خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

إعادة إعمار سوريا.. باسم الشعب والسياحة

تُطلّ مرحلة الإعمار في سوريا على شكل أسئلة مصيرية.. من سيخطّط ويُدير هذه المرحلة؟ كيف تُبنى المدن بعد الحرب؟ ولمن ستُنفّذ مشاريع الإعمار الغامضة التي بدأ يُعلن عنها أخيرًا؟
ــــــــ المـكـان
19 أغسطس 2025

“المدن المدمَّرة ليست مجرّد فراغات عمرانية؛ إنها أرشيف مفتوح لذاكرة جماعية، وأي خطة لإعادة الإعمار هي أيضًا خطة لإعادة كتابة التاريخ”.

(الذاكرة في العمارة – سابينا تانوفيتش)

نافذة تطلّ على دمشق من الأعلى. العام 2017. هكذا أذكر المدينة، كما لو أنّ سجنًا شاسعًا يلفّها مثلما يلفّ البلاد بأكملها. وهذه الصورة، كانت تحيل بطريقةٍ أو بأخرى إلى الإطلالة المغتصبة من قاسيون على مدينة تُقصف كلّ يوم، تحديدًا من الثكنة العسكرية المسيطرة على معظم الجبل نفسه، بحيث لن يرى الناظر الأفق من دون دخان الإنفجارات والحرائق. وقتها كان هذا الجزء الصغير من قاسيون آخر ما تبقّى من ارتفاعٍ داخلي ومن مسافة تأمّل..

بعد سنواتٍ من الإغلاق العسكري لجبل قاسيون في دمشق، تهافت السوريون إلى المتنفّس الممنوع ما إن سمعوا بسقوط النظام السابق، كأنهم يستعيدون جبلًا منفيًا من ذاكرتهم، ومعه يستعيدون إطلالتهم على المدينة. والآن يبدو أنّ بضعة أشهر فقط من الفتح الرمزي كانت كافية. أرأيتم الجبل والتقطتم الصور؟ شكرًا للمشاركة، والآن: اتركوا “المستثمرين” يباشرون مهامهم.

المقاولون ينفّذون، والمحافظة تنفي

في نيسان (أبريل) 2025، أعلنت محافظة دمشق وبحسب “الوكالة السورية للأنباء” عن مشروع “إعادة تأهيل جبل قاسيون، ضمن خطّتها لإعادة الرونق والألق للمنطقة”، وبيّنت المحافظة من خلال قناتها على التلغرام أنّ الأعمال ستشمل أماكن ترفيهية “شعبية”، ومرآب سيارات، وتأهيل الموقع العام من إنارة وصرف صحي ومسطحات خضراء.. كلّ ذلك، من دون أن تنشر أي تصوّرات دقيقة أو وافية، بل إنّ ما انتشر مجرّد تصوّرات ابتكرها المواطنون باستخدام الذكاء الصناعي لما قد يكون عليه شكل قاسيون بعد التأهيل!

ثمّ في بداية حزيران (يونيو)، خرج صحفيّ لا يحمل أي صفة رسمية ليعلن أن القيادة قرّرت توسيع جبل قاسيون وتطويره بمواصفات عالمية: فندق خمس نجوم، مسجد “أيقوني”، مول تجاري، وأكشاك. ثمّ ختم خطابه بتوجيه الشكر للمقاولين الذين أتمّوا أعمال ثمانية أشهر خلال شهرين. ومن هم هؤلاء” المقاولون”؟ لا أحد يعلم بالطبع.

في 20 حزيران (يونيو)، نفت المحافظة – باللغة نفسها تقريبًا – توسيع المشروع، معلنةً أن سيشمل تأهيل العشوائيات القديمة ومبنى “لا مونتانا”، وهكذا بين فيديوهات تظهر الخرسانة الأولى وتصريحات تنفي، تحوّل الموقف إلى مسرحٍ عبثيّ لإدارة مدينة كاملة بلا شفافية.

 التدخّل المرتجل في مكان يحمل هذه الرمزية أثار جدالًا بين المختصين. في الواقع ليس جدالًا حقيقيًا، بل محاولات يائسة للشرح والتذكير بالبديهيات: يسأل الباحث السوري إياس شاهين “من نحن لنمارس شيئًا عمرانيًا على سفح له هذه الرمزية والأهمية؟”، ويتساءل المهندس المعماري إدوار حنا: “لمن نُعيد بناء البلد؟”. وفي ظل غياب أي معطى رسمي، وجد المهندس ماهر حميّد نفسه يحلّل مواصفات واشتراطات المشروع من لقطات الفيديو!

مدن تُنتزَع مرّة أُخرى؟ 

بعد أكثر من 14 عامًا من الصراع في بلدٍ يعاني ما يعانيه من أزماتٍ عمرانية وعشوائيات وضعف بنية تحتية، أصبحت سوريا واحدة من أهمّ الأزمات الديموغرافية والإنسانية في العالم. تشير البيانات إلى تدمير أكثر من 220000 – 325000 وحدة سكنية بشكل كامل فيما تعرّضت حوالي 65000 وحدة أخرى للضرر الجزئي، ما يعني أنّ ما يُقارب ربع الأسر السورية فقدت مأمنها بالكامل بالإضافة إلى 6.1 مليون لاجئ سوري، و4.7 مليون نازح داخليًا. ليست هذه الأرقام مجرّد بيانات عن الخراب المادّي، بل مقياس صلب لحجم الفقد والخسارة، ودليل على أزمة حضرية عميقة: عشرات المدن والأحياء تفكّكت عمرانيًّا وبشريًّا، وتحوّلت أحياء كاملة إلى أطلال وخرائط ممزّقة. أمام كلّ هذا الخراب يقف سؤال واحد وأساسيّ “كيف نعيد بناء بلد فقد كل هذا؟”.  

في هذا السياق، تأتي مراحل التعافي وإعادة الإعمار لا كوعودٍ بأملٍ جديد فحسب، بل كأسئلةٍ مصيرية على غرار: من سيخطّط ويدير مرحلة إعادة الإعمار؟ وهل سنكون أمام “تأهيل” فعلي؟ أم أمام شكل جديد من أشكال الاستحواذ والخصخصة للفضاء العام؟ وما معنى “إعادة التأهيل” في التخطيط العمراني أساسًا؟ وما نوع المدينة التي نسعى لإنجازها؟

 حسنًا، ذلك السؤال الأوّل الذي واجهنا به الخراب، تفرّع إلى أسئلة عديدة على الجهات الحكومية أوّلًا أن تجيب عنها وتطرحها بتصوّرٍ كاملٍ يتضمّن رؤيتها لمراحل إعادة الاعمار وضمان حقوق المواطنين. فالحق في المدينة ليس فرديًّا، بل يعتمد على ممارسة قوة جماعية من خلال عمليات التطوير العمراني “الحضرنة”. فقد اختبر السوريون في السنوات الماضية، كلّ أنواع الشتات والنزوح في المخيّمات ورحلات اللجوء المميتة، بالطبع ليس من أجل أن يروا مدنهم تُنتزع منهم مرة أخرى مع اختلاف الأساليب والسياسات العمرانية. 

مرايا الإعمار 

لن نسائل مشروع تأهيل قاسيون بحدّ ذاته، لأنّنا لا نملك تصوّرًا واضحًا عمّا يُخطّط له على الجبل. لا أحد يعرف أكثر ممّا تمّ تداوله. وفكرة أنّنا لا نعرف، كمواطنين أوّلًا وكمعماريين متخصّصين، حتى الآن هي بحد ذاتها مادّة سؤال كبرى. السؤال لا يتمحور حول ما يُبنى فقط، بل بأي حق تُدار مساحة بهذا الحجم بقرارات مغلقة؟ وبأي حق تفرغ المساحات العامة من الشعب؟

انطلقنا من مشروع قاسيون كونه مساحة عامة، ونموذجًا لشكل مرحلة إعادة الإعمال المقبلة، والتي بدأ يُعلن عن مشاريعها مثل تأهيل ساحة سعد الله الجابري في حلب التي اتُّخذَ قرارًا بتأهيلها رغم أنّها غير متضرّرة. فقد أعلنت شركة تُسمّى “المجموعة السورية التركية القابضة” عن مشروع لتجميل الساحة لـ “ترجع حلب أحلى”! 

هناك أيضًا مشروع “بوليفارد النصر” في حمص، الذي أُعلن عنه أخيرًا لإعادة تخطيط وإعمار منطقة بساتين القرابيص وبعض الأحياء الأخرى، وهو نفس المشروع الذي طرح في زمن النظام السابق باسم “حلم حمص”، مع العلم أنّ المنطقة ليست مدمّرة بالكامل بينما أكثر من نصف مدينة حمص مدمّر بالكامل. ففي بداية آب (أغسطس)، أعلن عن مشروع تتولاه “شركة العمران للتطوير والاستثمار العقاري”، للبدء بتحويل المدينة إلى “بيئة حضرية منظّمة، تحاكي المستقبل وتستجيب لتحديات الحاضر”، وفق ما نشر الموقع الرسمي لمحافظة حمص، لكنّ أبناء حي القرابيص تظاهروا في الأيّام الفائتة ضدّ المشروع الذي لن يكتمل من دون هدم بعض بيوت السكّان. 

مشاريع كهذه لا بدّ أن تشكّك أوّلًا برسالة السلطة من خطابها الحالي، اتجاه مواضيع إعادة الإعمار، والسياسات التي تنتهجها في هذا السياق. لأن السياسات المكانية ليست خيارات حيادية، إنّها تكتنز وتعكس خيارات السلطة وتصوّرها عمّن يملك الفضاء وعمّن يُقصى منه

ما يثير القلق في هذه النماذج ليس فقط أولوية المناطق المختارة، بل طبيعة الجهات المنفّذة. فقد بات من الشائع توقيع مذكرات تفاهم بمليارات الدولارات مع شركات غير معروفة، بعضها لا يملك سجلًّا تجاريًا واضحًا، ولا مشاريع سابقة، وبعضها الآخر يبدو أقرب إلى واجهات (shell companies) بلا معلومات موثقة، مثل شركة POLIDEF التركية التي قيل إنها ستتسلّم مطار دمشق، أو شركة UBAKO الإيطالية التي قيل إنها ستتولى مشروع أبراج في دمشق، دون أي سجل مشاريع سابق أو شفافية مالية حقيقية، ما يصعّب من أمر التحقّق من أنواع المشاريع التي نفّذتها سابقًا، وما ستنفّذه مستقبلًا. كما أنّ بعض الشركات المحلية، مثل “المجموعة السورية التركية القابضة”، تعمل بوصفها مظلّة عامة لتشكيلات فضفاضة لا نعرف من يملكها فعلًا، ولا كيف أُسندت لها هذه العقود.

مشاريع كهذه لا بدّ أن تشكّك أوّلًا برسالة السلطة من خطابها الحالي، اتجاه مواضيع إعادة الإعمار، والسياسات التي تنتهجها في هذا السياق. لأن السياسات المكانية ليست خيارات حيادية، إنّها تكتنز وتعكس خيارات السلطة وتصوّرها عمّن يملك الفضاء وعمّن يُقصى منه. وكلّ تعديل في البنية التحتية أو استخدام الأرض هو تعبير عن توزيع عادل أو غير عادل للموارد والسلطة، وقد يكون مجرّد تكريس لسياسات الإقصاء، واعادة إنتاج للفوارق الطبقية. والمشكلة أنه حين يُدار التخطيط العمراني بوصفه نشاطًا تقنيًا فقط، كما يحدث اليوم، نفقد حتى القدرة على مساءلة من يخطّط، ولمن، ولأيّ هدف. يصبح الرأي متأخّرًا والنقاش عقيمًا, لأن المشاريع بدأ تنفيذها سلفًا أصلًا. 

ماروتا.. إعادة تدوير الخراب؟

حين نسترجع ما حدث سابقًا في بساتين الرازي في المزة من خلال مشروع “ماروتا سيتي” الذي شُرّع له عبر القرار 66 لعام 2012، نُدرك كيف يُسوَّق الإقصاء الطبقي بوصفه “تطويرًا حضريًا”. صدر القرار لتحديث منطقتين تنظيميتين في دمشق، لكنه جاء على أنقاض حيّ فقير ومكتظّ. قُيّمت المساكن في البداية، وهدمت غالبيتها وهجّر سكانها دون بدائل عادلة، ليتحوّل المكان إلى مشروع أبراج فاخرة لا يمتّ إلى سكانه الأصليين بصلة. أمّا الأسهم التي قدّمت لهم بدل بيوتهم لا تكفي لشراء أصغر شقة في المشروع، في ظلّ أزمة النزوح الداخلية والاكتظاظ السكّاني في العاصمة. 

هكذا تحت مُسمّى “التنظيم” و”الأسهم العقارية”، أعيد رسم الخريطة الاجتماعية لدمشق، لا على أسس تخطيطية، بل على أسس طبقيّة ظالمة. لم يقتصر الأمر على دمشق، فقد فتح المرسوم 10 لعام 2018 الباب أمام تعميم هذه الممارسات على كامل الأراضي السورية، بإعطاء الدولة الحقّ في إعلان مناطق تنظيمية جديدة في أيّ مكان، مع اشتراط تقديم إثبات الملكية خلال 30 يومًا فقط، تحت طائلة المصادرة التلقائية. وفي بلد لديه ملايين المهجّرين واللاجئين، غالبيتهم لا يملكون أوراقًا رسمية أصلًا، كان هذا المرسوم أداة “حديثة” لإنتاج إقصاء قانوني، جائر إنسانيًا وعمرانيًا.
عندما تُكرَّر الممارسات مشابهة باسم التطوير، وحين يُعاد إنتاج منطق الهيمنة والاستباحة ولكن بأدوات رأسمالية ناعمة، هل نصدّق فعلًا أن المشروع لأجل المدينة؟ أم أن المدينة تُعاد هندستها لتُقصي من لا يستطيع الدفع؟

ذاكرة المكان.. حين تتكلّم الأنقاض

لا تتعلّق إعادة الإعمار العمراني بعد الحرب باسترجاع ما فُقد، بل بصياغة روايات جديدة عن السلطة والانتماء والشرعية. وبهذا تصبح المعركة على المدينة اليوم معركة قرارات تقسيم وتنظيم وبُنى معمارية. تمتلئ سوريا بالمواقع الشاهدة على ذاكرة الحرب، في كلّ مكان تقريبًا، من ضمنها ساحات انطلاق المظاهرات الأولى في حمص ودرعا مثلًا إلى مواقع مجازر الكيماوي في الغوطة الشرقية وخان شيخون، أو مجزرة كرم الزيتونة أو مجزرة التضامن أو مواقع مجازر داعش في دير الزور والرقة، أو السجون مثل صيدنايا و حمص المركزي إلخ، وصولًا إلى مناطق المعارك المهمة ونقاط سقوط الشهداء والمقابر الجماعية و التراب المشبع بدماء أهلنا. 

مناطق كهذه تقبع ضمن مسؤولية السلطة والمخطّطين الحاليين، لكنّها تتعلّق بالمواطنين وبذاكرتهم داخل الفضاءات المدينيّة التي باتت تشهد معارك رمزيّة حول ما يجب تذكّره، وما يجب نسيانه، والأهمّ حول كيفيّة تجسيد هذه التوجّهات عمرانيًّا، وضمن أي استراتيجيّات يمكن تحقيق نوعًا من العدالة المكانية الرمزية التي تتجاوز الإنصاف المادي لتشمل حقّ الجماعات في التعبير عن ذاكرتها وروايتها ضمن المكان. يحدث ذلك من خلال إعادة تأهيل تستوعب الذاكرة الحربية، فيُسمح للمكان بأن “يتكلّم”، ويُعاد توظيفه لصالح الناس لا لصالح السوق العقاري أو الصورة السياحية فقط.  

تشهد الفضاءات المدينيّة معارك رمزيّة حول ما يجب تذكّره، وما يجب نسيانه، وحول كيفيّة تجسيد هذه التوجّهات عمرانيًّا، لتحقيق نوعًا من العدالة المكانيّة الرمزيّة

في بحثه “السكن في مدينة ما بعد الحرب: إعادة الإعمار الحضري وبناء المساكن في سراييفو” (2016)، يُوضح الباحث غرويا باديسكو، المتخصّص في دراسات ما بعد النزاعات والعمارة والسياسة في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، أنّ التعايش مع ماضي الحرب لا يتحقّق عبر التصالح الرمزي أو السياسي فحسب، بل أيضًا من خلال عمليات إعادة الإعمار العمرانيّة التي تُسهم في بناء الشعور بالانتماء — سواء للسكان القدامى أو للنازحين الجدد. 

لذلك، هل ستصبّ مشاريع كالتي أعلن عنها حتّى الآن لصالح الشعب؟ يُستبعد بالطبع أن يستفيد المواطنون، بعد سنوات الحرب الطويلة، من الإقامات الفاخرة والمطاعم ذات النجوم الخمسة أو “إطلالات الغروب”. ما سينالونه هو ازدحام إضافي، وضغط على البنية التحتية، وتضييق على ما تبقّى من المساحات العامّة التي يكفي لشعار دعم السياحة أن يطيح بها وبمفهومها تمامًا. في عالم السياحة المعاصرة، تعتمد المدن على قوّة رأس المال الجمعي وعلامات التميّز الخاصة المرتبطة بكل مكان، والقادرة بدرجة كبيرة على رسم تدفقات رأس المال بشكل عام، الذي سيعطي بدوره قيمة إقتصادية عظيمة. مراكمة علامات التميّز والتنوّع مثل التاريخ العريق والأصالة والعادات المحلية المتميّزة وتسويقها بشكل جيّد يرفع من ترتيب المدن في ميزان السياحة وجذب الاستثمارات، ويعطيها طابعها المتفرّد عن أي مكان آخر.

هذا التنوّع ليس تاريخيًّا، أو تراثيًّا فقط، بل بشريًّا بشكل خاص واستثنائي في سوريا، وهو الذي يجدر الاستثمار فيه، إلى جانب علامات التميّز الثقافية والتاريخية، وثراء الطبيعة من السواحل الممتدّة إلى الجبال وغاباتها والبادية والبحيرات و أحواض الأنهار والمرتفعات الجبلية ومواقع الاصطياف. لا نحتاج إلى الكثير من التفكير والبحث لإدراك ما هو رأس المال الجمعي الحقيقي للبلاد، وهذا الرأسمال بالطبع لن يستثمر جيدًا من دون تمكين المجتمع المحلي وتشجيع رأس المال على التوجه لدعم صناعة المعرفة و دعم التراث، بالتأكيد ليس عن طريق إعادة تدوير واستهلاك التجارب المنتهية الصلاحية، لأنّ العالم مليء بالأبراج والمسابح والمجسمات المضيئة، فيما هناك سوريا واحدة !

الكابوتشينو وغرفة الضيوف 

إذا تأمّلنا مشاريع مثل إعادة تأهيل قاسيون وساحة سعدالله الجابري وبوليفار حمص وبرج الجوهرة (الذي وضعت الحكومة السعودية حجره الأساس في دمشق) والمدينة الإعلامية وأماكن الترفيه، يصعب ألّا نسأل: أهي فعلًا أولوية في بلد لا تزال فيه ألاف العائلات بلا مأوى ثابت، وما تزال الأحياء المدمّرة دون كهرباء أو صرف صحي أو أفق لإعادة الحياة؟

ما نراه من نوعيّة مشاريع وترتيب أولويات أقرب ما يكون إلى “ثقافة التهدئة بالكابوتشينو”. هذا التعبير الساخر  استخدمته عالمة الاجتماع الحضري الأميركيّة شارون زوكين في كتابها “ثقافات المدن” (1996) لوصف كيف تُستخدم عمليات التحسين الحضري (gentrification) والتسليع الثقافي لتجميل النزاعات الاجتماعية أو طمسها، من خلال واجهات أنيقة من المقاهي والمعارض والبوتيكات، وخاصة في المناطق ذات التاريخ الطبقي أو العرقي الصاخب. في هذا السياق، نتحدّث عن “ثقافة الكابوتشينو” كرمزٍ لاستبدال الصراعات الطبقية والسياسية بمظاهر “تحضر” استهلاكي ناعم، واستبعاد السكّان الأصليين والفقراء بأسعارٍ لا يمكنهم تحمّلها، وبتطبيق قوانين على استخدام للفضاء العام لخدمة فئة معينة فقط، وإضفاء طابع زائف من الأمان والتسامح يُخفي علاقات القوة والاستبعاد خلف صور الديكور والنظافة والأناقة.

إنّ السعي إلى المزيد من مشاريع “الترفيه” يُستخدم في السياسات الحضرية كوسيلة للضبط الاجتماعي، عبر رسم فضاءات “مُنظّمة وآمنة وجذّابة” لكنّها في الحقيقة تُقصي الفئات الهشّة والفقيرة، كما تُنذر المشاريع المقبلة في سوريا

يبتعد الترفيه المُقنّن في السياقات الحضرية النيوليبرالية أو السلطوية عن حاجات الناس ويُقصي أشكال الترفيه التقليدية والشعبية، حتى أنه يصبح أداة يُعاد من خلالها تنظيم الفضاء العام، وضبط حركة الناس، وتحديد من يملك الحق في الوجود والمتعة ضمن المدينة. كما أنّه يرتبط غالبًا بمشاريع “التنمية” و”التحديث” التي تُشبه الترف الاستهلاكي أكثر من كونها ممارسات اجتماعية مشتركة.

يبتعد الترفيه المُقنّن في السياقات الحضرية النيوليبرالية عن حاجات الناس ويُقصي أشكال الترفيه التقليدية والشعبية، حتى إنه يصبح أداة يُعاد من خلالها تنظيم الفضاء العام، وضبط حركة الناس

وكمثال واضح في هذا السياق، يُمكن إدراج “مشروع العدوي السياحي”، وهو متنزّه وطني بـ “مواصفات عالمية” في منطقة العدوي بدمشق، أعلنت عنه محافظة دمشق خلال “المنتدى الاستثماري السعودي السوري” الذي أقيم في العاصمة السورية أخيرًا وطُرح خلاله عددًا من المشاريع الاستثمارية في سوريا بين البلدين. علمًا أنّ مشروع العدوي مماثل لمشروع “البارك الشرقي” الذي طرح في زمن النظام السابق، وأقيم الجزء الأكبر منه على أراضٍ مستملكة أصلًا منذ زمن حافظ الأسد، والشركة التي قدّمته سابقًا هي “دمشق الشام القابضة”، أي الشركة نفسها المسؤولة عن مشروع “ماروتا سيتي” الذي تحدّثنا عنه سابقًا، والذي طُرِح للاستثمار أيضًا في هذا المنتدى!

ومن منظور أقرب إلى الثقافة السورية، يُمكن تشبيه هذه المشاريع بمنطق “غرفة الضيوف” — الغرفة المرتّبة دائمًا لاستقبال الزوّار، تُستثمر فيها الموارد والمساحات على حساب راحة السكان الفعليين، حتى لو كان باقي البيت متداعيًا. 

مدن عربيّة مثل دبي

تتصاعد وتيرة أزمة السياسات الاستهلاكية والحق في المدن عالميًّا، بشكل مستمر، خصوصًا في ظلّ النيوليبرالية، التي يُعامل فيها المكان كسلعة. غير أنّها تظهر وتتكثّف في مناطق النزاع وما بعد الحروب، بحيث يرتكز النظام الرأسمالي على البحث المستمر عن فائض القيمة (الربح) الذي يتطلب تحقيق فائض إنتاج وهذا يعني ان الرأسمالية تنتج دوما فائض الإنتاج الذي يتطلبه التطوير العمراني والعكس صحيح، فالرأسمالية تحتاج ل”الحضرنة” لأن عملية الحضرنة — أي تحويل المناطق إلى فضاءات حضرية عبر سياسات تنظيم وتخطيط عمراني — تعد القناة الرئيسة لامتصاص فوائض الإنتاج التي تحقّقها على الدوام. 

هكذا ظهرت مشاريع عمرانية باذخة في مدن عربية مثل دبي وأبو ظبي، كوسيلةٍ للتخلص من الفوائض الرأسمالية الناجمة عن الثروات النفطية بأشكال مغالية في الإسراف والظلم الاجتماعي والهدر البيئي، مثل بناء ساحة للتزلج على الجليد في بيئة صحراوية أو بناء نسخة من مدينة ميلانو في دبي!

إن كنّا نسلّط الضوء على هذه القضية فليس لأنّنا نرفض الإعمار أو الرفاهية، بل لأنّ مشاريع كهذه تحتاج إلى أرضية ضابطة وتخطيط إقليمي وحضري مناسب، وإلى ضوابط وقوانين وبيئة استثمارية برؤية وطنية شاملة. تُضاف إليها خطط للتنمية المكانية المستدامة، ترفض الهوس بالمركز على حساب الأطراف وتتّجه للتوسع في الضواحي وإعادة دمج المناطق المهمّشة، والأهم أن يُتاح المجال للشركات العالمية والعربية والمحلية لتقديم خدماتها ضمن آليّات منافسة شفافة وعلنية، على أن تتحرّك ضمن الهيكليات والمخططات الحضرية و”ليس فوقها”.