fbpx

ظلٌّ يرفض أن يغادر حي كوريفة

لا أذكر متى تخلّى حي كوريفة في ضواحي العاصمة الجزائرية عن طابعه الزراعي، ومتى بدأت تنبت الأسياخ الحديدية بدل الأشجار
ــــــــ العمل
4 مارس 2025

حين تصفّحتُ هذه الصور، رأيت ظلّي معلّقاً على الأسطح الرطبة للعمارات، وبين ألواح الخشب التي يصبّ فيها البناؤون الإسمنت. يقول الظلّ أكثر مما يقوله جسدي. أخال أنّ ظلّي هو ذاكرتي التي تؤجّل الانفصال عن ورشات البناء في حي كوريفة الواقع على حدود العاصمة الجزائريّة.

مهما اختلف التوقيت، فإن للحيّ نغمة واحدة لطَرقات البنّائين. فتحت عينيّ على ورشة ضخمة، تتجاوز مساحة عمارة أو اثنتين. ذلك أنّي لا أذكر تحديداً منذ متى تخلّى كوريفة عن طابعه الزراعي، ومتى بدأت تنبت الأسياخ الحديدية بدل الأشجار، إلى أن استحال الحيّ بقعة اسمنية تتمدّد على أطراف العاصمة، بالقرب من المطار الدولي والطريق السريع. وربّما هذا ما حفّز أبناء المدن المجاورة على شراء الأراضي، وبناء المنازل والمصانع فيه بعدما تطفح مدنهم ومناطقهم بالسكّان. بات الحيّ ملجأ طارئاً للتائهين والعاطلين الباحثين عن عمل ممّن يمكثون فيه لاحقاً كما لو أنّه مكانهم الأبدي.

تغيب الدهشة عن حيّنا. هنا، ليس لدى الأب الكثير ليورثه لأبنائه. يوزّع عليهم خشونة اليدين بالتساوي. نادراً ما تُفصح مهنة عن صاحبها بقدر ما تفعل مهنة البنّاء. ما إن يمدّ العامل يده للمصافحة، سيخبر يباس كفّه بالأيّام الطويلة التي يقضيها في العراء. “المانوفر” يسمّونه باللسان الشعبي.. يملك أيضاً سحنة وجهٍ داكنة وجافّة بسبب العمل، تحت الشمس أو المطر.

يبعد كوريفة عن المرافق العامّة وعن المدارس. كنّا نظنّ أحياناً أن الباصات تنسى المرور بجانبه مثلما تنسى المدينة النظر إليه. وإن مرّ باص أخيراً، فسيأتي متأخّراً. مع الوقت، سيستثاقل الطلاب من استقلال الطرقات الشاقّة للوصول إلى مدارسهم.  يبدأ التلامذة بالتدرّب باكراً، فيجمعون الحديد والبلاستيك في أيّام العطل، كأنّهم يبذلون خطواتهم الأولى نحو الورش التي يطمع أصحابها بأجسادهم الفتيّة.

لم أكن قد أنهيت دراستي حين التحقت بإحدى الورش على غرار إخوتي الأكبر مني سنّاً. بدأت كمساعد بناء، ثمّ تدرّجت حتى صرت أتولّى مشاريع عمرانية كاملة. أذكر حادثاً كاد أن يؤدّي إلى بتر قدمي، حين تدحرجت آلة الخرسانة على طريق مائل ناحيتي خلال يومٍ ماطر. نجوت ونجت قدمي، بينما لا يجد جميع العمّال صدفة تحميهم من حوادث مماثلة قد تُفقدهم أحد أطراف أجسامهم الصلبة والمعتادة على حمل أكياس اسمنت تبلغ أوزانها خمسين كيلوغراماً. أقصى ما يستطيعه العمال هو سرقة دقائق للاستلقاء قليلاً خلال فترة دواماتهم التي قد تطول وتقصر نزولاً عند حاجتهم إلى المال. يمضون جلّ أيّامهم في عمارات بلا أسقف، ويغادرونها ما إن يكتمل بنائها. أنا كذلك، غادرت العمارات قبل أن يكتمل بنائها، حين تعلّمت التصوير الفوتوغرافي عام 2014. قلت سأغادر دون نظرةٍ إلى الوراء.. فتحت لي العدسة نوافذ للرؤية خارج الحي، واستعاد كفّي طراوتهما تدريجيّاً. وحين قرّرت أن أخبر قصّتي، أعادتني الكاميرا مجدّداً إلى ورش البناء، هناك حيث لا يزال ظلّي يستلقي تحت أشعّة الشمس في كوريفة.