قبل أن يأخذ الحديث عن استخدام إسرائيل للتجويع كسلاح إبادة جماعية منحى واسع في الخطاب العام، كان الصحافي أنس الشريف، ابن مخيم جباليا، يقفُ في طوابير الجائعين في 4 تمّوز (يوليو) 2024، موثّقًا تدهور الوضع الإنساني نتيجة منع إدخال المساعدات. هناك، نقل أخبار المجازر اليومية التي حصدت مئات الشهداء والجرحى، جرّاء استهداف الأحياء المكتظة والعيادات والمستشفيات ومراكز إيواء النازحين. وكان أوّل من وثّق التهجير القسري لأهالي جباليا قبل أن يُعلن الجيش الإسرائيلي اجتياحه البرّي للمخيم وتهجير ما يقارب 400 ألف نسمة من شمال القطاع مطلع تشرين الأول (أكتوبر) 2024. بقي أنس هناك، بعينين مفتوحتين، شاهدًا على المجازر، على نفاد الأكفان من المستشفيات، وعلى عمل الفرق الطبية بإمكانات شبه معدومة تحت الحصار والنار.
أثناء إعداده تقريرًا عن تهديد الاحتلال بإخلاء مستشفى المعمداني في نيسان (أبريل) الماضي، قصفت الطائرات المستشفى، فتحوّل التقرير حينها إلى لحظة توثيق حيّ للجريمة. وفي إحدى تغطياته أمام مجمّع الشفاء الطبّي، بكى بحرقة حين رأى امرأة تسقط مغشيًا عليها من شدّة الجوع. بصوته المبحوح ودموعه المقهورة، واصل النقل المباشر لسياسة التجويع الممنهجة التي فرضتها إسرائيل على غزة.
لم يرافق أنس سكّان غزة في مآسيهم فحسب، بل تقاسم معهم أيضًا لحظات الفرح النادرة: فرحة امرأة حصلت على كيس طحين لعائلتها، أو حين خلع درعه وخوذته – اللذين أصبحا “جزءًا من جسده”، كما قال – في بث مباشر عقب إعلان وقف إطلاق النار في كانون الثاني (يناير) الماضي. استذكر زملاؤه الذين قُتلوا خلال أداء عملهم، وشارك سكان القطاع في أحزانهم، ونجا معهم من القصف، وحمل جثامينهم إلى المستشفيات. مشى في جنازة والده مرتديًا سترة الصحافة، وواصل فضح الرواية الإسرائيلية ونقد ادّعاءاتها.
انتفَت الحدود بين حياة أنس وبين الحدث، دافع عن حقّه وحقّ شعبه في التحرّر، وعاش مع الفلسطينيين في غزة التجربة ذاتها: الألم، التجويع، والحصار منذ اندلاع الإبادة قبل تسعة عشر شهرًا، إلى أن صار هو ذاته حدثًا من أحداثها.
وكان قد كتب “أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمس الكرامة والحريّة على بلادنا السليبة”. هذه وصيّته التي نُشرت عقب استهدافه بطائرة مسيّرة إسرائيليّة، مساء الأحد 10 آب (أغسطس) 2025، ومعه الصحافي محمد قريقع، والمصوّرَين إبراهيم طاهر ومؤمن عليوة، إضافة إلى سائق طاقم الجزيرة محمد نوفل، في خيمة الصحافيين بجوار “مستشفى الشفاء” في مدينة غزة.
“فلنقتل كلّ المراسلين”
قبل نحو عشرة أيام على اغتياله، فَنَّد أنس الشريف رواية الاحتلال بشأن إدخال المساعدات إلى شمال القطاع وجنوبه، مشيرًا في تغطيته الإعلامية إلى أنّ الشاحنة الواحدة لا تكفي لسدّ احتياجات السكان، هذا إن وصلت أصلًا قبل تعرّضها للنهب. كما أوضح أنّ تلك الشاحنات تتحوّل في كثير من الأحيان إلى “مصائد موت” للغزيين الذين يحاولون الوصول إليها. نقل أنس الحقيقة رغم حملة التحريض الشرسة التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي عليه، والتي تصاعدت وتيرتها في أواخر تموز (يوليو)، حين وصف الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي تقاريره بـ “البروبغندا”، متّهمًا إيّاه بالانحياز السياسي إلى حماس، تمهيدًا لتبرير اغتياله لاحقًا.
“تصاعدت وتيرة الحملة الإسرائيلية عليه في تموز (يوليو) الماضي، حين وصف الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي تقاريره بـ “البروباغندا”، متّهمًا إيّاه بالانحياز السياسي كما لو كان يمهّد لاغتياله لاحقًا”
رغم غزارة المحتوى المرئي والمكتوب الذي نشاهده يوميًا حول الإبادة في غزة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإنّ اغتيال أحد آخر مراسلي قناة “الجزيرة”، أنس الشريف، وزملائه، يشكّل محاولة للنيل من الحقيقة نفسها، حقيقة ما يجري في غزّة. لم يوفّر أنس وزملاؤه الصورة فحسب، بل الخطاب الذي يرافقها أيضًا.
يمتلك المراسلون الميدانيون قدرة خاصة على الوصول إلى الحقيقة، وإلى ما تخفيه العدسة، قبل تقديمها للجمهور، وهذه القدرة تتيح لهم إنتاج مادة إعلامية لا يمكن لصحافي جالس وراء مكتبه في وكالة إخبارية أن يقدّمها. ورغم الأهمية البالغة لشهادات “الصحافيين المواطنين” في غزة، يبقى دور المراسلين – من خلال البث المباشر أو إعداد التقارير – أساسيًا، إذ يساهمون في تشكيل المعنى لدى المتلقي عبر خطابهم الإعلامي وأسلوب تمثيلهم للأحداث.
المراسل حين يسرق الخطاب من سطوة المؤسسة
يشير ستيوارت هول (1997) إلى أنّ التمثيل هو العملية التي يُمنح من خلالها المعنى للأشياء الممثَّلة، وأنّه يتمّ دومًا عبر اللغة والصورة والرموز. ويميّز عالم الإجتماع الماركسي البريطاني-الجامايكي بين مستويين: الأوّل، ربط الأشياء والأشخاص والأحداث بمجموعة من المفاهيم المسبقة في أذهاننا. والثاني، بناء تماثلات بين هذه “الخريطة المفاهيمية” وبين البُنى الرمزية التي تنظّمها اللغة. من هذا المنطلق، يلعب المراسل دورًا محوريًا في إنتاج المعنى على الشاشة: فهو، بوجوده داخل غزة المحاصرة والمجوّعة، يربط ما يشاهده ويلمسه بتجاربه المُعاشة ومفاهيمه الخاصة، ثم يقدّمه ضمن قالبٍ يتيح للمتلقّي إعادة تشكيل المعنى على مستوى التلقّي، من خلال ربط ما يُعرض عليه بمفاهيمه هو.
يؤثّر اغتيال الصحافيين الميدانيين على مستويات متعدّدة من إنتاج المعرفة للقنوات التلفزيونية. ففي حالة قناة “الجزيرة”، يُفضي غياب التغطيات المباشرة (أو تراجعها) إلى إضعاف خطابها التحريري دون شكّ، كون التغطيات المباشرة تمثّل مواجهة حيّة، على لسان المراسل، للرواية الإسرائيليّة التي تحاول إعادة إنتاج الواقع بصورة مضادّة. فضلًا عن أنّها تمنح القناة مادّة أساسية لخطابها، رغم أنّها تسعى إلى التوازن والحياديّة أحيانًا من خلال بثّ تحليلات إسرائيليّة أو تغطية للبيانات الرسميّة الصادرة عن الاحتلال بالرغم من تضليلها.
“تحوّل التلفزيونات كلّ دقيقة بثّ مباشر إلى سلعة، والوقت ذاته يصبح موردًا اقتصاديًا يمكن إعادة إنتاجه في قوالب أخرى. وعليه، فإنّ غياب المراسل، سينعكس على الخطاب التحريري للقناة، كونه يُساهم بشكل مباشر في التدخّل فيه، وتوجيهه”
سنجازف بالقول إنّ الصورة وحدها لا تقول شيئًا خصوصًا حين تُوظَّف صور المجاعة والإبادة في غزّة ضمن عملية تسويقية مرتبطة بشعار القناة؛ على مدى ساعات، تبثّ “الجزيرة” مشاهد لمآسي الغزيين اليومية، بعرضها فيديوهات تخضع لمونتاج جمالي، وتُرفَق بموسيقى تصويرية تخترقها غالبًا صرخات الناس، أو كلمات شاكية يطلقونها على عجل.. تستخدم القناة هذه المقاطع البصريّة كفواصل بين مواعيد عرض برامجها، أو تمهيدًا لبدء نشرة الأخبار مثلًا. بوصفه صناعة ربحية، يحوّل الإعلام كلّ دقيقة بثّ مباشر إلى سلعة، والوقت ذاته يصبح موردًا اقتصاديًا يمكن إعادة إنتاجه في قوالب أخرى. وعليه، فإنّ غياب التغطيات المباشرة التي يكون فيها المراسل حاضرًا، لقول الحدث، سينعكس على الخطاب التحريري للقناة، كون المراسل يُساهم بشكل مباشر في التدخّل فيه، وتوجيهه، وإعطاء اللقطات (التي تصبح فارغة لكثرة تكرارها) معنىً وسياقًا واضحين. علمًا أنّ المراسل نفسه، معرّض على الدوام للاستثمار من قبل اقتصاديات القناة، بسبب ولاء المشاهدين لمراسلين محدّدين على حساب ولائهم للمحطّة.
من جهة أخرى، يؤثّر اغتيال المراسلين الفلسطينيين على موقع الرواية الفلسطينية في الإعلام الغربي، الذي غالبًا ما ينقل الرواية الإسرائيلية بحذافيرها، وأثبت خلال العامين الماضيين انحيازًا واضحًا للاحتلال في تغطيته للإبادة في غزة. إنّ الخطاب الذي ينتجه المراسلون الميدانيون موجَّه – ولو بصورة غير مباشرة – إلى هذا الإعلام أيضًا، إذ يجد هؤلاء أنفسهم في كثير من الأحيان مضطرين إلى دحض مزاعم الاحتلال المتداولة في وسائل الإعلام الغربية.
كتّاب الاختزال لشؤون الإبادة
في شهر حزيران (يونيو) الماضي، حمل أنس الشريف جثمان زميله الصحافي مؤمن أبو العوف الذي استُهدِف في حي التفاح أثناء تأديته لعمله الصحفي، ثم أطلّ مباشرة عبر قناة “الجزيرة” للحديث بمهنية عن زميله الذي دفنه للتوّ. وكذلك الحال مع زميله حسام الشبات، الذي اغتالته إسرائيل في آذار (مارس) الماضي، وزميله إسماعيل الغول الذي حمل نعشه بيد والميكروفون باليد الأخرى. كلمة واحدة بقيت على لسان أنس: الاستمرار. استمرّ في تغطية استهداف زملائه، حتى أصبح هو نفسه هدفًا للإغتيال، وكُتم صوته.
أدرك أنس أن الإعلام الغربي منحاز للرواية الإسرائيلية، وأن حديثه عن معاناة الفلسطينيين في ظلّ الإبادة لا يكشف الصورة الكاملة لجمهوره. وقد تعاملت صحف ومؤسسات إعلامية غربية مع اغتياله وزميله محمد قريقع بنفس المنهجية التي تعاملت بها مع تغطية الإبادة في غزة: اعتماد المصادر الرسمية الإسرائيلية كمصدر أساسي للمعلومات، والتركيز على الضحايا الإسرائيليين أكثر من الفلسطينيين، وتوظيف اللغة لتخفيف وطأة الجرائم. على سبيل المثال، عنونت “رويترز”: “نتنياهو يرحّب بمشروع ترامب بنقل الفلسطينيين من غزة“، في محاولة لنزع صفة التطهير العرقي عن المشروع، أو استخدامها وصف “التي تديرها حماس” لتكذيب أي رقم إحصائيّة يصدره مكتب وزارة الصحة في غزة عن أرقام الشهداء أو الجرحى.
اتّبعت المؤسسات الغربية التوجّه نفسه في تغطيتها لإغتيال أنس. عنونت صحيفة “بيلد” الألمانية اليمينية، وهي الصحيفة الأكثر مبيعًا في ألمانيا: “إرهابي متنكّر بزي صحافي قُتل في غزة” عقب اغتيال إسرائيل لأنس يوم الإثنين، قبل تعديل العنوان لاحقًا إلى “الصحافي المقتول كان يزعم أنه إرهابي“. أما “مؤسسة الإذاعة الهولندية” (NOS) فعنونت “إسرائيل تقتل صحافي في الجزيرة“، وقد نقل الخبر الرواية الإسرائيلية كما هي، قبل تعديله لتضمين موقف “لجنة حماية الصحافيين”. بدورها، عنونت “النيويورك تايمز” الخبر منسوبًا للجزيرة، متبنية الرواية نفسها، إلى أن عدّلتها بعد يومٍ مضيفةً نفي مزاعم ارتباطات الصحافي بحركة حماس نقلًا عن لسانه، وهي معلومة كانت متوافرة قبل كتابة الخبر، بيد أنّها سقطت “سهوًا” من يديّ المحرر! بدورها شاركت هيئة الإذاعة البريطانية الرواية نفسها لتعود وتحذف الخبر لصالح خبر آخر يقدّم الرواية والرواية الأخرى، وكذلك “الغارديان” وغيرها من الصحف الغربية.
الأمثلة كثيرة، لكن التوجّه واحد والخبر منسوخ ببلادة؛ الإسراع في الاعتماد على الرواية الإسرائيلية لاختلاق الموافقة الضمنية على القتل، كما لو أنّها تقول “ها هو الجيش الإسرائيلي يصفّي إرهابيًّا آخرًا فلا داعي للاستنكار أو الحزن”. أمّا حين تسعى بعض الوسائل الإعلاميّة إلى تعديل الخبر لاحقًا، فإنّها تحتفظ بمزاعم الاحتلال، وتضيف إليها رأي الطرف الآخر، وهو نهج من شأنه محاولة الهروب من مسؤولية التحريض التي تقع على عاتق الإعلام الغربي والتنصّل من مواقفه الداعمة للاحتلال.
تعريف كاتب الاختزال (Stenographers): كاتب الاختزال هو محترف مختصّ في نسخ الكلمات المنطوقة إلى نص، ويلعب دورًا حاسمًا في قاعات المحاكم واجتماعات العمل والحوارات التلفزيونية، حيث تتطلب الحاجة نسخًا دقيقًا وسريعًا. تلعب الصحافة الغربية هذا الدور في نسخها للرواية الإسرائيلية والترويج لها، فتشارك – بسابق إصرار وتصميم – في عملية اغتيال الصحافيين الفلسطينيين. ولعلّ الوجه الأكثر تناقضًا لهذا الواقع هو أن الإعلام الغربي، يتبنى الخطاب نفسه للإعلام الإسرائيلي كصحيفة “إسرائيل هيوم” والقناة الرابعة عشر الإسرائيلية حيث يحرّض “صحافي” (إقرأ كاتب اختزال) على الصحافيين في غزة، ويصبح مفهوم الصحافة محكومًا بموازين القوة.
صحافي “حيادي” يستحقّ التعاطف
مقابل هذا التضليل الإعلامي العالمي، هناك طريقة مُتّبعة لمواجهة مزاعم الاحتلال، من خلال التبرّؤ من التوجّهات السياسية المُحتملة للصحافيين، وتصويرهم على أنّهم مدنيون حياديون، خصوصًا من قبل المنظّمات الحقوقيّة والجهات التي تتولّى الدفاع عنهم، والتي قد لا تقوم بهذه المهمّة ما لم يكونوا بلا أي انتماء سياسي مُعلَن. وهذا التوجّه من شأنه تعميق وترسيخ مفهوم “نزع الطابع السياسي عن الهوية الفلسطينية” كما وصفه محمد الكرد في كتابه “الضحايا المثاليون” (2025).
“حين نُحاول تعقيم صورة الضحيّة وإعفائها من أيّ توجّهٍ أو رأي سياسي، فإنّنا نُثبّت السلطة الإسرائيلية كمعيارٍ يُحدّد من يحقّ له أن يعيش ومن يستحقّ الموت”.
برأي الكرد، فإنّ هذه القراءة اللاتاريخية “تحجب اختلال موازين القوّة بين المحتل وبين من يعيش تحت الاحتلال، فيتم تفريغ المناضل من سياق نشأته، ويصبح المتوقّع من مذيع(ة) تُعلن خبر مقتل أشقائها بأن تكون غير منحازة، ومن الممرضة أن تتحلّى بأعلى درجات المهنية خلال تقديمها الرعاية الصحية لزميلها إثر غارة إسرائيلية بترت أطرافه”. تتحوّل حيادية الضحية في هذا السياق إلى معيارٍ لبراءتها واستحقاقها للتعاطف، بينما أي احتمالية لانحيازها السياسي تصبح تبريرًا لإستهدافها وعدم تضمينها في لوائح الضحايا. الكلّ معرّض للانصياع إلى هذا التوجّه، حتى أولئك الساعين إلى دحض الرواية الإسرائيلية ونقدها. حين يحاول هؤلاء تعقيم صورة الضحيّة وإعفائها من أيّ توجّهٍ أو رأي سياسي، فهم يعترفون ضمنيًّا بالسلطة الإسرائيلية المعرفية ويفصلونها عن وظيفتها الدعائية البحتة، وبالتالي يثبّتونها كمعيار يُحدّد من يحقّ له أن يعيش ومن يستحقّ الموت.
هكذا، حاول المتعاطفون مع أنس أن يُثبتوا “إنسانيّته”، بشتّى السبل، وأوّلها نفي علاقته بحماس، أو بأي توجّه سياسي مقاوم للاحتلال. أمّا وسائل الإعلام الغربية فقد تلقّفت “شيطنته” من دون أي مسافة نقديّة أو تشكيكيّة في الدعاية الإسرائيليّة، وبنسخها الاتّهام الذي أطلقه الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، قرّرت الانحياز إلى العسكر ضدّ صحافيّ أعزل في غزّة.
من يملك حقّ السرد؟
آخر ظهور مباشر لأنس على الهواء كان من مستشفى “أصدقاء المريض”، حيث نقل الأوضاع المزرية للأطفال الذين يُواجهون سوء التغذية نتيجة التجويع الممنهج، وانتشار الأمراض، ومنع الاحتلال دخول الإمدادات الطبية. تابع أنس نقله لما يحدث في غزّة حتى يومه الأخير، رافضًا الخضوع للتهديدات المتواصلة.
في مقابلة لبرنامج The Daily Show الأميركي الساخر مع الإعلامي جون ستيوارت على قناة “كوميدي سنترال”، سُئلت مذيعة CNN كريستيان أمانبور في نيسان (أبريل) 2024 عن مصدر الإحباط في كواليس العمل الصحافي بالمحطة، فأجابت بأن “العائق الأساسي حاليًا يكمن في تغطية إسرائيل – غزة، إذ إن الإعلام الغربي غير قادر على دخولها، وهو ما يشكّل سابقة في هذا المجال”. وعندما واجهها المقدّم بأن هناك صحافيين محليين على الأرض، ردّت: “أنت على حق، ولكنّني أتحدث عن صحافيين غربيين مستقلين، فنحن نذهب لنكون العيون والآذان للأشخاص الذين لا يمكنهم الذهاب إلى هناك، أي المشاهدين غير المحليين”.
رغم اعتراف أمانبور بأنّ الصحافيين والعاملين في المجال الإعلامي في غزة يعرّضون حياتهم للخطر، فإن موقفها يعكس النظرة الفوقيّة للإعلام الغربي تجاه مصداقية الصحافيين الفلسطينيين، ويكشف عن توجّه عنصري حتى داخل الأوساط الإعلامية الليبرالية. المسألة لا تتعلّق فقط بالمصداقية، بل بمن يملك “حقّ” سرد الحقيقة وبمن يمكن تصديقه. ففي مقابلة لها عن تغطيتها للإبادة الجماعية في البوسنة ومجزرة سربرنيتسا في التسعينيات، كانت قد قالت: “إنك إذا أعطيت المساحة نفسها للقاتل والضحية في تغطيتك الإعلامية، على أساس الموضوعية، فأنت متواطئ، وإذا كنت حياديًا في هذا السياق، فأنت شريك في الإبادة”. لكنّ مرونتها في اتخاذ موقف حاسم في الحالة الأولى مقابل حيادها في الحالة الثانية، يكشف عن سيطرة الرواية الإسرائيلية على وسائل الإعلام الجماهيرية في الولايات المتحدة.
اللافت أيضًا أن أمانبور استندت إلى إحصاءات “لجنة حماية الصحافيين”، التي سجّلت حتى 12 آب (أغسطس) 2025 مقتل 192 صحافيًا خلال ما تسمّيه اللجنة “حرب غزة – إسرائيل”، من بينهم 184 فلسطينيًا، وصحافيّان إسرائيليان، و6 صحافيين لبنانيين. في المقابل، وثّق “مكتب الإعلام الحكومي” في غزة مقتل 238 صحافيًا خلال العامين الماضيين. ويرجع اختلاف الأرقام إلى معايير تعريف “الصحافي” وآليات الرصد التي تشمل التدريب المهني السابق، ومكان القتل وسياقه.
هذه المعايير بحدّ ذاتها مثيرة للجدل، وتطرح سيلًا من التساؤلات: هل يقلّ شأن المصوّر الذي لم يتلق تدريبًا صحفيًا رسميًا عن المصوّر المحترف؟ وهل يعتبر “الصحافي المواطن”، الذي تعتمد عليه وكالات الأنباء العالمية، أقل شأنًا من حامل شهادة في الإعلام؟ وكيف نفرّق بين “الموت أثناء التغطية” والموت في المنزل أو الخيمة، عندما يلاحقك الموت في كل زاوية من غزة؟ ولماذا يُذكر الانتماء السياسي لوسائل الإعلام الفلسطينية ويصنّف تحت “إدارة حماس”، بينما يُكتفى بصفة “صحافي إسرائيلي” عند توثيق مقتل الأخير؟ هل تتبع المؤسسات التي تدعي حماية الصحافيين في سياساتها التضامنية على الرواية الإسرائيلية في تصنيفها للضحايا، نظرًا لإستخدام الاحتلال لهذا التصنيف لتبرير استهدافه للصحافيين؟
لن نرى غزّة إلّا من فوق
كتب المفكر الفلسطيني-الأميركي إدوارد سعيد في مقاله الشهير “إذن بالرواية” (1984) عن سيطرة الرواية الإسرائيلية على الإعلام الأميركي خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان 1982، وخلال مجزرة صبرا وشاتيلا، مشيرًا إلى دور السياسات التحريريّة في تحديد ما يصل إلى الجمهور الغربي. اليوم تغيّر المشهد جزئيًا، فتأثير الإعلام الغربي تراجع، خاصة في ظل الإبادة، بفضل الدور الحاسم لوسائل التواصل الاجتماعي في جذب الرأي العام نحو الرواية الفلسطينية، رغم المحاولات الحثيثة من شركات هذه الوسائل في قمع وإسكات الرواية الفلسطينية. فهذه المنصات تشكّل جزءًا من البنية الاستعمارية-الرأسمالية، تفرض رقابة على الرواية الفلسطينية وتدعم الرواية الإسرائيلية. كما ينطبق هذا على الأوساط الليبرالية الأميركية من إعلاميين إلى مؤسسات داعمة لحرية الصحافة من تلك التي ما زالت تستخدم المفاهيم والتصنيفات نفسها التي تتبعها الرواية الإسرائيلية، لكن ضمن قالب تضامني في الظاهر.
في السياق نفسه، ظهرت أخيرًا الإنزالات الجوية للمساعدات الإنسانية في غزة. رغم خطورتها وحصدها أرواح الفلسطينيين وحرف النظر عن سياسات التجويع الممنهجة التي تقترفها إسرائيل، فإنها شكّلت فرصة لبعض الإعلاميين لتثبيت اصطفافهم مع سلطات متواطئة في الإبادة. فقد أطلّت مراسلة “سكاي نيوز” من على متن طائرة عسكرية أردنية في “سبق صحفي” يوثّق عملية الإنزال، لينتهي التقرير بشعار القناة: “القصة الكاملة، أوّلًا”. لكن الصورة الجوية التي تُظهر المساعدات المتساقطة لا تروي القصة الكاملة، بل تقدّم غزة كما تريدها إسرائيل: دمار بلا حياة، وحجر بلا بشر.
ما الذي علينا فعله اتجاه استهداف الاحتلال الاسرائيلي الممنهج للإعلاميين في غزة؟ وما الذي يجب القيام به غير اعتياد التفرّج على الموت؟ ربّما يجدر بنا إعادة تعريف المفاهيم التي نتّبعها ونستخدمها في عملنا الإعلامي لمواكبة معارك التحرّر التي تخوضها شعوب المنطقة في مواجهتها للإستعمار والاستبداد. فالسعي إلى تقديم الحقيقة وإعلانها يتطلّب منّا التخلّص من شرط الحياد الذي يفتقر نفسه إلى الحياد. ماذا يعني الحياد في حرب إبادة جماعيّة؟ وما الذي تعنيه الحقيقة إن لم تكن موقفًا سياسيًّا ضمن سياقٍ استعماريّ، وسعيًا إلى انتزاع الرواية من فم الإعلام العالمي؟