اليوم الخميس، عادةً ما ينتهي هذا اليوم بسهرة أو لقاء بين الأصدقاء لكننا نعلم أن حسان سيتأخر بسبب ساعات عمله الإضافية في فندق فورسيزونز أو “الفورسيزون” كما اعتاد أهالي دمشق على تسميته.
التاسعة مساء، عقرب الدقائق يتحرك متثاقلاً ببطء شديد. في هذه الساعة يهزمنا الظلام، طاقة البطارية نفذت وأعلنت الليدّات استسلامها، سيكون علينا اجتياز خمس ساعات من الظلام ونحصل مقابلها على ساعة متقطعة من الكهرباء، لهذا ننتظر حسان الذي سينبعث النور من بين يديه كما في الأفلام أو قصص الأولياء الصالحين.
يدخل صوت دراجة نارية إلى الحارة، نسمع صوت ارتطام العجلات بالحفر التي تأكل أسفلت الطريق. هذه دراجة حسان، يجتاز بها زحمة دمشق متسللاً بين أرتال السيارات هارباً من تدافع الحشود للحصول على مقعد في المواصلات العامة.
بعد مائتي متر من خروج حسان من مدينة جرمانا يظهر فندق الفورسيزون متمايزاً بلونه الأبيض عن أبنية العاصمة الصغيرة والمتسخة من سواد الدخان. هذا التمايز بين بياض الفورسيزون الحاد والشحوب المائل إلى السواد لباقي الأبنية يذكّر حسان بقصص شاهدها في الأفلام الأجنبية عن اضطهاد البيض الأغنياء للسود والملونيين الفقراء.
تعبر دراجة حسان نواة المدينة القديمة في دمشق التي يعود بنائها للمرحلة الرومانية، تتابع عجلات الدراجة الدوران في الشارع المستقيم في منطقة باب شرقي الوارد ذكرها في الإنجيل، متجهة نحو حيّ البرامكة حيث منطقة الجامعات في دمشق.
حسان الذي تخرج في كلية علم الاجتماع في دمشق في عام 2011 بدرجة تفوق، والذي قضى سنيّ الدراسة بين المكتبة الجامعية والعمل في المقصف يتبادل النقاشات حول الماركسية والأممية الشيوعية، أصبح الآن نادلاً في أحد أفخم مطاعم دمشق، ينسّق الصحون على الطاولات قبل ملئها بأصناف طعام لا يعلم عن الكثير منها سوى الأسماء.
تنهي عجلات دراجة حسان دورانها بالقرب من الفورسيزون، يركنها عند بائع العصائر ويدخل إلى الفندق سيراً، من غير المسموح لدراجته بالدخول إلى مثل هذا المكان الفخم.
يمنح الارتفاع مبنى الفورسيزون سطوةً على ما حوله، يرتفع إلى 28 طابقاً مقسمين إلى 280 غرفة فندقية، موزعة على إحدى عشر جناحاً، على امتداد سبعة كتل بنائية مصطفة إلى جانب بعضها البعض.
ترتفع الكتلة في المنتصف إلى 83 متراً، تجعلها ثالث أعلى بناء في سوريا. تتدرج باقي الكتل في الارتفاع لتعطي شكل هرمٍ أبيض ضخم، بينما تتناثر حوله تجمعات اسمنتية تتدرج في العشوائية والمخالفات كلما ابتعدنا عنه، ليمثل الفندق الهرميّ نقطة مركز لدمشق الحديثة التي أخذت في التشكل بعد عام 2000.
على مدخل الفندق وفي ساحته الأمامية نُصب عدد من الأضوية الليزرية باتجاه السماء كفوهات المدافع. عند الليل تجول هذه الأضواء خارقة الظلام المتلبد في العاصمة ومحيطها لتدل على مكان الفورسيزون وتضعه خارج زمن البلاد في لحظتها الحالية المعتمة.
رحلة البطارية 55 أمبير
يقطع حسان هذا الطريق منذ ثلاثة أعوام بدأت عند انتقاله للعيش في جرمانا التابعة لغوطة دمشق والتي تحولت في العقدين الأخيرين إلى منطقة مكتظة بالعشوائيات يسكنها أكثر من مليون شخص.
في كل يوم يخرج حاملاً بطارية سيارة “55 أمبير” يضعها خلفه على دراجته النارية قبل أن تستقر في مطبخ المطعم بين أكوام الخضار وأدوات الطبخ، تتناول مقدار كفايتها من الشحن الكهربائي بانتظار انتهاء حسان من عمله، ثم تعود برفقته إلى عشوائيات الظلام، تتمركز بين براد وغسالة لا يعملان لعدم وجود كهرباء.
لم يتغير روتين البطارية ولم تنقطع عن زيارة الفورسيزون إلا في فترة وباء كورونا حين تقلص عمل صاحبها إلى يومين بالأسبوع فقط وغرق منزله في الظلام بالأيام التي لم يذهب بها للعمل، فليس في هذه العشوائيات ساعات كافية من الكهرباء تسمح بشحنها.
تنقلت البطارية مع حسان بين عشوائيات قلقة تفتقد لمقومات الحياة، من حي التضامن جنوبي العاصمة الذي التهمت الحرب نصف بيوته المتلاصقة، وصولاً إلى حي المزة 86 وعش الورور، وهما عشوائيات تتربع على جبل قاسيون تم بنائها أثناء ترأس رفعت الأسد شقيق الأب قيادة قوات “قيادة سرايا الدفاع” وتنعدم عن بيوتها خدمات الصرف الصحي ومقومات البنية التحتية التي يحتاجها تجمع سكاني بهذا الحجم.
أزمة الظلام التي تعيشها المناطق الخاضعة لسيطرة النظام دائماً ما تقترن بأزمة المحروقات. عندما تتقلص حصة المواطن من الديزل أو البنزين أو تنعدم تماماً نعلم أننا سنواجه فترات أطول من الظلام، وهذا ما تؤكده التصريحات الرسمية، لكن الفورسيزون يبقى عصياً على الظلام، تم تزويده بسلسلة مولدات كهربائية مرصوصة على عربة خشبية كبيرة تصطف على الجهة المقابلة لمدخله بطول يبلغ حوالي أربعين متراً مخترقة الأزقة التي تتلوى بين العشوائيات.
هذا الزقاق المولد للكهرباء جعل من الفورسيزون مكاناً خارج دمشق العتمة، يشبه دبي أو أي مدينة من مدن الإنارة الكثيفة، يتقاطر الناس لالتقاط الصور أمام جدرانه المنارة، والمزينة بشرائط من الأضواء.
أثّر عمل حسان في الفندق على شكل أواني المطبخ، الأواني التي يصيبها خلل تخرج من الخدمة لتستقر منفية من الفورسيزون على رخام المجلى في منزل حسان. لديه مملحة معدنية كُتب عليها “Made in Italy” كما أن لديه عدد من الكاسات المتفرقة لا تزال تحافظ على مظهرها فخم، لكن بعض البقع الخفيفة غير الواضحة كانت سبباً كافياً لنفيها إلى جرمانا ليتم عرضها في صدر مطبخ حسان
وكما يتلون برج خليفة في دبي الساطع برسائل إلى العالم، كذلك يتلون الفورسيزون بدمشق المعتمة باللون الزهري لدعم الكشف المبكر عن مرضى السرطان وهو ما حصل منذ ثلاث سنوات، عندما كنا ولا زلنا نغرق في الظلام.
يقول حسان عن نزلاء الفورسيزون إنهم طبقتان، طبقة العاملين في المكان على اختلاف مستوى وظائفهم، والثانية النزلاء الذين يتخللهم العديد من الشخصيات المشهورة أو الدبلوماسية، وتتميز الثانية عن الأولى بأنها لا تكاد تعرف معنى للظلام الذي تعيش فيه الطبقة العاملة التي تشاركها التواجد في المكان.
قبل دخوله إلى المبنى يحزم حسان همومه ويتركها إلى جانب دراجته النارية خلف الفندق ويرسم ابتسامة على ذقنه الحليقة استعداداً لمن قد يلتقي، فعمله في الفورسيزون سمح له أن يتواجد بالقرب من أضواء المشاهير، والتقاط صورٍ مع عدد منهم. له صور ببدلته السوداء مع هاني شاكر عندما زار دمشق، ومع جورج وسوف، والعشرات من الفنانيين السوريين، يتحين الفرصة لالتقاط صور يستعرضها علينا نحن الأناس العاديين سكان المناطق النائية.
حتى في أمور السياسة أعطى الفورسيزن لحسان رصيداً من الموثوقية تشبه ما ينشره أصحاب العلامة الزرقاء على الفيس بوك، فعندما يقول حسان: سمعت أن قصفاً إسرائيلياً طال مطار دمشق، فكلنا يؤكد أن هناك بالفعل قصفاً إسرائيلياً قد طال المطار، وعندما يقول حسان إنه سمع عن حملة ستقوم بها الجمارك لمصادرة البضائع المهربة، ننقل المعلومة إلى أبي عماد صاحب دكانة السمانة، ونقول بكل فخر: “احترس أبو عماد، تكثف الجمارك دورياتها خلال الفترة القادمة، حسان أخبرنا بذلك”.
كذلك أثّر عمل حسان في الفندق على شكل أواني المطبخ، الأواني التي يصيبها خلل تخرج من الخدمة لتستقر منفية من الفورسيزون على رخام المجلى في منزل حسان. لديه مملحة معدنية كُتب عليها “Made in Italy” كما أن لديه عدد من الكاسات المتفرقة لا تزال تحافظ على مظهرها فخم، لكن بعض البقع الخفيفة غير الواضحة كانت سبباً كافياً لنفيها إلى جرمانا ليتم عرضها في صدر مطبخ حسان، نشرب فيها المياه الكلسية أو المشروبات الكحولية الرخيصة. وكثيراً ما كانت الأواني المطبخية المطرودة من الخدمة محطّ إعجابنا، نراها مثل شيء قادم إلينا من العالم الأخر، نحن الذين تملأ رفوف مطابخنا أوانٍ تؤدي عملها رغم بلوغها سن التقاعد.
بعد الجسر
يقع الفورسيزون على خط الاستواء بين أحياء دمشق التاريخية وأحيائها الحديثة التي تبدأ عند انتهاء جسر الرئيس. يحتل المبنى منطقة كانت تدعى “حارة الشرف الأعلى” تمتد على الضفة الثانية لنهر بردى وكانت تضم عدداً من المدارس الدينية مثل المدرسة الفروخشاهية، بحسب المؤرخ عماد الأرمشي.
مع انتهاء فترة الحكم العثماني، وبدء الاستعمار الأوروبي، كانت مدرسة التجهيز الأولى وهي أول مدرسة ثانوية بدمشق تاسست عام 1933 أبرز المعالم في تلك المنطقة، وكانت تسعى لمنافسة المدارس التي أنشأها الفرنسيون آنذاك، وأمام المدرسة كان هناك حديقة واسعة.
ثانوية التجهيز الأولى ما زالت موجودة، تحمل اسم مديرها الأول “جودت الهاشمي”، بينما حجب الفورسيزون الذي أقيم على أنقاض كازينو دمشق الدولي في عام 2006 أجزاء كبيرة من الحديقة، وضم القبب التاريخية التي كانت في الحديقة إلى أملاك الفندق، بحسب المؤرخ عماد الأرمشي أيضاً، في حين تطل واجهة الفندق الأمامية على أحد أهم المعالم التاريخية في دمشق، ما يعرف بإسم التكية السليمانية التي تعود إلى القرن الرابع عشر.
يدير الفندق ظهره إلى أحياء أبو رمانة والمالكي والمهاجرين حيث يوجد قصر الشعب الرئاسي، ويفصله عن قصر الضيافة الرئاسي أيضاً جسر الرئيس على بعد مسافة تسعين متراً، وتتناثر في هذه المنطقة معظم السفارات العربية والأجنبية التي أوصدت أبوابها منذ بداية الحرب، لا يُرى أمامها سوى عدد من الحراس ذوي المظهر اللائق ينظرون إلى المارة من وراء زجاج كولبات الحراسة المركونة أمام أبواب السفارات.
تحظى المنطقة بحراسة أمنية مشددة، لكن دون أي مظهر من مظاهر العسكرة التي تجتاح البلاد، ليكون الجو متناسباً مع الطابع الدبلوماسي لتلك المنطقة.
تناولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطعاً مصوراً لرجل يهدد نفسه بالانتحار أمام دورية من الجمارك، تريد تحصيل مبلغ مالي منه أو مصادرة بضاعته. خرج صاحب المحل أمام عدسات كاميرات الجوالات شاهراً سلاحه مهدداً بقتل نفسه إن لم تذهب دورية الجمارك.
ذهبت دورية الجمارك لكن الرجل لا يزال سجيناً بعد اعتقاله بتهمة الإرهاب. خطأ هذا الرجل أنه أخرج سلاحاً وهدد به في منطقة مكتظة بالسفارات، لو كان محله على بعد شارع أو شارعين، لكان الأمر ليكون أيسر في التعامل معه.
تغرق دمشق وضواحيها بالسلاح منذ عام 2011، لكن يصبح السلاح أكثر حساسية عند الوصول إلى منطقة السفارات في أبو رمانة. كان الحيّ الراقي يبدأ بحاجز يمثل المدخل نحو الجزء الدبلوماسي من العاصمة دمشق حيث السفارات والمطاعم الفخمة ومقر العديد من المنظمات الدولية ومناطق سكن المسؤولين، والتي يكون درّتها للمتجول في المكان مبنى الفورسيزون. بقي الحاجز حوالي عشر سنوات، وكان يختلف عن معظم الحواجز ذلك أن عساكره كانوا من النخبة، أكثر انضباطاً ولديهم مهارة التعامل بشكل حسن مع المارّة. حتى ملابسهم وأنواع أسلحتهم كانت أكثر جودة.
في نيسان (أبريل) الماضي أُزيل الحاجز، بعد عودة دمشق إلى حضن الجامعة العربية. أصبح الناس يدخلون دون أي تفتيش إلى تلك المنطقة، ورافق عملية إزالة الحواجز من قلب العاصمة حملات دعائية على وسائل التواصل الاجتماعي لترغيب السياح العرب بزيارة دمشق.
حي جرمانا في دمشق. تصوير: كرم منصور
انفجارات تحت الشرفة
مظاهر الحياة الراقية التي تحيط بالفورسيزون من على جانبيه وخلفه لا تلبث أن تتكسر عند جسر الرئيس الذي تطل عليه شرفات الفندق الأمامية. يجلس النزلاء في المطعم الإيطالي في الطابق الثاني ليطلوا على منطقة “تحت جسر الرئيس“، هذه المنطقة تشغل كراجات لنقل الركاب.
إذا كنت واقفاً تحت جسر الرئيس ونظرت إلى الفورسيزون لن ترى سوى انعكاس الأضواء على نوافذ الفندق الضخمة، بينما يستطيع النزلاء رؤية المارة وهم ينتظرون الحافلات أو يشترون من بسطات الكتب المستعملة التي تتناثر على الجهة المقابلة للفندق.
تعرضت هذه المنطقة التي تقع أمام الفندق مباشرة لعدد من التفجيرات كان آخرها قبل عامين. لا وجود لسبب واضح لاستهداف هذه الكراجات، سوى إرسال رسائل ممزوجة بالدم للموفدين الدوليين إلى سوريا، والذين يستقرون في مبنى الفورسيزون.
الحدث الثاني الذي وقع تحت الجسر كان حدث الخيبة، في أيار (مايو) من العام الماضي عندما أعلن الأسد عن عفوٍ عام عن كافة الجرائم باستثناء القتل. يبلغ عدد المعتقلين في سوريا ما يزيد عن 130 ألفاً، وفق شبكات حقوق الإنسان، نقلت وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية صور الأهالي في انتظار الإفراج عن أولادهم المعتقلين، يقفون تحت جسر الرئيس وجدران الفورسيزون البيضاء خلفهم. مرت الساعات ممزوجة بالقلق والمهانة وقلة الحيلة، انتهت بخيبة انتشرت تحت جسر الرئيس، لم يفرج النظام سوى عن 240 شخصاً، معظمهم أصحاب قضايا جنائية لا سياسية.
اللاعب الخفي
لم تكن ولادة الفورسيزون في عام 2005 كأي ولادة طبيعية لمؤسسة تجارية، فقد خُصص الإرسال على شاشات التلفزيون الرسمي لبث حفل الافتتاح، وأظهرت نشرات الأخبار الرئيس الأسد يفتتح مع الأمير السعودي الوليد بن طلال الفندق. كان ذلك قبل شهر واحد من اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري وتكدّس أكوام الجليد بين سوريا ودول الخليج العربي. بقي الفورسيزون خارج إطار السياسة، لكنه عاد للظهور في عام 2013، عندما أعلنت الأمم المتحدة عن نقل أماكن موظفيها إلى فندق الفورسيزون. الأمم المتحدة عزت ذلك لأسباب أمنية.
نقل مكاتب الأمم المتحدة إلى الفورسيزون حوله إلى كعبة للصحفيين، تنصب في بهوه الواسع الكاميرات وميكروفونات المذيعين بانتظار وصول سيارات الأمم المتحدة البيضاء لينزل منها مسؤولو الأمم المتحدة، وبكلامهم البارد ينعون لنا خبر فشل التوصّل لأي حل، مكتفين بالمطالبة بوقف العنف.
إقامة مبعوثي الأمم المتحدة في الفورسيزون الذي يمتلك النظام نصفه، جعل منه وسيلة لتمويل بقاء الأسد بحسب صحفية الغارديان البريطانية. كانت بعثة الأمم المتحدة قد صرفت خلال عام واحد تسعة ملايين دولار على إقامة موظفيها فقط في الفندق.
في عام 2018، تخلى الأمير السعودي الوليد بن طلال عن ملكية الفندق بعد احتجازه بما يعرف بقضية “ريد كارلتون” فباعه لرجل أعمال سوري بحسب ما ذكر تقرير الفايننشال تايمز.
المالك الجديد للفورسيزون كان سامر الفوز أحد الأذرع الاقتصادية لنظام الأسد والذي يخضع لسلسلة عقوبات غربية وتتهمه الخارجية الأمريكية بالسيطرة على أملاك الناس الفارين من الحرب.
أصبح الفورسيزون أحد مصادر الحصول على النقد الأجنبي للنظام عن طريق العقود التي تؤمنها إدارة الفندق لاستضافة الوفود الأممية التي تأتي لحل الأزمة السورية، إذ يسعى النظام إلى إغراق موظفي الأمم المتحدة بنمط الفورسيزون بالغ الرفاهية من أجل استمالتهم. في العام الماضي اضطرت منظمة الصحة العالمية لإقالة مديرة مكتبها في دمشق أكجمال ماجتيموفا على خلفية تهم بالفساد، ليظهر أن تكلفة إقامتها في الفورسيزون بلغت 450 دولار في الليلة الواحدة، في بلد وسطي أجور الرواتب فيه يقارب 20 دولار شهرياً.
الشكل الهرمي الضخم الذي يأخذه الفورسيزون وسط العاصمة دمشق، وتمركز كل من المكتب السري إضافة إلى مقرات الأمم المتحدة، يجعل من الفندق نقطة نفوذ وسلطة ومكاناً لإدارة ملفات النظام الاقتصادية والامنية .. يقولون في دمشق إنه المبنى الأكثر إضاءة، لكنهم يقولون أيضاً إنه المكان الأكثر غموضاً وعتمة
منذ سنتين لعب الفورسيزون دوراً آخر بخلاف وجه البذخ والرفاهية الذي يظهر به على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بعد أن بدأ ما بات يعرف بـ “المكتب السري للقصر الجمهوري” نشاطه مع اشتداد العقوبات الغربية على سوريا متخذاً من الفورسيزون مقراً غير رسميا له. وبحسب التقارير الصحفية فإن المكتب مهمته جمع الأموال من الفعاليات الاقتصادية لضمان استمرار النظام وهندسة الشبكات الاقتصادية بحسب ولائها له.
منصور 52 عاماً (اسم مستعار) الذي يمتلك عدداً من المنشآت الخدمية الصغيرة في ريف دمشق أحد الذين تم استدعاءهم للمكتب السري في الفورسيزون، يروي ما جرى معه هناك قائلاً: “في العام الماضي تم إبلاغي عبر مفرزة أمن الدولة في المنطقة بضرورة مراجعة فرع الخطيب حيث تم التحقيق معي بخصوص الكمية النقدية التي أملكها إضافة إلى اطلاعي على حركة الأموال التي أقوم بتحريكها شهرياً ومن ثم اطلاق سراحي بعد ثلاث ساعات من التحقيق، دون توجيه أي تهمة لي”.
يتابع منصور كلامه: “بعد حوالي عشرة أيام، اتصل بي الضابط الذي قام بالتحقيق معي ليتم تحديد موعد ثان للمراجعة دون معرفة السبب، لكن صوته هذه المرة كان أكثر وداً ورحابة، وأخبرني أن اللقاء الثاني سيكون في الفورسيزون، مع أحد ضباط أمن الدولة هناك”.
تمت استضافة منصور في إحدى قاعات الفندق، يصفها بأنها شبيهة بقاعة محاضرات تحتوي على كراسٍ وشاشة كبيرة، وبها رجلين وامرأة كانت الأناقة البادية عليهما، “أناقة تؤكد أنهما من فئة أصحاب الأعمال ولا علاقة لهما بالعمل الأمني”.
يتابع منصور حديثه: “كان في الحديث من الود بقدر ما فيه من التهديد، وقد تم تخييري بين الاعتقال ومنعي من إدارة مشاريعي الخاصة، أو التنازل عن مبلغ مالي وهو ما انتهى إليه الاجتماع، وبالفعل قمت بالتنازل عن 40 ألف دولار تم الاتفاق على إيداعها في البنك المركزي تحت مسمى إقامة بازار خيري لدعم المحتاجين”.
المكتب السري الذي يجري اجتماعاته في الفورسيزون تديره بحسب تقارير صحفية أسماء الأسد زوجة الرئيس السوري، ويتخذ من فرع “الخطيب” التابع لأمن الدولة قوة تنفيذية له، ويعتمد على مكتب المعلومات في القصر الجمهوري الذي يراقب حركة الأموال بين التجار والصناعيين في البلاد في مده بالمعلومات.
تحول الفورسيزون بالنسبة لطبقة الصناعيين والتجار في البلاد إلى ما يشبه فرع تحقيق لم يسلم منه في النهاية حتى سامر الفوز المالك الجديد للفورسيزون، إذ أجبر على التخلي عن جزء من أمواله لقاء إطلاق يده في العديد من قطاعات الاستثمار.
الشكل الهرمي الضخم الذي يأخذه الفورسيزون وسط العاصمة دمشق، وتمركز كل من المكتب السري إضافة إلى مقرات الأمم المتحدة، يجعل من الفندق نقطة نفوذ وسلطة ومكاناً لإدارة ملفات النظام الاقتصادية والامنية رغم كافة مظاهر الفرح والاحتفالات التي تظهرها وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يقيمها موظفو البعثات الأجنبية وأثرياء التجار.. يقولون في دمشق إنه المبنى الأكثر إضاءة، لكنهم يقولون أيضاً إنه المكان الأكثر غموضاً وعتمة.