fbpx

ياسمين (10 سنوات) تعمل في جمع القطن منذ أن كان سنها 6 سنوات

أطفال جمع القطن.. يوم عمل في هريد

يفضل السماسرة يد الأطفال العاملة لأن أجرتها أقل، لذلك ليس غريبًا أن تبلغ نسبة الأطفال العاملين في الفيوم 44% من مجمل عدد الأطفال فيها
ــــــــ العمل
31 مارس 2023

يقال إن على الفوتوغرافي الذي يختار التقاط الصور للأطفال أن يستعد لأن يكون طفلًا هو نفسه. صحيح أن الأطفال يتصرفون بعفوية بطبيعة الحال، لكن سرعان ما يعلو جدار بينهم وبين أي راشد يعجز عن مشاركتهم عالمهم. في حالتي، كانت المسألة أن الأطفال، أبطال صوري، لم يكونوا أطفالًا وحسب. إنهم صغارٌ يقومون بأعمال الكبار. رغم ذلك فإن قضاء الوقت معهم أثناء قيامهم بهذه الأعمال، كان محط استغراب باعتبار أنني شاب يقضي وقتًا طويلًا مع أطفال. لربما من الضروري الآن أن أوضح أن صفة “عمّال جمع القطن” لا بدّ أن ترافق صفة الطفولة هنا؛ مسألة قد أنساها أنا، أو ينساها ذووهم، أو ينسونها هم أنفسهم في خضم لعبة التصوير.

يتمنى يوسف أن يمتلك يومًا ما حقلاً كبيرًا به حمار وأبقار وماشية حتى لا يضطر للعمل عند أحد مرة أخرىالفيوم ، مصر 2022

أيام القطن كما عاشتها أمي 

حين بدأت مشروع تصوير أطفال القطن، كانت الفكرة التي أتيت منها مخالفة تمامًا للواقع. كنت قادمًا إلى موسم جمع القطن من الماضي، من تلك الغلال البيضاء السعيدة التي وصفتها لي أمي. كانت حكاياتها عن قريتنا -بمحافظة الفيوم- كما عرفتها وهي طفلة تأسرني، فأخرج في رحلة استكشاف بحثًا عن مكان ما زالت به معالم من الريف الذي عاشته والدتي. حتى أنني عدت إلى أغاني القطن القديمة بحثًا عنه. 

سمعت صوت محمد أفندي صادق يصدح: “نوّرت يا قطن النيل يا حلاوة عليك يا جميل، اجمعوا يا بنات النيل يلا، دا ما لهوش مثيل قطن ما شاالله”. هذا فضلًا عن الأغاني الثورية الشهيرة التي جاءت مع عبد الناصر “فدادين خمسة” و”ع الدوار”. بل إن الثلاثي أم كلثوم وأحمد رامي وزكريا أحمد قدّموا أغنية «القطن فتح هنّا البال، والرزق جه وصفالنا البال، اجمعوا خيره مالناش غيره، يغنى البلد ويهنى الحال». 

حدثتني أمي عن جمع القطن، موسم السعادة كما تقول. فالخير حين يأتي كان يعمّ على الجميع، أصحاب الأرض والفلاحين والشابات والشبان الذين يخرجون في فرق للحصاد، فمن مدخول هذا الحصاد سيخطب الشبان وتجهز البنات وتبنى البيوت وتُشترى الملابس الجديدة. 

وبينما أنا في رحلتي الشخصية في ذاكرة أمي، كنت أوثق أيضًا كيف تحولت القرية الزراعية إلى بلدة لم تتمدن تمامًا ولم تبق ريفية في الوقت نفسه. إنها شيء بين بين، والمفارقة أن المسافة بين بلدتي اليوم وبين أن ترجع ريفية أصبحت بعيدة جدًا، مثلما أنها على حد سواء، بعيدة جدًا عن أن تتحول إلى مدينة. 

لا أدري أي سذاجة تلك التي دفعتني إلى الخروج بحثًا عن هذه الفِرق في القرى التي ما زالت تزرع القطن. هل ظننت أنني سأعثر على الغبطة نفسها التي وصفتها والدتي لم يمسسها شيء؟ أم ربما خلت أنني إذا ركبت الحافلة من قريتي إلى قرى القطن فإنني سأنتقل عبر الزمن وسأرى العالم كما عاشته أمي في شبابها.

يركب في السيارة عدد كبير من الأطفال موزعين ما بين داخل السيارة وسطح السيارة والباقي ممسك بباب السيارةالفيوم ، مصر 2022

ترتيبات يوم عمل 

فعلًا، تواصلت مع سمسارٍ ينظم فرق جامعي القطن في إحدى القرى البعيدة عن قريتنا، أقنعته بأن يصحبني معه لأنني أطمح إلى توثيق موسم القطاف بكاميرتي، فضرب لي موعدًا في قرية هريد بمحافظة الفيوم. 

هريد بعيدة جدًا عن قريتي ويفترض أن أكون فيها مع أول خيوط الفجر. لكن وسائل النقل في الريف تتوقف عن العمل بعد العِشاء. خرجت في ساعة متأخرة من الليل، قرابة الحادية عشرة، وقفتُ على الطريق العام لأركب في أي مواصلة أو سيارة عابرة. كان الأمر يستغرق أحيانًا الساعة أو الساعتين قبل بلوغ هريد، وما أن أصل أجلس على قهوة منتظرًا الفجر.

يجلس الاطفال بعد انتهائهم من العمل في انتظار الأجر الضئيل – الفيوم ، مصر 2022

وصلتُ إلى موقع التجمّع المتفق عليه، فوجدت السمسار والعمّال قبلي، ولم يكونوا إلا أطفالًا تتراوح أعمارهم ما بين 6 إلى 14 عامًا. لا شك أنهم كانوا متعطشين للمزيد من النوم، لكن الطريق المعتم المأهول بالكلاب الضالة الذي يسلكونه في طريقهم طيّر هذه الرغبة وأكمل صراخ السمسار على أي أثر تبقى منها. إنهم ليسوا أطفالًا الآن، هؤلاء هم عمّال وعاملات حقول القطن والشيح وعبّاد القمر. 

مئة وخمسون طفلًا في الفرقة الواحدة للسمسار الواحد، يقفون بانتظار توزيعهم على عدد من سيارات نقل وجرارات عند اللزوم، في كل واحدة يركب عشرون منهم في الصندوق الذي يتسع لـ 12 فقط. ومن تبقى يصعد إلى سطح السيارة، أو يقفون طيلة الطريق وهم يقبضون بأيديهم على باب السيارة. لم يخلُ يوم العمل الذي امتد إلى سبع ساعات من الإهانات والتأنيب، وصل الأمر إلى الضرب أحيانًا بل والخصم من الأجرة اليومية القليلة أصلًا. بالنسبة إلى السمسار تبدو هذه عملية ضرورية لتطويع الأطفال على العمل، وبناء شخصية العامل فيهم، حيث أن أسباب العقاب مختلفة كأن يكون الطفل بطيئًا أو مشاغبًا أو يتحدث إلى طفل آخر ويهدر الوقت.

يفضل السماسرة يد الأطفال العاملة لأن أجرتها أقل، فالفلاح البالغ يتقاضى سبعين جنيهًا (أقل من دولارين) ليقوم بالعمل نفسه. وتتراوح أجرة الطفل العامل ما بين عشرين إلى ثلاثين جنيهًا (أقل من دولار واحد)، أقلها للأصغر سنًا. لذلك ليس غريبًا أن تبلغ نسبة الأطفال العاملين في الفيوم 44% من مجمل عدد الأطفال فيها، بحسب مؤسسة Terre des hommes، فهم يد عاملة رخيصة ومطيعة. وهذه نسبة مرتفعة إذا ما عرفنا أن تعداد الأطفال العاملين في مصر يصل إلى 26% من مجمل عدد الأطفال في البلاد.

يمتد موسم جمع القطن من نهاية أغسطس (آب) حتى منتصف أكتوبر (تشرين الأول)، وغالبًا ما يكون يوم العمل في درجة حرارة مرتفعة، رغم ذلك يرتدي الجميع ملابس شتوية لتحمي أجسادهم من شوك القطن. يبدأ الصغار باكرًا، وعند التاسعة يتناولون الإفطار، بعضهم يحضر حبات من البلح، ثم يكملون جمع القطن حتى منتصف الظهيرة.

بدل إفطار – الفيوم ، مصر 2022

ممنوع تصوير البنات 

لم يكن من السهل كسب ثقة آباء الأطفال وأمهاتهم، وجودي كان مستغربًا، والشك في قيمة ما أفعله بالكاميرا ظلّ قائمًا. لكنني ترددت طويلًا على القرية، بدأت العمل في سبتمبر (أيلول) 2021، ورافقت العمّال الصغار عشرات المرات من أول اليوم إلى آخره، أي من الرابعة فجرًا حتى الثانية عشرة ظهرًا، كان آخرها في 2022، والحقيقة أنني أفتقد مشاويري معهم. 

هذا التردد هو ما جعل وجهي مألوفًا وكاميرتي أقل خطورة بالنسبة إلى أهل هريد، فسمح بعض عائلات الأطفال/العمّال بدخولي إلى بيوتهم والتصوير فيها، مع وجود كثير من المحاذير طبعًا، خاصة تلك التي تتعلق بتصوير الفتيات العاملات.

الفيوم ، مصر 2022

تمنيت مثلًا تصوير نيّرة، طفلة على عتبة المراهقة تعمل وتدرس وتحلم بأن تكون طبيبة مثل د.مجدي يعقوب، على حد قولها. لكن رفض عائلتها كان قاطعًا. فظلت من الشخصيات المؤثرة في رحلتي دون أن تكون لها صورة في مجموعتي. 

كذلك هي رِتاج، الطفلة التي أعطتني طاقيتها حين رأتني أقطر عرقًا بينما أجمع القطن معهم، ولم تقبل رفضي جوابًا. يبدو أنها اعتبرتني أكثر هشاشة منها من حيث أنني لست معتادًا على العمل في هذه الظروف، في اليوم التالي أحضرت رتاج لي فطورًا معها.

يصارع الريف ليتخلص من أن يكون ريفًا بشكله المعماري وهويته الزراعية البائدة تقريبًا. ثم يصارع الريف نفسه لأجل أن يظل ريفًا بقيمه المتعلقة بالنساء على وجه الخصوص. فرغم كل وسائل التواصل الاجتماعي والأبواب المفتوحة على كاميرات التواصل الاجتماعي والتي وصلت إلى بيوت الريف بالفعل، يختلف الأمر والقيم تمامًا حين يتعلّق الأمر بمصوّر رجل جاء ليلتقط الصور. تصبح الطفلة مشروع امرأة لا يجوز تصويرها ناهيك عن نشر صورها، وتصبح المراهقة ابنة الأربعة عشر عامًا عروسًا مستعدة لاستقبال الخاطبين. وسرعان ما يصير الجسد المؤنث في مرحلة مبكرة جدًا أرضًا مطوّقة كما لو كتب عليها “احذر ممنوع التصوير”.

عندما تصل الفتاة إلى سن 14 تكونعلي وش جوازكما يقولونالفيوم ، مصر 2022

من يوميات يوسف وياسمين وداليا 

كانت لدي تساؤلات كثيرة، لا أعرف إن كانت موجودة لدى الأطفال أنفسهم؛ هل هم مجبرون على العمل أم يمكنهم رفض الذهاب إليه في أي وقت؟ هل يعرف ذويهم كيف تجري معاملتهم بالضرب والإهانة في الحقول؟ هل يحتفظون بشيء من الأجر لأنفسهم أم يذهب كله للعائلة؟ وقد وجدت الإجابات في يوميات من أتيحت لي مرافقتهم والتحدث مع ذويهم ودخول بيوتهم.

يبدأ عمل يوسف (11 عامًا) عند الثالثة والنصف صباحًا، مثله مثل رفاقه. إنه موسم القطن في نهاية أغسطس (آب)، وهو العطلة الصيفية التي يكدّ الصبي فيها ليساعد في مصاريف البيت وقد يتمكن من توفير بعض النقود لأيام المدرسة. من الأطفال من يعمل أملًا في جمع بعض النقود للّعب بالمراجيح وشراء الحلوى.

مع نهاية الصيف، وبعد أن جمع يوسف مبلغًا معقولًا، طلب منه والده، الذي يعمل سائقًا لسيارة أجرة، النقود ليشتري معزة. ولحسن حظ العائلة كانت المعزة حامل، وأصبح يوسف مسؤولًا عن رعايتها.

يوسف ومعزته – الفيوم ، مصر 2022

بعيدًا عن أيام العمل والدراسة، يأخذ يوسف جنيه من والدته ويشتري به لبّ أو شيبس. يلعب أحيانًا ويتشاجر أحيانًا أخرى مع أطفال آخرين، أو يذهب إلى الحقول ليركب الحمار ويتسلّى. يقول إنه يحب الحيوانات والفلاحة، بل إن برنامج الرسوم المتحركة المفضل لديه هو بقرة تتحدث وتلعب مع الأولاد وتنطلق معهم في مغامرات مختلفة.

تصرّ والدة يوسف على أن يلتزم بالذهاب إلى المدرسة في أيامها، لكنه يهرب منها لأن المعلمين يضربون التلاميذ الكسالى. ليس الأمر مثل ضرب السمسار بالنسبة للطفل العامل، فهذا الضرب آخره 25 جنيه، أما الطفل التلميذ فالمردود ليس سريعًا ولا مباشرًا ولن يمكّنه من شراء عنزة ولا حلوى ولا اللعب بالمراجيح.

أما الأختان ياسمين و داليا فتخرجان برفقة أخيهما عبد الرحمن كل يوم الفجر للعمل. كان والدهم، المصاب في قدمه، يعمل وهو طفل أيضًا في جمع القطن، بل إنه كان يعمل مع السمسار نفسه الذي يذهب معه أبناؤه.

وفي حين لم تعرف والدتهم العمل في الحقول وهي طفلةً، تعمل ابنتها داليا منذ أن كانت في الصف الثاني الابتدائي وقد دخلت الإعدادية اليوم. ومع دخولها ستكون هذه آخر سنة عمل لها، إذ ستظهر عليها علامات الأنوثة قريبًا. أما ياسمين ابنة الخامس ابتدائي فما زال أمامها بضع سنوات أخرى في الكد قبل أن تجلس في البيت مثل داليا.

تحلم نيّرة أن تصبح يوماً طبيبة جراحة كالدكتور مجدي يعقوب – الفيوم ، مصر 2022

ما تزال الكاميرا تلتقط الصور

بدأت المشروع منذ عام ونصف تقريبًا، وما زال مستمرًا. التقطت، دون مبالغة، آلاف الصور. بعضها عفوي تمامًا وبعضها وقف الأطفال أمام الكاميرا للتصوير عمدًا. أفكر أحيانًا في التقاط صور للأيدي فقط، اليد تلتقط القطن أو الشيح أو عبّاد القمر، والكاميرا تلتقط اليد وهي تجمع وتحصد.

 أفكر بالاقتراب أكثر من حيوات العمّال والعاملات في هذا السن، أن أعرف كيف يفكرون بالعمل مثلًا، وما معنى أن تكون عاملًا بلغة الأطفال، أفكر أن أحول هذه اللغة إلى فوتوغرافيا. 

الفيوم ، مصر 2022

الفيوم ، مصر 2022