في المرات التي كنتُ أدون فيها ما يحدث حولي، لم أكن أسرد الذاكرة والذكريات فقط، بل ما كنتُ أحاول فعله على مدار 739 يومًا من الإبادة هو أن أنجو بالصوت الذي في داخلي. وهو ما أعرّف به نفسي والآخرين حين يطلب مني تعريف بسيط عني باعتباري كاتبة تعيش الإبادة، فأقول: “أحاول النجاة”،، لكنني لا أعرف هل هي نجاة فعلية، أم فقط محاولات للعيش.
ولربما بالنسبة لي محاولات النجاة لا تعني النجاة الجسدية داخل حيز يُصهر يوميًا بالآلات الحربية والمتفجرات والطيران، لتصبح المحاولات مرهونة بعامل “الزمان”، هذا الزمان المرتبط بشكل جذري بـ”المكان”الذي أُباد فيه. إنما النجاة هنا مرهونة بـ”نجاة القصة”، وهذا ما أقوله دومًا لنفسي وللعالم: “إن لم أنجُ فلتنجُ قصتي وقصة كل من حولي”. لتنجو تلك الذكريات ولو بذاكرة مشوهة، ذاكرة تحاول إعادة ترميم ما تبقى من البلاد، تحاول إعادة بناء السرديات، في القصص المجمّعة، وفي النصوص المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، ذاك “الفضاء الرقمي”.
ولا أعرف لماذا أريد لقصتي أن تنجو؟ لربما كي لا أُقتل مرتين؛ الأولى في مكان الإبادة، والثانية في الحكاية التي تكبر مع الزمان.
في الإبادة كان العامل الأول الذي يتجسد في النص هو “المكان”؛ البيت، رسائل الإخلاء، النزوح الأول إلى الجنوب، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، ثم العودة إلى الشمال… نزوح أول، ثانٍ، واستقرار جزئي في الثالث… والخوف الدائم من الإخلاء؛ إخلاء… منشورات حمراء تسقط فوق ما تبقى من أسقف المنازل، مسيرة الـ”كواد كابتر” بصوتها المسجل:”إلى أهالي مخيم الشاطئ الغربي بقاؤكم في الشمال يعرضكم ويعرض عائلتكم للخطر”.
شيئًا فشيئًا بدأ “الزمان” يتسلل إلى النص، وكان بدوره يعمل على ترتيب الحكاية وربط الأحداث، بشكل مغاير. وتفاعلي في الحيزين مع الآخرين كان يشكل تقاطع الهوية بشكل أو بآخر، يجعلني أرى انعكاسي في محيطي الاجتماعي وفي تعاملي مع الأفراد من حولي.
تصوير: بيسان نتيل
إلا أن ما نضج مع الوقت وكان سببًا واضحًا لفعل التدوين ومادة له كان “الصوت”. تلك التفاصيل التي لها صوت أعلى من صوت الانفجارات وآلات التدمير تنبت كالعوسج حولي، أشبه بالحوت الكبير أسمعه تحت عمق المحيطات واتصل وجودياً وروحياً معهُ، ورغم أن الصوت بلا شكل محسوس، لكني أشعر به لزجاً، أصفر، دائريّاً، متدفّقاً، متشعّباً كقرصِ الشمس، دافئاً كالرّبيع. قادراً على الاختلاط مع الطبيعة من حوله. متجذرًا يمتد في أعماقي، وأنا أغوص داخل المدينة، أراه حاداً يأخذ بالانسحاب ثم يعود للتدفق فيعصفني خارجاً.
كل واحد من أفراد أسرتنا يرى الصوت بشكل مختلف عني؛ فأمي تعاني من مشاكل بسيطة في السمع -ربما ليست بسيطة جداً- جعلت قدرتها على استيعاب الصوت مغايرة لنا نحن من حولها، فعندما يشتد القصف، ونبدأ في التعرف على صوت الروبوتات تجتاح المكان -وهو “أوحش” (من وحش ووحشية ووحشة وتوحش، وكل تداعيات الأحرف الثلاثة التي أطلقتها هذه الحرب علينا) ما اخترعته البشرية لانتهاك ما تبقى من جسد هذه المدينة-
كانت أمي تقول أنها ترى الصوت ينسحب من جسدها كأنه “يشفط مرة واحدة” ثم يعود للانفجار داخلها وهذا ما دفعها أن تترك منزلنا دون أن تدرك أنها تركتهُ فعلاً، ما أن رأيناها خرجت فجراً إلى منطقة الزوايدة دون حتى أن ترتب حقيبتها.
تشكّل وعيٌ بداخلي بعد رؤية الأحداث، ربما هي البصيرة لا البصر جعلتني أدرك أن العامل المحرك للزمان، والمكان، والإنسان… هو الصوت.
وهذا ما ألحظه في القصص والحكايات التي عملتُ على تدوينها وما أزال..
كان الصوت لا يتوقف عن تعريف نفسه في أكثر أشكاله فجاجة وبساطة في آن: شكل من أشكال الطاقة التي تنتجها اهتزازات المادة، مثل موجات تُدرك عبر السمع لتصل الدماغ البشري حيث تؤول. ومع ذلك، لم يعد ثمة تعريف علمي قادر على الإحاطة بمعناه وكيفية نشأته. هنا بدأ الصوت يأخذ حيزًا في المكان، منتقلاً عبر الأزمان، ومترجمًا في ذهني إلى مجموعة من الأعمال الفنية الموثقة من قبل الفنانين والكتّاب عبر أكثر من سياق. مثل مشروع “كنت بدي احكيلك عن…” عبر راديو “أثير” وهو عمل صوتي مُعاصر من ذاكرة شوارع غزة، عن لحظات لم توثقها الكاميرات ولا الكلمات. استعادة جماعية للذاكرة من خلال قصص شخصية تتقاطع في أزمنة مختلفة وأماكن مختلفة. هذا النسيج من ذاكرتنا عن المكان هو ذاكرة المدينة/الشوارع التي تعرضت للمسح والتدمير خلال الحرب المستمرة منذ أكثر من 180 يوم، ساعة العمل على المشروع.
أو مشروع أكثر قدمًا مثل “Radio Ballads” الذي شارك به المغني والشاعر إيوان ماكول Ewan MacColl وباحث الفلكلور آلان لوماكس Alan Lomax وآخرين في أواخر الخمسينيات حتى منتصف الستينيات وتم العمل فيه على الجمع بين التسجيلات الميدانية للعمال في المصانع والمناجم، والموسيقى الشعبية، والنصوص الشعرية من إيرلندا وإنجلترا.
هل تباد الأصوات أيضًا؟
أول صوت للهجرة في ذاكرتي كان صوتين مختلفين تمامًا عن بعضهما البعض.
جدتي لأمي؛ يسرى التتري، التي هُجّرت من المجدل وهي في العاشرة من عمرها، والتي كانت تخبرنا بتفاصيل هجرتها وكأنها لم تعش من حياتها سوى تلك السنوات العشر والهجرة. الصوت الذي أوقف لعبتها في الحارة مع أختها والجيران كان صوت الطائرات الحربية، وما أخرجها من المجدل مع عائلتها لتبدأ رحلة نزوحها من عسقلان إلى هربيا، ومن هربيا إلى غزة الشجاعية، ومن الشجاعية إلى مخيمات اللجوء، كان صوت البراميل المتفجرة التي كانت تُرمى عليهم من الطائرات الحربية.
وصوتُ المجازر في دير ياسين وما تلاها، والإشاعاتُ بأنهم أصبحوا قريبين إلى الحدِّ الذي يُمكِّنهم من قطع المسافة في وقتٍ قصير، كان سببًا آخر للجوء. تلك الجدةُ، جدتي، التي لم تُكمل تعليمها قرّرت أن تدوّن قصتها بأن تحكيها لنا نحن الأحفاد كلما اجتمعنا في المساءات، لنحفظها عن ظهر قلب.
كانت ممارسةُ جدتي لفعل “الحكي” حياكةً للكلام، فعلَ توثيقٍ واستعادة لصوت الطفلة في داخلها، تلك التي عاشت الكثير. الطفلة التي أنجبت اثني عشر ولدًا، منهم أربع فتيات، وتنقّلت وسافرت إلى الخارج، إلا أن ما تذكره دائمًا هو يسرى بعمر عشر سنوات.
كانت لجدتي ذاكرة قوية ؛ تحفظ بعض الآيات لصلاتها، وتستيقظ فجرًا دون أن تحتاج إلى منبّه، ماتت وهي بصحتها الجيّدة، تستطيع أن تتوضأ عند المغسلة وهي بعمر خمسةٍ وثمانين عامًا.
كنتُ قد اتبعتُ صوتها المتروك هناك في عسقلان “المجدل”، حين كنتُ في زيارتي الثانية لمعرض الكتاب سنة 2023، حيثُ ما وجدته يأخذني إليه. في شوارع المجدل رأيت المسجد الكبير، فتعود إليّ أغانيها وحكاياتها عن مواسم الحجّ لأولياء الله الصالحين. أولئك المتروكون بأجسادهم وحدها، يباركون أيّامهم بالنزول إلى البحر والاغتسال فيه، يغسلون خطاياهم، وتعود أرواحهم أشبه بالقطنة البيضاء، خفيف تحركه الرياح، ، قادرة على ممارسة حياتها العادية.
وأنا كنت هناك بينهم، حيثُ كان صوتها يدلّني عليها، أرى البيوت المتروكة تعرفني وأعرفها “أملاك غائبين”، ونحن الحاضرون هنا بين الروايتين، فُرض علينا الغيابُ قسرًا.
أما صوت جدتي لوالدي؛ عائشة رجب، فكان صامتًا، غير قادر على البوح بتفاصيل الحكاية. وهذا ما جعل القصة تأخذ شكلاً مختلفًا في التدوين؛ تترك لنا الأسئلة معلقة في الصمت دون إجابة: إلى أين ذهبت عائشة، أم لطفلتين قبل التهجير؟! كنتُ أفكر طوال الوقت: كيف يمكن للصمت أن يُسمع تردده؟! كنت أراه في عيني عائشة التي يغلبها الصمت، ولربما غلب عليها طابع “الملل” من إعادة قصّ صمتها في كل مرة! وهذا ما يحدث حين يغلب الحزن حقيقتك: تصمت.
تصوير: بيسان نتيل
خروجي من قطاع غزة إلى جنوب الوادي الذي ادعى الاحتلال أنه “آمن”، كان بسبب “صوت” جندي يقف خلف هاتفه يخبرنا أن المكان الذي نحن فيه قد صُنف منطقة قتال خطيرة. كان هذا الصوت الخشن العريض، المشوب ببعض الخشخشة غير الواضحة، يجعلني أتخيل كيف تحمل يده الخشنة الهاتف، وكيف تخدش أظافره الطويلة أذني وهي تخرج من سماعة الهاتف. حتى أنني رسمته في مخيلتي: وجهه، عينيه، أنفه، أذنيه… أربك كل ما في داخلي.
كان الصوت أعلى من فكرة البقاء، في كل مرة يرن فيها الهاتف ليخبرنا بأمر إخلاء.
صوت الطائرات، قنابل الإنارة، الشظايا التي تقتحم البيت، ورائحة البارود… كل ذلك دفعنا إلى النزوح، عبر خارطة مرسومة من قبل احتلال يجتاح مجال سمعك، يوتّره ويخيفه، ويخلق صراعًا بين البقاء في المكان والخروج منه نحو أمان وهمي رسمه في مربعات مختزلة بأرقام وصمت.
حي السودانية – بالقرب من بيارة المحاربين القدامى – الحي الذي اسكنهُ، اختُزل في رقم جامد لا صوت له، هل للأرقام أصوات؟ ولا أعرف كيف شُطبت أسماء أحياء مدينتنا لتصبح أرقامًا ومربعات حادة الأضلاع؟!
شارع الثورة، شارع فلسطين، شارع ناجي العلي، شارع المجادلة، حي الرمال، الجندي المجهول، السرايا، الساحة، البلدة القديمة، شارع الكونت برنادوت… كل تلك الشوارع، الأصوات، الحكايات، الأسواق، الأفراد في داخلها… أصبحوا أرقامًا.
أرقام، أشبه بِرقم إجمالي لعدد الشهداء، دون خارطة حقيقية تدل على هويته، كيانه، حضوره ووجوده حكايته، ماذا خطر بباله قبل أن يستشهد. ما يقلقني طوال الوقت هو تحوّل كل تلك الأجساد إلى أرقام على مدار الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين وأصواتهم وصمتهم! اختزالنا بـ “كم” لا بـ “كيف”، ولا “ماذا” و”لماذا” و”متى” و”أين” و”إلى أين”.
وقف جدي في طابور اللاجئين حتى أصبح رقماً، عمي يوسف تحوّل جسده في اجتياح بيروت إلى رقم في مقبرة الأرقام. والآن الحي يصبح رقمًا، الشهيد، المفقود… رقم”. وما يثير غضبي في الإخلاءات الجديدة هي الأخبار التي نشرتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية، والتي تكشف تفاصيل من مخطط الاحتلال: حيث سيسلَّم النازحون من مدينة غزة أرقامًا بدل أسمائهم للتعامل معهم عند دخولهم معسكرات “سديه تيمان 2” في ميراج جنوب رفح… هذا الخبر يقول لي إن شكل حياتك أسوأ من فكرة الموت التي تحيط بك. إنهم يلغون وجودك برقم.
تصوير: بيسان نتيل
في تاريخ الاحتلال، أصبحت هذه الحرب عتبة أخرى لوحشية مغايرة. على مدار محو الوجود الفلسطيني من جغرافيا أرضه، أخذ شكل التدمير الكلي للمباني التي كانت تحمل قصصنا، حكاياتنا، أصواتنا، صورنا، شكلًا مغايرًا. إفراغ المربع السكني من سكانه “التهجير القسري”، ثم تدمير الحي وتحويله إلى ركام، ثم إزالة الركام وسَهمدة الأرض. هذا ما فعله الاحتلال لإرهاب أهل المدينة حين ضرب العمق: الأحياء المركزية في القطاع – حي الرمال، تل الهوى، محيط ملعب فلسطين… ليجعلنا نسأل: إن فعل هذا في الأحياء المركزية، فماذا سيفعل في باقي القطاع؟ أقصد: “فينا”.
إلا أن ما جال في خاطري طوال هذه المدة كان السؤال: لماذا يمحو الاحتلال “الأثر”؟ كما فعل في جنوب رفح؟ تحويل الركام عبر كسارات الحجارة إلى فتات رمادي اللون… ولماذا يسعى جاهدًا لتشكيل صورة القطاع باللون الرمادي؟ ما المخيف في البيوت؟ وحجارة الباطون؟
يخيل لي طوال هذا الوقت أصوات أبناء القطاع يصرخون في داخل تلك الأمكنة، تتحول تلك الصرخات إلى ندبات في داخلنا، لا نعرف كيف سيكون شكلها مستقبلًا. إلا إننا نشعر بها، نحملها معنا، ونسير بها ولربما هي من تسير بنا ..
صوت الطفلة في داخلي يسألني: إلى أين ستذهب كل تلك الأصوات؟
مجزرة النابلسي؟ مجزرة المعمداني؟ مجزرة كنيسة دير اللاتين؟ مجازر المدارس والمستشفيات؟ مجازر خانيونس ورفح… آخر صوت للشهيد، أين يذهب؟ هل ستحاصرهم أصواتنا يومًا؟ محارق الخيام في مراكز النزوح والإيواء؟ ألهذا يمحون الأبنية، خوفًا من أن تسكن أصواتنا بيوتنا؟
أو أنهم تعلّموا الدرس من نكبة عام 48، حين كان أهالي البلاد يعودون إلى بيوتهم لوداع الحيطان والنوافذ، وليأخذوا ما أمكنهم أخذه منها، وليتعرفوا على شكل المستوطن الذي سكن دورهم بدلًا منهم! كانت تلك القصص والحكايات تُروى في روايات غسان كنفاني، وفي شعر محمود درويش، حتى في السينما الفلسطينية. آخر فيلم حضرته خلال الإبادة كان “بيت في القدس”، عن فتاة تسكن منزلها وتبحث عن لعبتها التي فقدتها في بيتها بالقدس وهي مهجرة لاجئة في مخيمات بيت لحم.
في الحقيقة، كنت أسمع تلك الحكاية عن الحوائط والنوافذ والأصوات من جدتي يسرى، التي تركت صوتها هناك في بيتها في المجدل، ثم عادت إليه بعد أن أصبحت زوجة لمحمد الحلبي وأمًا لأطفاله. لترى من يسكنه؟ ربما لا يريدون لنا أن نعود لاصواتنا في رفح، بيت حانون، حي السلاطين، السودانية… ونحن أبناء الأرض، أكثر ما نتتبعهُ هو الصوت.
***
لهذا بدأتُ أُمسك هاتفي لأوثّق كلَّ شارع واللافتاتِ المعدنيّة التي تحمل أسماء الشوارع رافضةً أرقامهم، حافظةً خُطوةَ قدمي عليه، متبنّيةً انجرافَ خُطوتي نحو البلدة القديمة، المخيّم، البحر…
بدأتُ أعمل بشكلٍ شخصيّ على تحرّر أسماء شوارعنا، ومقاومتها لأن تُختزل في رقم، لشوارعنا أسماءٌ نحملها معنا، تبقى هناك، وتنزح معنا مرّاتٍ في الصورِ الملتقطة، تحمل صوتنا.
تصوير: بيسان نتيل
الترددات الصوتية تُخزَّن في حيز الفضاء المكاني، ربما؟ هكذا تتخيّل الطفلة الصغيرة في داخلي، حين كنتُ أتركها تلعب مع ابنة الجيران لعبة الهاتف بالأكواب البلاستيكية والخيطان. كنا نربط كل كوب بخيط طويل ونقف على مسافات بعيدة لنراقب كيف ينتقل الصوت عبر الخيط إلى الطرف الآخر، فأعتقد أن جزءًا من صوتي خُزِّن في الخيط.
وهكذا اعتقدت حين وضعتُ صدفة البحر على أذني فسمعتُ الموج في داخلها، ولربما تلك المجازر سيحملها البحر أعوامًا وأعوامًا في كل سمكة وصدفة. سيبكي علينا الموج كثيرًا. ستظهر الندوبات عليه كما تظهر على أجسادنا التي تحبس بكائها في كل مرة. وهذا ما أقيسه على جسدي حين تظهر البقع الزرقاء الداكنة المائلة إلى الاحمرار على قدمي كندبةٍ؛ كنتُ ليلتها قد أجهشتُ بالبكاء بصمت، فأظن أني اصطدمتُ بحافة طاولة، لكن الحقيقة أنني اصطدمتُ بحافة العالم كله. فلا يوجد في مكان نزوحي طاولة.
وهذا ما رأيتُه في عين صديقي المقرّب حين كان يحمل الدنيا في داخله دون أن يبوح لأحد بهمّه. فكانت انفجارًا دمويًا صغيرًا، وكان من الغباء أنني سألته: ما الذي حدث لعينك؟ بينما كنتُ أعرف السبب والمُسبِّب. فلا أعتقد أنه جرح عينه بقلم الرصاص، ومع ذلك سألته وأنا أعرف، ربما لأدعوه أن يبوح، ليتوقف أحدنا عن حمل الانفجارات الدموية التي تظهر بشكل كتلة واضحة على أجسادنا، لربما كنتُ أدعوه أن يحرّر صوته ويخزنهُ في مقهى البلدة القديمة بينما أنا لم أفعل ذلك.
* تم العمل على هذا النص ضمن أعمال ورشة المسالك والممالك: رسالة في الجغرافيا السياسية