رسائل مالحة

الكراهيةُ متجذّرةٌ في رغبةِ السوريينَ بسكب الأذى. ربما إشباعاً لرغباتٍ انتقاميّةٍ جمعيةٍ أو فرديّة، أو إفراغاً لعنفٍ كامنٍ، استمتعَ بعضُهم بتمزيقِ أرواحِ البعض الآخر حتى في الشتات
ــــــــ المـكـان
12 سبتمبر 2025

رسائلُ مالحة، مغمّسة بالدمِ والدموع، تصل يوميّاً من سوريا على مدارِ أربعة عشر عاماً. ثمّة رغبة غامرة بالعودة إلى تاريخٍ قديمٍ، ليس قبلَ عصرِ الصورةِ ولا قبل الثورةِ، بل قبلَ عهد الأسدَين.

عندما سقطَ نظامُ الأسدِ، سَهِدَ السوريّونَ جميعاً طوال ليال ثلاث. هي أيام جرى خلالها استخراجُ الجثثِ الحيّةِ والميتة من سجن صيدنايا. جمعتنا الصور الرهيبة، وعمق الأقبية، وحقيقة أن السجانينَ كانوا يعيشون ويعيثون بيننا. بطاقات شخصيّة رأينها تعبرُ الشاشات مرميةً بين أقدام الباحثين عن أبنائهم والمتفرجين على هول الحقيقة. دارَت من جديدٍ ماكينة العنفِ، وربما لم يعد من سبيلٍ لإيقافها.

لا سبيلَ أيضاً للعيش في المهجر بعد تقطّع الصلات وتفتّت جسورِ العودةِ على يد الجزّارين الجُدد إلّا عبر مساحات مُتخيّلة. لم تعد عبارة «كلُّ ما عَلاك فأظلَّك فهو سماءٌ»، للثعالبي في فقه اللغة، ممكنةً في بقاع الأرض كُلّها، فالأمطار لم تعد ماءً بالضرورة بعد اليوم.

نحن منغمسون في واقعٍ تمزّقت فيه أنظمةُ التفسير المنطقيّة لصالح أرضيّات أخلاقيّة مهزومة إنسانيّاً. التأويلاتُ جميعها مؤلمةٌ، والكراهيةُ متجذّرةٌ في رغبةِ السوريينَ بسكب الأذى. ربما إشباعاً لرغباتٍ انتقاميّةٍ جمعيةٍ أو فرديّة، أو إفراغاً لعنفٍ كامنٍ، استمتعَ بعضُهم بتمزيقِ أرواحِ البعض الآخر حتى في الشتاتِ، بنى أولئك لحظاتٍ من الانتصار على ألمِ الآخر، وشدَّ ساعدَه بتعمّد الضرّر.

لم تعد عيوننا إليها «ترحلُ كلّ يوم»، بل أصبحت العيونُ ترحلُ منها، تغادرُ بحثاً عن آفاقٍ إنسانيّةٍ جديدة. لقد خرجَت الجغرافيا عن المعقولِ العلميّ بفعل التدهورِ المجتمعيّ، و تزعزَعَت ‘’طبوغرافيا’’ العين دون رجعةٍ. بَردت العيون وفقدت دموعها اللامعة، اختفى عمقُها الدال على الحياة، جفّت وبقيت أورقاً مالحة.