خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

حشيش وأدب.. عوالم خاصة وراء الكتابة

احتمى محفوظ ظاهريًا بـ «هلوسات الحشيش»، على شكل مانعة صواعق، لكي يوجه - من ورائها- ضربات موجعة إلى نظام حكم قائم على اشتراكية مشكوك في أمرها، وإلى إعلام الصوت الواحد، ودولة الزعيم الأوحد
ــــــــ العمل
4 سبتمبر 2025

ذات يوم، كنت مسؤولاً عن تحرير الصفحة الأولى في جريدة «القاهرة»، لسان حال وزارة الثقافة المصرية، مع الكاتب الكبير الراحل صلاح عيسى، رئيس التحرير، بما في ذلك من مهام تشمل اختيار الأخبار المُناسبة للنشر، التي تصب من مختلف الأقسام «التحرير المركزي».

أيامها، تناقلت وكالات الأنباء خبرًا طريفًا مفاده أنه بعد فحص بقايا مجموعة غلايين كان يستخدمها وليم شكسبير للتدخين، عُثر عليها في حديقة منزله، تبين أنه كان يدخن الحشيش بانتظام. فاقترحت نشر الخبر في زاوية مُخصصة لهذا النوع من الموضوعات، تُسمى «الفيتشر» في لغة الصحافة.

دخل علينا عيسى، رَحِمهُ الله، المكتب الذي كان يضم ثلاثة زملاء آخرين، وفوجئت به يُعطيني ورقة الخبر الذي أجزته للنشر، وقد طواه كأنه سيجارة ملفوفة، وقال ضاحكًا: مساااااء الفل يا أستاذ، بذمتك ده خبر ينفع يتنشر في جورنال وزارة الثقافة؟

أبلغته أن مصدر الخبر وكالات أنباء موثوقة، وأني لا أرى مانعًا من نشره كخبر طريف ليس إلّا، خصوصَا أنه عن أهم كاتب في العالم تقريبًا. فلم يقتنع. راهنته على جنيه واحد، أن صحفًا أخرى سوف تنشره في «فيتشر» الصفحة الأولى غدًا. لكني وجدته يقول ببساطة: طيب ماشي، لكن مش هينفع أنا بالذات أنشر الخبر ده، وأنت عارف!

ضجّ المكتب بضحكنا مع الزملاء الحاضرين الذين فهموا مقصده، فقلت له، على لسان سيد درويش في أغنيته المشهورة: «هاتوا لي أجدع بيه ولاّ باشا يقدر يعيب ع الحشّاشة».

حشيش فوق النيل

ما لم يقله صلاح عيسى، أعلنه بعض كبار الأدباء المصريين والأوروبيين، ومنهم نجيب محفوظ، الذي قال للناقد رجاء النقاش، في سلسلة حوارات مُطوّلة تحوّلت إلى كتاب مذكرات، إنه كان يصادق كاتبًا لديه عوّامة نيليّة في منطقة «العجوزة» بالقاهرة، واعتاد الاثنان تدخين الحشيش في العوّامة مع آخرين زمنًا، فألهمته هذه التجربة روايته «ثرثرة فوق النيل».

الرواية التي نُشرت عام 1966 كان حضور الحشيش فيها مثيرًا وصادمًا، إلى حد أن رجال المشير عبد الحكيم عامر سعوا إلى منعها من النشر، بدعوى أن فيها «همز ولمز» على المشير نفسه، الذي كان مشهورًا بأنه يُحشِشّ علنًا، حتى ربطت النكتة السياسية وقتها بين اسم مسقط رأسه «قرية أسطال»، وبين الحالة المزاجية التي كان عليها دائمًا.

بدت «ثرثرة فوق النيل»، لأول وهلة، رواية عدمية، مُحمّلة بإدانة صريحة للعهد الناصري. كما حملت أيضًا نبوءة حاسمة بهزيمة يونيو/ حزيران 67 التي وقعت بعد حوالى سنة من نشر الرواية، حيث صوّر محفوظ كيف عاش المجتمع المصري وقتها حالة تغييب، وحالة من الفُصام بين الأقوال والأفعال، قادته إلى هزيمة لا يزال العالم العربي يعاني منها حتى اللحظة.

كانت الحيلة الفنية هنا، هي إطلاق العنان لمجموعة من الحشّاشين، وهم أشخاص مهمّشون زائدون عن الحاجة، حتى يقولوا تحت «غيبوبة السطلان» ما لم يجرؤ غيرهم على التصريح به. يأخذون أنفاس المخدر بشغف، وينفثون النقمة والغضب على سطح نيل القاهرة.    

احتمى محفوظ ظاهريًا بـ «هلوسات الحشيش»، على شكل مانعة صواعق، لكي يوجه – من ورائها- ضربات موجعة إلى نظام حكم قائم على اشتراكية مشكوك في أمرها، وإلى إعلام الصوت الواحد، ودولة الزعيم الأوحد، التي ترفع راية التحرر في العالم الثالث، بينما لا يأمن أحد فيها على نفسه من زوار الفجر.     

واستخدم شخصية الحشّاش، ببراعة، في توجيه نقد لاذع لعصر عبد الناصر ورجاله، حيث يشرِّح أنيس زكي بطل الرواية الذي يطلق عليه رواد العوّامة «وزير شؤون الكيف»، مجتمع الستينيات المصري، وكيف تكذب الحكومة من أول صفحة على مواطنيها في الأوراق الرسمية، ويفقد المجتمع بوصلته تحت وطأة الفساد والمحسوبية، ما يجعل البطل يراوح بين الهلوسة والحكمة: «لم يكن عجيبًا أن يعبد المصريون الفرعون، ولكن العجيب أن فرعون آمن حقًا أنه إله». 

أثارت الرواية ضجة سياسية وثقافية، وسمح جمال عبد الناصر بنشرها بعد أن أجازها ثروت عكاشة، وزير الثقافة الأسبق. آنذاك، التقى محفوظ بأحد كبار المسؤولين في ذلك العهد، فسأله المسؤول خلال حوار جانبي: «إيه الكلام الليّ انت كاتبه في الرواية ده يا أستاذ نجيب؟»، فلم يجد الرجل جوابًا سوى أن قال له: «ده كلام حشّاشين»!

وقدّم الكاتب الكبير، خلال حديثه للنقاش، تفسيرًا وجيهًا لرواج المخدر في أوساط المصريين بشكل عام، لا في الأوساط الأدبية فقط، قائلًا: «إن الأوضاع السيئة التي عاشها الشعب المصري، كانت سببًا أساسيًا في إقباله على الحشيش لأنه وجد فيه نوعًا من المُسكِن لآلامه وأوجاعه، يُخفِفّ عنه – ولو لساعات- ما يمرّ به من هموم وأزمات، حتى أصبح تدخينه بالنسبة لبعض المصريين عادة شعبية مثل شرب الشاي والقهوة. وما من مصري من أولاد البلد إلّا ويحمل صفة «حشّاش»، حتى إن غير القادر منهم تجده على استعداد لأن يخدم في الغُرزة مقابل نَفَسيّن».

وحكى محفوظ، في خطاب أرسله عام 1947 إلى صديقه أدهم رجب، الذي كان يدرس الطب في الولايات المتحدة وقتها، أنه أقلع عن تعاطي المخدر مؤقتًا، لا لشيء سوى خوفه من أن يضبطه البوليس بحوزته، خلال حملات التفتيش لمنازل القاهريين وللمارة في الشوارع، بعد انفجار «سينما مترو» الذي وقع في ذلك العام.

لم يُدل الرجل بذلك على الملأ، ولم يجرؤ على الاعتراف به كما فعل في حواراته مع النقاش، إلّا في مرحلة متأخرة من حياته، بعد حصوله على جائزة نوبل عام 1988 وتأكدّه من رسوخ مكانته الأدبية. ففي حوار أدلى به للصحافي عبد التواب عبد الحي، أجراه معه أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، قال محفوظ إنه دخنّ الحشيش على سبيل التجربة مرة واحدة فقط في حياته، أيام المرحلة الثانوية، أخذ فيها نَفَساً أو نَفَسيّن، فوقع من فوق الكرسي على الأرض غائباً عن الوعي في أحد مقاهي الغورية. ومن يومها لم يعُد إليه!

مع ذلك، لم يكتب محفوظ أبدًا تحت تأثير المخدرات، لأن بعض أعماله كان مُطوّلات روائية من الصعب على مُدخن الحشيش الإمساك بتفاصيلها المتشبعة، ناهيك عن متابعة السير بالحبكة الروائية في خط صاعد، بينما الكتابة بتأثير من نشوة المخدر هي نوع من «الإشراقات» القصيرة، بتعبير الشاعر الفرنسي آرثر رامبو.

ويقول عن ذلك: «يُدهشني ما أسمعه عن بعض الكُتّاب الذين يحرصون على تناول الخمر أو الحشيش، حتى يُهيئوا أنفسهم للكتابة. فعندما أُمسك بالقلم لابد أن أكون في أقصى درجات الوعي والتركيز والانتباه».

تعليقًا على ذلك، قال لي صلاح عيسى، في جلسة خاصة، إن محفوظ كان يدّخن الحشيش قبل القيام بجولاته، لكي يستطيع الاندماج في الجو الذي سيكتب عنه، خصوصًا أجواء الأحياء الشعبية، وليعكف بنظرة المتأمل على استقصاء أطوار الشخصيات وتصرفاتها الصغيرة. ولكنه عندما يبدأ الكتابة، يكون في «حالة فوقان» تامة، ويشحذ ذهنه باحتساء أكبر قدر ممكن من فناجين القهوة، التي كان يشربها طول الوقت، حتى وهي باردة.

وعُرف عن الرئيس الراحل أنور السادات أنه كان بعد أن يدخن الحشيش، يدخل في نوبات سخرية من معارضيه السياسيين بمن فيهم كبار الأدباء والمثقفين. وفي فبراير 1973، قبل حرب أكتوبر/ تشرين الأول بثمانية أشهر، وقّع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وعلي الراعي وآخرون، بيان المثقفين الشهير، الذي رفضوا فيه حالة «اللا حرب واللا سلم» مع إسرائيل. 

وغضب السادات بشدة من الموقّعين على البيان، ومنعهم من الكتابة في الصحف القومية، وراح يتندرّ عليهم في جلساته الخاصة، فقال: «دا حتى الحشّاش اللي اسمه نجيب محفوظ وقّع معاهم». ولمّا علم محفوظ بذلك، قال: «السادات آخر واحد يتكلّم على الحشيش»، كما ذكر الكاتب عادل حموده في كتابه: «النكتة السياسية: كيف يسخر المصريون من حكامهم».

كتابة بـ «اسم الشعب»

في كتابه «السوانح الأدبية في مدائح القِنبيّة»، يقول الحسين بن محمد العكبري، المُلقّب «أبو المواهب»، وهو أحد أهم علماء القرن الخامس الهجري: «أول من أظهر حشيشة الكيف هو الشيخ حيدر الخراساني، أعاد الله علينا من بركاته، ذلك أنه خرج من خلوته إلى الصحراء وقت القيلولة منفردًا بنفسه عن أبناء جنسه، فوجد كل شيء من النبات ساكنًا لا يتحركّ لعدم الريح في شدّة القيظ الذي لا يُدرك، وإنه مرّ بنبات له ورق يُبهر الحَدَق، فرآه في تلك الحالة يميس بلطف ويتحرّك من غير عنف، كالثمل النشوان والمُترف السكران، فناداه منادي الكشف بلسانه أن: كُل من ورق هذا النبات، فإنه أعظم القُربات، فهو طعام المُتفكرين في معانينا ومُدام المُعتبرِين بمغانينا».

وعلى خطى العكبري، فيما يبدو، سار الكاتب الراحل خيري شلبي، الذي عُرف عنه تدخين الحشيش باستمرار، سواء كان يتحدث أو يكتب. وكان المكان الذي يمارس فيه الكتابة والتعاطي، يقع وسط «جبّانة المماليك»، المواجهة لحي الدرّاسة شرق العاصمة المصرية.

وحكى لي زميل صحافي في مجلة الإذاعة والتليفزيون، أن شلبي كان يحضر للمجلة يوم الأحد من كل أسبوع، ليكتب مقاله الأسبوعي، ومعه علبة سجائر كاملة ملفوفة، يوزع منها على الراغبين من المحررين. لا يسمح لأحد بالدخول عليه في أثناء الكتابة، حتى إذا انتهى يدخل عليه صديقنا الغرفة فيجدها ضبابية: كأن قنبلة دُخان أُلقيت فيها!

وقال الكاتب، بصراحة نادرة، في أحد حواراته: إن «جلسات التحشيش تُشبه جلسات الذِكر (الصوفية) من حيث الانسجام والتوّحد، فهي تُذيب الفوارق الطبقية والإنسانية بين البشر، وكأنها توّحد بينهم».

ومثل الدرويش في الحَضرة، يظل يهتف من أعماقه «الله حيّ» بلا توقف ساعات طويلة، لكي يدخل في حالة الانسجام، كان الكاتب الراحل يستعين بالتدخين للدخول في حالة الكتابة.     

لذلك أبدع شلبي، عن تجربة، في تصوير شخصية الحشّاش. فظهرت مرارًا بملامح مختلفة في طيف واسع من أعماله، ومنها «وكالة عطية»، «نسف الأدمغة»، «منامات عم أحمد السماك»، و«موال البيات والنوم»، حيث يلجأ المُهمّشون والمُشردون والأفنديّة إلى الحشيش، بحثًا عن زمن السعادة المفقود.  

وصف شلبي، روايته «صالح هيصة» بأنها تتناول عالم الصعاليك وغُرز الحشيش، حيث كان زبونًا دائمًا في عوالم غريبة ترى فيها الوجه الحقيقي لتاجر الحشيش، وهو يجلس أمامك يقسّم قطع الحشيش، ويأخذ رأيك في جودة الأصناف وأسعارها: «عندما أتذكر ذلك الآن أستغرب، حتى إن جسمي يقشعر من هذه الجرأة التي كنت فيها. لقد كنت أعيش مع ناس مطلوبين يبحث عنهم البوليس من سنوات، ولا أخشى أن يُقبض عليّ معهم إذا باغتهم فجأة».

وإذا كان الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين يعتبر حالة الصفاء العقلي التي تنتاب مُدخن الحشيش نوعاً من «الاستنارة المدنسة»، فإن للأمر وجهًا آخر، يكشف عنه سامي علي، الأكاديمي الفرنسي من أصل مصري، أستاذ علم النفس بجامعة باريس، في كتابه «الحشيش في مصر: مقال في علم الإنسان التحليلي».

كتب سامي علي: «من حشيشة الكيف السحرية تستقطر المُخيلة الشعبية في مصر، كعادتها، ضربًا من الفكاهة تجمع فيه بين المتناقضات والخبث. وهي، خلال ذلك، تنجح في الابتعاد عن موضوعها بُعدًا أمثل، يتيح لها التعبير بمزيج من التهكم والرقة عن جوهر خبرة لا تخلو من الرعب. وهنا تتجلى قدرة على الابتكار. وكثيرًا ما تختفي المُخيلة الشعبية وراء الموضوعات التي تخلقها، لكنها لا تزال تنقل هذه الخبرة نقلًا غير شخصي، ماكرًا وساذجًا في آن واحد».

والحشّاش المصري، في رأي الأكاديمي الفرنسي، صانع نكتة من الطراز الأول. وبينما هو يفعل ذلك، لا يتقصّى «الضحك للضحك» فقط كما يبدو في الظاهر السطحي، بل إنه يحمل على كاهله مهمة أكثر جدية وسموا، وهي «التنكيت باسم الشعب».

ويكشف التراث الشعبي السائد في مصر خلال القرن العشرين، عن القيمة الاجتماعية الحقيقية لشخصية الحشّاش، بوصفه فردًا قادرًا على الاستدلال المنطقي رغم كونه غير خاضع للمنطق، مُبتكِرًا لا يُجارى في تخيّل الحلول الوهمية، مُعدمًا يباري ذوي الجاه والسلطان، يتحدث باسم الشعب أمام السلطة التي تسعى إلى سحق الناس، بينما هو مستمر في الحياة، لا يبالي.

ولم يكن خيري شلبي، في حياته وكتاباته، سوى حشّاش مصري أصيل، استطاع استقطار روح المصريين، ليخترق بذلك عوالم شعبية عصيّة على الاختراق، ويمارس نوعًا من الكتابة «باسم الشعب».

وذات مرة، سألت المترجم الراحل إبراهيم منصور، وكان أحد أصدقاء شلبي المُقربين، عن «الارتباط الشرطي» بين الكتابة والحشيش عنده، فقال: «خيري كاتب مُولع بالتفاصيل الصغيرة، وهو يستطيع استشعار حساسية ودقة هذه التفاصيل بشكل أقوى وأكثر حدة، عندما يكتب تحت تأثير المخدرات».

مُثقفون في دولاب مخدرات

مرّت مجموعة تغريدات كتبها الروائي إبراهيم عبد المجيد على موقع «إكس»، عام 2020، عن علاقته بالحشيش، مرور الكرام، رغم أنها كشفت عن علاقة أساسية لجيل كامل من المثقفين والروائيين المصريين في السبعينيات بثقافة المخدرات، التي كانت منتشرة بقوة في أوساط النُخب الثقافية على مستوى العالم كله. 

قال عبد المجيد: «كغيري من الكُتّاب الشباب ذلك الوقت، كنا نشرب البيرة أو نتعاطى الحشيش، لكني كنت دائمًا غير مغرم بالتفاني في تناول هذه الأشياء. أمارسها في غير انتظام، ولم أكن حريصًا عليها كغيري كل يوم مثلًا، بل كنت دائمًا ما أترك مسافة بيني وبينها، حتى لا أُدمنها».

وفي إحدى أمسيات الصيف، أثناء جلوسهما في مقهى «ريش» وسط القاهرة لاحتساء البيرة، سأل خيري شلبي صديقه الجديد إبراهيم عبد المجيد: ليك في الحشيش؟ ردّ عليه صاحبه: «أيوه»، فقال له: «تعالى معايا نروح مشوار لحد جامع قايتباي».

يقول عبد المجيد: «كنت أعرف أن خيري يجلس في مقهى قريب من جامع قايتباي، بين المقابر المعروفة بجبّانة المماليك في مواجهة الدرّاسة يدخن الحشيش هناك، وأنه استأجر باحة في إحدى المقابر القديمة من التُربيّة (اللحّادين) يكتب فيها، رواياته بعد أن ينتهي من جلسات التحشيش».

أخذ شلبي زميله إلى منطقة الباطنية، التي كانت معقلًا لتجارة المخدرات في تلك الفترة، بغرض شراء «قرشين حشيش» من تاجر معروف اسمه مصطفى مرزوق، ووقفا معًا في طابور طويل من الزبائن يضم المُدمنين والأفنديّة والصيّاع، أمام دولاب مخدرات يمتد نحو كيلو متر، من قلب المنطقة إلى قرب باب الجامع الأزهر.

وفوجئ إبراهيم، بالمعلّم مصطفى مرزوق – بنفسه- يشير إلى خيري أن يتجاوز الواقفين أمامه في الطابور، ويتقدّم إلى نَصبة البيع مباشرة، لأنه زبون مُعتبر و«أفندي» معروف من زمان. حصل الرجلان على مُرادهما، وذهبا إلى مقهى بجوار جامع قايتباي، اتضّح أنها في الحقيقة «غُرزة» راحا يُدخنان فيها بضاعتهما على الشيشة، من المغرب إلى منتصف الليل. يقول عبد المجيد عن ذلك: «طبعًا لم أكن في قدرة خيري، وتعجبت جدًا من عدد الأحجار التي دخنها ولا يزال في وعيه». 

وظهر تاجر المخدرات نفسه في إحدى روايات عبد المجيد، حيث يرصد الراوي لقطة ذات مغزى، وهي لافتة كبيرة مُعلّقة بعرض الشارع في الباطنية، مكتوب عليها: «المعلّم مصطفى مرزوق يؤيّد الرئيس المؤمن محمد أنور السادات بطل الحرب والسلام». وهي اللقطة التي تتماهى مع تعبير شعبي كان شائعًا في النكت السياسية وقتها، يصف السادات بـ «الرئيس المُدمن»!  

هذه كلها، كما يرى الكاتب، «تجارب» يمكن أن يمرّ بها الأديب ليكتب عنها يومًا، لكن لا يجب أن تكون هي حياته. لذلك أقلع عن تدخين الحشيش بسهولة، حسب قوله. وكان ذلك يوم مقتل السادات في أكتوبر/ تشرين أول 1981.

يحكي: «كان قرش الحشيش المحترم غير المخلوط بأي شيء يُباع بخمسة جنيهات. ليلة مقتل السادات ارتفع سعره إلى عشرين جنيها فتوقفت عن شرائه أو تعاطيه. يومها سرت النكتة الشهيرة: ليه الحشيش غلي؟ عشان مش عارفين الليّ جاي مائيّ ولاّ هوائي؟، يعني خمورجي ولّا حشّاش».

وجرّب الكاتب الكبير يحيى حقي، ذات مرة، الكتابة تحت تأثير الحشيش، حتى يتوصل إلى تلك «العوالم السحرية» التي حكى عنها أدباء غربيون كبار وبعض مشاهير المتصوفة في كتاباتهم. وهو أمر قد يبدو غريبًا على شخصية حقي، سليل الأتراك، ابن الطبقة المتوسطة العُليا، ، ما قد يُعرِّضه لنوع من الوصم الاجتماعي.

لكن الرغبة في التجريب دفعت الرجل، الذي تقلّد مناصب رفيعة كموظف في دولاب الدولة المصرية، إلى خوض هذه التجربة الفريدة في حياته. ونقل الكاتب إبراهيم عبد العزيز في كتابه «رسائل يحيى حقي إلى ابنته»، عن الأديب الراحل قوله: «حاولت دخول هذه التجربة بتعاطي نوع دارج من المخدرات، فوجدت نفسي في حالة (دهوّلة) شديدة، ورأيت الأشخاص أكثر من شخص، والسلالم تبدو كبحر غويط على وشك ابتلاعي. هذه التجربة الوحيدة، أكدت لي عدم وجود علاقة بين الكتابة والمخدارت. فالعقل منحة، كيف نُضيّعه بتغييبه؟!».

وفي مقال له بعنوان «هل يرتبط الإبداع بالمخدرات حقاً؟»، يقول د. شاكر عبد الحميد: “رغم دعاوى تحرير العقل، وابتعاث التلقائية، والتحرر من الآلام والقيود الجسدية والنفسية، والدخول في عوالم من المتعة غير المسبوقة، فإن هذه الفراديس المصنوعة غالباً ما تتحوّل إلى جحيم مُقيم، فيه تجثم الاضطرابات والأمراض العقلية المختلفة”.

نوادي الحشّاشين السرية

عرف الحشيش طريقه إلى فرنسا، لأول مرة، بعد حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798، على أيدي الجنود الفرنسيين الذين دخنوه بفعل احتكاكهم بالأوساط الشعبية، حيث وصف أحدهم القاهرة وقتها بـ «جنة الحشّاشين».

وكان الشاعر الفرنسي الأشهر شارل بودلير (1821 – 1867)، الذي يُطلق عليه في الأدب الغربي «الشاعر الرجيم»، عضواً في نادٍ سري اسمه «نادي الحشاشين»، يُعقد في بهو منعزل بفندق باريسي صغير، ويتم انتقاء أعضائه بحذر شديد.

من بين أعضاء هذا النادي أيضًا، الشاعر والروائي تيوفيل جوتييه (1811 – 1872)، والشاعر الرحّالة جيرار دي نيرفال (1808 – 1855)، الذي قام برحلاته عدة إلى مصر، وألكسندر دوماس (1802 – 1870)، مؤلف رواية «الفرسان الثلاثة»، والكاتب المُفضّل للمؤلفين «المُقتبِسين» من كُتاب المسرح المصري خلال ثلاثينيات القرن الماضي.

ولم يكن هذا هو النادي الوحيد من نوعه في باريس، فقد دأبت النُخب الثقافية الفرنسية إبان القرن التاسع عشر على تكوين مثل هذه النوادي. لا لاستخدام المخدر فقط، بل أيضًا لمناقشة أعمالهم الأدبية مع الآخرين، والاطلاع على تجاربهم الخاصة، بينما هم «عُرضة للثرثرة بعُمق».

سجّل بودلير، بمنتهى الجرأة، ضمن كتابه «الفراديس المُصطنعة: في الحشيش والأفيون» تجربة استمرت 10 سنوات مع الإدمان، قائلًا إن الحشيش بتأثيراته «السامة» أكثر حدة من الأفيون، وأكثر عداوة للحياة العادية، لأنه يُعطي قيمة غريبة وغير عادية للظواهر البسيطة في عقل مُتعاطيه. فتتصاعد سرعة قطار الأفكار إلى ما لا نهاية، وتصير العقلانية حُطامًا تذروه الرياح.

وبعد أن يدبّج «الشاعر الرجيم» ما يشبه القصائد في مديح الحشيش، الذي كان يدخنه مع رفاقه سعيًا إلى «بلوغ الجنة بضربة واحدة»، يعود ليقول: «إذا اعترفنا بأنه يعطي، أو على الأقل يزيد من العبقرية، فإن مُتعاطيه ينسون أنه من طبيعة الحشيش أن يُقلِّص الإرادة، وبالتالي فهو يعطي من جهة ما يأخذه من جهة أخرى. أي أنه يمنح الخيال، دون أن يستفيد المتعاطي منه. وذلك الشخص الذي لجأ إلى السُم لكي يفكر، سيجد نفسه قريبًا غير قادر على التفكير بلا سُم».

هذه الملاحظة تبدو، لمن عاش التجربة، في منتهى الدقة. فقد عرفت بشكل شخصي مثقفين وأدباءَ لم يكن في وسعهم كتابة جملة واحدة دون تعاطي المخدر، منهم كُتّاب وصحافيون معروفون، لا يمكن ذكر أسمائهم دون التورط في قضية نشر!  

وفي عام 1844 أسس طبيب الأعصاب والرحّالة الفرنسي جاك جوزيف مورو (1804 – 1884) نادي حشاشين آخر، بتمويل من أحد البارونات. وكان لهذا النادي هدف محدد، وهو دراسة تأثير المخدر في النشاط العقلي لعدد من الأدباء والفنانين، منهم تيوفيل جوتييه. وكتب مورو نفسه كتاباً بعنوان «الحشيش واضطرابات العقل»، سجّل فيه تجربته، وأكد وجود علاقة تشابه بين الحلم والهذيان وهلوسة الحشيش.

وقال الدكتور مورو، بأنه استخدم الأفيون والحشيش، بانتظام، خلال أسفاره الطويلة في ربوع مصر والشام وبعض دول آسيا الصغرى، واصفًا ذلك العالم السحري الذي خَبِره أثناء رحلاته، وكيف فعل ذلك لكي يعيش بخياله في أجواء «ألف ليلة» الأسطورية.

سجّل تيوفيل جوتييه، بدقة، كيف التحق بعضوية هذا النادي، الذي ضم صفوة مُنتقاة من الأدباء، قائلًا: «في إحدى الأمسيات الباردة من شهر ديسمبر/ كانون الأول، استجابةً لاستدعاء غامض، مكتوب بعبارات مُبهمة لا يفهمها سوى المطلعون على الأمر، وغير مفهومة للآخرين، وصلت إلى منطقة بعيدة، أشبه بواحة من العزلة في وسط باريس، يحيط بها ذراعا النهر، كأنها تدافع ضد أخطار وتعدّيّات الحضارة المحيطة بها، في منزل قديم بجزيرة سانت لويس. نادٍ غريب انضممت إليه مؤخرًا يعقد دوراته الشهرية، حيث كنت سأحضره لأول مرة».

وكتب جوتييه، بدوره، عن تجاربه مع هذا النادي في دراسة نشرها في يوليو/ تموز 1843 بعنوان «الحشيش»، رصد فيها التأثيرات عبر ثلاث مراحل، هي على التوالي: الشعور بحدة الأحاسيس وقوتها، خاصةً حاسة السمع، وتمددّ الزمن، وأخيرًا ظهور هلاوس بصرية غريبة وبشعة.

وفي كتابه «نادي الحشاشين»، وصف الشاعر الفرنسي مفعول الحشيش، قائلًا: «ما هي إلّا بضع دقائق حتى استولى على جسمي التخدير. وخُيِّل لي أن جسدي قد ذاب وانحلّت مادته وصار شفافًا، فأبصرتُ قطعة الحشيش التي مضغتها تنزل هابطةً في أحشائي، كأنها زمردة تشع منها الملايين من أجسام ذريّة لامعة».

بعد تجربة طويلة مع التعاطي، نجح جوتييه في الإقلاع عن المخدر، قائلًا: «بعد سنوات، نبذنا هذا المخدر إلى الأبد، ليس لأنه يؤذينا جسديًا فقط، لكن لأن الأديب الحقيقي يحتاج فقط إلى أحلامه الطبيعية، ولا يجب أن تتأثر أفكاره بأي عامل خارجي».

هذا الكلام، يتناقض مع تقرير وثائقي مصوّر بثّه التلفزيون الفرنسي في يناير 2018، وجاء فيه أنه مع وصول الحشيش من مصر إلى فرنسا بعد حملة بونابرت، أصبح ظاهرة، واكتسب شعبية غير مسبوقة بدعم علمي لا يُصدّق، إذ نشر علماء وأطباء بارزون في باريس دراسات عدة، للتأكيد على فوائد الحشيش القادم من مصر.

في تلك الفترة، جرى إنشاء نوادٍ للحشّاشين ارتادها شعراء وروائيون مشاهير. وتحوّلت هذا النوادي، وفق التقرير، إلى قِبلة لكبار الفنانين والأدباء الفرنسيين في ذلك الوقت، ومصدر إلهام لكتاباتهم: شارل بودلير، وفيكتور هوجو، وأونوريه دي بلزاك، وألكسندر دوماس، وجيرار دي نيرفال، الجميع تشاركوا في سهرات إلهاميّة أعطوها اسم «فانتازيا»، حيث تعاطوا الحشيش المصري على شكل مستخلصات دهنية، سعيًا منهم للوصول إلى «الشرق الأسطوري»، الذي لم يكن موجودًا أبدًا، سوى في أذهانهم.