fbpx

حين تنكسر النظرة

من نظرة طائرة باردة، تتغيّر العدسة فتتكشّف ملامح إضافية.. شرفة فغرفة معیشة فدرج صغیر فصورة لامرأة تحمل طفلًا، فتعويذة تحفظ ما تبقّى
ــــــــ المـكـان
23 أبريل 2025

تبدأ هذه الحكاية من علوٍّ شاهق، من عين قمرٍ صناعي، ثم تهبط تدريجيًا، متوغّلة في التفاصيل: شرفة فغرفة معیشة فدرج صغیر فصورة لامرأة تحمل طفلًا. من نظرة الطائرة الباردة، تتغيّر العدسة فتتكشّف ملامح إضافية.. شرفة فغرفة معیشة فدرج صغیر فصورة لامرأة تحمل طفلًا، فتعويذة تحفظ ما تبقّى.

تقنيات الإبادة هي نفسها تقنيات السرد. الخرائط والصور الفوتوغرافية ترمي طلقاتها أيضًا. الدقة التي تُروّج لها هذه الآلات تأتي على حساب كل ما لا يُقاس. الرحلة ليست مستقيمة، بل حلزونية نحو الداخل: كيف يمكننا أن نحمل في أعماقنا عالمًا مهددًا بالزوال في كل لحظة؟

على مدار العام الماضي، تعلّمت كيف أقرأ خرائط صور الأقمار الصناعية *. كيف أتتبّع انحناءة شارع طفولتي وقد تحوّل إلى بكسلات مسطّحًة داخل هندسة رمادية لمناطق مستهدفة: محطة البنزين على أحد الأطراف، ومخيّم للاجئين الفلسطينيين على الطرف الآخر. هنا بيتنا القديم، وبجواره بنّ موسى وصيدلية سمير. أواصل تمرير اصبعي على الخريطة، فأقدّر موقع ملحمة حسيب التي كنّا نشتري منها اللحم لتحضير الكبّة النيّة أيام الآحاد. أفران المنشية حيث تعلمت صنع أول منقوشة. الحديقة التي كنّا نجمع منها العشب للأرنب الذي ربيناه على شرفة الطابق السادس. والمقبرة التي دُفن فيها والدي— قبره نصفه في الظل، ونصفه الآخر في الضوء.

وفوق الخريطة مباشرةً تظهر تغريدة عاجلة، إشعار بالتهجير مرسَل بدقّة حسابية لا تنفصل عن برودته. أحدّق في الشاشة، ولا ألمح وجوه الجيران والغرباء الذين لا يزالون يعيشون هناك، رغم الوضوح القاتل لماكينة حرب تعرف كيف تصوّب بدقّة. أتذكّر يوم زارتنا جدّتي من قريتها الجنوبية المحتلّة حينها، وعلّقت على باب شقتنا خرزة زرقاء، عين لحمايتنا من الشر ومن عين الحسود.

لا فوضى في الخرائط، لا ضجيج، لا رائحة، لا غبار. مجرد خطوط وإحداثيات. ومع ذلك، نتمسّك بما يذكّرنا بأننا لسنا مجرد أضرار جانبية: صورة مخبأة في درج، ملامح وجه طفل، تعويذة معلّقة على صدره. هذه هي الصورة التي أعود إليها كل مرة.. لا الطائرة، ولا القصف، ولا الخريطة، بل التعويذة وقوّتها الحامية التي لا تأتي من الخرافة فحسب، بل من الحكمة المتراكمة للجدّات وأولئك الذين عرفوا كيف ينجون، والذين نجوا من قبل.

* خلال العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان منذ ٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٣، وفي ظل التصعيد الأخير في أيلول ٢٠٢٤، بدأ رئيس قسم الإعلام العربي في جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي، باستخدام منصّات التواصل الاجتماعي لإصدار تهديدات بالإخلاء، على شكل خرائط وإحداثيات لمبانٍ مستهدفة، غالبًا بعد منتصف الليل، وبمهل قصيرة جدًا، ليشنّ بعدها الطيران الإسرائيلي عدوانه على الأحياء السكنية المكتظة. جاءت هذه التهديدات في وقت كان فيه كثير من السكان نائمين، أو غير متصلين بالإنترنت، أو لا يتابعون الأخبار بشكل مباشر.