خلال زيارتي لإحدى قرى الجنوب اللبناني في صيف 2025، وقفتُ أحدّق في الأراضي الفارغة. قبل سنتين، كانت تنتشر فيها أشجار الزيتون. لم يبقَ من المشهد سوى جذوع محترقة، وأحجار مرميّة كيفما اتفق، وآثار لأقدام مزارعين مرّوا صباحًا ليتحقّقوا مما تبقّى لهم بعدما تعمّد الاحتلال الإسرائيلي في الحرب الأخيرة على لبنان استهداف أشجار الزيتون وإحراق الأراضي الزراعيّة.
أتأمّل الأرض الفارغة، وأسأل ماذا سيفعل الناس في موسم حصاد الزيتون المقبل؟ ثمّ تأتيني الإجابة سريعًا في الموسم الحالي من خلال بعض الأخبار العاجلة؛ عائلات غامرت بالعودة إلى أرضها في بلدة بليدا الجنوبية، لقطاف الزيتون من الأشجار المتبقّية، فواجهت غارات إسرائيلية عند أطراف البلدة الواقعة في قضاء مرجعيون. هذه إحدى المشاهد اليومية لهذا الموسم الذي وصل فيه الناس إلى أراضيهم الجنوبية بحذر، وأحيانًا ليومٍ واحد تحت حماية الجيش اللبناني، وقوات حفظ السلام الدولية (اليونيفل).
في خلفية مشهد الأراضي الجرداء، تلوح أسئلة عن مدى الدمار الذي طال أشجار الزيتون والأثر الطويل للحرب على الأرض، وكذلك تمتدّ الأسئلة إلى ما هو أعمق: ماذا يمكن أن يعنيه طمس الزرع وإفساد التربة؟ كيف تحوّلت أشجار الزيتون في جنوب لبنان من رمزٍ للحياة إلى شاهد على الخسارة بفضل الحرب والتغيّر المناخي؟
تربة «فسفورية»
في بلدة الهبارية (قضاء حاصبيا – جنوب لبنان)، فقدت بهية كلّ الأشجار التي كانت تعتاش منها بعدما جُرفت واحترقت بالكامل خلال الحرب التي انتهت رسميًا في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) فيما لا تزال الاعتداءات الإسرائيلية اليومية متواصلة حتى الآن. تخبرنا وهي تستعيد تفاصيل حياتها قبل الكارثة «كنا نعيش من مردود أشجار الزيتون، وكانت لدينا أرضًا تكفينا ولا نحتاج إلى العمل عند أحد. اعتمدنا على الأشجار كمصدر للعيش، نعتني بها عامًا بعد عام، ومع مرور الوقت بدأ إنتاجها يزداد. وكنّا نستفيد منها كمونة للمنزل أيضًا، حتى أنّنا نخطط لزيادة الإنتاج في المستقبل».
تبدّد هذا الحلم فجأة، كما تقول المزارعة، وهي تشير إلى أرضها الجرداء: «حين علمت أن الأشجار قد استُهدفت، شعرت أن عمري وتعب حياتي ضاعا، وأن كل ما عملت من أجله ذهب في لحظة». اليوم، لم تعد تفكر بإعادة زراعة أرضها من جديد، لأنّ «الأمر مكلف جدًا، ويحتاج وقتًا طويلًا قبل أن نحصل على إنتاج جديد، خاصة بعد ما خسرناه».
«الخسارة لم تكن في الكمية فقط، بل أيضًا في القدرة على الوصول إلى البساتين، إذ تعذّر على المزارعين جني محصول هذا العام، فالأشجار التي احترقت لن تعود للإنتاج قبل مرور ما بين 15 و20 عامًا، ما يعني خسائر تراكمية مباشرة تتجاوز 60 مليون دولار».
ما وراء شهادة بهية الفردية، تكشف الدراسات البيئية حجم الكارثة على مستوى الجنوب كله، كما يشرح الدكتور جورج متري، مدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في «معهد الدراسات البيئية» بجامعة البلمند. يخبرنا متري بأننا «شهدنا استخدامًا مباشرًا للذخائر الفوسفورية ولأنواع أخرى تسبّبت بحرائق في المناطق الحرجية، مثلما تسببت بانتقالها إلى الأراضي الزراعية، بما فيها بساتين الزيتون. إذا أخذنا في الاعتبار كل المساحات الزراعية التي احترقت بفعل الحرب، فهي تُقدَّر بحوالي 910 إلى 1000 هكتار، من بينها نحو 144 هكتارًا من أشجار الزيتون، أي ما يعادل بين 40 و43 ألف شجرة احترقت. هذا رقم كبير نسبيًا، وله تأثير مباشر على المزارعين وإنتاج الزيتون وزيته، خاصة أن محافظة الجنوب تضم حوالي 28% من أشجار الزيتون في لبنان».
الخسارة لم تكن في الكمية فقط، بل أيضًا في القدرة على الوصول إلى البساتين، إذ تعذّر على المزارعين جني محصول هذا العام، وفق متري الذي يشير إلى أنّ الأشجار التي احترقت لن تعود للإنتاج قبل مرور ما بين 15 و20 عامًا، ما يعني خسائر تراكمية مباشرة تتجاوز 60 مليون دولار، إضافة إلى الأثر الاقتصادي طويل الأمد على المزارعين.
وعندما نتحدّث عن أشجار الزيتون في الجنوب، لا بدّ من الإشارة إلى أشجار عمرها أكثر من مئة عام، ولا يمكن تعويضها حتى بزراعة أشجار جديدة. فهي تحمل قيمة بيئية وثقافية إلى جانب قيمتها الزراعية، وفق متري الذي يشرح خصوصيتها «الزيتون جزء من هوية المزارعين وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية، خصوصًا لدى من لا يملكون سوى هذه الزراعة. بحسب تقديراتنا، أكثر من 100 ألف مزارع تأثرت حياتهم مباشرة بخسارة أشجار الزيتون، فضلًا عن أنّ كثيرين منهم ما زالوا نازحين ولم يتمكنوا من العودة إلى قراهم».
ويؤكد أن خسارة شجرة الزيتون تختلف عن خسارة أي محصول آخر، فهي متأقلمة مع مناخ المنطقة، قليلة المتطلبات، وتشكّل ركيزة بيئية أساسية لدورها في تثبيت التربة وخلق بيئة محلية، كما تتميز بقدرتها على الصمود أمام التغيرات المناخية، وإنّ خسارتها تزيد من هشاشة النظام البيئي أمام التطرفات المناخية وتدهور الأراضي.
طقس سنوي مُهدّد..
يُعدّ لبنان من أبرز الدول المنتجة للزيتون عربيًا، وفي الجنوب اللبناني يُشكّل الزيتون عمادًا اقتصاديًا لآلاف العائلات. هذه الشجرة التي تنتشر على مساحات واسعة من الوديان، تؤمِّن لقمة عيش الكثير من المزارعين الجنوبيين، خاصة في القرى التي لا تملك بدائل اقتصادية وافرة، فيعوّل عليه السكان كلّ موسم للبقاء في أرضهم والاستمرار في إعالة أسرهم.
وتشير أرقام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أنّ المناطق الزراعية، وفي مقدّمتها بساتين الزيتون، تسهم بنحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي في محافظة الجنوب اللبناني، وتوفّر مورد رزق مباشر لما يقارب 110 آلاف أسرة، فيما يأتي 38% من مجمل الزيتون اللبناني من الجنوب.
ارتبطت هذه الشجرة بهوية لبنان الزراعية، ولطالما كانت ركيزة اقتصاده الريفي، فقد بلغت صادرات زيت الزيتون اللبناني نحو 30 مليون دولار عام 2016، فيما تُعرف المنطقة الجنوبية بإنتاج أنواع تُصنَّف بين الأجود عالميًا مثل الزيتون الصوري، والزيتون البلدي.
يعتبر موسم القطاف أكثر من عمل زراعي: إنه طقس سنوي تتجمّع فيه العائلات، ويتعاون فيه الجيران، وتتنقّل فيه الذاكرة بين جيلٍ وآخر. يعتمد توقيت القطاف، أكان في تشرين الأول (أكتوبر) أو تشرين الثاني (نوفمبر)، على كيفية استخدام الزيتون في الطعام، إمّا للأكل أو لإنتاج زيت الزيتون في المعاصر.
بعدما تمضي العائلات والعمال أيامًا في القطاف، وبعد الجني، يُفرَز الزيتون، تجتمع النساء لتخليل الزيتون أو كبسه، فيما يُنقل جزء منه إلى المعصرة لاستخراج الزيت، ذاك السائل الذي لا غنى عنه في كل بيت لبناني.
لكن تلك الطقوس لم تعد متاحة اليوم بالنسبة إلى الكثير من أبناء الجنوب اللبناني، بسبب الحظر المفروض على أهالي القرى الجنوبية الحدودية، الذين باتوا محاصرين من التغيّر المناخي، ومن الاحتلال الإسرائيلي الذي بات يهدّدهم مباشرة بقصف الأراضي الزراعية، مستكملًا ما بدأه منذ عامين.
طرقات لا تؤدّي إلى كروم الزيتون
منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تحوّلت بساتين الزيتون في الجنوب اللبناني إلى هدفٍ مباشر للنيران الإسرائيلية. القذائف والقنابل الفوسفورية أحرقت مساحات واسعة، فيما اقتُلعت أعداد كبيرة من الأشجار أو جُرفت مع أراضيها .
إلى جانب هذا التدمير، وُضع المزارعون أمام معركة من نوع آخر: منعهم من الوصول إلى بساتينهم. ففي الموسم الماضي، ومع بدء قطاف الزيتون، خرج المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي بتحذير علني عبر منصّة «إكس»، أعلن فيه أنّ «الطريق إلى كروم الزيتون لا يزال مغلقًا»، محذّرًا الأهالي من العودة إلى حقولهم «حفاظًا على سلامتهم». تحذير بدا كما لو أنه إصرار على حرمان الأهالي من مورد رزقهم، وتحويل الزيتون من مصدر حياة إلى ساحة خطر دائم.
النتائج كانت كارثية، إذ قدّر تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، بالتعاون مع وزارة الزراعة والمجلس الوطني للبحوث العلمية، الخسائر في القطاع الزراعي اللبناني بحوالي 118 مليون دولار خلال الفترة الممتدة بين تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وتشرين الثاني (نوفمبر) 2024.
وأشار التقرير إلى أن القطاع يحتاج إلى نحو 263 مليون دولار لإعادة الإعمار والتعافي، منها 95 مليونًا اعتُبرت أولوية عاجلة للفترة 2025/2026. وبحسب الأرقام نفسها، فإن 20% من الأسر الزراعية عانت من انعدام الأمن الغذائي، وهي نسبة تضاعفت لدى العائلات المتضررة مباشرة من التصعيد العسكري في الجنوب.
هذه الصورة عزّزتها تقارير حقوقية وعلمية أخرى، فقد وثّقت منظمة العفو الدولية استخدام إسرائيل للفوسفور الأبيض في جنوب لبنان، واعتبرته جريمة حرب، مشيرة إلى العشوائية التي أظهرتها الفيديوهات المسجلة. أما دراسة لـ «الجامعة الأميركية في بيروت»، فاستندت إلى صور الأقمار الاصطناعية لتكشف أن حرائق الغابات التهمت أكثر من 10,800 هكتار في عام 2024، امتدت على طول 120 كيلومترًا من الحدود الجنوبية وتوغلت حتى عشرة كيلومترات في العمق، ما ألحق أضرارًا جسيمة بالمناطق الحرجية والمراعي.
وبالنسبة للدراسة نفسها، تلقّى موسم الزيتون الضربة الأشد، فهذه الشجرة التي تشغل نحو ربع الأراضي الزراعية في لبنان، ومعظمها في الجنوب، تعرّضت لحرائق وتُركت بساتين كاملة من دون حصاد بفعل القصف المباشر والتحذيرات الإسرائيلية. وفي حادثة مأساوية، فقد أحد قاطفي الزيتون حياته خلال غارة جوية، ما دفع كثيرين إلى هجر أراضيهم خوفًا من المصير نفسه.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
سائل أخضر كثيف
يستذكر أبو سامر من قرية برج قلاويه (قضاء بنت جبيل) موسم زيتون العام الماضي، الذي لم يستطع العمل فيه بسبب الحرب الإسرائيلية. في العادة يبدأ موسم القطاف في منتصف شهر تشرين الأول (أكتوبر) ويستمرّ حتى نهاية تشرين الثاني (نوفمبر). وفي 2024، أعلن عن وقف إطلاق النار نهار 27 تشرين الثاني، فما كان من أبو سامر إلا أن عاد في اليوم التالي من مكان تهجيره في بيروت لكي يلحق بما تبقّى من موسم الزيتون، فكان الحصاد ضئيلًا جدًّا.
يملك أبو سامر كرمين من الزيتون في قريته. الأوّل يضمّ 100 شجرة، يفوق عمر بعضها الـ 100 سنة، أما الكرم الثاني فيضمّ 40 شجرة. في السنوات العادية، يصل مجمل الغلّة ما يتراوح بين 50 و60 تنكة زيت زيتون (وعاء مصفّح يتّسع لحوالي 16 كيلوغرامًا)، لكن هذه السنة لم يكن الأمر كذلك. رغم أنّ أراضيه نجت من الاستهداف الإسرائيلي المباشر، إلا أنّها لم تنج من تغيّر المناخ وتقلّبه هذا العام. «حتى الآن لم تمطر» يختصر أبو سامر تأثير التغيّر المناخي على الموسم الحالي، ويشير إلى أنّه خلال الفترة الذي يزهر فيه الزيتون، أي في أواخر شهر نيسان (أبريل) من العام الحالي، هبّ الهواء الشرقي ما أثّر سلبًا على محاصيله التي لم تتجاوز هذه السنة الـ 15 تنكة من مجمل المحاصيل. هذا العدد يعدّ ضئيلًا مقارنة بالسنوات الفائتة التي كان يتعاقد فيها الرجل مع عشرات العمال، فيما اكتفى هذه السنة بأربعة عمال فقط لقطف المحاصيل.
ما يميّز الزيتون في الجنوب اللبناني، وفق أبو سامر، هو أنّه زيتون بلدي، تبقى حبّته خضراء، فيما يتميّز زيت الزيتون لدى عصره بأنّه يظلّ لونه أخضرًا وقوامه سميكًا، مشيرًا إلى أنّ الزيتون بلدي بمجمله ولا يتمّ يخلطه بالزيتون «الطلياني» (الإيطالي). يضاف هذه العوامل، المناخ المعتدل في قرى الجنوب، خصوصًا في المناطق المرتفعة عن سطح الأرض، فضلًا التربة الحمراء التي تصقل جودة الزيتون.
في قرية برج قلاويه، تمكّن أبو سامر مع عدد من أبناء الضيعة من تشييد معصرة زيتون قبل سنوات، تشرف عليها لجنة من القرية. تستقبل هذه المعصرة محاصيل المزارعين من كلّ مناطق الجنوب، حتى الحدودية منها. ومن خلال الأموال التي تُدخِلها المعصرة، تعمل اللجنة على مساعدة أبناء القرية ممن يحتاجون إلى مبالغ مالية للخضوع إلى عمليات طبية باهظة الثمن أو للتسجيل في المدارس. وفي السنة الماضية، اضطرّت الجمعية إلى مساعدة العائلات المهجّرة من الجنوب بفعل الحرب.
لاحظ أبو سامر انخفاض عدد المزارعين القادمين إلى المعصرة لعصر الزيتون هذه السنة، بسبب احتراق الأراضي الزراعية على الحدود مع فلسطين المحتلة. «آلاف العائلات خسرت محاصيلها هذه السنة بسبب استهداف الأراضي الزراعية، ومن نجت أراضيه من القصف، اصطدم بالجفاف الذي قضى على ما تبقى من المحاصيل».
التبغ والعنب والحمضيات.. اهداف مباشرة
لم تكن الأضرار التي خلفتها الحرب الأخيرة في جنوب لبنان محصورة بأشجار الزيتون وحدها، بل امتدت لتطال مساحات واسعة من الأراضي المزروعة في الجنوب بمحاصيل أساسية مثل التبغ والقمح والزعتر، مهدّدة بذلك سبل عيش آلاف المزارعين. وبالإضافة إلى الجفاف القاتل هذه السنة بسبب تأخر هطول الأمطار في لبنان، أحدثت القذائف الإسرائيلية أضرارًا هائلة في البنية التحتية للري، إذ تدمّرت أكثر من 20 بركة للريّ في محافظتي الجنوب والنبطية، بالإضافة إلى أضرار بالغة في شبكات الري في القرى الحدودية، ما جعل الخسارات مضاعفة أمام المزارعين. ومن بين هؤلاء المزارع أحمد حمود من قرية بيت ليف الجنوبية، الذي خسر كلّ شيء خلال أيام قليلة من العام الماضي.
اعتاد حمود زراعة التبغ على مساحة تتراوح بين أربعة وستة دونمات، إلى جانب الزيتون والتين والزعتر، وكان دخله من التبغ وحده يكفيه وأسرته، ولكن مع اندلاع الحرب، أصبحت أرضه ضمن مناطق خطرة لا يمكن الوصول إليها، ما حرمه من زراعة التبغ هذا العام. لم تتوقف الخسائر عند هذا الحدّ، إذ شملت الزيتون والقمح والزعتر، بعدما تعرضت الأراضي للقصف المباشر بالقذائف الإسرائيلية، فاحترقت المحاصيل وتدمرت الأشجار.
في مواسم سابقة، كان حمود يجني نحو 40 تنكة زيت من الزيتون. يقول المزارع: «منذ بداية الحرب، أصبح الوصول إلى الحقول شبه مستحيل، وأي شخص يبتعد أكثر من مئة متر عن منزله بات عرضة للاستهداف. خلال الشهرين الأخيرين وحدهما، سقطت إحدى عشرة ضربة بطائرات مسيّرة في المنطقة، ما جعل الذهاب إلى الأراضي الزراعية ضرباً من المجازفة القاتلة».
الخسائر الزراعية انعكست بشكل مباشر على حياة حمود وأسرته. فبعدما كانت الزراعة مصدر دخلهم الوحيد، انقطع مورد العيش تمامًا، وتوقف تعليم أولاده منذ عامين لعدم القدرة على تحمل النفقات، وبسبب التهجير من قريته. لم يحصل على أي تعويض عن خسائره الزراعية، وكل ما وصله كان بعض المساعدات لترميم المنزل المتضرر. أما، في حال تحسّن الوضع، سيعود حمود لزراعة التبغ وسائر المحاصيل، فوفق تعبيره «لا بديل لنا عن أرضنا ورزقنا».
من تجربة أحمد حمود الفردية إلى المشهد الأوسع، تأخذنا هلا كيلاني، الخبيرة البيئية ورئيسة منظمة indyACT، لتكشف كيف امتدت الخسارة إلى قائمة طويلة من المحاصيل. تقول إن أشجار الزيتون تتصدر المشهد، خصوصًا في صور وبنت جبيل والنبطية ومرجعيون، تليها محاصيل الموز والحمضيات، وحقول التبغ في النبطية وبنت جبيل ومرجعيون، وكروم العنب المستخدمة لصناعة النبيذ، إضافة إلى الخضروات مثل البندورة والخيار والباذنجان، والمحاصيل الأساسية كالعدس والقمح، وحتى إنتاج الأفوكادو.
الخسائر الزراعية انعكست بشكل مباشر على حياة حمود وأسرته. فبعدما كانت الزراعة مصدر دخلهم الوحيد، انقطع مورد العيش تمامًا، وتوقف تعليم أولاده منذ عامين لعدم القدرة على تحمل النفقات بعد التهجير من قريتهم. لم يحصل على أي تعويض عن خسائره الزراعية، وكل ما وصله كان بعض المساعدات لترميم المنزل المتضرر».
وتوضح كيلاني أنّ حجم الأثر البيئي للحرب الأخيرة على جنوب لبنان فاق تأثير كلّ الحروب السابقة. فقد أظهرت صور الأقمار الاصطناعية أظهرت أن الحرائق كانت أكبر بعشر مرات من المعدلات المعتادة، وامتدت على طول 120 كيلومترًا، متوغلة إلى ما يقارب عشرة كيلومترات في عمق الأراضي. مشهد يوحي بأن الطبيعة نفسها كانت ساحة معركة.
عندما تتحدث عن التربة، تنتقل كيلاني إلى الحديث عن خطورة الذخائر المستخدمة التي تعكس حجم الكارثة.. «الانفجارات تزيل الطبقة السطحية الخصبة، وتفقدها مكوناتها المادية والبيولوجية، بما في ذلك الكائنات الدقيقة والفطريات المفيدة»، فضلًا عن أنها تضغط على التربة، فتنخفض قدرتها على الاحتفاظ بالماء والهواء، وتصبح عرضة للتآكل بفعل الأمطار والجريان السطحي.
أما التلوث الكيميائي، فتراه الخبيرة من أخطر ما ألمّ بالأرض، وتحديدًا ما أحدثته بقايا المتفجرات مثل الـ TNT والـ RDX، والمعادن الثقيلة كالزئبق والنحاس والرصاص. تبقى هذه المواد في التربة لفترات طويلة وتسمّم النباتات والحيوانات والكائنات. وحين تضرب الغارات مستودعات تحتوي على مبيدات أو مواد كيميائية، تتسرب هذه المواد إلى التربة، ما يجعل تأثيرها أكثر فتكًا. والمحصلة أن هذه الملوثات تتسلل إلى السلسلة الغذائية، لتصبح جزءًا مما يأكله الإنسان وما يرعاه من حيوانات.
وبحسب الخبيرة البيئية، فإنّ فقدان الغطاء النباتي بفعل الحرائق يفتح الباب أمام تعرية التربة وجرفها، ما يقود إلى تدهور الأراضي وانخفاض الإنتاج الزراعي، ويضع الأمن الغذائي في مهب الريح. وحتى إن عادت الأرض للزراعة، فإن المعادن الثقيلة والملوثات تظل مستقرة فيها لسنوات طويلة، لتبقى آثارها الصحية ماثلة أمام الأجيال المقبلة.
ذاكرة الحرب المغروسة في الأرض
من الزيتون إلى التبغ، ومن القمح إلى الموز، بدت الحقول في الجنوب اللبناني وكأنها ساحة استهداف ممنهج، يُحرق فيها الموسم وتُمحى فيها ذاكرة الزراعة. مشاهد الحقول المحترقة واقتلاع الأشجار لم تمر كصور عابرة، بل أعادت طرح السؤال: هل كان استهداف هذه الأشجار عملًا عشوائيًا أم أنّه كان جزءًا من استراتيجية أوسع تستهدف جذور الأرض ورمزيتها؟
بالنسبة للدكتور جورج متري، الأمر واضح، وفق قوله «لا شك أن تدمير البيئة الزراعية، خصوصًا أشجار الزيتون، كان جزءًا من استراتيجية الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، بهدف إلحاق الضرر المادي والمعنوي بالمزارعين. وقد رأينا مشاهد صادمة لاقتلاع الأشجار ونقلها خارج الحدود، ما شكل ضربة موجعة لأهالي الجنوب الذين يرتبطون وجدانيًا بأرضهم وزراعتهم».
ومن فلسطين إلى الجنوب اللبناني، تتكرر الصور: اقتلاع أشجار الزيتون في القرى، إحلال زراعات أخرى مكانها، محو الرموز البيئية التي تحمل هوية المكان، وتحويل المشهد الطبيعي إلى أداة في معركة السيطرة على الجغرافيا والذاكرة.
في هذا السياق، تضيف الخبيرة هلا كيلاني بعدًا قانونيًا وسياسيًا لهذه الصورة «إن استهداف الأراضي الزراعية يعد جزءًا من سياسة الإبادة التي تمسّ الأمن الغذائي للسكان. هذه الممارسات، بما في ذلك استخدام اليورانيوم المنضب والفوسفور الأبيض، تشكل جرائم حرب».
وترى كيلاني أنه على الدولة اللبنانية أن تتحرّك بالشراكة مع المؤسسات الدولية للمطالبة بالتعويضات، مستذكرةً سابقة حصلت عام 2006 حين أقرت «الجمعية العامة للأمم المتحدة» مسؤولية إسرائيل عن تلوث البحر نتيجة قصف معمل الجية، وطالبت الدولة العبرية بدفع تعويضات للبنان. لكنها تشدد على أن الوصول إلى عدالة بيئية حقيقية يستدعي عملًا دبلوماسيًا وقانونيًا متواصلًا، وتنسيقًا وثيقًا بين وزارتي الخارجية والعدل، إلى جانب ممارسة ضغط مستمر على الساحة الدولية لضمان تنفيذ القرارات. بيد أنّ كلّ ذلك يبدو بعيدًا الآن، في ظلّ القصف الإسرائيلي المتواصل على الجنوب اللبناني.
الاحتلال على أرضين
لتوضيح العلاقة الاستعمارية العنيفة بالأرض على نحو أعمق، تكفي العودة إلى التجربة الفلسطينية، التي تعدّ نموذجًا في هذا السياق خصوصًا لقربها جغرافيًا من الجنوب اللبنانية. في ورقة بحثية أعدّها عام 2016 الباحثان بيار بلان وعيسى الشتلة بعنوان «فلسطين: الصمود من خلال الزراعة»، تمّ توثيق تراجعًا ملحوظًا في نسبة العمال الزراعيين الفلسطينيين خلال العقود الأخيرة، وكان لافتًا أن الاحتلال الإسرائيلي لم يفرض فقط قيودًا على حركة المزارعين أو وصولهم إلى مواردهم، بل خلّف آثارًا متشعبة على النشاط الزراعي ككل، محاولًا إضعاف هذا القطاع.
ورغم هذا التراجع، رأى الباحثان أن الزراعة الفلسطينية تحمل دلالة سياسية واضحة في سياق الصراع مع إسرائيل، فهي ليست مجرّد مصدر رزق، بل وسيلة مقاومة لسلب الأرض، وأداة للحفاظ على الرابط العضوي بين الناس وتربتهم. ويتضح البعد المنهجي للاستعمار الاستيطاني في الضفة الغربية، حيث حُرمت محافظات كاملة من مساحات خصبة كانت مصدر رزق لعائلات لا تملك بديلًا آخر منذ العام 1948.
حقّق الاحتلال الإسرائيلي تدميره للأرض الفلسطينية من خلال سبل شتى، وفق ورقة بحثية بعنوان «تطوّر أنظمة استخدام وملكيّة الأراضي في الضفّة الغربيّة: بين نزع الملكيّة والمقاومة والنيوليبراليّة» (2023) للباحثتين فادية بانوسيتي ولورانسة رودارت، وأبرز هذه السبل هي: الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأراضي الأصلية، تهجير أصحابها الفلسطينيين واقتلاعهم من جذورهم، ثم إقامة استيطان دائم يرسّخ وجود المستعمرين.
وقد اتخذت هذه السياسات أشكالًا عملية هدفت إلى إضعاف الزراعة الفلسطينية باعتبارها الركيزة الأهم لارتباط الناس بأرضهم. فمنذ عام 1979، بدأت السلطات الإسرائيلية بفرض أوامر عسكرية متلاحقة لتقييد النشاط الزراعي. وفي عام 1985، نصّ الأمر العسكري رقم 11476 على أن أي نشاط زراعي في الضفة يحتاج إلى ترخيص مسبق من الإدارة الإسرائيلية. بذلك، تحوّل العمل في الأرض من حق طبيعي إلى امتياز مشروط برقابة المحتل.
هذا الواقع أدى في الثمانينيات وبداية التسعينيات إلى تراجع ملحوظ في الزراعة الفلسطينية، نتيجة لمصادرة الأراضي والتقسيمات الإدارية القسرية، إلى جانب العنف العسكري والقيود على الوصول إلى الموارد. ومع ذلك، لم تكن الصورة أحادية، إذ برزت مقاومة مقابلة اعتمدت على استصلاح الأراضي والتوسع الزراعي كوسيلة للصمود.
لم يقتصر استهداف الأرض على الضفة الغربية فحسب، بل شكّل قطاع غزة بدوره ساحة أخرى لسياسة ممنهجة هدفت إلى تقويض الحياة الزراعية بالكامل. فمنذ اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، شرع الاحتلال في تجريف واسع على طول الشريط الحدودي للقطاع، أتى خلاله على ما يقارب خُمس الأراضي الزراعية. وجاء الحصار المشدد عام 2007 ليكمل هذه الاستراتيجية عبر خنق الصادرات وإغراق المزارعين بقيود لا تنتهي، ما جعل العمل في الأرض معركة يومية من أجل البقاء.
لم تتوقف الاعتداءات خلال العقدين الأخيرين، من بينها رش آلاف الدونمات المزروعة بالمبيدات السامة من الجو، ما حول الحقول إلى مساحات ميتة. وقبيل اندلاع الحرب الأخيرة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كانت الأراضي الزراعية تغطي نحو 170 كيلومترًا مربعًا من مساحة القطاع البالغة 365 كيلومترًا، أي ما يقارب نصفه تقريبًا. لكن هذه المساحة تقلّصت بصورة كارثية خلال الحرب، إذ دُمر ما يقارب 70% من الرقعة المزروعة.
هذه الأرقام على قساوتها، لا تلخص وحدها عمق الخسارة، لكنها تعكس كيف تُشكّل السياسات الإسرائيلية، من تجريف الحقول وعزل الأراضي بالجدار وصولًا إلى رش المزروعات بالمبيدات وتدمير البساتين، أدوات لإفراغ المكان من أهله، وإفراغ الأرض من قدرتها على أن تكون حاضنة للحياة. وفي فلسطين كما في الجنوب اللبناني، برزت الزراعة كوسيلة صمود في وجه الاحتلال. لهذا يأتي استصلاح الأرض أو إعادة زرعها، كتعبير عملي وبديهي عن البقاء في الأرض.
يجد الوجه الاستعماري في فلسطين صداه في الجنوب اللبناني خصوصًا خلال القصف اليومي الذي يستهدف البشر والأراضي الزراعية. فالتشابه البيئي والزراعي، خصوصًا في كروم الزيتون، يجعل من بساتين الجنوب صورة موازية لبساتين فلسطين التي تقبع تحت سلطة الاحتلال المتواصلة. هنا أيضًا يُدرك الناس أن الأرض ليست مجرد وسيلة للعيش، بل ذاكرة وركيزة للبقاء. وهنا أيضًا تدرك إسرائيل معنى هذه الرمزية، فتسعى إلى اقتلاعها لأنها تعرف أن ضرب الشجرة يعني محاولة لقطع التاريخ وكسر العلاقة التي لا يمكن استبدالها بين الناس وأراضيهم.
*ينشر هذه المقال ضمن مشروع «غرين بانتر» بالتعاون مع مؤسسة «تاز بانتر»














