fbpx

أين تذهب ذاكرة الفرع 290؟

لدى عبور البوّابة الضخمة، رأيت مدرسة أمن الدولة، الفرع 290، للمرّة الأولى رغم أنّها ظلّت جزءًا من مشهدٍ ثابت ومملّ تطلّ عليه شرفتي. فرغ المبنى من الرعب، وحل محلّه رعب آخر يلفّ مصائر أولئك الذين ابتلعهم المبنى، وبقيت الأوراق المبعثرة الدليل الأخير على وجودهم
ــــــــ المـكـان
24 فبراير 2025

 

شاءت الأقدار أن أجد بيتًا رخيصًا للإيجار في ريف دمشق سنة 2018، لكنه حمل صفقتين خاسرتين: الطابق السادس دون مصعد، وجارٌ لا يُحتمل هو مدرسة أمن الدولة، الفرع 290. لم تكن مدرسة عادية كما يوحي الاسم؛ لا جرس يعلن بداية اليوم، ولا طلاب يهرولون في الممرات. هذه المدرسة كانت مصنعًا لإنتاج رجال الظل، أولئك الذين يتحرّكون بلا أسماء، من يعيشون متخفّين حتى عن أنفسهم، يجمعون الهمسات ويحوّلونها إلى تقارير.

في منتصف الطريق بين جرمانا والغوطة الشرقية في ريف دمشق، تقع مدرسة أمن الدولة، الفرع 290، مثل حصنٍ بلا نوافذ أو حياةتناسى الناس اسمها الرسمي لسنواتٍ، وأطلقوا عليها ما يعكس حقيقتها: “فرع التنكّر” الذي كان يُعاد فيه تفصيل القانون وفق الحاجة، هكذا تُقرّر المصائر.. من يستحقّ الحياة، ومن يجب أن يُمحى، من يُترك لينسى، ومن يُحكم عليه بالاختفاء.

مشهد أخير من الشرفة

طوال فترة إقامتي في البيت، ظلّت تفاصيل المدرسة المواجهة لشرفتي غائبة، مجرّد هيكل اسمنتي اعتدت رؤيته، مثلما اعتدت رؤية مشهدًا واحدًا فقط؛ حاجزان عند مدخلي المدرسة وسواتر إسمنتية حوّلتها إلى مقبرةٍ للأسرار لمن يراها من بعيد.

من شرفتي العالية رأيت تلك القلعة الرمادية مرارًا، راقبتها بعين المتطفّل الذي لا يجرؤ على الاقتراب. كانت تشبه فمًا مغلقًا بإحكام، لا يبتسم ولا يتحدّث، فقط يبتلع من يدخل إليه دون أن يلفظه مجدّدًا. كنت أراقبها كمن يحاول كسر لغة الصمت الطويل الذي لم يكن يقطعه في العادة سوى صوت محرّكات السيارات السوداء عند المدخل.

قبيل أيّامٍ من سقوط نظام الأسد، وقفت على شرفتي ألتقط التغيرات الصغيرة التي لا يلاحظها العابرون. لم تكن هناك معارك بعد، لكن المكان كان يتصرّف ككيانٍ يشعر باقتراب نهايته، فالجنود على الحاجز صاروا أكثر تيقّظًا وقلقًا، لا بدافع السيطرة هذه المرّة بل بدافع الخوف من فقدانها.

نظراتهم ضلّت البحث عن مطلوبين، وراحت تدور بحثًا عن مخرجٍ. كانوا يقلّبون الهويّات ببطء مبالغ فيه، لهذا ربّما غيّر بعض المارّة طريقهم دون أن يُطلب منهم ذلك بعدما التقطوا الإشارات الخفية التي يرسلها الهواء قبل العاصفة.

لم يحمل الليل صوت قصف، لكن المدينة كانت تموج بقلقٍ غير مرئي. وحدها السيارات السوداء تحرّكت بحرية، رغم أنّها فقدت الثقة التي اعتادت أن تمتلكها، كأن ركّابها أدركوا أن الشوارع التي كانت تفتح لهم طريقًا، لم تعد تضمن لهم مخرجًا بعد الآن.كانت الحركة بطيئة كأنّها إيماءات في مشهد أخير انتهى تمامًا ما إن حلّ فجر الثامن من ديسمبر 2024.

جاءت الليلة الحاسمة دون انفجاراتٍ أو اقتحام. فقط طلقات فردية متباعدة، كأنها أنفاس المدرسة الأخيرة. حتى الثانية بعد منتصف الليل، بقيت مبانيها صامدة صمودًا مهتزًّا، كمن يؤجّل مواجهة مصيره. كان يسهل تمييز أصوات السيارات السوداء، قبل أن تختفي تدريجيًّا باتجاه العاصمة.

عرفنا في الصباح أن الضابط المناوب، بعد لحظات طويلة من التردّد، خرج إلى وجهاء جرمانا، ووضع المفاتيح بين أيديهم، ثم تبخّر.

 

تصوير: تمام صيموعة

المدرسة تتهاوى بعد عنادٍ طويل

ظلّت المدرسة مكانها بعد سقوط النظام، رغم أنّ كلّ شيء آخر تغيّر من حولها. ماذا سيبقى منها بعدما فرغت من الرعب التي كانت تبثّه في قلوب المارين بجوارها؟ منذ فترة، نظّم ناشطون من مدينة جرمانا فعالية للدخول إليها، كمحاولةٍ لفكّ شيفرة مكان عاش لعقودٍ في الظلّ. للمرّة الأولى أصبح الدخول ممكنًا دون أن تصطدم بجنود أو بنقاط تفتيش، ودون أن تواجه العيون الباردة لرجالٍ يبحثون في الوجوه عن شيء لا يعرفه إلا هم.

لدى عبور البوّابة الضخمة، رأيت المكان للمرّة الأولى رغم أنني اعتدت النظر إليه من شرفتي وظلّ جزءًا من مشهدٍ ثابت ومملّ، لكنه الآن بدا أكبر وأكثر اتساعًا وكآبة من الداخل. الجدران الرمادية التي اعتدتُ رؤيتها كلون، بدت الآن أقرب إلى جلدٍ متيبّس غطّى جروحًا لا تُرى. كلّ ركن حمل أثرًا لمن رحلوا على عجل، من انتزعوا أنفسهم من المكان قبل أن يبتلعهم الانهيار.

كنت كمن يخترق جدارًا غير مرئي، الباب المحصّن كان مستسلمًا بعد عقودٍ من العناد. بعده مباشرة ستصل إلى غرفة الحرس، حيث كانت الملابس لا تزال مرمية على الأرض كيفما اتفق؛ سترات عسكرية ملقاة على الكراسي، أحذية مفكوكة لمن فرّوا على عجل، بلا وقت يلتفتون فيه إلى الفوضى التي يتركونها وراءهم.

أوّل ما دخلنا، وجدنا الثلاجة هناك، في بهو الساحة، مخلوعة الباب كجسد مفتوح بلا قلب. لم يكن واضحًا كيف انتهى بها الأمر هنا، كأن أحدًا ما حاول سرقتها، ثم أدرك فجأة أنّ السرقة لم تعد جريمة في هذا المكان، بل مجرّد تحصيل حاصل.

إلى جانب الثلاجة، رُكِنت سيارة، أو ما تبقى منها. غطاءها الحديدي مطليّ بألوان النظام المخلوع. كانت هذه السيارات تُستخدم لكلّ شيء: المداهمات، الاعتقالات، التعفيش. ظهرها المكشوف يعرف جيدًا كيف يحمل الثلاجات المسروقة، وكيف يعيد ترتيب الأشياء التي لا تعود أبدًا إلى أصحابها.

على باب الثلاجة، كُتبت عبارة: “لا تأخذ شي ليس لك”. لن نعرف من كتبها، لكنّها تبدو الآن كرسالة متأخّرة وساخرة انقلبت على كاتبها. ففي هذا المكان الذي كان الجميع يأخذ فيه بلا حساب، سرق الأمنيون البلاد، ثم سرقوا بعضهم البعض. هناك دائمًا من كان يخدع الآخر ومن يستولي على ما يستطيع قبل أن يُؤخذ منه.

الثلّاجة الآن بلا باب، والسيارة بلا عجلات. الأشياء التي اعتادت أن تُكدَّس على عجل، أن تُنقل من بيت إلى آخر، أصبحت هي ذاتها مجرّد بقايا مرمية. ابتلعت الفوضى نفسها، والنظام الذي كان يُحكم قبضته على كل شيء، انتهى بالطريقة ذاتها: مخلوعًا، متروكًا، بلا باب، بلا دواليب، مجرّد هيكل يُركَل على الطريق ولا يلتفت إليه أحد.

 

تصوير: تمام صيموعة

رائحة الغاز الذي تسلّلت إلى الغوطة

تمتدّ المدرسة على مساحة خمسة دونمات، تتكوّن من ثلاثة مبانٍ تنتصب ببرودٍ شديد دون تفاصيل خارجية. يحوي المبنى الجنوبي القاعات الدراسية وهو أكثر الأبنية انتظامًا؛ يمتلئ بصفوف من المقاعد الخشبية، وبالسبورات الدراسية. تحت المبنى، يوجد قبو لم يكن مجرّد مخزن، بل مساحة منسية تخلّت عنها حتى ذاكرة من مرّوا بها. بقيت المعدّات في أماكنها، بلا ترتيب، لكنها حملت رائحة الاستخدام الأخير منذ أن أمسكت بها الأيدي قبل ساعات ربما.

المبنى الأوسط هو مبنى الإدارة الذي لا يختلق عن أيّ مؤسّسة رسمية أخرى في هذا البلد: ملفّات متناثرة، كراسٍ مهشّمة، مكاتب فقدت لونها من كثرة الأوزان التي حملتها. في هذا المبنى كانت تُتّخذ القرارات، وتُوَقّع الأوامر التي لم يكن أحد يجرؤ على رفضها. في الطابق الأول، باب حديدي ثقيل، فيه طاقة صغيرة تُفتح على زنزانة منفردة. النظر عبر الفتحة كافٍ لاستحضار وجوه أولئك الذين أمضوا لياليهم هناك، بأعين غائرة، بلا يقين إن كانوا سيخرجون يومًا.

أما المبنى الأخير فكان الأكثر غموضًا. يسمونه “مبنى الكيمياء” وهو الأحدث بين الأبنية، لكنه يحمل أسرارًا خلف جدرانه. خُصّص الطابق العلوي للمختبرات، حيث القوارير والأنابيب الزجاجية كانت لا تزال مرصوفة بعناية، فيما تحيطها الفوضى من كلّ صوب، وهذا ما يعكس خوف الداخلين من الاقتراب منها.

بعد السقوط بيومين، وصل الدفاع المدني إلى مبنى الكيمياء وجمع البراميل المغلقة بإحكام، حملها بحذر كما تُحمل الأجساد الهشة. قالوا إنها تحوي مواد سامة، وإن هذا المكان لم يكن سوى جزء صغير من آلة الموت التي أُطلقت على الغوطة في 2013، حين كان الغاز يعبق في الأزقة، يتسلل إلى الصدور، يخنق كل من يلقاه بلا صوت أو نقطة دمٍ واحدة.

 

تصوير: تمام صيموعة

أرض معبّدة بالمصائر

دخلتُ ذاكرة المكان، نبشت في أرشيف الرعب بعدما فُتحت الأبواب التي كان يُعتقد أنها ستظل مغلقة إلى الأبد. المكتبة لم تعد مكتبة تماماً، بل كومة أوراق فقدت أي ترتيب، غارقة في الغبار والأقدام التي تعبر بلا اكتراث. العناوين متناثرة: علم النفس، الحرب الباردة، تقنيات الاستجواب. الكتب نفسها، بعناوينها المختلفة، تحاول أن تشرح ما حدث أو أن تقدّم اعترافًا متأخرًا.

التقط أحدهم كتابًا، قلب صفحاته الصفراء، ثم ضحك: “هذه أول مرة أقوم فيها بالتعفيش”. كانت نكتة، لكنها لم تُضحك أحدًا. كل شيء هنا كان ملكًا لمؤسسة لم تفكر يومًا في المغادرين، ولم تحتفظ إلا بأسرارها التي أصبحت مشاعًا، متاحة لمن يمدّ يده.

الأوراق، على عكس الكتب، لم تكن تنتظر من يطلبها. كانت تتدفق مثل موجة، تغمر الطاولات المحطمة، تتسلل إلى الزوايا، تعلق بالسلالم الحديدية، تلتصق بالجدران الرطبة.
بعضها كان يحمل أسماءً، تقارير، محاضر تحقيق، أوامر اعتقال، ملفات تتحدث عن أناس لم يعودوا موجودين.

في أحد الممرّات، ظهر تقريرٌ من سنة 2008، عن “نشاط الإرهاب في الدول العربية والأجنبية” تلك التهمة التي كان النظام يلوّح بها كذريعة للقتل. بالقرب منه، أوامر اعتقال، تواقيع رسمية، أختام ممهورة بالختم الأحمر. في السابق، كانت هذه الأوراق تتحكّم بالأجساد وتحاصرها داخل سجون غير مرئية، وقد أصبحت الأوراق نفسها بلا مأوى.

المزيد والمزيد من الأوراق التي طفا بعضها فوق المياه الراكدة في الحمّامات. فقدت لونها تمامًا، وسال حبرها في الماء فتحوّل إلى بقع سوداء كأنها مصائر أصحابها التي ترفض الاختفاء.

في الزاوية، بين كومة من الملفات الممزقة، كانت جريدة تشرين ترقد كجثة قديمة. الصفحة الأخيرة ما زالت مفتوحة، وعليها كاريكاتور يسخر من أميركا. منذ السقوط، لم يصدر عدد جديد مليء بالأخبار الرسمية. انتهت الصحيفة كما انتهى من كان يكتبها.

ستعود الجريدة، لكن باسم جديد، قال أحدهم مازحًا،من تشرين إلى كانون“. كانت نكتة أخرى، لكنها بدت كحقيقة لا رجعة عنها.. كما حمل تشرين صعودهم، حمل كانون سقوطهم.

 

تصوير: تمام صيموعة

أسماء نُطقت تحت التعذيب.. أوامر كُتبت بحبرٍ بارد

الأمر ليس مجرّد انتقام، بل أشبه باستعادةٍ متأخّرة لمساحاتٍ كان المرور بجوارها كفيلًا بإثارة القشعريرة. هكذا تبدو اقتحامات المراكز الأمنية والسجون السورية، التي انتشرت منذ سقوط الأسد نهاية العام الماضي، كأنّ البلاد بأسرها تستعيد أنفاسها الأولى بعد اختناقٍ طويل.. بعد خمسين عامًا من الرهبة المتراكمة.

كان يكفي أن تسمع عبارة واحدة: “بشحطك على الفرع”، حتى ينشف الدم في عروقك. لا همّ إن كنت مذنبًا أو بريئًا، ما دمت تحت رحمة آلة صماء تطحن الجميع بلا تمييز: محامين، قضاة، وزراء، وحتّى ضبّاط من نفس الجهاز، الكل قابل للسحق عند الحاجة.

الفرح في استباحة المكان، لا يدوم طويلًا مثل كلّ ما هو طارئ. سريعًا ما تتلاشى النشوة الأولى، كأنها لم تكن، ويبدأ شعور آخر بالتسلل، شعور لا يشبه الخوف القديم، لكنه ليس راحةً أيضًا.

لا شيء منظّم هنا. الأوراق متناثرة كعظام موتى لم يُدفنوا بعد. بعضها يخبئ أسراره، وبعضها مكشوف بلا حماية. بين الركام، ظهر باب حديدي نصف مفتوح، يقود إلى أرشيف لم يُنقذ بعد. كل ورقة تشهد على ما حدث، كل ورقة هي دليل، وكل دليل كان ولا يزال مهددًا بالاختفاء.

تبدو فوضى الأوراق الممزّقة أقل حرية مما قد يظنّ أحدهم. الوثائق التي تدوسها الأقدام هي شظايا ذاكرة، أسماء نُطقت تحت التعذيب، أوامر كُتبت بحبر بارد قبل أن تتحول إلى مصائر محتومة.

بعضهم يجمعها ليحرقها، كأن التخلص منها سيواري ما شهدته، أو أنّ النسيان قرار يمكن اتخاذه. غير أنّ الورق هنا، مثل العظام، لا يختفي بسهولة… سيبقى في الرماد، في الحكايات غير المكتملة، في الحبر السائل، وفي الصمت الذي سيتبع اختفاءه.

هناك فارق بين كسر الأقفال، وبين معرفة ما يجب فعله بعدما تُفتح الأبواب. وما يضيع الآن، لن يعود، لا كحقيقة ولا كعدالة، بل كجرح مفتوح في ذاكرة لن تلتئم.

كيف سنحاكم الجلادين إذا تحوّلت الأدلّة إلى رماد؟ كيف سنروي ما حدث إذا ذابت الشهادات تحت المطر؟ العدالة الانتقالية قد تتحوّل إلى سراب، إلى وعد غير مكتمل، وعندها، لن يكون الماضي قد انتهى، بل سيظلّ متربصاً في العتمة، ينتظر الفرصة التالية ليكرّر نفسه.

 

تصوير: تمام صيموعة