يصل صوته من الشارع إلى البيوت وهو ينادي بأعلى صوته كما لو كان بائعًا جوالًا: “اقتلوني، أنا داعشي، اقتلوني”. ظل يجوب الحيّ ذهابًا وإيابًا طوال النهار مرددًا العبارة نفسها. لكن أحدًا لم يستجب إليه رغم استفزازاته اللغوية والصوتية والإزعاج الذي يسببه، تجاهله الناس فظل حيًا يرزق.
استيقظ في اليوم التالي بمخطط جهنمي، سيقتلونه بسببه حتمًا هذه المرة. مهّد لكل شيء جيدا. منذ أشهر وهو ينشر تدوينات ذات صبغة دينية ويظهر اهتمامًا بالغيبيات على صفحته في فيسبوك، واستمر في هذه الخطة إلى ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إلى أن أعلن على حسابه أنه النبي محمد شخصيًا وأن القرآن يتنزل عليه من جديد. أثارت منشوراته فزع أسرته، من حيث أنها حملت طابعًا متطرفًا ألّب عليه جمهوره البسيط، وبات هناك من يهدده.
لدى مقابلته، بدا أن لدى الشاب ولنطلق عليه حمدان، نزولًا عند رغبة عائلته في عدم ذكر اسمه، منطقًا يتحكم فيه، صحيح أنه ليس عقلانيًا، لكنه لا يخلو من تدبير. يقول إنه يتوق إلى الموت، لكنه لا يريد أن ينتحر في الوقت نفسه، لهذا يحاول أن يجد طريقة ينهي بها حياته، لذلك حين لم يأبه أحد لادعائه أنه داعشي، ادعى النبوة.
خلال ثماني سنوات من الحرب، ظهر في اليمن ثمانية ممن زعموا أنهم أنبياء، على الأقل ممن جهروا بـ “نبوتهم” على السوشال ميديا، أي بمعدل نبي لكل سنة. لكن هذا فقط ما وصل إلى مواقع التواصل في بلد لا توجد فيه كهرباء ويحتاج الاتصال بالإنترنت إلى جهود شاقة. ما يعني أن من المحتمل أن يكون هناك المزيد من الرسل والأنبياء ممن لم تتح لهم فرص الظهور.
بات الجو العام السائد في اليمن، أشبه بمصنع لهذا النوع من الشطحات. ورغم أن نادي الأنبياء الجدد الذي يزدهر في الأزمات وأوقات غياب اليقين والخوف لا يقتصر على اليمنيين (هناك نشأت مجدي في لبنان مثلًا وفي نيسان (أبريل) الماضي ظهرت سناء الله المرأة التي تدعي النبوة في الباكستان وهي تنتظر حكم الإعدام بعد اتهامها بالتجديف، وقبلها مواطنتها سلمى التي حكمت بالإعدام في لاهور عام 2021 للسبب نفسه، ومسيلمة الإدلبي في سوريا الذي تنزل عليه جبريل نفسه لمدة خمس سنوات قبل أن يقتل في 2018)، ولكن بالنظر إلى الإسهام اللافت في السنوات الأخيرة في هذا المجال، والمتنوع بين مسلحين ومجانين ورجال أعمال ونساء بائسات، ربما تستحق اليمن عن جدارة أن تكون المقر الرئيسي للنادي.
أن تعيش حياتك كلها في خطر
يحاول اليمنيون، الذين يعيشون سنوات الحرب الطوال في مدن تضائلت فيها فرص العيش الكريم، الإبقاء على رؤوسهم فوق الماء الذي يسحبهم أكثر فأكثر إلى القاع. يقاومون الغرق، بعضهم يفعل ذلك بالخيال الذي يمرره إلى الواقع ويصدقه أو يدعي أنه يصدقه.
كثيرًا ما يتفاعل الناس مع المجهول المخيف ويدافعون عن وجودهم بتخيلات عقل خائب الرجاء. البعض يتجاوز حدود العقلانية، ويفقد اتصاله بالواقع وهنا يتدخل الطب النفسي ليطلق على هؤلاء مصابين بالجنون الارتيابي أو جنون العظمة أو الاضطراب ثنائي القطب وأسماء لا حصر لها تصنفهم بحسب وُهاماتهم. حين يدعي أحد ما النبوة يطلق عليه مجنون، حتى أن هذا حدث مع النبي محمد! فمن يجرؤ اليوم على القول إنه يتحدث مع الله أو أن وحيًا يتنزّل عليه إلا من فقد عقله فعلًا أو من يفتش عمن يقتله، مثل صاحبنا.
هذا ليس جديدًا، فالتهيؤات الذهنية مرتبطة تاريخيًا بالحروب والاضطرابات الاقتصادية أو في أزمان الأوبئة، هذه الفترات المشحونة بالعنف والعواطف والانفعالات، يغذيها تدفق نظريات المؤامرة والتأويلات الغامضة والتردد على قصة نهاية العالم الوشيكة، من كل جانب عبر الخبراء والمحللين والصحافيين ووسائل الإعلام.
إحدى الدراسات مثلًا تناولت ظاهرة”هستيريا الحرب الباردة“، ومنها ادعاء رؤية الأطباق الطائرة ومخلوقات الفضاء في أميركا أثناء تلك الفترة، إذ تكشف أن الأجواء التي عرفتها البلاد ساهمت في خلق شكل من الثقافة الشعبية يختلق الأوهام الكبرى ويصدقها. حتى أن أفلام الخيال العلمي ومغامرات الفضاء ازدهرت في تلك الفترة أكثر من غيرها ربما لأن جمهورها أصبح جاهزًا ومستعدًا لاستقبالها كأنها صورة عن حقيقة سرية ما، يعرفها عدد محدود من الناس.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
رأي الطب النفسي
إن ادعاء شخص ما بأنه نبي أو زعمه القدرة على الإتيان بأشياء خارقة، هو نوع من الاضطراب الذي يعرف بـ الجنون الكبريائي أو البارانويا، بحسب استشاري الأمراض النفسية، سعيد القدسي، إذ يتفاقم لدى المريض البارانويد شعوره بأنه مختار، كونه يسمع تلك الأصوات التي تخبره أنه كذلك.
في حين يتوسع أستاذ علم النفس الطبي في جامعة حضرموت، عمر بامير، في تشخيص هذه الحالات إلى عدةٍ من الأمراض النفسية. حيث يصاب مرضى فصام العظمة باضطرابات إدراكية، أي هلوسات تأتي بشكل حسي أو سمعي أو بصري. أكثر هذه الهلوسات انتشارًا هي السمعية، وفيها يسمع المريض أصواتًا داخله تخبره أنه نبي.
الأعراض نفسها قد تصيب مرضى الاضطراب ثنائي القطب في طوره الهوسي. وقد يحدث ذلك مع مصابي الصرع في بعض الحالات المتطرفة من المرض. ليس هذا فقط، بل قد يتراءى لبعض متعاطي المخدرات، ممن لديهم استعداد مسبق وشعور بالأهمية، أنهم أنبياء أو خارقون. والأمر لا يقتصر على الرجال، هناك حالات نساء شعرن أنهن مختارات. يؤكد بامير، أنه شخّص حالة امرأة تدعي أنها خديجة بنت خويلد.
زاوية أخرى يشير إليها الطبيب النفسي والأستاذ في جامعة تعز، عدنان القاضي، وهي أن المرء حين يفقد القدرة على سد الاحتياجات المعيشة لأسرته، فإن هذا “يجعله عرضة لاستهلاك قدر كبير من طاقته النفسية، وقد يقود ذلك إلى الاضطرابات النفسية”.
الخوف من الفقر والحاجة، والخوف من العجز عن إعالة من هم مسؤولون منا يجعل الإنسان يأكل نفسه بنفسه، بعض من هؤلاء تتفاقم هواجسه وقد تقوده إلى الوساوس القهرية حول مستقبله ومستقبل من يعول، وبالنتيجة فربما يمارس الكثير من الأفعال القهرية المضطربة التي يؤججها غياب الشعور بالأمان ثم الشك في نوايا الآخرين وظنه بأنهم يراقبون تحركاته.
حدث هذا مع حمدان في بداية الحرب وخلال الفترة التي سبقت إعلانه النبوة، فقد كان يشعر أن أطراف الحرب تراقبه وتريد قتله، لأنه يعرف “أسرار الحرب كلها”. كان هناك همسة مميزة تتردد باستمرار في أذنيه بصوت فيه من الفخامة والنعومة ما فيه، تقول: “إن هو إلا وحي يوحى”.
وسط هذا الجو المشحون بالمخاوف والأصوات، آخذ يضع العبرود في أذنيه (جزئين علويين لرصاصتين). يقول مجيبًا على سؤال عن السبب الذي دفعه للقيام بأمر كهذا، إن الرصاصتين تمنعان تلك الهمسات من إزعاجه، وأنهما تساعدانه أيضًا على البقاء أيامًا بلا طعام.
واحد من كل أربعة يمنيين
ظاهرة ادعاء النبوة، لا تقتصر على مجتمع بعينه، بل تظهر في بلاد وثقافات مختلفة. ما يمكن التوقف عنده هو حجم هذه التعبيرات في مجتمع ما، ومحتوى الفكرة التي يعبر عنها المريض. بحسب بامير الأمر يعود بدرجة رئيسية “إلى ظروف التنشئة وإلى الثقافة الاجتماعية السائدة”.
يرجع الأطباء النفسيين ظاهرة ادعاء النبوة في اليمن، إلى حجم التدهور في الصحة النفسية في بلد تعيش حربًا متواصلة منذ ما يزيد عن ثمانية أعوام، أودت حتى أواخر 2021 – حسب الأمم المتحدة – بحياة 377 ألف شخص.
تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى إن واحداً من كل أربعة يمنيين، أو أكثر من 5.5 مليون شخص، يعاني من اضطرابات نفسية ويحتاج إلى تدخل طارئ. تقرير آخر بعنوان “الاستجابة للأزمة اللامرئية للصحة العقلية في اليمن” نشر على موقع المنظمة ذاتها، يرصد “أن حوالي ثمانية ملايين يمني – أكثر من واحد من كل أربعة – يعانون من مشاكل عقلية ونفسية اجتماعية تفاقمت بسبب النزاع المسلح والتهجير القسري والبطالة ونقص الغذاء وغير ذلك من الظروف الأليمة”. التقرير لفت إلى حقيقة مؤلمة وهي أن اليمن تاريخيًا “لم يضع مطلقًا برنامجًا وطنيًا للصحة العقلية، ولم يقم بحملات لمعالجة الوصمة الاجتماعية المنتشرة المرتبطة بالاضطرابات النفسية”، وتفاقمت هاتان المعضلتان مع الحرب التي شلت المرافق القليلة التي كانت تخدم هذه الفئة من المرضى.
بالعودة إلى عالم النفس، مصطفى حجازي، فإن تفسير الظواهر النفسية عملية معقدة يتطلب القيام بها البحث من منظور علوم متعددة: علم النفس، والاجتماع، والاقتصاد، والإعلام، وأيضًا السياسة. هنا، يصبح من اللازم، التمعن في الجو العام السائد والذي عادة ما يكون له دور في الضغط على إرادة الأفراد. يطلق على هذا “الجبر الاجتماعي”.
اسم النبي أخضر
في السياق اليمني المسألة لها علاقة بأكبر عملية إعادة هندسة لمجتمع ما. حيث أصبح كل شيء تقريبًا مرتبط بالتعبيرات الدينية ذات الطبيعة الطائفية والخرافية. مثلاً، انتشرت الفعاليات الطائفية في ذكرى مقتل الحسين، في يوم الغدير، في عيد الصرخة، وفي ذكرى المولد النبوي. من بين الأنبياء الثمانية، ثلاثة زعموا أنهم النبي محمد، وهذا شيء ملفت وربما غير مسبوق، لكنه مفهوم.
يتحدث كثير من اليمنيين فيما بينهم كيف استعملت جماعة الحوثي اسم النبي محمد، بالفعاليات الضخمة التي تقيمها سنويًا في ذكرى المولد النبوي. تبدأ التحضيرات لهذه الفعالية، من وقت مبكر. يكتب اسم “محمد” باللون الأخضر في كل مكان وترفع رايات خضراء أيضًا. وفي يوم الفعالية، يكون كل شيء قد صبغ بالأخضر بما في ذلك أوجه البعض. أصبح هذا اللون محل بغض وتهكم. غير أن الأمر يتجاوز اللون عند المتدين العادي، فهو يشعر أن ثمة محاولات تجيير للنبي فيصبح مجرد “جدٍ” لعبد الملك الحوثي.
سعت جماعة الحوثي من خلال هذه الفعاليات التي يحشد لها عشرات الألاف في كل مرة، إلى إعادة تشكيل المجتمع بصورة جذرية. أجبر الجميع على العيش وسط كل هذا. خلال شهر رمضان، يلقي عبد الملك الحوثي كل ليلة محاضرة دينية تبثها قناة “المسيرة”، ويبثها أتباع الجماعة في المدن والأرياف عبر مكبرات الصوت في المساجد.
كما بات حديث الولاية ومصطلحات من قبيل ولي الله والسيد وابن حفيد رسول الله تسبق اسم عبدالملك الحوثي الذي يطلق عليه أيضا قائد الثورة وقائد المسيرة القرآنية. فإذا كان الحوثي يدعي أنه ولي الله، وحمدان يدعي أنه نبي الله، فما الفرق بينهما سوى أن الأول يملك السلاح والسلطة والثاني يقال عنه مجنون؟
رأينا على صفحات فيسبوك مدعي النبوة ينشرون صور هويات وبطاقات تبرر ادعائهم للنبوة بأسمائهم ونسبهم. أحدهم ضياء الذي ظهر عام 2015 بزعم أنه قرشي الأصول. وفي 2016، نشر آخر فيديو على يوتيوب يعلن فيه أنه قد أوحي إليه بأنه من آل البيت وأنه المهدي المنتظر، وبأن الله سيؤيده بمعجزة تمكنه من الطيران. ولم يقتصر ادعاء النبوة على الحوثيين والمجانين، بل إن رجل أعمال ظهرت منشوراته منتصف عام 2020، زعم أنه نبي هاشمي، وبدأ ينشر أشعارًا تمجد المقاتلين الحوثيين، قبل أن ينقلب عليهم.
القداسة كصناعة حوثية
الأمر لا يقتصر على الأنساب فقط، بل إن هناك صناعة قداسة لأشخاص بعينهم. ها هي صورة حسين الحوثي- مؤسس الجماعة التي تحمل اسمه والذي قتل في مواجهة عسكرية عام 2004- تُعرض بلا هوادة بإضفاء نوع من القداسة على البورتريه، مسألة أصبحت معتادة في إعلام الجماعة وإعلام الدولة المسيطر عليها. مع صعود جماعته الى واجهة المشهد، تبين أن اتباعه كانوا يصفونه بالمهدي المنتظر، وأصبح لديه عدد من الأسماء والصفات، منها القرآن الناطق، أو قرين القرآن ، وأنه كان ينفذ توجيهات إلهية. ويجري إحياء ذكرى مقتله بفعاليات ضخمة كما أن صوره تملأ شوارع المدن التي تقع تحت سيطرة الجماعة.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بات الخطاب الخرافي-الطائفي يتغلغل في بنية الدولة، مثلا أصبح منع الباعة المتجولين ورفع البسطات من الشوارع والأرصفة، لا يأتي استنادًا إلى القانون ولا من توجيهات رسمية من الدولة أو حتى من الجماعة التي اغتنى قادتها من الحرب وأصبحوا يرون الباعة المتجولين تشوهًا في المدينة، بل إنه يأتي بأمر يتسلسل من علي بن أبي طالب إلى محافظ ذمار، حيث صيغت ديباجة التوجيه الحكومي هكذا: “استنادًا إلى وثيقة عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى مالك الأشتر حين ولاه على مصر”.
هذا الخليط العجيب يكشف أن مدعيي النبوة في اليمن بقدر ما يعانون من اضطرابات نفسية، هم أيضًا أبناء بيئتهم وما يعتمل فيها. يؤكد على ذلك أنه، باستثناء حمدان الذي كان في مدينة عدن وقت ادعائه النبوة، فإن السبعة الآخرين، يعيشون في مناطق سيطرة جماعة الحوثي. يصعب القول بأن الأمر مجرد مصادفة!
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
المخلّص يبحث عن رواية
في منتصف عام 2020، تداول يمنيون على فيسبوك، أن شخصًا يدعى محمد عبدالله غضبتين، وينحدر من محافظة حجة أقصى شمال غرب اليمن، ادّعى النبوة، وحين لم يجد من يصغي إليه توجّه إلى محافظة عمران المجاورة بحثًا عن أتباع فقوبل بالتجاهل نفسه. فما كان منه إلا أن عاد إلى منزله وقتل طفله ابن الستة أشهر. انتشرت صورة الطفل وظهرت لكثير من الناس فجأة تاركة إياهم في حالة من الفزع والاضطراب. تزامنت الصورة العنيفة التي تظهر طفلا بدون رأس، ورأسًا بدون جسد مع ذروة جائحة كوفيد-19، حيث يعيش الناس ذروة اليأس تحت وطأة الحرب والفقر وفي غياب أي بنية صحية، وبدا لكثيرين أنهم يشهدون نهاية العالم بالفعل.
برر غضبتين، الذي تبيّن أنه يعاني من مرض نفسي أصلًا- ارتكاب جريمته بأن وحيًا تنزل عليه وطلب منه أن يقتل ولده كما فعل النبي إبراهيم. كانت تفاصيل قصة مشابهة وردت في رواية “وحي” (2018) للكاتب اليمني حبيب سروري الذي تحاكي أعماله الواقع اليمني في تفاعلاته المختلفة، وتقتبس منه في بنائها السردي، ففي العمل أب يمني حلم أن الله يطلب منه ذبح ابنه أضحية لإنقاذ العالم مما يعيشه من آلام وحروب. كأن تبادلًا في الأدوار قد حدث؛ وبدا أن الواقع هذه المرة هو من اقتبس الرواية، بل الروايتين الدينية والأدبية!
خلال ذات الفترة، ظهر نبي آخر، وهو رجل أعمال يمني وصاحب شركة صرافة يدعى محمد الكهالي، والذي قام بعد أسابيع من بداية إعلانه النبوة بقتل أخويه ووثق جريمته بنشر صورة القتيلين. في منشوراته، كان يطالب “السيد السيسي سلام الله عليه” كما هو تعبيره، بأن يأتمنه على خزائن مصر، لأنه الصادق الأمين والمكلف من النبي يوسف بحفظ خزائن مصر، معلنًا أنه المخلّص في فترة تواجه مصر فيها خطر الجفاف.
مجانين لكل حقبة سياسية
تترك كل مرحلة سياسية آثارها على من يعانون نفسيًا ومن يحيطون بهم. بل أحيانًا تكون السياسة مسؤولة على نحو مباشر في صناعة المجانين. حدث هذا خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي عندما كان العمل السياسي مجرّمّا وكان يجري اعتقال وتعذيب من ينخرطون في تنظيمات سياسية سرية ليخرج بعضهم من المعتقل وقد فقد عقله، فيصبح عبرة لمن يفكر في العمل السياسي.
استمر هذا حتى بعد أن بدأ عهد الديمقراطية مع تحقيق الوحدة اليمنية مطلع عقد التسعينات، ولكن بشكل آخر، فخلال النصف الثاني من العقد، عقب حرب صيف 1994 التي انتهت بتفرد الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح بالسلطة، ظهر نوع جديد المجانين، أو المجنون الصامت الذي يظل يجوب الشوارع والأحياء طوال النهار والليل، وكان يطلق عليه شعبيًا لقب “حرابي” وهو اسم الدبور السام باللهجة العامية. تحور المصطلح لاحقّا وأصبح يطلق على مخبري السلطة تحذيرًا منهم.
مع تخفف القبضة الأمنية مطلع الألفية، ظهر نوع آخر من المجانين يتحدثون في شؤون السياسة كلها. بعضهم ادعى أنه سيكون الرئيس مع أول انتخابات قادمة، هل كانت هذه الهلوسات أحلامًا سياسية بائدة؟ على عكس النوع الأول الذي كان يثير الريبة والحذر، هؤلاء كانوا بمثابة نجوم، تستضيفهم المجالس تتسلى بطرافتهم، وتجري الصحف مهم مقابلات يقدمون خلالها أجوبة ذكية ومضحكة للأسئلة السياسية.
يستخدم معاصرونا من المجانين والمضطربين نفسيًا اليوم وسائل التواصل الاجتماعي، ويجدون من يتبّعهم في ظل تفشي الخرافة واليأس. كما يجذبون من يبحث عن التسلية والهروب من تعقيدات الواقع. ولكن حين تستفز هرطقات المساكين السلطات التابعة لجماعة الحوثي تسارع هذه، ليس في إدخالهم مصحات لا وجود لها، إنما في اعتقالهم وتعذيبهم.
كان هذا سيحدث مع حمدان بعد أن وصل التهديد لأسرته التي تعيش في نطاق سلطة جماعة الحوثي، وتضمن التلويح باعتقال أقاربه أيضًا. فما كان من رجال العائلة سوى أن أخذوا هاتفه منه وحطموه، بينما كان حمدان نفسه مبتهجًا وقد وصله خبر كان ينتظره، هناك من يفكر بقتله فعلًا!