في الحرب عبث كبير في الذاكرة، محوٌ لأصالة التعريفات ورائحة الذاكرة بكل مراحلها، ليس اعزُّ على الغزّي من لحظات طفولته التي قضاها خارجاً من بيته ناعس الجفنين، عقله بين النوم والصحو، ليقف في طابور المدرسة يرفع يديه ويحركهما متثاقلاً أو ربما كان يقف في هذا الطابور كمساحة شوق لصديقه يحكي له كيف مرّ يومه بالأمس، أو ليجمعه حديثٌ بين ثلاثة وأكثر حول دوري كرة قدم، حتى يمرَّ الأستاذ أو المعلمة بجانب كل منهم فيتظاهرون بنشاطهم وتفاعلهم مع إرشادات المعلم على المنصة، هذا كلّ ما يمتلكه عقل طفل عن الطابور، ربما يرافقه تعبير ساخط على فرض الوقوف صباحاً، رغم كونه طابوراً لم يكن يتعدى العشر دقائق.
سُحِقت الذاكرة البريئة، وأُفسِد طعم الذكريات الحلو، صباح اليوم الثاني من الحرب، حين وجد الغزي نفسه أمام طوابير مختلفة، تتفنن في إذلاله ومعاقبته، تعاقبه على هويته؟ ربما، ففي الأصل، جاءت كلمة “طابور” من اللغة التركية وهي تعني اصطفاف جماعة من الناس ثم توسع اللفظ فكان معناه “طابور الجزاء” أي عقاب الجندي على تقصيره، هذا شعورك الوحيد وأنت تقف (متجاهلاً كل المخاوف) وسط طابور ممتدّ، طابور لا ينتهي إلا بانتهاء صبرك، ستشعر أنك تدفع ثمن خطأ صنعته يداك، لكن أي خطأ ارتكبه ابن العشر أعوام أو حتى الخامسة عشر؟ لماذا عليه أن يتقن هذا الدور كله، ويحتمله؟
طابور الماضي ومهزلة الحاضر
إدراكنا لمعنى الطابور لم يكن أبعد كثيراً من طابور المدرسة، شيء عابر وسريع ينتهي بعد نصف ساعة -إن كان الأمر صعباً ومعقّداً-، لا أذكر أنني وقفت طابوراً يوماً ما سوى أثناء عملي كمعلمة وتقاضيّ راتباً من أحد البنوك، صادف الأمر جائحة كورونا ولاجراءات التباعد كان علينا الانتظار في طابور، عدا ذلك لم أعش طابوراً واحداً آخر قبل الحرب، وكذا الغزّي ربما أطول انتظار انتظرناه في عيادات الأسنان وما شابهه، ليس دلالاً للغزّي فهو مُتعب من لحظة عمره الأولى، الخدمات كانت تسير بشكل جيّد، لكن الآن، يدخل الغزّي الطابور صباحاً، لا يعرف كيف يخرج من بين أنيابه، يخرج من طابور يدخل في الآخر، من طابور الماء صباحاُ، إلى طابور الخبز، إلى طابور التكية، إلى طابور استلام طرد غذائي، وكلها بلا استثناء، طوابير مهينة للإنسانية داخل كل طفل وشاب وشيخ كبير، إذ تجد نفسك مرغماً على غض النظر عن الأشخاص من بعدك، شهادات كثر كتب فيها الناس “رأيت معلمي في الطابور”، “رأيت دكتوري الجامعي أمامي ينتظر دوراً لاستلام طبق بيض”، “رأيت معلمتي”، تُراهم فكروا بإيثار هذه القامات على أنفسهم ودورهم؟ لن تستطيع الحكم حتى وإن كانت الإجابة لا، لأن لعنة الانتظار ليست مرة واحدة في يوم الغزّي، كما أنها ليست في كل مرة “تُصيب” الهدف المرجوّ.
أظافر ناعمة تخترق طابوراً
حاجتك اليومية من ماء وخبز وطعام وغيرها، أمور تحدث بشكل عادي ومريح، دون جلبة وعناء، لكن الحرب أحالت كل مطلب لمشقة، تعب يطوي غصة في قلبك عند حاجتك لشرب الماء على الأقل، لأنك تستذكر حاجتك للوقوف طويلاً ومنذ لحظة الفجر الأولى في طابور المياه المحلاة لتحصل على ماء نظيف للشرب، وإن شعرت بالجوع تستذكر دور المخبز الذي يبدأ ولا ينتهي، تحرمك صعوبةُ الأشياء لذةَ الحصول عليها، وفي شعورك بالآخرين غصةٌ أخرى، إذ كيف يمرُّ عليك مشهد طفلة ذات سبعة أو ثمانية أعوام تقف مرتجفة من البرد في طابور المياه الصباحي؟ وطفل يحمل قالونات المياه الأثقل من وزنه ويحاول أن يصل بهما إلى الخيمة؟ مرارات تلاحقك حتى وإن انتهيت من كابوس الطابور لن ينجو قلبك من غصّة المشاهد.
في إحدى زقاق دير البلح حيث نزحت وعائلتي صادفت فتاة في عمر التاسعة تقريباً، مهندمة اللباس، شعرها مرتب بطريقة أحببتها دائماً، وتأكل الحلوى التي لوثت فمها، وبجانبها والدها يحثها على مسح فمها جيداً: “البنت لازم تكون مرتبة وحلوة دائماً”، غمرني الموقف واستلذ عقلي بمراجعة كل ماضينا مع أمي وأبي وكيف عانوا الأمرين مع خمس فتيات في عمر متقارب، أكملت سيري أحاول إخفاء ابتسامتي، ثم، في صدمة رأيت الفتاة تنتصف طابوراً للتكية، وسط عدداً هائلاً من الذكور بطباع غريبة ومختلفة، وهي بنظرتها المليئة بالنكران تنتظر أن يأتي دورها، ووالدها في طابور ثانٍ ينتظر أن يأتي دوره أيضاً، وأنا أرى المشهد كله علامة استفهام في وجه التعريفات، كيف تغيرت مِشية الفتاة من الدلال إلى العناء؟
تدخل فرداً تخرج خبراً
في بداية نوفمبر 2024، ضربت المجاعة جنوب القطاع، فُقد الدقيق من الأسواق، واعتمدت الكثير من العائلات على المخابز الآلية التي كانت تعمل بشكل محدود، فكانت أدوار الانتظار أكثر ثلاث مرات من الأيام الأخرى، وارتفعت الأسعار بشكل خيالي، رغم ذلك لجأ الناس إليه لقلة البدائل، ولظنّ الكثيرين أن طابور النساء أقل عدداً وحناناً من طابور الرجال، كانت النساء تذهبن للمخابز آملين الحصول على ما يسد رمق عائلاتهم وأطفالهم، لكن لم يكن يعرفن أن وقوفهن في طابور الخبز سيودي بحياتهن، فقدت ثلاثة من النساء حياتهن بسبب التدافع، اختنقن بحاجتهن، وبحرصهن على إطعام من حولهن، وفقدت أخريات حياتهن بسبب إطلاق النار حولهن محاولين ضبط سير الدور، رصاصة نظام كانت سبباً في حرمان أطفالاً من أمهم ومحاولاتها لأجلهم، هل كان على الغزي أن يدفع عمره مقابل رغيف؟
ومن عشرات المشاهد التي لن ينساها الغزّي، مشاهر قصف المخابز التي يصطفّ عليها مئات الأشخاص، في أكثر من استهداف مختلف الفترات فقدت عائلات فرداً منها على الأقل في محاولة الحصول على بعض الأرغفة، كيف أضحت علاقتهم مع الخبز بعد الخبر، هل يسمع العالم دقات قلوبهم حين يرون مشهد الطابور أمام أي مخبز؟ هل يعرف العالم كم يفكر هؤلاء الأشخاص بهوان قرصة الجوع على ألم الفقد إن أرسلت أحداً آخر للمخبز؟ ندوب لا يعرفها العالم ويحفظها الغزي.
لن تعرفه، ولا يعرفك
في طوابير الحياة اليومية التي عاشها الغزي، لم يكن الموت هو السيناريو الوحيد، قد تفقدُ أشياء كثر في الطابور، أثناء وقوفي في الطابور أمام أحد البنوك -التي لم تعد تعمل الآن- بجانبي دور الرجال فقد رجل ماله كله وهو خارج من (المذبحة) بعد قدرته على سحب راتبه الشهري، خرج من الطابور دونه كله. يتقن لصوص التجمعات معرفة تصيّد الفريسة دون انتباهها، وفي طوابير المخابز فقد الكثيرون هواتفهم وأموالهم، ومن الصعب عليك أن تخمن من الذي سرقك، أنت لا تعرفه، وهو بالضرورة لا يعرفك، هو يعرف السبل التي توصله إليك وما تمتلكه لا أكثر، وهذا شيء لم تخلقه الحرب، زادت نسبته في الحرب، ربما، لكن لا براءة للفعل بنسبته لحاجة الحرب، امتهن هؤلاء اللصوص السرقة قبل أن تُطلَّ علينا رأسُ الحرب وقبل أن تلقي بجسدها الثقيل فوق حاجتنا.
طابور الخيام فاعل وسبب
ربما في البعيد، كانت تسوقنا الأقدار لمعرفة الكثيرين من خلال شخصٍ واحدٍ، علاقةٌ واحدة تفتح آفاقاً لعلاقاتٍ أُخر، فنقول “تعرّف على واحد تعرف عشرة”، لكن لم يتسع خيال الغزي لسياق الحرب الحالية، فلم يعرف أن طابور الخيمة الأول الذي وقف في دوره بعد انسلاخه من مكان وزمان آخرين ووقوفه في طابور خارج الحي والعمارة والبيت الذي نشأ فيه، والذي لم يفكر حينها سوى في قضاء أيام قليلة في الخيمة ليعود لبيته بعد انتهاء الخطر، لكن الخطر ابتلعه والطابور مدّ لسانه وطال كافة مناحي حياته، وبعد عام وثلاثة أشهر على استمرار النزوح وشرود العقل قبل الجسد، حفظ الغزي الطوابير كلها، ميعادها، وكم تستغرق، وأسهل سبيل للتنصل منها، لكنها معرفة ممزوجة بالقهر والخذلان والإنكار، مهما بدا عكس ذلك، معرفة يغلفها شوقٌ بمخالبَ حادةٍ يحفر في الذاكرة كلّما انتهى فصلٌ يوميّ من المعاناة.
بعد عام وأكثر من ثلاثة أشهر على تشويه الذاكرة، وتجريب كل ما خطر على بال عدو وصديق، واحتمال مرارات ومحاولة اختلاق سعادات مزيفة، يستطيع الغزي العبث في قواميس اللغة، وأصولها، يستطيع أن يكون عضواً في مجامع اللغة العربية وأن يقدّم تصوّراً بتحويل “طابور” من اسم لفعل، ماضٍ ومضارع، فعل تمكّن من عمر الغزي دون اكتراث في اسمه ومكانته وحالته الصحية، فعل يستطيع الغزي أن يفرضه على العالم كما فرضه عليه صمتُهم وأيديهم المكتّفة. ليس “الطابور” فقط، كلمات كثر أخذت من جلد الغزيّ مسكناً لها، وعاشت بين تجاعيده، على العالم أن يعترف بها ويقرّها كما يريد الغزيّ ويراه أكثر حقيقة.