لم تكن البداية قذائف ولا دمارًا فقط، بل كانت صمتًا ثقيلًا في أرضٍ اعتادت أن تنبض بالحياة. الغابة التي كانت تجسد مجتمعًا كاملًا تقوده النساء، باتت خاوية، بلا أصوات ولا ظلال.
في قرى السودان، لم تكن الغابة بالنسبة لنساء الريف مجرد مساحة خضراء برية، بل كانت حياة تُنسج بين ظلال الطلح والهشاب. هناك، حيث كانت الأيادي تحفر في جذوع الأشجار لجمع الصمغ، لم يكن العمل موسميًا فحسب، بل طقسًا من طقوس الاستقلال، والتعاون، وبناء المستقبل.
في صباحات مثل هذه، كانت النساء يحملن أدواتهن، يقطعن مسافات مشيًا على الأقدام، ويدخلن الغابة كمن يدخل بيتًا يعرفه جيدًا، يعرفن متى تُجرح الشجرة، ومتى تُترك لترتاح فيتجمع الصمغ كأنه يداوي تلك الجروح، ومتى يعدن لجمع الحصاد.
الغابة، في كثير من قرى السودان، كانت الاقتصاد غير المُعلن الذي تديره النساء، وكأنها تجسيدًا للعلاقة الحميمة التي تربط بين الإنسان والأرض. غير أن الكثير من تلك الغابات، التي شكّلت حزامًا يصل 13 ولاية سودانية صمد لآلاف السنوات، لم تصمد كثيرًا أمام الحرب المفتوحة.
غابات نسوية تعمل في الظل
في قلب السودان، يمتد حزام الصمغ العربي كأحد أكثر النطاقات البيئية حيوية في القارة الأفريقية. يضم هذا الحزام أكثر من 13 ولاية، من جنوب دارفور وغرب كردفان إلى النيل الأزرق والقضارف، وتغطي أراضيه ما يزيد عن 500 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل نحو رُبع مساحة البلاد المزروعة بأشجار السنط والطلح والهشاب. وتلك الأخيرة، أو الأكاسيا كما تسمى علميًا، هي المصدر الرئيسي للصمغ العربي، وهي شجرة تقاوم الجفاف وتُسهم في تثبيت التربة ومكافحة التصحر. منحت تلك الشجرة السودان بحوالي 80% من الانتاج العالمي للصمغ العربي، مما يجعله المورِد الأول عالميًا لهذه المادة الحيوية التي تدخل في أكثر من 180 صناعة، بما في ذلك الصناعات الغذائية والدوائية والتجميلية.
غير أن الصمغ ليس فقط سلعة تصدَّر لتزيد أرباح الوكلاء والسماسرة وتحسّن المؤشرات الاقتصادية الصمّاء، في السودان، لطالما ارتبطت هذه الأشجار بالحياة اليومية للمجتمعات الريفية، خصوصًا النساء. فقد وفّرت لهن مصدر دخل مستقر، ومساحة عمل جماعية صممتها النساء نفسهن، ومجالًا لإعادة إنتاج المعرفة الزراعية من جيل إلى آخر.
قبل الحرب، كانت هذه الغابات تُدار بشكل جماعي عبر جمعيات محلية تنظّم ما بات يعرف بـ «الغابات الشعبية»، كنموذج محلي فريد يضمن الحفاظ على الزراعة وتمتع المجتمعات بمواردها الاقتصادية. اليوم، بات هذا الحزام البيئي تحت تهديد مباشر. إذ تلتهم الحرب والأزمة البيئية ما تبقّى من مظلة الأشجار، ومن المنظومة الاجتماعية التي اعتادت أن تحيط بها.
آمنة، التي اعتادت أن تستند إلى جذع الهشاب في الظهيرة، تفرك كفها بكريم بشرة أخرجته من حقيبتها ومسحته بسرعة، قبل أن تقول: «نحن كنا ورا المنتجات دي. كعكول الصمغ العربي ما في غير في السودان، وهو المكون الأساسي في الكريمات اللي بتملا رفوف العالم، نحن خسرنا الغابة الكانت بتصنع دا كلو».
في الواقع، لا تبالغ آمنة، وهي مزارعة وأم لأربعة أبناء. فالصمغ العربي السوداني يشكّل عنصرًا أساسيًا في عدد من الصناعات العالمية. هذا المنتج الطبيعي، القادم من قلب الغابات، يتسلل بصمت إلى سلاسل الإمداد العالمية، بينما تظل النساء السودانيات كآمنة في الظل، بلا ذكر، في مفارقة لافتة بين حياة يومية بسيطة وتأثير اقتصادي عابر للقارات.
الصمغ العربي، الذي يجمعه المزارعون أو «الطقّاقون» كما يُطلق عليهم محليًا في السودان، ليس مجرد منتج تقليدي شعبي، بل مادة حيوية تُستخدم كمثبّت ومكثّف في مجموعة واسعة من الصناعات. فهو يدخل في تركيبة مستحضرات التجميل مثل منتجات شركات «لوريال، كما يُعد مكونًا أساسيًا في صناعة المشروبات الغازية مثل «بيبسي» و«كوكاكولا»، حيث يساهم في تثبيت النكهات ومنع تبلور السكر، غير شركات كبرى أخرى مثل «نستلة» و«مارس» و«Alland and Robert».
هذا الارتباط بين الغابات السودانية والمنتجات العالمية يسلط الضوء على أهمية الصمغ العربي، ليس فقط كمصدر دخل للمجتمعات المحلية، بل كعنصر حيوي في سلاسل التوريد العالمية، وما يفترض أن يترتب على ذلك من حقوق للمنتجين. ومع ذلك، فإن النزاعات المسلحة والتهريب يهددان هذا المورد الثمين، مما يؤثر على سبل عيش المجتمعات والنساء مثل آمنة، ويضع الشركات العالمية أمام تحديات اجتماعية واقتصادية وأخلاقية ملحة.
مديرة مشروع الغابات الشعبية في وزارة الزراعة والغابات، نجلاء محجوب، تقول إن الغابات الشعبية النسوية كانت من أنجح المشاريع العاملة لصالح المجتمع، لأن النساء كن يعتنين بالأشجار ويتعلمن كيفية «طق» الصمغ دون اللجوء للاحتطاب (قطع الأشجار)، وقد عاد عليهن هذا النشاط بعوائد مادية مكنتهن من تعليم أبنائهن وتحسين مستوى المعيشة، فضلًا عن إدراكهن لدور الغابة في الحماية من التصحر، ما جعلهن يعقدن معاهدة ضمنية لعدم الاحتطاب البتة.
انتهى المطاف بآمنة وأطفالها الأربعة، مثلها مثل مئات الآلاف من النساء، بالرحيل عن أرضهم ومصدر دخلهم الوحيد تأثرًا باشتعال الحرب، تقول آمنة: «اتهجرنا ونزحنا وضاعت الغابة، وضاعت معاها حياتنا».
الغابات الشعبية هي غابات المجتمع، وبدأت فكرتها منذ السبعينات عندما كانت القرى تستحوذ على جزءًا من الغابات المتاخمة لها، فتقوم ببناء سور حولها ومن ثم زراعتها والعناية بها. هذه الغابات، كما تقول نجلاء، أصبحت مصدر دخل مهم، وتنتشر على امتداد حزام الصمغ العربي، وتضم أشجار السنط والطلح والهشاب والبان، ولكل ولاية خصوصيتها في الأشجار التي تنمو فيها.
محمد أنور السادات، خبير في الخرائط ونظم المعلومات الجغرافية، يشير إلى أن السودان فقد حوالي 30% من غاباته منذ التسعينات، وفقًا لبيانات الفاو. ويقول: «السبب ما الحرب بس، في توسع زراعي عشوائي ونزوح كثيف واستنزاف للغابة كمصدر بديل للطاقة».
كشفت صور الأقمار الصناعية عن مشهد قاتم لحزام الصمغ العربي، حيث كانت الحرائق تلتهم القرى والمزارع والغابات المحيطة. في كل مرة تهاجم فيها قوات الدعم السريع قرية ما، لا ينجو شيء من ألسنة اللهب: البيوت، الممتلكات، المحاصيل، وحتى الأشجار.
ومع موجات النزوح التي رافقت الحرب، أصبحت الغابات ملاذًا قاسيًا للنازحين. أشجار الهشاب والطلح تحولت إلى مصدر طاقة في ظل غياب الوقود، ومصدر دخل أيضًا، إذ تُقطع وتُباع كحطب أو تُحول إلى فحم.
وفي ذروة الفوضى، استغلت بعض الشركات هذا الفراغ، فمارست الاحتطاب الجائر بشكل ممنهج لتجارة الحطب وتصديره. أما النازحون، فقد زرعوا ما استطاعوا زراعته وسط هذا الخراب، مستفيدين من خصوبة أراضي الغابات، فأنشأوا حقول خضروات مؤقتة في أراضٍ كانت مخصصة للصمغ.
صور الأقمار الصناعية لحزام الصمغ العربي بين العامين 2013 و 2023
معضلة التهريب وتحرير التجارة
تُعد منطقة تلودي في جنوب كردفان من أبرز علامات هذا التدهور. هناك، تعرضت الغابات لما يشبه المجازر البيئية، خاصة مع تصاعد قيمة أخشاب الجنوب، ما جعلها هدفًا مباشرًا للتجريف والقطع، منذ اندلاع الحرب في غرب السودان في العام 2003، أي بما يسبق الحرب الحالية بسنين، وبشكل أخص في المناطق المتاخمة للحدود مع جنوب السودان.
في المقابل، هناك من يرى أن بقاء حركة التهريب قدّم شكل للنجاة الاقتصادية، باعتباره بات الدخل الرئيسي لمئات آلاف الأسر. لكن في النهاية باتت شبكات التهريب، إلى جانب الحرب والتدمير، تشكل خطرًا حقيقيًا على الغابات تتحكم فيه مصالح سوق غير خاضع للرقابة.
الوسطاء، أو كما يُطلق عليهم محليًا «السماسرة»، هم حلقة أساسية في هذه السلسلة. كانوا في السابق ينسقون بين المزارعين والجمعيات الزراعية والأسواق الرسمية. اليوم، يجد بعضهم أنفسهم إما عاطلين عن العمل أو متورطين في شبكات تهريب معقدة.
بالعودة قليلا بالزمن ومنذ عام 2009، ومع تزايد الضغوط الدولية لتحرير تجارة الصمغ العربي، بدأت الشركات الخاصة بالدخول إلى السوق، بعد أن كانت خاضعة بالكامل لسيطرة الحكومة السودانية عن طريق شركة الصمغ العربي، ولكن منذ اندلاع الحرب في أبريل/ نيسان 2023، أصبحت هذه التجارة تحت هيمنة قوات الدعم السريع، التي فرضت سيطرتها على معظم مناطق إنتاج الصمغ في السودان.
في مقابلة مع أحد سماسرة الصمغ العربي المقيمين في ليبيا، قال إن الطلب على الصمغ العربي ما زال مستمرًا رغم الحرب: «جاتنا طلبيات بالأطنان من جنوب السودان وتشاد. السوق ما بيموت، بس بيتحول».
وعندما سألناه عن السبب وراء استمرار تهريب الصمغ العربي تحديدًا، أجاب ببساطة: «لأنه أصبح متاح! الحرب أثرت على نشاط اللاعبين الأساسيين في تجارة الصمغ، وحتى القنوات الرسمية لتوصيله اتقفلت، السوق بعد الحرب اتغير، واتفتحت قنوات جديدة، وكلها تهريب غربًا عبر تشاد وجنوب السودان».
يرى السمسار أن التهريب اليوم أصبح واقعًا بديلًا فرضه تعطل القنوات الرسمية: «لما كل شيء وقف، واللاعبين الأساسيين طلعوا من السوق، ظهرت طرق جديدة، والتهريب اليوم هو مصلحة لكل الأطراف: الناس بتشتغل، والتجار بيوصلوا بضاعتهم، والكل كاسب بطريقة أو بأخرى».
واقع الحال يقول إن السيطرة على مناطق الإنتاج لم تكن مجرد واقع جغرافي، بل تحولت إلى أداة سياسية واقتصادية حيث لم تكتف قوات الدعم السريع بإغلاق القنوات الرسمية، بل فتحت أبواب التهريب إلى دول الجوار، مثل تشاد ونيجيريا وجنوب السودان، ما مكّنها من فرض ضرائب غير رسمية على عمليات النقل، وجعل التهريب مصدرًا مباشرًا لتمويل الاقتتال.
يرى السمسار أن لا أحد يهتم بإخفاء الحقيقة: «الجماعة ديل معروفين يعني»، مشيرًا إلى قوات الدعم السريع، ويضيف: «لما يمنعوا تصدير سلعة من مناطق سيطرتهم معناها هم شغالين عليها ودا بيعني انها بتدخل أكيد في تمويل القتال».
ولكن الأخطر من ذلك، أن هذه السيطرة لا تُضعف فقط الدولة السودانية من خلال حرمانها من أحد مصادر الدخل الرئيسية للعملة الأجنبية، بل تعيد تشكيل العلاقة بين المنتجين والأسواق العالمية. فبفضل هذه الشبكات غير النظامية، لا تزال شركات كبرى حول العالم تحصل على الصمغ العربي – وإن كان بشكل غير مباشر – دون أن تمر بآليات التتبع أو الشهادات التي تضمن معايير الاستدامة والشفافية. ما يُسوّق في دول العالم اليوم قد يكون قد خرج من قرية تحترق، أو من غابة أُحرقت عن آخرها.
في «اقتصاد الظل» هذا، تتحول تجارة الصمغ العربي من كونها موردًا وطنيًا، إلى أداة بيد الميليشيات، ليبقى التساؤل الأساسي: هل تعي الشركات العالمية أنها تشارك في تمويل اقتصاد الحرب؟
ضربت نجلاء مثالًا بسنار والقضارف شرق السودان، وهما من الولايات الكبرى التي تحتوي على مساحات واسعة من الغابات الشعبية المعتمدة كليًا على مياه الأمطار. وقالت إن هذه الغابات تعرضت لضغط كبير بسبب الاعتماد عليها في الطهي والتدفئة خلال الحرب، رغم أنها لم تكن ساحة قتال مباشرة.
لكن في الجانب الآخر هنالك مناطق عدة في ولايات مختلفة تأثرت بلا شك بصورة مباشرة بالحرب نسبة لأن الغابات في هذه الولايات توجد داخل المدن مثل ولاية دارفور وولاية الفاشر وولاية نيالا حيث توجد غابات «بِليل» التي زرعتها نساء منطقة نيالا ونساء معسكرات اللجوء تحت إشراف الجمعيات النسوية الغابية، هذا بالإضافة إلى غابات«نادية شقرا» المشهورة.
نادية والخمسون غابة
في الوقت الذي كانت فيه النساء في مناطق الصراع يحاولن التأقلم مع واقع متغير، ومقاومة آثار فقدان الغابات بوسائل محلية بسيطة كجمع الحطب أو بيع الصمغ، برزت مبادرات فردية ذات أثر جماعي، تقودها نساء رفضن أن يصبحن ضحايا للخسارة.
في الفاشر غربًا، اختارت نادية شقرا، وهي من عائلة ذات وزن اجتماعي، الرهان على الأرض فأسست حوالي خمسين غابة شعبية نسوية، أنشأت مشاتل من دخلها الخاص، حفرت الأحواض وزرعت شتول الهشاب ووزعتها على القرى، وأسست جمعيات نسوية أدارتها باحتراف.
كانت نادية تعلّم النساء كيف يعتنين بأشجار الهشاب والطلح، كيف يجرحن الشجرة دون إيذائها، وكيف يحولن موارد الغابة إلى مصدر دخل دائم يحفظ كرامتهن، ومع الوقت أصبحت مرشدة بيئية تنتج مواقد طينية لتقليل الاعتماد على الحطب وتنشر الوعي بأهمية حماية الغابات.
«إذا غابات نادية شقرا لسه بخير، فده مكسب كبير. مش بس لنادية، للبلد كله»، تتحدث عنها نجلاء بقلق يخالطه أمل إذ انقطعت أخبارها وأحوال غاباتها بعد سيطرة قوات الدعم السريع على المناطق التي كانت تعمل فيها.
الغابة كرئة اقتصادية
«نحن ما بس زرعنا أشجار، نحن زرعنا فرص»، تقول نجلاء بفخر، وهي تتحدث عن مشروع غير مألوف في الأرياف، هو «تجارة الكربون».
وراء ما تمنحه الأشجار من صمغ يُرى ويُلمس، كانت تخبئ في جذوعها مكسبًا آخر لا يُرى، الكربون. ففي السنوات الأخيرة، أدرك سكان الغابات أنها قادرة على إنتاج دخل مزدوج – مادي وبيئي – عبر مشاركتها في أسواق الكربون، حيث تشرح نجلاء أن الوزارة، بالتعاون مع جهات دولية ومحلية، أشرفت على مشروع لتجارة الكربون في الغابات الشعبية والعوائد ذهبت بالكامل لدعم النساء، زُرعت المزيد من الأشجار وركبت خلايا طاقة شمسية وتوسعت المساحات الخضراء.
آلية المشروع كانت بسيطة، شركة قطاع خاص (شركة حجار)، التي تُعد مثل غيرها من الشركات المساهمة في التلوث الصناعي، شاركت في المشروع كخطوة سبّاقة لتعويض بصمتها الكربونية، إذ موّلت زراعة آلاف الأشجار في الغابات الشعبية، في محاولة لمعادلة ما تطلقه من انبعاثات، في نموذج يُعرف بالتعويض البيئي، بهذا الشكل، تحولت شراكتها مع الوزارة والجمعيات النسوية إلى علاقة تبادل: النساء يوفرن الحل البيئي، والشركة تسهم بالتمويل مقابل تحسين صورتها البيئية وتخفيف أثرها السلبي.
ونجلاء، التي لا تخفي حماستها للمشروع، كانت تكرر خلال المقابلة أن الرهان كان على النساء تحديدًا. تقول: «لما تنتعش حياة النسوان، بيتغيّر كل شي… أسرهن، أولادهن، بيوتهم، وحتى القرية كلها»، تضيف ضاحكة: «نسوان المناطق دي ما بحبوا الرجال تجري في يدهم القروش لأن طوالي بمشوا يعرسوا»
بهذا المزاح الذي يخبئ خلفه وعي عميق بالآليات الاجتماعية، تلخص نجلاء فلسفة المشروع: التركيز على النساء لا يعني فقط تحسين دخلهن، بل تمتين المجتمع بأكمله.
تعتبر مشاريع تجارة الكربون أداة فعّالة لمكافحة إزالة الغابات وتحسين سبل عيش الناس شريطة ألا تتحول إلى أداة جديدة تستغلها الشركات الكبرى لتنظيف سمعتها على حساب السكان المحليين. وفي سياق متصل، وقبل حرب السودان، ظهرت حاجة ملحة لمزيد من العدالة في أسواق الصمغ حيث كانت هناك محاولة جادة لكسر هيمنة السوق التقليدي عبر إنشاء بورصة محلية للصمغ العربي، أطلقتها وزارة الزراعة والغابات، واختلفت في جوهرها عن البورصة المركزية في مدينة الأبيض التي طالما هيمن عليها كبار التجار والوسطاء.صممت هذه البورصة لتتعامل مع المنتجين مباشرة من مزارعين إلى الجمعيات الغابية، خاصة النسوية منها، بهدف تقليص دور السماسرة وتحقيق عدالة سعرية تحفظ قيمة العمل في الغابات وتضمن حقوق المزارعين في العلاقة التجارية المركبة والطويلة التي تضم تجارة الصمغ العربي.
لكن هذه التجربة، مثل كثير من المبادرات الواعدة، توقفت مع اندلاع الحرب. توقفت البورصة وتوقفت معها فرصة نادرة لإعادة ترتيب العلاقة بين المنتج والغابة والسوق، على أسس أكثر إنصافًا واستدامة.
من البورصة المحلية إلى تجارة الكربون في ظل الحرب، بقيت الغابات الشعبية واحدة من الشواهد القليلة على أن الحلول تبدأ من داخل المجتمعات نفسها، وأن الغابة ليست فقط أشجارًا، ولا الصمغ مجرد سلعة. الغابة في السودان، وخصوصًا تلك التي أنشأتها النساء واعتنين بها، كانت نظامًا حياتيًا كاملًا… اقتصاد، ومعيشة، وحماية من التصحر، ومنصة اجتماعية لصون حقوق النساء دون سمسرة.
وهكذا، اقترن سقوط الغابة بسقوط ما هو أكثر من الأخشاب والظلال. سقطت معها شبكات الرعاية المحلية، والخبرة المتوارثة، ومساحات الأمان التي بنتها النساء على مدى سنوات، وشبكات الرعاية التي كانت نسيجًا اجتماعيًا حيًا، حيث لكل من هؤلاء النسوة دورها العملي الذي تعلمه جيدا في الزراعة والحصاد والتخزين ودورها الاجتماعي في التعليم والإرشاد ومساندة بعضهن البعض في ضيق الحال أو الفرج، أما الخبرة، فكانت تتناقل بالأيدي والنظرات، لا تحتاج إلى ورق أو شهادات، طريقة الجَرح الصحيح لشجرة الهشاب، توقيت المطر، وأفضل وقت للحصاد.. كلها معارف ظلت حية بفضل هؤلاء النسوة.. وبعد الحرب بات هذا كله مهددًا بعد أن حولت الحرب تلك الغابات إلى بعض الفحم والكثير من الرماد.