fbpx

محاجر بريّة بني نعيم.. جبل أنهكه الناس

من السهل على المرء أن يضيع في هذه المنطقة أو أن يتعرّض لحادثٍ، خاصة لو لم يكن يعرفها جيدًا أو لم يكن يرافقه أحد
ــــــــ المـكـانــــــــ حالة أرض
25 يوليو 2022

يوحي منظر الجبال أنها شيء عنيد ضدّ الكسر، ثابتةٌ ومتماسكةٌ ومنيعةٌ كأنها حصن نفسها، لكن هذا التصوّر يتزعزع وينهار عندما تقف على مطلٍّ وتنظر إلى المقلع. المعدّات في الأسفل تنخر بطن الجبل، تغرف منه “الذهب الأبيض”؛ حجرٌ جيريٌ أبيض يُستخرج منها ويُنقل إلى أماكن أخرى ليغيّر أيضًا في تضاريسها وعمارتها وشكلها الذي ألفناه لعقود. 

يد الإنسان كعادتها تعبث بالطبيعية تأخذ منها دون أن تعطيها، تصنع كياناتٍ معماريةٍ جديدةٍ. صحيح أنها معالم مبنيةٌ من صخور جبال الأرض نفسها، لكنها سلاسل وأبنية لا علاقة لها بالمكان من حولها، هجينةٌ تستغربها عينايَ التي تعرف هذه القرى منذ الطفولة.

بريّة بني نعيم.. صحراء على مرتفع 

يحاوط المعمار بلدة بني نعيم من كل جانب، سلاسلٌ وأبنية. قرّرتُ أن أذهب إلى أصل هذا العمران الجديد؛ إلى المحاجر، يدفعني فضولي إلى اكتشاف بريّة بني نعيم التي تقف على منطقة مرتفعة، رغم ذلك فإنها أقرب إلى أن تكون صحراء.

أثناء قيادتي، خاصة في المسافة الممتدة من بيت لحم إلى الخليل، كنت أسير في خط أخضر تحفّهُ الخضرة والأشجار والحشائش من الجانبين، وعلى مدّ النظر تسترخي كروم العنب وبساتين الفاكهة. وكلما ابتعدت في الطريق واقتربت من الشرق تبدّلت الأرض كاشفةً عن وجهٍ جديدٍ مختلفٍ تمامًا؛ الوعورة تعلن عن وجودها. يتلاشى الأخضر ويحلّ محلّه الأصفر والترابي والرمادي بتدرجاتهم. 

ما إن وصلت إلى المكان، حتى أدركت أنني لم أنتقل من بيئة إلى بيئة أخرى فقط، بل تغيّرت حالتي الذهنية ومزاجي، وجدتُ نفسي في مناطق حفْرٍ ضخمةٍ جدًا وشوراع صعبةٍ وخطرةٍ. 

كانت المعدّات تقترب من الجبل تقطع بعض الأحجار بسهولة كما تقطع السكين الجبن. لا يخلو الأمر من حجر يقاوم، فيستغرق قصّه ما بين 8 إلى 12 ساعة. رغم كل هذا التقدّم وكل هذه الآلات خلت نفسي في زمنٍ قديمٍ، أو مشهدٍ من فيلمٍ عن المناجم أو العبودية وخضوع الإنسان. كانت مفارقةً كبيرةً أن تخطر لي كل هذه الأفكار رغم أنّ الخاضع الوحيد في ما أراه أمامي كان جبلًا أنهكه العطاء.

يتعالى غبار قصّ الحجر ليغطي الأفق ويتطاير وتحمله الرياح إلى البلدات القريبة فيجعل تنفس الهواء أصعب. تزيد الشاحنات الضخمة على الطريق السريع الصخب والخطر، بينما تحمل الصخور التي خمّنت أن وزن الواحد منها لا يقل عن ثلاثين إلى أربعين طنًا. تسير هكذا بلا إجراءات حماية أو سلامة لتتحوّل إلى خطر داهمٍ يهدد كلّ من يقترب منها.

من السهل على المرء أن يضيع في هذه المنطقة أو أن يتعرّض لحادثٍ، خاصة لو لم يكن يعرفها جيدًا أو لم يكن يرافقه أحد. إنها أشبه بحقل ألغامٍ حيث تفاجئك هنا أو هناك حفرٌ ضخمة أو طريق ينتهي بلا مقدمات، لا وجود لإجراءات حماية أو تعليماتٍ تدلُّ العابرين أو المستكشفين

جيولوجيا الحجر في فلسطين

الحقيقة، لا أستطيع الزعم إنني لم أتمتّع بالمنظر، كفنّان ورسّام أبهرتني الألوان، وحين تأمّلت موضع قصّ الجبل رأيت طبقات لونية متعددة فوق بعضها، وكلما حفروا وقصّوا أعمق كلما تغيّرت الألوان وأخذت تدرجاتٍ مدهشة.

على الرغم من التنوع الصخري لجيولوجيا فلسطين التاريخية، إلًا أن وجه الأرض مغطى بالحجر الجيري. تختبئ خلف هذه القشرة طبقات من الحجر الرملي، والدولوميت، والجبس، والحجر الرملي النوبي ويتراوح لونها من الأبيض إلى الوردي فالأصفر والبني المائل للبرتقالي. 

تشكّل نتوءات الحجر الجيري، التي يصل سمكها إلى 800 متر، العمود الفقري للمناطق الجبلية والتلال الممتدّة من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها، وتُعرف هذه النتوءات باسم “حجر القدس” أو “حجر الأرض المقدسة” أو “حجر فلسطين”، وتستخرج في مئات المقالع المنتشرة وتستخدم في إنتاج الألواح وأحجار البناء وأحجار الزينة والبلاط. 

من بعيد، وراء المقلع تظهر جبال الأردن وتلك الطرق التي تقود مَن يمشيها إلى البحر الميّت. كنت أبدّل نظري بين الأفق وبين القاع الذي تكوّن على يد العمّال والآلات. تخيلته موقع تصوير فيلم، أو مسرحًا لحفل موسيقي، ذلك أن الأصوات مختلفةٌ بالفعل هنا. لست أدري إن كان السر في الأفق المفتوح أم الجبل الذي بقروا جوفه، أو طبيعة المكان الطلقة والحرّة. كانت الأصوات، حتى صوتي أنا، أعلى وأوضح وأعمق لا جدران تكتمها ولا عمائر ولا ضجيج يحول بينها وبين أن تعطي كل ما عندها.

معضلة البيئة والثروة

يُصَدّر الحجر الفلسطيني اليوم إلى العديد من دول العالم، من جواتيمالا إلى تركيا والهند وعُمان، وتوظّف صناعة الحجر ما بين 15.000 إلى 20.000 عاملٍ، وتشكّل عائداتها نسبة 20-25٪ من إجمالي الإيرادات الصناعية لفلسطين، و 4.5٪ من إجمالي الإنتاج القومي. 

لا يمنع ذلك من أنها صناعةٌ تمارس دون أن تكون مدروسةً بيئيًا، فالمقالع تؤثر على أنظمة المياه الجوفية والسطحية، والتنوع الحيوي، إلى جانب مضار المحاجر المتعلقة بالخراب الذي سببته للأراضي الزراعية، إذ يزعم مهندسون زراعيون أنها قضت على جزء كبير منها، فالمواد السائلة التي تنتج عن الآلات مثل الروبة تغيّر خصائص التربة كما تشكّل قشرة صلبة فوقها تجعل نمو البذور والنباتات والأشجار صعبًا. مثال على ذلك ما حدث في منطقة الشيوخ التي كانت مشهورة بالعنب واللوزيات قبل أن يبدأ فيها مشروع لإحدى الكسّارات. 

المقالع ليست بعيدة بما يكفي عن أماكن الحياة اليومية للناس كالمدراس والبيوت، حتى أن أطفالًا أوشكوا على السقوط من إحدى هاويات محاجر بني نعيم، إلى جانب تلوث الهواء والضجيج الذي أدى إلى هجرة أنواعٍ من الطيور والحيوانات البريّة التي لم تعد تتعرف إلى البيئة التي لطالما ألفت الحياة فيها، ناهيك عن تأثير أعمال الكسّارات على زيادة هبوب الرياح الخماسينية ومعدلات المطر الحامضي، إذ تحتوي النفايات المتولدة من عمليات استخراج الصخور وقطع الأحجار على مكونات كيميائية من معادن وأكاسيد وغازات تقود إلى هطول أمطار حمضية قاتلة للغنى الحيوي والبيئي.

المقلع والإنسان 

الحفر، القطع، النشر، التكسير، الطحن، الصقل، النقش؛ عمليات تقوم بها آلات يحركها الإنسان. هنا يقف الجبل وأمامه العمّال وبينهما آلات مخيفة في أشكالها وأسمائها: المطحنة، المنشار، صانعة الرمل، الكسارة المخروطية، كسارة الفك، كسارة تصادمية، كسارة تحريضية، غسالة الرمل.

في 2014 قتل المنشار ثلاثة شبان في محجر بيت فجار جنوب بيت لحم، وفي القرية نفسها سقط مراهق من أعلى المقلع واصطدم بإحدى اللآلات المرعبة فقتلته على الفور، لكن هذا لا يمنع أهل القرى المتضرّرة من اعتبار المقالع مصدرًا لرزق أبنائهم، في ظلّ صعوبة العيش والتنقل وفرص العمل القليلة. 

من جهة أخرى، أغلقت إسرائيل محاجر فلسطينية أُنشئت حولها المستوطنات، خوفًا على صحة المستوطنين والهدوء الذي لا بدّ أن تتمتع وتنعم به المناطق السكنيّة.

بل إن قوانين حماية البيئة من المقالع والكسّارات سُنّت عام 1998 في إسرائيل دون أن تنطبق هذه القوانين على البيئة في معظم أراضي الـ 67، حيث تحتاج إسرائيل إلى خمسين مليون طن من مواد البناء الخام، ربع هذه الكمية يأتي من المحاجر الفلسطينية. كما ترفد صناعة الحجر خزينة إسرائيل بـ 6.1 مليار شيكل، تكوّن محاجر الضفة الغربية 20% من قيمة هذا الدخل، بحسب تقديراتٍ أجريت في 2014.  

في منطقة مرتفعة جدًا تطل على أحد المحاجر في بريّة بني نعيم، وقفتُ يرافقني أحد أبناء المنطقة كدليل وفكّرت في ما يخسره من لديهم فوبيا الأماكن الشاهقة. وبينما كنت ألتقط الصور سمعنا صوت سيّارةٍ تقترب، سألني سائقها بتشكّك ما الذي أفعله ولأي جهةٍ ألتقط الصور. أجبته أنني من الضرائب، وصمتُّ بجدية. تركنا الرجل يصدق المزحة دقائق قبل أن أخبره أنني فنان وهذه الصور لمشروعٍ يخصّني.