في السنة التي يكون فيها شجر الزيتون خصباً، يُقدّر المزارعون أنّ الموسم المُقبل سيأتي خجولاً. لكن الأشجار مع ذلك تظلّ تُثمر. فالمواسم الخفيفة تُقلّل فقط من فرص بيع زيتهم وزيتونهم، لكنها تكفي لكي تملأ قوارير الزيت وبرطمانات الزيتون في منازلهم.
يعرف المزارعون أراضيهم جيّداً، ويتوقّعون قدوم الشدائد بين سنة وأُخرى إمّا على شكل موسم خفيف أو بهيئة مرض فطري يُعرف في لبنان وفلسطين باسم «عين الطاووس». يظهر هذا المرض كدوائر داكنة تُشبه العيون التي تتمدّد على أوراق الشجر وتلتهمها. تسقط بعدها الأوراق الصفراء فتظهر الشجرة شبه عارية. تُخفّض العدوى الفطريّة من نسبة إنتاج الزيتون في السنة المقبلة بما يفوق 50%. وفي حال بقيت دون علاجٍ بمادّة الجنزارة (مصنوعة من النحاس) لأكثر من ثلاث سنوات، سيتوقّف نموّ الزيتون في الشجرة تماماً.
ثمّة أيضاً ما يقلّل من فرص إنتاج كميات كبيرة من الزيتون. تعتمد بعض تقنيّات القطف الحديثة مثل الآلات الإلكترونية، على هزّ الأغصان بقوّة لكي تتساقط كميّات كبيرة من الحبّات على البُسُط المفروشة تحت الشجرة. تعدّ هذه الآلات امتداداً متطوّراً لتقنيةٍ قديمةٍ تقتضي ضرب الأغصان بالقضبان الخشبية القاسية اختصاراً لوقت القطاف.
مع الوقت، تخلّى الكثير من المزارعين عن هذه الطريقة، لأن الضرب يبتر البراعم الصغيرة ويُتلفها، ما يُخفّض نسبة إثمار الشجر. يفضّل أبو محمّد أن يثبّت السلّم، وأن يفرط الأغصان بيديه حبّة حبّة. يُداري الشجرة وأغصانها ولو تطلّب الأمر أياماً إضافيّة. بعد انقضاء القطاف، يبدأ بـ «تشحيل» الشجر للتخلّص من الأغصان اليابسة إيذاناً بنموّ الفروع الجديدة في الموسم المُقبل.
تخلّف أبو محمّد عن قطاف الزيتون هذه السنة. لا يعرف حتّى الآن ماذا حلّ بأرضه الواقعة في قرى قضاء بنت جبيل في الجنوب اللبناني. لم يبقَ أحد في القرية ليخبره عن حال الأرض التي زرعها قبل البدء بتعمير البيت. يعرف فقط أنه الموسم الأوّل الذي يغيب فيه عن أرضه منذ 23 سنةٍ متواصلة، أي منذ تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000.
حين اتّسعت رقعة الحرب الإسرائيلية في سبتمبر 2024، اضطرّ الرجل السبعيني لإخلاء البيت مع عائلته بحثاً عن النجاة في بيروت. أمّا أهالي القرى الحدودية الملاصقة للأراضي الفلسطينية، فقد تخلّفوا لموسمين متتاليين عن قطاف الزيتون، أي منذ بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان في الثامن من أكتوبر 2023، بالتزامن مع انطلاق موسم الزيتون الذي يمتدّ في العادة بين شهري أكتوبر ونوفمبر.
مع بداية موسم الزيتون هذا الشهر، توجّه جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى مزارعي قرى الجنوب مُحذّراً إيّاهم من محاولة الوصول إلى أراضيهم أو الاقتراب من الشجر. يواصل الجيش الإسرائيلي استلاب الأرض بشتّى الطرق، ولو عن بعد، عبر إلقاء قنابل الفوسفور الأبيض واليورانيوم المنضّد على آلاف الدونمات الزراعيّة التي لا تزال تندلع فيها النيران، مطبّقاً سياسة «الأرض المحروقة» حرفيّاً. حتّى الآن أحرقت القنابل المحرّمة دوليّاً وقضت على ما يفوق 6000 شجرة زيتون تتوزّع في محافظتي الجنوب والبقاع. خسر المزارعون مواسمهم الزراعيّة بسبب أنواع أخرى من العدوى القاتلة، التي ستمكث في التربة وعلى أغصان الشجر والثمر إلى سنوات قادمة.