قبل نحو عشر سنوات تقدّمتُ لوظيفةٍ إعلامية في إحدى المنظّمات الدولية العاملة في بيروت. نجحتُ بالاختبار المكتوب ثم باختبارٍ شفهيٍّ أوّل واختبارٍ شفهيٍّ ثانٍ. بعدها، أوضحَت لي المسؤولة الإقليمية للمنظمة أنّ السبب الوحيد لعدم قبولي في الوظيفة هو أنني لا أمتلك أي خبرات في مجال “العلاقات العامّة” إذ إن الـ PR سيكون جزءاً أساسياً من العمل الإعلامي المطلوب.
أذكر جيداً أنّ خيبة أملي حينها جاءت مضاعفة، خيبةٌ من عدم حصولي على الوظيفة التي كلّفتني توتراً وآمالاً متعاظمة على مدى أشهر أضيفت إليها صدمة كبيرة من سبب الرفض. هل كان يجب عليّ كصحافية أن أُتقن “العلاقات العامّة”؟ فكّرتُ بيني وبين نفسي حينها. لكن كيف أضيفت مهارات “تلميع الصورة” فجأة إلى شغل الكتابة والتواصل؟ لماذا قد توكَل إلى صحافية أو مسؤولة إعلامية مهمّة إقامة “العلاقات الجيّدة دائماً” مع جهات اخرى؟ كيف ونحن، كصحافيين، اعتدنا أن نتهرّب من موظف العلاقات العامّة في المؤسسة التي نعمل فيها وفي المؤسسات الاخرى، لأننا نعلم جيداً أنه سيطلب منّا أن “نمرّر” خبراً أو تغطيةً ما خدمةً للعلاقات التي يحيكها، فنرفض طلبه في أغلب الأحيان أو نحاول جاهدين أن نحافظ على استقلاليتنا في التغطية والكتابة إن وافقنا عليه. لذا، اعتدنا أن يجلس موظف “العلاقات العامّة” في قسم التسويق والإعلانات وأن تقتصر اجتماعاته مع مدير المؤسسة والمدير المالي ومسؤول التسويق. إذ لا يمكن مهنياً أن تتداخل “العلاقات العامة” مع الصحافة، بالمنطق هما نقيضان. “هذا مقال PR!”، عبارة تُعَدّ شتيمة في معجم العمل الصحافي.
صحيح أنّ طبيعة عمل المنظمات الدولية تختلف عن عمل الصحف والمجلات لكنّ العمل الصحافي/الإعلامي هو هو أينما كان: نقل المعلومة وإعدادها للنشر بلغة مفهومة وسليمة، تٌضاف إلى ذلك في عمل المنظمات مهامٌ ككتابة تقارير حول أعمال المنظمة، تغطية نشاطاتها إعلامياً، تأمين مواد مفيدة للصحافيين، كتابة بياناتها الرسمية ونسج شبكة علاقات مع المؤسسات الإعلامية، وهذه الأخيرة لا تندرج ضمن نطاق “العلاقات العامة”، بل اسمها “العلاقات الإعلامية” التي هي في الأصل جزءٌ لا يتجزّأ من التواصل المهني ضمن عملنا كصحافيين أو كمسؤولين إعلاميين داخل المنظمات.
فمَن قرّر، قبل أكثر من عشر سنوات، أن يشتمنا بشكل جماعي وأن يدمج الإعلام بالتسويق والتلميع في وظيفة واحدة؟ كيف عُكِست مهمّة الصحافي فانتقلت من التخريب ونقد السائد إلى التمجيد ومراعاة المصالح؟
هو المنطق الرأسمالي النيوليبرالي في دمج الوظائف لتقليل التكاليف، بالتالي إلغاء التخصّصات وتسليع المنتَج أيّ منتَج حتى لو كان معرفياً، وتمويه العلاقات وتمييع حدودها. ليصبح نقل الخبر وتوثيقه متماهياً مع تلميع صورة المؤسسة وخدمة مصالحها ومصالح شركائها/زبائنها. الحرص هنا على التفريق بين هاتين الوظيفتين ليس طوباوياً ولا هو نابع من إيمانٍ زائفٍ بشفافية العمل الصحافي المطلقة أو بحيادية الصحافيين غير المطلوبة أصلاً، بل بوجوب وضع حدود واضحة بين مهنتين مختلفتين وقواعد اللعب فيهما متناقضة. ووجوب وضع حدّ لهيمنة متطلّبات السوق المستجدّة على العمل الصحافي والإنتاج المعرفي ككلّ.
شهدنا كيف انتهت مرحلة الصحافة الورقية وانقلبت مقاييس الكتابة والنشر الكلاسيكية وعشنا افتتاح عصرٍ جديدٍ في الإنتاج الإعلامي… لكنّ جوهر العمل الصحافي لم يُمَسّ بل باتت تتوفّر له أساليب عرضٍ وانتشار أكبر وأسرع. وفي خضمّ كلّ ذلك، لم تطلب المهنة من الكاتب أو المحرّر الصحافي أن يشغل وظيفةً اخرى ليحافظ على وجوده وعمله، لم نشعر بالتهديد الوجودي في عزّ التخبّط داخل الموجة الجديدة
كان يجب علينا، قبل عشر سنوات، استشعار التغيّرات المؤذية التي ستطرأ على المهنة وعلى سوق العمل. لكنّ أكبر همومنا حينها كان مواكبة “عصر الصحافة الالكترونية” والتكيّف مع متطلّباته الجديدة في العمل وفي طريقة التفكير وأساليب النشر. حينها، كانت كوابيسنا تتلخّص بجملة “موت الصحافة الورقية”، وقد دفنّاها بأيدينا لكنّنا لم نمت معها.
واكبتُ قبل عشرين سنة تحوّلَين جوهريَين في عملي في الصحافة المكتوبة: الأوّل رقمنة العمل اليومي والثاني الانتقال إلى نمط الصحافة الإلكترونية.
التحوّل الأوّل كان تحرّرياً بالكامل إذ مكّنتنا أجهزة الكومبيوتر من طباعة مقالاتنا مباشرةً بدل كتابتها بخطّ اليد على أوراق وإرسالها إلى قسم “الصَفّ/ التنضيد” ليقوم “الصَفّيفة” (الذين يصفّون النصوص على أسطر الجريدة) بطبعها، مع كلّ ما يشوب تلك العملية المضنية من أخطاءٍ تقنية وعرقلات وضغوط في الكتابة وبطءٍ في التنفيذ. ثم جاء الانترنت ليحلّ أزماتٍ متفرّعة أُخرى خصوصاً للعاملين خارج المقارّ الرئيسية للصحف.
عملتُ في مكتب جريدة “السفير” اللبنانية في مدينة طرابلس (شمال لبنان) بين عامي 2001 و2004، وكان على العاملين في المناطق وقتها أن يُسرعوا في إنجاز موادهم قبل الساعة الرابعة بعد الظهر مهما كلّف الأمر، ففي ذلك التوقيت من كلّ يوم كان مندوب الجريدة الآتي من مقرّها الرئيسي في بيروت يمرّ ليأخذ مقالاتنا الصحافية المكتوبة بخطّ اليد ترافقها الصور الفوتوغرافية المطبوعة وأفلام الصور غير المحمّضة لينقلها إلى بيروت حيث تتمّ عمليات صفّ النصوص وتنقيحها وإعداد الصفحات ورسمها وصولاً إلى طبعها. جاء جهاز الكومبيوتر وتوصيله بالانترنت لاحقاً لينقل عملنا إلى مرحلةٍ جديدة أسهل بكثير مع هامش حرية أكبر في العمل. تأقلَمَ الجيل الجديد مع ذلك التحوّل بشكل سريع وتلقائي (وبسرور) وكنّا نمرّن بعضنا على التقنيات الجديدة ونعلّم الأكبر منّا سنّاً عليها، بعضهم بقي متمسّكاً بالكتابة على الورق ولم يشكّل هذا الأمر أيّ تهديد لإنتاجهم أو لوجودهم داخل دورة العمل في تلك المرحلة، إذ كان هناك دائماً مَن يعمل على نقل النصّ إلى النسخة الإلكترونية، ثم، شيئاً فشيئاً بات معظم الصحافيين من كافّة الأجيال يتقنون استخدام الكومبيوتر في عملهم اليومي.
التحوّل الثاني الكبير جاء عندما قرّرت الصحف العالمية نشر موادها على شبكة الإنترنت إلى جانب النسخة الورقية، الأمر الذي تسارع خلال منتصف التسعينيات في الإعلام الغربي وفي بداية الألفينات في العالم العربي. في البدء نسخَت الصحف تصاميمها الورقية ونقلتها كما هي على صفحةٍ – مرآة رقمية ثم ابتكرت مواقع إلكترونية ذات هويات وتصاميم خاصة بدأت تستقلّ تدريجياً عن النسخة الورقية حتى باتت الصيغة الإلكترونية هي المنتج الأوّل والنهائي لمعظم المواد لا الواجهة/المرآة فقط.
عندها، شعر الجميع بتوتّر بدايات حقبة جديدة وبرزت ضغوطات لمواكبة هذا التغيّر السريع نحو “الالكتروني”. ما تطلّبته تلك المرحلة من الصحافيين والمحرّرين ورؤساء التحرير والمصمّمين كان إضافة مستوى عملٍ جديدٍ على النمط المعتاد والتفكير إلكترونياً في إنتاج المقالات منذ اللحظة الأولى واستخدام ما تتيحه التقنيات لإغناء المواد الصحافية وتحديث طريقة نشرها.
شهدنا كيف انتهت مرحلة الصحافة الورقية وانقلبت مقاييس الكتابة والنشر الكلاسيكية وعشنا افتتاح عصرٍ جديدٍ في الإنتاج الإعلامي… لكنّ جوهر العمل الصحافي لم يُمَسّ بل باتت تتوفّر له أساليب عرضٍ وانتشار أكبر وأسرع. وفي خضمّ كلّ ذلك، لم تطلب المهنة من الكاتب أو المحرّر الصحافي أن يشغل وظيفةً اخرى ليحافظ على وجوده وعمله، لم نشعر بالتهديد الوجودي في عزّ التخبّط داخل الموجة الجديدة، وكلّ ما طُلب منّا خلال تلك المرحلة كان تعلّم تقنيات الكتابة الالكترونية والتأقلم مع سرعة العمل التي أوجبتها. كانت مرحلة تاريخية مفصلية لكنّها لم تكن إلغائية. تعلَّمَ الصحافيون أساليب بحثٍ وتقصٍّ وتسجيل أذكى وأسرع، وتعلّم المحرّرون تقنياتٍ مكّنتهم من إغناء النصوص وسرّعت عملية البحث عن المعلومة لتدقيقها وسرعة التواصل مع الكتّاب أينما كانوا… لم تسقط قواعد العمل الصحافي مع مكننته ولم يتغيّر جوهر المهنة عند رقمنتها.
فما الذي جرى بين ليلةٍ وضحاها حتى باتت وظيفة الكاتب الصحافي تتطلّب ثلاث وظائف أُخرى معها ليتمّ الاعتراف بها في سوق العمل؟ وكيف اختفت وظيفة المحرّر الصحافي؟
كيف يتمّ إلغاء مهنتنا من الوجود؟
أبحثُ منذ ثلاثة أشهر عن وظيفةٍ أستكمل بها مسيرتي في الكتابة الصحافية والتحرير متّكئةً على عشرين سنة من العمل في هذا المجال إضافةً إلى مهاراتٍ أُخرى اكتسبتها في الطريق. لكنّني اكتشفتُ أنّ سوق العمل لا تعترف بي ولا ترى المهارات التي راكمتها خلال سنوات عملي في مجال تخصّصي. لم تعد هناك وظيفة اسمها: محرّرة صحافية (فقط). بات التحرير الصحافي جزءاً من مهام شخصٍ يدعى: صانع محتوى content creator. ماذا “يصنع” هذا الشخص بالضبط؟ تجيب السوق: كلّ شيء. كلّ ما تحتاجه المؤسسة لتنتج محتواها المنشور إلكترونياً. طيب، ما هو هذا “المحتوى”؟ ما نوعه الصحافي؟ وعلى أي أسس تحريرية يُنتَج؟ ووفق أي عدسة وخط سياسي تحريري؟ ما الهدف المعرفي منه؟ لا جواب. هو “محتوى” فقط، هكذا، كيانٌ هائمٌ في الفضاء.
أمّا التوصيف الوظيفي لـ”صانع المحتوى” فيتضمّن، من بين وظائف عديدة اخرى، مهمّة “تحرير المواد”. وزيادةً في الاستهبال ابتكرت السوق عبارة “متعدّد القبّعات” ليصبح الاسم الوظيفي الرائج حالياً “صانع محتوى متعدّد القبّعات” multi-hat content creator وترجمتها العملية هي أن يقوم شخصٌ واحدٌ بمهام ثلاثة إلى خمسة أشخاص. وفي حالة التحرير الصحافي تتألّف تلك المهام من: الكتابة، التحرير، إعداد وتنفيذ ونشر مواد سمعية بصرية، نشر “المحتوى” على السوشل ميديا وإدارة هذا الفضاء، ابتكار استراتيجيات لتوسيع القاعدة الجماهيرية وجذب مصادر الربح/التمويل. خمس وظائف مختلفة، خمسة مجالات عمل، خمسة أنماط تفكير، خمسة تخصّصات، خمس شخصيات… قرّرت السوق، بنباهتها الرأسمالية المعتادة، أن تحصرها بشخصٍ واحد وأن تعتبر الأمر ميزةً فتسمّيها “المرونة المهنية”.
ما يمثّله منطق “صانع المحتوى متعدّد المهام” ليس تحوّلاً ظرفياً أو انتقالاً مرحلياً فرضته ظروف التطوّر الزمني بل هو نهجٌ مصطنعٌ يصيب العمل الإعلامي في مقتل. ما يقترحه هذا التوصيف الوظيفي المستجدّ هو خلق نموذجٍ لشخصٍ مُسمَّرٍ أمام شاشة، يُنتِج مواداً يفكّر فيها آنياً وينفّذها وفق شروطٍ تراعي بيانات الانتشار الالكتروني وقواعد الجذب، وتتحكّم بتلك المواد ــ وبتقييمه الوظيفي لاحقاً ــ أعداد الـ Likes والـ shares- وحركة التفاعل الالكتروني.
تحت شعار “المرونة” و”تعدّد المهارات” فرَضَ المنطق الرأسمالي النيوليبرالي شروطاً غير منطقية على العمل الصحافي وخصوصاً التحريري منه وأعاد تعريف هذه الوظيفة بغباءٍ تدميري. بدورها، قرّرت معظم المؤسسات الإعلامية، القائمة أصلاً على تشويه التخصّصات الصحافية، والمأزومة مالياً بسبب السياسات الرأسمالية، أن تخضع لحلولٍ من ابتكار الرأسمالية ذاتها فلا تكتفي بتضييق الخناق على العمّال وبحرمانهم حقوقهم الأساسية وتهديدهم بلقمة عيشهم عند كلّ منعطف أو أزمة، بل تمادت بدمج الوظائف وخلط المهام حدّ تدمير جوهر تلك الوظائف مختصرةً المشهد بالآتي: موظفٌ بقبّعات كثيرة ينزع واحدة ليعتمر أُخرى خلال ساعات عمله الطويلة. أتخيّله أحياناً يعتمر أكثر من قبّعة في آنٍ واحد في مشهدٍ بهلواني مبكي.
ما يمثّله منطق “صانع المحتوى متعدّد المهام” ليس تحوّلاً ظرفياً أو انتقالاً مرحلياً فرضته ظروف التطوّر الزمني بل هو نهجٌ مصطنعٌ يصيب العمل الإعلامي في مقتل. ما يقترحه هذا التوصيف الوظيفي المستجدّ هو خلق نموذجٍ لشخصٍ مُسمَّرٍ أمام شاشة، يُنتِج مواداً يفكّر فيها آنياً وينفّذها وفق شروطٍ تراعي بيانات الانتشار الالكتروني وقواعد الجذب، وتتحكّم بتلك المواد ــ وبتقييمه الوظيفي لاحقاً ــ أعداد الـ Likes والـ shares- وحركة التفاعل الالكتروني. غرفةٌ عازلة يتقوقع فيها “صانع المحتوى” يستقبل الطلبات التحريرية بصمت وينفّذها بميكانيكية.
أين يبدأ العمل الصحافي في هذه الحالة، المشاهدة والبحث ورصد الميدان ووضع الأحداث في أطرها السياسية – الاجتماعية؟ كيف ينتقل ذاك “المحتوى” إلى الشقّ النقدي ومتى تُطرح الأسئلة وتناقَش زوايا المعالجة ومع مَن؟ لا وقت لكلّ ذلك. إذ كلّما أُعطي “صانع المحتوى” مزيداً من القبّعات والمهام كلّما سُحِبت منه بشكلٍ عنيف المهمّة الأساسية التي بنى عليها هويته وخبرته الصحافية. وبعد جعل العمل الصحافي عبارة عن مجموعة مهامٍ آليّة يتحوّل “صانع المحتوى” إلى موظّفٍ مُرهَقٍ منزوع الهوية مغتربٍ عن واقعه ومحدود الإبداع، ما يجعله يوماً بعد يوم أقلّ فاعلية من أي نموذج ذكاء اصطناعي توليدي.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
المهنة: محرّرة صحافية
خضتُ على مدى خمس سنوات خلال عملي كمحرّرة في مجلة “كحل”، تجربة التحرير التشاركي. الشقّ التشاركي في هذا النوع من التحرير الصحافي يقتضي تعاوناً مباشراً ولصيقاً مع الكتّاب بدءاً بالعمل على تحسين المضمون وصولاً إلى التدقيق اللغوي مروراً بمراحل تدقيق المعلومات والشغل على الصياغة وعلى اقتراح هياكل نصّية مختلفة أو زوايا جديدة قد تكون غائبة عن المعالجة. كلّ ذلك يتمّ من خلال التواصل المباشر مع الكتّاب والتعاون معهم في جلسات نقاش ورسائل متبادلة فيها ملاحظات واقتراحات من الطرفين. عملية أخذ وردّ طويلة، متعبة أحياناً وممتعة في الأغلب، تنتج عنها مواد صالحة للنشر وفق السياسة التحريرية المعتمدة للمؤسسة ووفق رؤيةٍ سياسية مشتبكة مع واقع مجتمعاتنا.
عَمِلنا في المجلّة كفريقٍ متناغمٍ صغير نتشارك في صنع القرارات الإدارية والتحريرية الأساسية، لكن علاقتي كمحرّرة رئيسية بمسؤولة استراتيجيا التواصل مثلاً كانت تقتصر على اقتراح بعض الجمل أو المقاطع التي تصلح لبوستات السوشل ميديا أحياناً، لا أكثر ولا أقلّ. وعلاقتي كمحرّرة مع المسؤولة المتخصصة بالترجمة اقتصرت على تنسيقٍ لغوي ونقاشٍ في بعض الصياغات النصّية عندما اقتضت الحاجة خلال تدقيق المقالات المترجمة. أما علاقتي بالمحتوى ككلّ فهي علاقة تشاركية أيضاً، أساهم فيها كما يقول المنطق المهني إلى جانب رئيسة التحرير وباقي أعضاء الفريق، ننسج الموضوعات ونضع الخطط التحريرية لها ونساهم بتنفيذها وفق الأدوار المحدَّدة لكلٍّ منّا. وكلّ مرحلة من مراحل الإنتاج تلك تتمّ بعد نقاشات مهنية وسياسية في خياراتنا التحريرية شكلاً ومضموناً.
العمل التحريري عملٌ بطيء. ويجب أن يكون بطيئاً خدمةً للدقّة واحتراماً للكاتب ولمجهوده وثقته وتأديةً لواجب الحفاظ على مستوى جيّد من الإنتاج المنشور الذي تلتزم به المؤسسة كما المحرّر. وفي العمل التحريري نسجٌ ضروري لعلاقاتٍ شخصية ومهنية، علاقات مع الكتّاب تفتح أبواب التشبيك المعرفي والتواصل الاجتماعي العابر للحدود وحلقات نقاش مع المترجمين والمصمّمين والمصوّرين تُغني التجربة التحريرية وتخوّلها إعداد منتجٍ مفيدٍ وممتع.
اليوم، تفرض سوق العمل البائسة على المحرّر إنجاز عددٍ كبيرٍ من المقالات في فترة قصيرة واعتماد السرعة في التدقيق (كلمتين متناقضتين!) وتُحمّله مسؤولية التفكير في كيفية نشرها وجذب القرّاء لها، وفي ذلك تدمير لكلّ تلك الوظائف معاً. إذ بدل أن يأخذ المحرّر وقته في اختيار المواضيع وتحديد زوايا طرحها وابتكار العناوين مثلاً يُطلَب منه أن يجاري المواضيع الرائجة وأن يخترع زوايا وعناوين لها تناسب الـ”ترند”، كما عليه في الوقت ذاته أن يركّز اهتمامه على البيانات الرقمية للمقالات ومتابعتها آنياً والعمل على تحسين وصولها إلى عدد أكبر من “الجماهير المستهدفة”. وبدل أن يتناقش المحرّر مع المصوّر الفوتوغرافي والمصمم الإبداعي في طرق عرض المادّة النهائية، يُجبَر هذا الثلاثي، أو الفرد الواحد الذي حلّ مكانهم، على الخضوع لمقاييس وطرق عرضٍ موحّدة تناسب قوالب النشر التي تفرضها ــ بالسنتمترات ــ منصّات السوشل ميديا. هكذا، تُنسَف دورة العمل الطبيعية وتُقفَل مجالات النقاش والتبادل المعرفي لتُستبدَل بعزلة مهنية واستعراضٍ أُحادي وخضوعٍ تامّ لديكتاتورية منصّات السوشل ميديا.
المشكلة في ما تطرحه سوق العمل الإعلامي المفروضة علينا حالياً، ليست في زيادة المهام غير المتناسقة فحسب بل في تحويل وظيفةٍ كوظيفة التحرير الصحافي مثلاً، من إنتاج المعرفة إلى إدارة الانتباه. وإذا حدّقنا جيداً في مهمّة “إدارة الانتباه” تلك وجدناها تعمل عكس ما تطلب. إذ إنّ تركيز الصحافي والمحرّر على إدارة تفاعلات السوشل ميديا هو تبديدٌ لانتباهه هو عن مركز اهتمامه الأول أي المضمون وأسلوب النشر. وانتباه متصفّحي السوشل ميديا الذي ينشغل الجميع بتلبيته ورصده وإدارته يبدو أنه يُبَدَّد بعد ثانية ونصف (!) عند أغلب مستخدمي الهواتف الذكية. عليه، باتت جودة عملنا المنشور وقابليته للوجود تخضع لمعيار ما يُسمّى bite-sized content أي “المحتوى” الذي لا تتجاوز مدّة تصفّحه الـ60 ثانية ويُفضَّل أن تتراوح بين 15 و30 ثانية لضمان وصوله إلى أكبر عدد من الجمهور المتصفّح، الشارد، العزيز.
لم تعد الكفاءة مطلوبة إلّا لتخدم القدرة على القيام بمهامٍ متعدّدة في آنٍ واحدٍ وابتكار إنتاجٍ يُحشَر ببضع ثوانٍ، أمّا إتقان الصياغة اللغوية مثلاً والقدرة على التحليل والنقد والحاجة إلى التواصل البشري والإلمام ببعض المواضيع والتخصّص بأخرى، فتلك ميزات تريد النيوليبرالية أن تفقدها قيمتها ووجودها من خلال فرض منطق “المرونة المهنية” مثلاً واختراع شخصيات وظيفية كمثل “صانع المحتوى متعدّد المهام”.
حالة اغترابٍ مزدوجة يعيشها المحرّر، عن مهنته وعن القرّاء. إذ يُجرَّد العمل التحريري من مهمّته الأساسية في قيادة السياسية التحريرية للمؤسسة وضمان دورة عمل سليمة يؤدّي فيها كل صاحب اختصاص عمله بقدرٍ من المسؤولية المهنية. الأمر الذي سيؤدي تلقائياً إلى شلّ المحفّز النقدي والتحليلي عند الكاتب والمحرّر والقارئ وإحباط محاولات المراجعات المهنية والفكرية على المدى الطويل.
لم تمرّ على مهنة الصحافة فترة إلغائية تدميرية كالتي نشهدها اليوم، على الأقلّ منذ بدَأَ جيلنا بالعمل فيها أي منذ أكثر من عشرين سنة. فها هو الصحافي يتقمّص هوية الـ”مؤثّر” influencer والمحرّر بات “صانع محتوى – أيّ محتوى لا فرق”، وتلك هي الذات النيوليبرالية المثالية: مرِنة، متقلّبة، فردية، ومنزوعة من أيّ انتماء مهنيّ وسياسيّ.













