fbpx

حب لا يحتاج إلى اعتراف متبادل

لم يستطع العلم تحديد مسببات مباشرة للإصابة بالزهايمر، توجد ممكنات كثيرة جدًا يمكن أن تؤدي إلى هناك، ولكن لا يوجد طريق رجوع، هي رحلة ذات اتجاه واحد، نحو مزيد من الغموض والتلاشي
ــــــــ تقدمـ العمـر
5 يونيو 2025

“نشأتُ في منزل جدي ناصر بمدينة كربلاء. كنتُ قريبًا منه طوال طفولتي، حيث استمددتُ منه حبًا وحنانًا عظيمين”، بالتأكيد تبدو الجملة السابقة عادية، مكررة، تتشابه مع ذكريات العديد من البشر. وسأضيف جملة أخرى ربما أيضًا تبدو عادية: “وفي السنوات الأخيرة من حياته، اكتشفنا معًا ألفة عميقة لم نعشها من قبل”.

قبل زمن طويل نبهنا تولستوي إلى أن الأسر السعيدة تتشابه، بينما تبقى الأسر الحزينة فريدة في حزن كل واحدة منها.

في العام 2014 تعرض جدي لواقعة مؤلمة، إذ فقد شقيقه الأكبر الأمر الذي أعاد له واقعة أشد ألمًا وقعت في السبعينيات عندما أعدم نظام صدام أخيه الأصغر الذي كان من أقرب الناس إليه. بعدها بدأ زمن جدي يختل، دخل في تقويم مختلف يخصه وحده.

في 2019 أصيب جدى بجلطة دماغية، فقد على إثرها ذاكرته بشكل شبه كامل، بدا كما لو أنه بدأ يعيش في زمن مختلف عنا، كأن علاقاته بالحاضر أخذت تنفك ببطء، بينما يصبح عقد السبعينيات هو الأكثر حضورًا، يتعرف على وجوه الأقارب من صورهم القديمة، وليس وجوههم الحالية. راح الأشخاص يختلطون أيضًا، فراح يتعامل مع زوجته -جدتي- كما لو أنها أمه، وهكذا كان علينا أن نتعايش مع جدي العزيز المصاب بالزهايمر.

حتى اللحظة لم يستطع العلم تحديد مسببات مباشرة للإصابة بهذا المرض، توجد ممكنات كثيرة جدًا يمكن أن تؤدي إلى هناك، ولكن لا يوجد طريق رجوع، هي رحلة ذات اتجاه واحد، نحو مزيد من الغموض والتلاشي، أو هكذا على الأقل نراه نحن من الخارج.

يحوّل المرض الذكريات إلى مشهد عائم من الحنين والأسى. أحيانًا كان يصر على العودة إلى منزله القديم، الذي هُدم قبل عقود، الذي يمثل بالنسبة له ذكريات شبابه السعيدة، مُصرًّا على العودة إلى منزله القديم واستئناف عمله السابق. ورغم أني كنت جزءًا من حياته، إلا أنه لم يعد يتذكرني، أخذت أتلاشى. لكنه ظل يؤدي صلواته في خشوع وجمال كما اعتدنا عليه في نفس المكان، لكنه لم يعد يتذكره.

عندما بدأت بتصوير بعض اللقطات كنت أحاول استكشاف ليس فقط معاناته مع الزهايمر، ولكن أيضًا حزني الشخصي على العلاقة التي كانت تمدني بالقوة وأصبحت مفقودة. بدا لي التصوير كتوثيق لجزء من ذاكرة جدي المتلاشية، واستعراض للصراعات النفسية التي خاضها جدي، خاصة عندما أراه يتواصل مع ماضيه أكثر من حاضره.

خلال هذه الفترة، كان عليّ أن أتعلم كيف أتواصل معه من جديد. في لحظات الارتباك، حين كان ينظر إليّ دون أن يتذكر من أكون، تعلمتُ كيف أتعامل مع هذه اللحظات المؤلمة. ومع اختفاء ذاكرته تدريجيًا، وجدتُ نفسي أعيد اكتشاف علاقتنا في سياق جديد؛ علاقة قائمة على الحب الذي لا يحتاج إلى اعتراف متبادل.