحت حماية الجيش الإسرائيلي، فهذه الخطة تأتي ضمن جهود الاحتلال لإعادة تشكيل الخريطة السكانية والسياسية للقطاع، وتوفير غطاء سياسي لاستمرار العمليات العسكرية، عبر تقديم نموذج يبدو إنسانيًا، لكنه يعمل عمليًا على تفكيك البنية المجتمعية للسكان المحاصرين، والتمهيد لنقلهم طوعًا أو قسرًا خارج حدود القطاع.

القنّاص يراقبك دائمًا

في 26  مايو/ أيار  2025،  بدأت عمليات توزيع المساعدات في أربع مراكز، ثلاثة منها في مخيم تل السلطان قرب ممر موراج في رفح، ومركز رابع على ممر نتساريم. ورغم أن هذه المراكز قُدمت على أنها بوابات إنسانية لتخفيف معاناة السكان، إلا أنها تحولت بسرعة إلى نقاط خطر ومواقع موت. ففي الأيام الأولى، تردد كثير من السكان في التوجه إليها، خوفًا من القتل أو الاعتقال، لكن الجوع كان أقوى من الخوف. هكذا اندفع الناس في رفح بعشوائية نحو المساعدات، وسط غياب مقصود للتنظيم، تلى ذلك إطلاق الجيش الإسرائيلي النار عليهم، فسقط العشرات بين شهيد وجريح.

يتكرر المشهد يوميًا في باقي النقاط، حتى اقترن الحصول على المساعدة دائمًا بالقتل والقنص والقصف المتعمد.

وفقًا لبيانات الصليب الأحمر، فقد استقبل مستشفاه الميداني في رفح خلال الفترة من  1  إلى  8  يونيو/ حزيران  2025،  أعدادًا غير مسبوقة من الإصابات الجماعية، معظمها لأشخاص كانوا يحاولون الوصول إلى مواقع توزيع المساعدات، حيث استقبل المستشفى في  1 يونيو/ حزيران  179  مصابًا و 21  وفاة، وفي اليوم الثالث 184  مصابًا و 27  وفاة، منهم  19  عند الوصول و 8  توفوا لاحقًا، فيما بلغ إجمالي الإصابات خلال الأسبوعين السابقين حتى  8  يونيو/ حزيران  916  إصابة و 41  وفاة، ما يعكس تصاعدًا خطيرًا في استهداف المدنيين وتدهورًا حادًا في الوضع الإنساني والصحي في القطاع. وحسب بيانات الإعلام الحكومي بغزة يقول إن عدد الشهداء الذين وصلوا المستشفيات من مراكز المساعدات وصل 127 شهيدًا لغاية العاشر من حزيران، وفي الأيام التالية استمرت وتيرة قتل منتظري المساعدات بمعدل يومي يتجاوز العشرين شهيدًا.

من قلب المشهد، يروي أبو زاهر الأقرع، وهو من سكان النصيرات، تجربته في محاولة الحصول على المساعدات: «في البداية كنت أرفض تمامًا الذهاب لمركز نيتساريم، كنت أرى كيف يقف هناك جنود وموظفون مسلحون، شعرت أني أفضّل الموت على أن أتعرض للإهانة أو القتل، لكن جوع أطفالي قهرني. بعد أيام، خرجت من البيت منتصف الليل، وتجمعت مع الناس على شارع صلاح الدين عند مدخل مخيم البريج، ننتظر فتح المركز، مع أن الجميع يعرف أن بوابة المركز لا تفتح قبل السادسة صباحًا».

قال له عمه: «نحن مكشوفون، الرصاص يمر من حولنا، القذائف تضرب كل مكان، علينا أن ننتظر»، لكن الرد كان صادمًا: «ننتظر؟! الحل أن نتجمّع 50 أو 60 شخصًا، نرفع أيدينا ونركض نحو الحاجز. إذا متنا، فأنت وحظك»

يكمل أبو زاهر: «خرجنا قبل الفجر وبدأنا نسير تدريجيًا نحو المركز، وصلنا قبل جسر وادي غزة عند الثانية فجرًا، وهناك بدأت الدبابات فجأة بإلقاء القذائف نحونا، ومعها طائرات الكوادكابتر تطلق الرصاص دون توقف. الناس تدافعوا، وسقط من سقط، كثيرون ماتوا سحقًا تحت الأقدام، كنت سأقع لكن رجلًا ضخم أمسك بصدري ورفعني، واصلت المشي حتى رأيت جاري يقول لي: دير بالك، نظرت، فكانت هناك جثة بدون رأس، وفي الجهة الأخرى مصابون ينزفون، ولا أحد يجرؤ على مساعدتهم. فقدت نظارتي، وقطع حذائي، وعدت أجرّ خيبتي، لا طعام لأولادي، ولا كرامة بقيت لي».

«كنت قد عزمت النية على الذهاب إلى مركز توزيع المساعدات في نيتساريم، أبحث عن سلة غذائية تسد رمق أولادي»، هكذا بدأ أحمد جميل حديثه عن  واحدة من أقسى لحظات حياته بعد 20 شهر من حرب الإبادة المفتوحة.

لم يكن أحمد وحيدًا، فقد رافقه ابن أخيه أحمد، طالب متفوّق في الثانوية العامة، بات المعيل الوحيد لأسرته بعد مقتل والده في الحرب. انطلقا من منزلهما في منتصف الليل، في محاولة لتجاوز الزحام والوصول مبكرًا. وبعد ساعة من المشي، وصلا إلى مدخل النصيرات، لكنهما وجدا أن الآلاف قد سبقوهم، بعضهم يفترش الأرض، وآخرون يتهامسون بتحذيرات مرعبة: «اخفض رأسك. لا تتحرك. هناك قنّاص يطلق النار على أي شيئ».

ابن الأخ قال لعمه: «دعنا نكمل، هؤلاء يأتون كل يوم ولا يحصلون على شيء». تقدما نحو مدخل البريج، ليواجها مشهدًا أكثر رعبًا، حيث بدأ القنص المباشر وشوهدت جثث الشهداء على الطريق. رغم الخوف المتصاعد، أصرّ الشاب على المضي حتى محطة وقود «أبو حجير». قال له عمه: «نحن مكشوفون، الرصاص يمر من حولنا، القذائف تضرب كل مكان، علينا أن ننتظر»، لكن الرد كان صادمًا: «ننتظر؟! الحل أن نتجمّع 50 أو 60 شخصًا، نرفع أيدينا ونركض نحو الحاجز. إذا متنا، فأنت وحظك».

جلسوا عشرين دقيقة في ترقّب. اجتمع خمسون شخصًا، بينهم خمس فتيات، شكلوا جميعًا كما وصف أحمد «عيّنة اختبار» تحت أنظار مئات المراقبين. قرأوا الشهادة، واستجمعوا ما تبقى من شجاعة… ثم انطلقوا.

لم تمضِ لحظات حتى انهمر الرصاص. قال أحمد لاحقًا: «أجسادنا انكشفت تحت الأضواء، وبدأت المأساةجثث بلا رؤوس، وآخرون يصرخون من الألم. زحفت بين الجثث حتى وصلت إلى بيت مهدّم، منه هرولت، حاملاً الخيبة، وأسأل نفسي: كيلو طحين مقابل حياتي؟».

غنائم الفوضى

منذ اندلاع الحرب في غزة، وفي الأوقات النادرة التي سمح فيها الاحتلال بوجود مراكز للمساعدات الإنسانية، كانت هذه الأخيرة دائمًا ما تتحول إلى ساحة للفوضى والموت الإضافي، تدار بمنطق الغلبة وليس الحاجة، وتخفت جهود الجهات الطبيعية وتبرز سلطة ميليشيات جديدة، بعضها يحمل أسماء عائلات وعشائر نافذة.

وكُشف في الأيام الماضية عن تأسيس ميليشيا محلية في رفح، ساهم في تسليحها الاحتلال نفسه بمساعدة «دولة عربية» غير معلنة، مهمتها الأساسية معاونة قوات الاحتلال، خاصة المستعربين، وكذلك سرقة المساعدات وتقطيع أوصال القطاع. وقُدمت تلك الميليشيا في سياق التجارب الإسرائيلية للإدارة المدنية للقطاع.

هذه المجموعات، التي برزت تحت أعين الاحتلال ورعايته، استولت على مفاصل التوزيع، وجعلت من المعونات الدولية غنيمة حرب، ومن الجوعى ضحايا للابتزاز والإهانة. في كل زاوية، مشهد يُثير الغضب. لا طوابير منتظمة، بل تدافع وسكاكين وشتائم. «كأننا في مشهد من فيلم عن نهاية العالم»، على حد وصف أحد الشهود.

عامر أبو علي، نازح من غزة إلى دير البلح، يحكي تجربته بكلمات تنطق بالغضب:

«عند مدخل مركز المساعدات الأمريكي، أول ما تشوفه شباب شايلين سكاكين. مش بس يفتحوا فيها الكراتين، لكن يسرقوا السكر والطحين والزيت. كيلو سكر بـ60 دولار، الزيت بـ30! واللي يحتج، مصيره طعنة أو إهانة».

ويتابع: «الناس تطلع من المركز خائفة، شايلة كرتونتها بيد وسكينة باليد الثانية. حتى النساء لم يسلمن. شفت شاب يسرق كرتونة من امرأة، ولما تمسكت فيها، ضربها بأداة حديدية على وجهها».

كل يوم أبنائي يطلبون مني الذهاب معهم للمساعدات، أرفض. لا أريد أن أُذل. شاهدت فيلمًا قبل الحرب، عن أشخاص يُلقى بهم في غابة ليتصارعوا على الطعام، القوي يأكل والضعيف يُقتل… ما نعيشه اليوم يشبهه تمامًا

قصص النهب تتكرر بلا رادع وتحت أعين الشركة الأمريكية نفسها. محمود شريف يروي: «خرجنا من المركز، رأينا شابًا يحمل كيس مساعدات، وخلفه مجموعة تتحرك بخفة. في لحظة، ركلوه أرضًا، واختفى الكيس. تفرّقوا كأن شيئًا لم يكن».

يؤكد أشرف محمد نفس الوقائع: «شاب كان يحمي كرتونته بجسده، لكن ثلاثة أحاطوا به، أحدهم لوّح بسكين وقال له: اتركها وإلا… فتركها، ومشى باكيًا».

لم ينتهي كابوس أشرف مع سرقة ما استطاع الحصول عليه، لكن حتى العودة خالي الوفاض كانت محفوفة بالمخاطر: «في طريق عودتنا من نتساريم، اعترضتنا جماعات مسلحة، سرقوا كل شيء. من بعدها صرنا نسلك طرقًا جانبية عبر البريج أو المغازي، تفاديًا للخطر».

لم يعد الجوع هو التهديد الوحيد، بل إن الفرصة النادرة للحصول على رغيف الخبز باتت هي نفسها الكمين.

فاطمة حسين، أم لخمسة أطفال، تقول: «كل يوم أبنائي يطلبون مني الذهاب معهم للمساعدات، أرفض. لا أريد أن أُذل. شاهدت فيلمًا قبل الحرب، عن أشخاص يُلقى بهم في غابة ليتصارعوا على الطعام، القوي يأكل والضعيف يُقتل… ما نعيشه اليوم يشبهه تمامًا».

وفي دير البلح، تجلس اعتماد زايد، أم لسبعة  أبناء، في منزلها المتهدّم، وتقول بصوت خافت: «صار لنا يومين نعيش على شاي وخبز يابس، لكن لا أقدر أروح. بنتي راحت مرة، رجعت تبكيالطحين ما يكون بوابة للذل. أعيش بلا أكل، بس ما أعيش بلا كرامة».

رفض أممي عاجز

الجوع لم يعد خطرًا مستقبليًا، بل واقع ينهش الحياة، وفي هذا السياق، حذر رئيس شبكة المنظمات الأهلية في غزة، أمجد الشوا، من أن القطاع يمر بمرحلة متقدمة من الجوع والعطش، نتيجة تدمير البنية التحتية وحرمان السكان من الوصول إلى المواد الأساسية.

واعتبر الشوا أن ما يُروّج له من عمليات توزيع مساعدات إنسانية ما هو إلا غطاء لإستراتيجية تهدف إلى تهجير السكان، مؤكدًا أن إقامة نقاط عسكرية لتوزيع المساعدات لا تهدف إلى إنقاذ المدنيين، بل إلى دفعهم للنزوح تحت ضغط الجوع واليأس. وأوضح أن آلية توزيع المساعدات تتم غالبًا عبر نقاط يسيطر عليها الاحتلال أو تديرها شركات أمنية خاصة، حيث يُجبر السكان على التجمهر في مناطق مكشوفة ومهددة بالخطر للحصول على كميات محدودة من الطعام والماء، وتتحول هذه النقاط في كثير من الأحيان إلى ساحات فوضى وسقوط ضحايا، ما يعكس الطريقة العسكرية التي تُدار بها عمليات الإغاثة بدلًا من النهج الإنساني المفترض.

وأضاف أن هذا النهج يندرج ضمن سياسة ممنهجة للتجويع والضغط، تستخدم فيها المساعدات كسلاح لدفع السكان نحو النزوح القسري جنوبًا أو إلى خارج القطاع.

من جهته، وجّه ينس ليرك، المتحدث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، انتقادًا واضحًا لآلية توزيع المساعدات التي تديرها مؤسسة «غزة الإنسانية». واعتبر أن هذه الخطة تشتّت الجهود الفعلية المطلوبة، وأبرزها إعادة فتح المعابر وتأمين ممرات آمنة داخل القطاع، لتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية بفعالية.

كما عبّرت كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، عن قلقها من محاولات تحويل المساعدات الإنسانية إلى أداة ضغط سياسي، محذّرة من أن تجاوز دور الأمم المتحدة في هذه العملية يُقوّض مبادئ الحياد والاستقلالية التي يفترض أن تحكم العمل الإنساني.

وفي موقف صريح، وصف عدنان أبو حسنة، المستشار الإعلامي لوكالة الأونروا، الآلية الحالية – التي تدار بتنسيق أمريكي إسرائيلي – بأنها خطة محكوم عليها بالفشل من الأساس. وأشار إلى أن هذه الخطة تنتهك القانون الدولي الإنساني، وتعرض أرواح المدنيين للخطر، في وقت تتسع فيه رقعة المجاعة يومًا بعد يوم.

وأضاف أبو حسنة أن تقليص عدد مراكز التوزيع من نحو 400 مركز إلى أربع نقاط فقط يشكل كارثة إنسانية، ويُجبر آلاف المدنيين على قطع مسافات طويلة للوصول إلى المساعدات، في ظروف غير آمنة. واعتبر أن هذا النهج يُخالف بوضوح مبادئ اتفاقية جنيف الرابعة، من حيث عدالة التوزيع واستقلاليته.

وأشار أيضًا إلى خطورة إقحام عناصر أمنية غير مدرّبة واستخدام تقنيات معقّدة مثل البصمة والتعرف على الوجوه، معتبرًا أن هذه الأساليب لا تنتمي إلى بيئة العمل الإنساني، بل تزيد من تعقيد الأزمة وتعميق فقدان الثقة.

وشدد أبو حسنة على أن العودة إلى المنظومة الأممية هي الخيار الوحيد لتفادي انهيار الوضع الإنساني في القطاع، مؤكدًا أن الأونروا تمتلك الخبرة والبنية التحتية والكادر البشري القادر على إدارة عملية التوزيع بشفافية وعدالة.

وفي ردّه على الاتهامات الإسرائيلية بشأن استيلاء حركة حماس على المساعدات، رفض أبو حسنة هذه الادعاءات بشكل قاطع، مؤكدًا أن إسرائيل لم تقدم أي دليل، ولم تُسجل أي واقعة من هذا النوع في مخازن الأونروا. وأضاف أن الوكالة ملتزمة بالشفافية الكاملة، وستتخذ موقفًا علنيًا إذا حدث أي خرق حقيقي، مشيرًا إلى ضرورة وجود ضغط دولي متصاعد لمراجعة الآلية الحالية، لأن تجاوز الأمم المتحدة، برأيه، لن يؤدي إلا إلى مفاقمة الكارثة الإنسانية في غزة.

ما يجري في غزة اليوم يتجاوز إطار الأزمة الإنسانية التقليدية؛ فالمساعدات لم تعد أداة نجاة، بل تحوّلت إلى وسيلة تحكّم سياسي وأمني، تُدار بمنطق السيطرة والتصفية الجسدية الجماعية.

في الوقت الذي ينتظر فيه السكان ساعات طويلة للحصول على كيس دقيق أو علبة طعام، تتكدّس المساعدات خلف الأسلاك الشائكة، تحت رقابة الكاميرات وأوامر الجنود، وكأنها جزء من منظومة عسكرية لا عملية إغاثة.

المشهد لا يبدو عشوائيًا، بل يُدار بحسابات دقيقة: من قنص المتجمهرين على الحواجز، إلى فوضى التوزيع التي تزرع الرعب أكثر مما توزع الأمل، وصولًا إلى آليات تقنية معقدة تديرها شركات خاصة أجنبية، في مشهد يبدو فيه أن الجوع أُعيد تصميمه ليصبح وسيلة ضغط وليس مجرد نتيجة حرب.