تتوالى الموضوعات الجدلية سواء في السياقات المحلية أو الدولية، سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية، وعادة ما تتكالب علينا غريزتنا البشرية متعاونة بخبث مع ضغوط الآخرين لأجل أن نسارع إلى اتخاذ موقف ما، أي موقف.
لكل منا منصته الخاصة التي يعتبرها، كما يفعل الآخرون، نافذته على العالم، سواء كان المرء مؤثراً لديه ملايين المتابعين أو مجرد شخص عادي لديه مئات الأصدقاء لا يعرف أغلبهم على الواقع، فإنه يشعر، تماماً مثل الآخرين بإلحاح حاجته إلى اتخاذ مواقف، كما حاجتهم لمعرفة موقفه.
انتشرت أخبار القبض على لاعب المصارعة المصري محمد إبراهيم السيد والشهير ب “كيشو” وذلك بسبب اتهامه بالتحرش بواحدة من الزبائن في أحد بارات باريس خلال أولومبيات 2024 مثل كل خبر أو حدث من ذلك النوع سارع الناس إلى مشاركته مع تعليقات تعبر عن موقفهم في صراع شخصي أكثر ما تعبر عن رأيهم في الموقف ذاته.
حين كان في قبضة البوليس قال بعض الناس ما معناه إن القانون في الخارج لا تؤثر فيه الواسطة، خاصة بعد تعليق رئيس اتحاد المصارعة الهذلي: ” مفيش واسطة زي عندنا”، فيما صمت آخرين وتكلموا فقط حين تم الإفراج عن كيشو سعداء بأن نظريتهم عن “عدم تصديق الناجيات” أثبتت صحتها، أما المجموعة الأولى فقد تحول كلامهم إلى نظريات عن “لوم الضحية” “وكون الإفراج عن كيشو لا يعني أنه بريء وإلا ما تم ترحيله عن فرنسا قبل انتهاء الاولومبيات”.
كل ما قيل عن واقعة كيشو فيه الكثير من المنطق بالطبع، إلا أنه بالتدقيق نجد أن الآراء والتعليقات لا تخص الواقعة نفسها بقدر ما تخص التحيزات الشخصية للقائلين وتعبر في الحقيقة عن مواقفهم السابقة من صراعات أخرى أقرب لكونها شخصية عن كونها قضايا عامة.
في مصر، تدور الجدالات وتعود أخيراً لملف الحراك النسوي، وهو تحديداً ملف شديد التعقيد والتشعب، ولا يمكن بأي شكل اختزاله في شعار «نصدق الناجيات» الذي ظهر هنا بالتوازي تقريباً مع حركة «أنا أيضاً – Me Too» العالمية. مع ذلك، إن سائلنا الشعار «نصدق الناجيات» فنحن لا نسائل الحركات والتوجهات والمؤسسات النسوية بأكملها، إنما نجادل فعل «التصديق المطلق» نفسه.
فالجزء الأول من الشعار «الناجيات» – بلا ريب – شكّل قفزة مهمة في تشكيل الوعي الجمعي تجاه العنف الجنسي الذي تتعرض له النساء، لسن ضحايا، أنهن ناجيات، نصدقهن لأجل كسر الصمت الطويل المدفوع باستحقاقية الرجل على المرأة وكونها «عار» لو تعدى عليها الرجل فذلك لأنها استفزته بملابسها، طريقتها في المشي أو بمجرد تواجدها في الشارع (وأي مجال عام).
من وجهة نظري الخاصة، وحين استخدم «نصدق الناجيات»، فإن استخدامي لها يختلف بعض الشيء عن المتداول، تصديق الناجيات يعني أنه لا عار هناك ولا خوف، نصدق الناجيات يعني ألا نسألهن: «إيه ال وداكي هناك؟»، نصدق الناجيات يعني نمنح لهن المساحة الآمنة ليحكين ما تعرضن له دون شعور بالتهديد أو الوصم ودون أحكام، نصدق الناجيات يُعني ألا نقول في سياق تبريري: «لقد سمحت لنفسها أن تركب معه سيارته، أو سهرت معه في المكان الفلاني»، لأن، وللغرابة، كل ذلك لا يعني أن جسدها صار مباحاً.
نصدق الناجيات يعني نسأل عن الرضائية، ونؤكد أن «لأ» تعني «لأ»، وأن «لا»؛ لا تُفسر إلى «يتمنعن وهن الراغبات»، وأن نستعير من فيديو التيك توك الذي انتشر مؤخراً على السوشيال ميديا، جملة الممثلة بالفيديو: «فيها حاجة اسمها بُج».
ولكن هل نصدق الناجيات، في المطلق، دون تحقق وتحقيق؟
قطعاً لا..
في كتابه «مراجعات عن الكوكب المتمحور حول الإنسان -The Anthropocene Reviewed» ، يقول جون جرين: «إنه من الصعب علينا كبشر أن نضع في اعتبارنا احتمالية أن ما نظنه دليلا على صحة ما نعتقده، هو في الحقيقة ليس إلا قراءة خاطئة نابعة عن جهل ما». يقول: «أنا أسقط توقعاتي ومخاوفي على ما ومن أتعامل معه، وأظن أن ما أصدق في صحته لا بد أن يكون حقيقياً، أتخيل الحيوات التي تبدو بعيدة على نمط واحد. وأميل إلى المبالغة في تبسيط الأمور».
ومع أن جون جرين كتب تلك الكلمات في سياق مراجعته للقناة الإخبارية «سي إن إن»، التي أعطاها نجمتين في نهاية هذا المقال، إلا أنني أظن أن ذلك الكلام بالإمكان تطبيقه على الكثير من جوانب حياتنا، فنحن نظن أن ما نعتقد أنه الحقيقة، لابد وأن يكون الحقيقة، ثم نختار من الحياة ما يؤكد لنا فكرتنا عن تلك الحقيقة متجاهلين كل ما على خلاف ذلك. أي أننا نختار مواقفنا أولاً، نتمسك بها ثم نبحث عما يؤكد صحة تلك المواقف متجاهلين بوعي أو بدون كل ما قد ينفيها أو حتى يشكك في مدى صحتها.
وهو ما يحصل على نطاق واسع، بمجرد اندلاع حادثة من ذلك النوع إلا وتجد الناس يهبون أفواجاً لاتخاذ موقف ما والانضمام إلى طرف دون طرف، ثم تجدهم يسألونك: «ما موقفك؟ لماذا تقف صامتاًً إلا لو كنت متخاذلاً أو باحثاً عن مصالحك الخاصة!».
الحقيقة أن اتخاذ مواقف من حوادث بعيدة تقع خارج الدوائر الشخصية للمرء أمر في غاية السهولة، وله تأثير السحر على الصورة الذاتية للمرء ورحلته الخاصة في رسم وتأكيد مبادئه في الحياة، ولكن حين تقترب الدائرة، وتتماس مع الواقع اليومي للمرء تتعقد العملية، في قلب الحدث الأمور مشوشة أكثر بكثير من الرؤية عن بعد.
والواقع المصري على مدار سنوات طويلة يؤكد لنا أن اتخاذ المواقف لم يتعد – إلا نادراً – كونه فعلاً صورياً، الهدف منه إظهار الشخص صاحب قضية، كإنسان ذو مبادئ وقناعات واضحة ومحددة، شعور يمنح الشخص الرضا عن ذاته كما يستكمل صورته العامة ومكانته التي يسعى إليها.
إن كنا كبشر نشعر براحة أكبر حين ندرك أننا على على أرض صلبة مكونة من مجموعة من الحقائق والنظريات والأيديولوجيات… فإن الخطوة التالية هي البحث عن الجماعات التي تشاركنا نفس مساحتنا الفكرية؛ ومن ثم نتشارك مع تلك الجماعة في عداء أولئك الذين يقفون بالجهة الأخرى من أرضنا تلك.
وكما عاش أسلافنا قديماً على هيئة قبائل، كل منها يرى في الأخرى خطراً محتملاً أو فريسة يمكن الاعتداء عليها، وإننا ما زلنا نرى في الجماعات الأخرى قبائل فكرية مُهددة لعقائدنا أو مبادئنا، فماذا عن شخص وقف بين جزيرتين؟ كيف يمكن فهم كائن مثل هذا؟ أين تسكّنه عقولنا على خريطة الجزر الفكرية: «معانا ولا علينا أنت يعني؟».
ولذلك عادة ما يستهجن البشر أن يكون المرء على الحياد.
لطالما كانت الثنائيات أسهل في استيعابها بالنسبة إلى العقل البشري، مثل الثنائية الأشهر على الإطلاق، الجنة والنار، فلا نسمع أبدًا جملة مثل: «فلان هذا سيكون على الأعراف»، وذلك رغم ذكرها في القرآن الكريم في سورة تحمل الاسم نفسه.
الحياد مكروه لأن كل إنسان يشعر براحة أكبر، وهو ينتمي.
نُشرت الورقة البحثية لروي بروميستر، أستاذ بقسم علم النفس، جامعة هارفرد، ومارك ليري، الحاصل على دكتوراه في علم النفس وعلم الأعصاب من جامعة ديوك، “الحاجة إلى الانتماء: الرغبة في الروابط الشخصية كدافع بشري أساسي**” عام 1995.
نقرأ في مقدمتها:
«الهدف من تلك الدراسة هو تطوير وتقييم الفرضية القائلة إن الحاجة إلى الانتماء هي دافع إنساني أساسي، ومن أجل افتراض أن ذلك بإمكانه أن يوفر لنا نقطة انطلاق لفهم ودمج جزء كبير من الأدبيات الموجودة بشأن السلوك البشري.
على نحو أكثر تحديدًا، تنص فرضية الانتماء على أن البشر لديهم دافع مُلح لتكوين علاقات ثم الحفاظ على الحد الأدنى منها بشكل شخصي دائم، إيجابي، وفارق. وتلبية ذلك الدافع يتطلب معيارين: أولاً، الحاجة إلى تفاعلات عاطفية متكررة ومشبعة مع عدد قليل من الأشخاص الآخرين، وثانياً، يجب أن تكون تلك العلاقات في سياق إطار زمني مستقر ودائم من الروابط العاطفية التي تدفع الناس إلى الاهتمام بالسلامة النفسية لبعضهم البعض. أما عن التفاعلات غير الثابتة مع عدد مُتغير من الشركاء فهي تكون أقل إرضاءً من تلك المتكررة مع نفس الأشخاص، والارتباط دون اتصال متكرر سوف يكون أيضاً غير مُرض. فالافتقاد إلى الانتماء يسبب حرماناً شديدًا مما يؤدي إلى مجموعة متنوعة من الآثار السلبية. بجانب أن جزءً كبيراً من السلوك البشري والعواطف والأفكار ناتج عن هذا الدافع الشخصي الأساسي».
الحاجة إلى الانتماء لدى البشر يمكن تتبعها وصولاً إلى أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ، حيث كانت الحياة الجماعية ضرورية للأمان والبقاء، فدون الوجود داخل جماعة تحمي الإنسان سيموت حتماً. ومع أن تلك الظروف انتفت، إلا أن الإنسان لا يزال يجد نفسه يميل، بل ينجرف إلى الرغبة في الانتماء، حتى لو كان هذا إلى شلة ضد شلة.. وفي الوقت نفسه يكره، وينتقد من يقفون على الحياد إلى حين أن تتضح الأمور، فليس كل الحياد مقبول طبعًا، ثم إنَّه ليس كل الحياد هو “محمد صلاحي” بالضرورة.
ما أن ينفجر خلاف ما على فيسبوك، ويتم من خلاله تبادل الاتهامات بين أطراف عدة، حتى نجد إعلان المواقف التي تتطلب إعادة تقسيم الشلل، خاصة لو حصل الانقسام بين أفراد الشلة الواحدة، لأن هذا يخلق ورطة جديدة للمنتمين وفرصة لمن هم خارجها. الآن لا بدَّ للولاءات أن تُعلن، ولإعادة تقسيم الشلة من جديد.
فما معنى أن يكون شخص ما على الحياد؟ كيف تتمكن عقول الناس من تأكيد أو نفي فكرتهم السابقة عن «ذات» ذلك الشخص إن وقف على الحياد دون انتماء واضح ومحدد؟
فما الذات إذًا؟
لكل شخص طريقته في الإجابة على هذا السؤال، قد تعرّف نفسك بناءً على شخصيتك، اهتمامك، أفعالك، على المكان الذي نشأت فيه، وقد تعرّف نفسك من خلال سرد حكاية تصنع روابط بين كل المعطيات السابقة.
وفقًا لكارل يونغ فإن الذات تتطور تدريجيًا من خلال عملية سماها بالـ individuation أو «التفرد».
التفرد هو العملية التي يصير الفرد من خلالها شخصاً فريداً يشمل ذلك كلاً من جوانبه الواعية واللاواعية. يقول يونغ أن التفرد يكتمل حين يبلغ الفرد مرحلة النضج المتأخرة. وتعد الذات هو مركز عالم الفرد، وتضم أكثر من مجرد هويته الشخصية. الطريقة التي تدرك بها العالم هي انعكاس لذاتك، إلى جانب أفكارك، وأفعالك وخصائصك.
فإن تركنا يونغ جانبًا، وحاولنا أن نسأل أنفسنا عن مفهوم الذات في سياق تجربتنا الحياتية، وكيف يعبر الناس عن صورتهم الذاتية، فبالإمكان تبسيط الفكرة عن طريق حصرها في كونها تجمع بين عاملين، الصورة الخارجية للفرد، أي مواصفاته الجسدية ومظهره من ناحية، وما يسميه يونغ بـ «التفرد» من ناحية أخرى أي جانبيّ الوعي واللاوعي فيه.
غالباً ما توجد مسافة بين الصورة الذاتية التي يصنعها الإنسان لنفسه، ويقدمها للعالم، وبين تلك التي يستقبلها الآخرون، بالإضافة لاستقبال الآخرين عادة صور ذاتية عن الفرد، تتنوع بتنوع علاقتهم به. فالذات المحبوبة من الكثيرين لأنها ذات صريحة وصادقة مع نفسها، قد يراها الآخرون ذات وقحة سليطة اللسان.
نحن نتعامل مع ذواتنا في الحياة كما يتعامل الكاتب مع شخصياته في الدراما، حين يشرع في التحضير لرواية أو سيناريو، ويكون عليه إعداد ملف لكل شخصية من شخصياته به تاريخ الشخصية، النشأة، المواصفات الجسدية، المظهر، التعليم، الوظيفة، القناعات والأيديولوجيات والمبادئ والأخلاق، الصحة النفسية والعقلية.
وفي الحياة، نتعامل مع ذواتنا بنفس الطريقة تقريباً، نقدم أنفسنا أولاً من خلال الملابس والإكسسوارات التي نختارها لتعبر عن ذوقنا، أفكارنا، الأيدولوجية التي ننتمي إليها، ثم الوظيفة التي نعمل بها، قصة نشأتنا أو تاريخنا الشخصي، القناعات والأفكار التي نؤمن بها، مبادئنا في الحياة.
المدهش أن كل الجوانب السابقة بالإمكان وضعها داخل جدول من عمودين، أحب/ أكره.
«أحب الألوان المبهجة، ولذا استخدمها في ملابسي».
«أكره النظارة الطبية، ولذا قررت أن أصحح نظري».
«لا أحب أن يحكم عليَّ الناس من خلال مظهري الخارجي، ولذلك أرتدي ملابسي كيفما اتفق».
كل ذلك يمكن وضعه داخل قائمة أحب/ أكره. لكن تحتاج القائمة لما ينفخ فيها الروح، ليتحول آدم من تمثال طيني إلى إنسان، وبينوكيو من عروسة خشبية إلى طفل، والقائمة إلى ذات، وما ينفخ فيها الروح هو «الحكاية».
يقول المؤرخ والكاتب يوفال نوح هراري* في كتابه «العاقل Sapiens: A Brief History of Humankind» : “غزا الإنسان العاقل العالم، لأننا نستطيع أن نحكي الحكايات التي تلهم الناس، وتدفعهم إلى التعاون معًا بأعداد كبيرة.. نحن الجنس الوحيد القادر على استخدام اللغة، ليس فقط لوصف الأشياء التي نراها، نتذوقها، ونلمسها، ولكن أيضًا من أجل تأليف قصص عن أشياء ليست موجودة.. سرد الحكايات، وهو حجر الزاوية في تطور نوعنا. ظهور الحكايات قبل سبعين ألف عاماً، مكّن الإنسان العاقل من الانطلاق والتوسع حول العالم ليصبح الحيوان الأكثر هيمنة على الإطلاق».
الحكاية هي تاريخ الإنسان، وهي ذاكرته، وهي الأداة التي تطور من خلالها، الطريقة التي يعبر بها المرء عن ذاته، الحكاية هي التي تدعم قائمة أحب/ أكره كما تدلل عليها.
كيف إذًا يعبر المرء عن نفسه من خلال قائمة أحب/ أكره؟
فلنأخذ مثالاً عن شخص يجلس في مقهى مع فتاة يلتقيها للمرة الأولى.
يقول الفتى عن نفسه: «أنا دودة كتب، أحببت القراءة منذ نعومة أظفاري». والفتاة تلحظ الأطباق في قائمة الطعام فتقاطعه قائلة: «أووه، لديهم ملوخية بالأرانب، ما رأيك؟» فيبدو الامتعاض على ملامح الفتى، يقول: «لا لا، أنا أكره الملوخية بالأرانب»، تُدهش الفتاة، من يكره الملوخية بالأرانب؟ يبدأ الفتى باستعادة حكاية طويلة من طفولته يسردها على أذنيّ الفتاة الجائعة نافدة الصبر.
كيف عبر الفتى عن ذاته هنا على مقياس قائمة أحب/ وأكره ثم الحكاية الدالة عليها؟
من قائمة أحب:
«أنا أحب القراءة». لأن والده كان يملك مكتبة ضخمة في طفولته، وكان يحكي له قصة قبل خلوده إلى النوم كل يوم.
من قائمة أنا أكره:
«أنا أكره الملوخية بالأرانب». كان الأرنب حيوانه الأليف في طفولته، ثم ذبحته والدته وقدمته على الغداء.
وهكذا نصنع ذواتنا من قائمة طويلة مكونة من (أحب/ أكره) طبقات فوق بعضها لكيّ تكتمل الصورة التي تساعدنا على أن نتحرك في العالم، نعبر عن أنفسنا، ونختار الأفراد الذين نحب أن نتواصل معهم، والجماعات التي نحب أن ننتمي إليها.
يرى الفيلسوف والكاتب الأمريكي سامي هاريس أن الذات ليست حقيقية، حيث يجادل في كتابه «الصحوة – Waking Up» كما يخبرك خلال جلسات التأمل التي يقدمها عبر تطبيقه الذي يحمل الاسم نفسه – أن الوعي ليس موجوداً داخل رأسك، يكرر عليك مراراً خلال الجلسات أنه لا يوجد متأمل في منتصف جلسة التأمل.
عليك خلال جلسة التأمل أن تركز على ملاحظة كل ما يحدث حولك، ويستقبله وعيك، ركز مع بداية صوت ما، وتتبعه حتى يختفي، وما ترى أمامك من مشاهد أيضاً، سواء كان ذلك وعينيك مفتوحتين، أو على شاشة جفونك المسدلة، ركز مع ما يطرأ على جسدك من شعور. أن تتبع أنفاسك منذ بداية التقاطها، وحتى خروجها، وأيضاً أفكارك، أن تلاحظها بمجرد ظهورها، وحتى تتلاشى، فإن تلاشت فكرة فأين ذهبت؟ ومن أين جاءت؟ أين هو الوعيّ ومن الذي يتأمل، هل هناك وجود حقيقي للـ «أنا»؟
يرى سامي هاريس أن الذات ما هي إلا وهم، تكوّن من خلال مجموعة من العمليات العقلية المُعقدة، وأنه سيكون من الرائع لو تمكن المرء من تجاوز وهم الذات عن طريق التمرس في ممارسة التأمل العميق مرة بعد أخرى.
وبغض النظر عن إن كان المرء يؤمن بأهمية التأمل أو لا، يحترم أفكار سامي هاريس أو يكرهها، (أحب/ أكره)، فيمكننا وضع في اعتبارنا أن فكرة «الذات» قد لا تتعدى كونها وهم بشكل أو آخر، إذ أن القائمة تتغير بمرور السنوات، وتبدل ظروف الحياة، حيث يستقبل عقل الإنسان معطيات جديدة تغير وجهات نظره في أشياء آمن بها من قبل.
فمن ينتمي إلى جماعة محبي الشتاء في مصر قد يغير وجهة نظره في مواجهة صقيع أوروبا، ويفتقد دفء الشمس حين يجد صيفاً لا تشرق فيه الشمس إلا نادراً.
يقول بلال علاء على لسان الراوي في روايته «عم نتحدث حين نتحدث عن الصداقة» مُتحدثًا عن إحدى صديقاته: «في وقت آخر أقول لنفسي إنها مزيفة، ثم أعاتب نفسي على ذلك، من أنا لأحكم على شخص آخر بذلك؟ ولمجرد أن حدود قناعها واضحة، هل يجعلها ذلك مزيفة؟ ألست ألبس قناعاً أنا الآخر، وأخفف من آرائي التي أعلم أنها لن تعجبها؛ فقط لتظل موجودة؟ ألست أنا الشخص السيئ هنا؟ أنا الذي أعي أنني ألبس قناعاً؟ ألست أنا الشخص الذي يشعر بعدم الانتماء لكنه لا يعلنه لأنه يخاف فقد ما لا يحبه؟ أليس جزءًا من اقتناعنا بأي قناع هو الوقت المستغرق في صناعة هذا القناع وإتقان تفاصيله، أم أنها فقط لم تستغرق وقتًا طويلًا في قناعها لأنها نادرًا ما احتاجت إليه؟».
حين يقرر الراوي مصارحة البنت بما يدور في عقله عن القناع، يتناقشان حول فرضية وجود وجه أصلي للإنسان من عدمها. الحقيقة أن الناس ليسوا صادقين على طول الخط في تقديم قائمة أحب/ أكره للآخرين، وحتى الحكايات الداعمة ليست بالضرورة حكايات حقيقية، إنها حكايات تلاعبت بها الذاكرة قبل أن يتلاعب بها المرء نفسه تدليلاً على موقفه من محبة شيء أو كراهيته له. حتى حكايات أصحابنا المقربين، تلك الحكايات التي سمعناها منهم مراراً، كثيراً ما تتغير وتتطور على حسب الهدف النهائي من الحكاية، والعنصر الذي يرغب المرء في التدليل عليه من القائمة، إذ أن حكاية واحدة بالإمكان إعادة استخدامها وتدويرها.
غير أننا بالتأكيد نختار من تلك القائمة ما يتناسب مع الأشخاص أو المواقف أو المجتمعات، الفتاة التي لا ترى في لبسها مهما طال أو قصر، ضاق أو اتسع جريمة وعار، قد تختار ملابس تتوافق مع الحيّ الشعبي الذي تسكن فيه خوفاً على سلامتها، وليس لأنها غير متسقة مع أفكارها.
فالذات المكونة من تلك القائمة، إذًا ليست شيئاً ثابتاً بالإمكان الاعتماد عليه حتى النهاية. لكن ذلك التغيير نفسه بالإمكان أن ينظر إليه كصورة ذاتية يعبر بها المرء عن نفسه، الذات المتغيرة.
الذات المتغيرة أيضًا تتضمن قائمة أحب/ أكره، كما تتضمن ماضيها (كنت أحب/ كنت أكره) ولكلا القائمتين الحكايات الداعمة لهما والدالة عليهما.
ولندعم الفرضية بقصة مُتخيلة.
يجلس شخص ما بين أصدقائه يدردشون حول التغيرات الاجتماعية التي فرضت نفسها على مجتمعهم التي ربما تؤثر سلباً على أبنائهم، يتعجب الشخص من مخاوفهم تلك، ويخبرهم أن تطور المجتمعات قادم لا محالة، ولا رجوع إلى الخلف. وعلينا نحن كأفراد أن نتطور معها، ونتخلى عن معتقداتنا الجامدة من خلال إعادة التفكير فيها ومناقشتها. يخبرهم أن الإنسان الذي لا يراجع أفكاره كل فترة هو إنسان توقف عن النمو، وهو لا يحب التعامل مع ذلك النوع من البشر، «أنا أكره أولئك الذين لا يتغيرون» يقول، ثم يبدأ في سرد حكاية دالة من تاريخه الشخصي.
فكيف عبر ذلك الشخص عن ذاته المتغيرة طبقاً لقائمة أحب وأكره والحكاية الدالة؟ من قائمة المكروهات:
«أكره أولئك الذين لا يتغيرون». كان والده يضرب والدته ويعلمه أن الزوجة لا بد من طاعة زوجها طاعة عمياء. حتى صار شاباً بين هذا العنف الأسري. وفي أحد الأيام رأى والدته ممسكة بسكين المطبخ وتهدد أبيه بالقتل، شُل تفكيره تماماً ولم يستطع التصرف، فتقدم أبيه وقتل الأم. قُبض على الأب وأُعدم بعدها بعام واحد. وتغيرت أفكار الشاب وكره كل ما علمه له والده، وتخبط بين جنبات التدين والإلحاد، حتى عاد إلى الدين وقد فهم جوهره الحقيقي.
فالتغيير (في عناصر قائمة أحب/ أكره) إذًا يعتد به كصورة ذاتية لذات تتغير. وهو ما يعود بنا إلى «تفرد» يونغ، كون «الذات» نفسها عملية مستمرة من التكوين لا تنتهي إلا عند مرحلة النضج المتأخرة.
وحتى يصل المرء إلى مرحلة النضج المتغيرة تلك – إن بلغها – تظل «الذات» تحت حالة دائمة من التغيير المستمر، وتُضاف إلى قائمة أحب/ أكره، قائمة كنت أحب، كنت أكره.
ولكن حتى لو سلمنا بكون «الذات» قد تكون «ثابتة» أو «ذات متغيرة» أو «عملية مستمرة لحين بلوغ النضج المتأخر» أو حتى لا تتعدى كونها وهما كما يفترض سامي هاريس، فإن قدرة الإنسان على الاستمرار والبقاء، مُعلقة على كف الحكايات التي تُصنع منها «الذات»، و«الذوات الأخرى» المقابلة، كما تصنع في الوقت نفسه من الذوات المشابهة لذاته «جماعة». كل جماعة من تلك الجماعات تمتلك الحكاية التي تحافظ عليها، وتدفعها إلى التعاون.
وفقًا ليوفال نوح هراري، فإن سرد الحكايات هو النسخة المتطورة عن النميمة، وأننا حينما تعلمنا النميمة بدأت سيطرتنا على العالم. أطلق على ذلك الثورة الإدراكية. فقبل أن نتمكن من النميمة، كان الإنسان العاقل مجرد نوع آخر يقع في منتصف السلسلة الغذائية، فوق الدجاج، ولكن تحت النمور، لم نكن حتى الأقوى من بين الأنواع الحيوانية المختلفة! مكنتنا النميمة من بناء روابط مع مجموعتنا وفهم ديناميكية العلاقات بين البشر داخل المجموعة الواحدة، مما رفع قدرتنا التنافسية، وساعدنا على اختراع طرق جديدة للتعاون بين بعضنا البعض.
إن احتياج الإنسان الأول للنميمة، هو سر تطور اللغة.
يقول يوفال في كتابه: «تطورت اللغة كوسيلة للنميمة. وفقًا لتلك النظرية، فإن الإنسان العاقل هو في الأساس حيوان اجتماعي، وذلك التعاون هو مفتاح تكاثرنا وبقائنا على قيد الحياة. لم يكن كافيًا للأفراد، أن يعرفوا أين تعيش الأسود والحيوانات المفترسة الأخرى، بل المهم أن يعرفوا من يكره من في جماعتهم، ومن يمارس الجنس مع من، ومن منهم الصادق ومن المخادع».
الحاجة إلى الانتماء تتعدى إذن الانتماء إلى قبيلة في مقابل أخرى، أو جماعة في مقابل جماعة، أو وطن في مقابل وطن، إذ داخل الجماعة نفسها يحتاج الناس إلى الانقسام والانتماء، وداخل الجماعة الواحدة تدور النمائم لأجل رفع القدرة التنافسية لدى أفراد الجماعة الواحدة.
في رواية الكاتب نائل الطوخي «ديوك وكتاكيت»، تشتعل روح المنافسة داخل صدور شلة الديوك بعد أن يدخل عليهم متولي في مقهاهم الأثير، ثم يفرد على الطاولة بوستر عليه صورته واسمه بفونت كبير، متسائلاً بفخر: «مين أحسن واحد ناو؟»
ومن ذلك السؤال البريء تنطلق الكرة، كرة الغصة المختلطة بالغيرة والأحقاد في صدور أعضاء الشلة جميعاً، التي تكون في الوقت نفسه دافعاً لهم لكيّ يعاودوا المحاولة مرة أخرى، يشرع بعضهم في إعادة إحياء مشروع مات، أو البدء في مشروع جديد، أي شيء يتغلبون به على صاحبهم الذي صار أيضاً موضوعاً للنمائم الدائرة بينهم.
ومن الحاجة إلى الانتماء يظهر ذلك الدافع المُلح لدى الإنسان لتبني مواقف بعينها دون مواقف، حين تتبنى موقفاً ما فأنت تعلن انتماءك وحين تعلن انتماءك، أنت تعبر عن ذاتك عبر اختيارات محددة من قائمة أحب/ أكره، ثم تتلفت حولك مُترقباً لمواقف الآخرين حتى تتمكن من تحديد انتمائهم وبالتالي تسكّينهم في الجماعة التي ينتمون إليها، فما حاجتنا إذن إلى شخص مستفز، يقف هكذا صامتاً دون موقف يعبر عن انتماء؟
* لا نتفق مع مواقف يوفال نوح هراري السياسية وتواطئه مع الجرائم التي تحدث في حق الشعب الفلسطيني ولكننا نعي قيمة كتبه وأبحاثه ونظرياته على المستوى الأكاديمي.
** The need to belong: Desire for interpersonal attachments as a fundamental human motivation.