fbpx

الحيط يتكلم عربي.. المقاومة يا ولاد الـ ..

في مجتمع يعلي شأن اللباقة واللياقة والصوابية السياسية، يتحرر المخربشون والمخربشات من الحذر والتنميق، ويكتبون متحررين من الرقابة، والنقد، والاضطهاد
ــــــــ المـكـان
12 مارس 2025

بدأ مشروع التوثيق والأرشفة هذا مع الإبادة، ومثلها طال أكثر بكثير مما يجب. “هذه، وهذه، وهذه أيضاً” قال صديقي وهو يُشير إلى الصور التي جمعت. كانت كلها بخطه، بخها في أوقات مختلفة على حيطان حي هانوفر الذي نسكن. ولأنني لم أُصدق أن مشاكسة كهذه لم تخطر ببال أحد سواه، قررتُ الذهاب للمكان الوحيد الذي لا يدخله: حمامات البنات.

المثير في خرابيش المراحيض أنها تخلق صلة بين أطراف ربما ما كانت لتتواصل لولا هذه للوسيلة. التعليق يتحول لحوار منفتح أو مشحون، ورسم لشبكة من تسع مربعات يصير مباراة x/o.

في مجتمع يعلي شأن اللباقة واللياقة والصوابية السياسية، يتحرر المخربشون والمخربشات من الحذر والتنميق، ويكتبون متحررين من الرقابة، والنقد، والاضطهاد. إبادة غزة، يداً بيد القمع الألماني للأصوات الفلسطينية، حفزت الناس للتجاوز. بداية بالتعابير المتحايلة كالبطيخة، والسهم الأحمر، وانتهاءً بهتافات المظاهرات التي لا تتوقف المحاولات لتحريمها: من النهر إلى البحر؛ تمجيد المقاومة؛ الشد على يد الملثم. وبالطبع، وكما يليق بالمراحيض، الكثير من الشتائم؛ لأنها اللغة الوحيدة التي تقترب من توصيف ما يحدث.

الخط يتكلم عربي

في القطار، خطر ببالي شيء. أخرجتُ دفتري ورحت أُسجل. كنتُ أطيل الخط الذي يجمع آخر حرفين، أرفع الألف ليس بعيداً عن السطر، وأرسم الراء باستقامة مائلة، وكأنها شَرطة. ثم انقلب النص إلى الداخل، وتحول الخط من وسيلة إلى موضوع. فأتى النص هكذا..

كثيراً ما أرغب بامتلاك

ما ليس يصح لي

أشياءٌ أقلها الثأر

حين أكتب على جهازي

تظهر الحروف والكلمات القياسية

وكأنها تقول أقل مما عنيت

أقل بكثير مما عنيت

فتحتُ أرشيف حيطان المراحيض. وصرتُ أتأمل الخطوط. على عكس الجرافيتي، الذي تتعجل إنهاءه لتفِر، لدى المخربش في الحمامات كل الوقت. مع هذا قليلاً ما تلمح هذا التأني. ثمة واحدة تقول “silence is violance” الخط الذي رُسمت به هذه الجملة المحبوكة والمقفاة جاءت في توافق تام بين شكلها ومضمونها. أما تلك المنفعلة والبذيئة فهي لا تُراعي الاتساق والجماليات. وهي لا تفيض برفق كجرح سكين، بل تُشرق مرة واحدة كطلقة. “المقاومة يا ولاد المتناكة” المفضلة لدي حتى الآن والتي أشعر بأني أُمثِّل بها، وأنا أُخضعها لهذه الطباعة القياسية التي لم تراعي فيها الحرقة. كُتبت “المقاومة” وكأن كاتبتها (أو كاتبها، كان حماماً مشتركًا) لم تخطط للسطر التالي “يا ولاد المتناكة”. الـ “يا” كُتبت بزاوية حادة في تشابه لا يُمكن إغفاله بالمثلث الأحمر، والنقطتين في التاء المربوطة مشتبكة، حاسمة، ومنفذة وكأن الشعار يحمل إلى الفعل دون تروي. ولأنه أقل من الفعل، يحني الخط رأسه بعجز.

والشتيمة عربية

مرة كان علي أن أُترجم “?What the fuck has Canada done ever in the Middle East”. أرادها المحرر أن تكون: “ماذا فعلت كندا للشرق الأوسط [بحق شيء ما لا أذكره الآن، الأغلب أنه بحق الجحيم]”، لكني أردتها أن تكون: “ما دخل أم كندا في الشرق الأوسط؟” لم أقدر على التبرير، هي فقط بدت أكثر ملائمة، بالرغم من أنها تقول شيئا آخر تماماً، إنها حتى تُغير السؤال من “ماذا” إلى “ما دخل”. في النهاية، هذا ما تفعله اللغة القبيحة إنها تعصي اللباقة، المنطق، وحتى المعنى.

ما أبلغ: “المقاومة يا ولاد المتناكة”!

أحاول ترجمتها إلى الإنجليزية. أدري أن الترجمة الحرفية ستكون شيئا من قبيل: “Resistance, sons of a bitch”، لكن ترجمة كهذه لا تفي بالانفعال الذي تمنحه الشتيمة بالعربي، خصوصاً عندما أضعها جنباً إلى جنب “Resistance, motherfuckers”.

ربما لأن “motherfuckers” يُشير لارتكاب الشائن والفاحش، والأهم أنه يحوي لُب الشتيمة “النيك fuck”، كلمة لا يبدو أن الجملة تستقيم بغيرها.

تأثير بوبا/كيكي “Bouba/kiki effect” يُشير لظاهرة الربط الذهني الغير العشوائي بين بعض أصوات الكلام، والشكل الظاهري للأجسام. يُسأل المشاركون في التجربة أي الشكلين يُمكن أن يكون اسمه “بوبا”، وأيهما “كيكي” (خذوا دقيقة وفكروا). بنسبة إجماع عالية، يتفق الناس أن الشكل اللين هو بوبا، والمدبب الحاد الخشن هو كيكي.

أجرؤ على أخذ قفزة متهورة والقول أن هذه الظاهرة تُضيء لنا شيئاً عن درجة الليونة والخشونة في كل شتيمة من حيث وقعها، ووفق هذا الإحساس نُقرر عند الترجمة ما يلائم وما يبدو ضعيفاً وقاصراً، ما يُقارب المعنى بخجل رغم حرفيته، وما يُرادف ويُطابق من خلال موسيقاه.

تخبرنا الدراسات الكمية أن بعض الأصوات أو الحروف أنسب للشتيمة، وأن بعض الحروف (مثل اللام والراء) تغيب تقريباً من السِباب عبر لغات مختلفة. الذي يجعل الشتيمة فعالة بجانب الأصوات (التي هي فعالة لأنها كذلك) هو مساسها بالتابوهات. تتمحور الشتيمة حول الأعضاء الجنسية، وأنواع محددة من الوظائف الحيوية، آه.. والكُفريات أيضاً. ثمة لكل هذا مرادف مُلطف يُلائم استخدام الصغار، ويُبقيها كيوت. ثمة أيضاً تعابير مُجمّلة تناسب الشِعر. لكن المخربشات/ون يُريدون تطهير العالم، عبر تقبيح لغتهم. يرفضون الضبط والتلطيف. يعرفون أن الإبادة إبادة، كما يعرفون -عندما يرونها- الفاشية، العدوان، الاجتياح، التنكيل الممنهج، والرجس الصهيوني. يعرفون الأسماء كلها.

ورغم أنهم لا يُروّجون لذلك علناً على الحيطان، ندري أنهم طيبون أيضاً. يحتضنون معاني النيك الأخرى: تنايكنت الأجفان أي انطبقت على بعضها؛ وناك النعاس العين أي غلب عليها.

ثورة تخرج من الحمام، ثورة يُعوّل عليها.

كما يفعل مهرج بطاغية

ميزة الجرافيتي كما يُخبرنا حميد دبَشي وابراهيم فريحات في عملهما الذي يتتبع الأعمال الفنية المرسومة على الحائط الممتد لـ 708 كيلومتر بين الضفة وبناة الجدار، في التماسٍ لتجميل القبيح، والهزء من أداة التنكيل والإخضاع الفارعة هذه، واختزالها لتصبح لوحة رسم لا أكثر – أقول أنهما يُخبرانا أن الجرافيتي موقعي، مرحلي، متقلب، وزائل. لعلنا نضيف أيضاً أنه لقيط، مجهول تاريخه، ومجهول مبدعه. وهو لا يكفر بلغة الانتساب كلها من كريدتس وحقوق إبداعية فحسب، بل يستفيد من هذه الخصيصة للتحرر الكامل. مراقبة الحيطان، هو شهادة لتاريخ يتشكل ويمضي.

يشهد تاريخ الاحتجاجات الشعبية – ما قبل الإنترنت بالأخص – بتوظيف الجرافيتي واللوحات الجدارية، الملصقات والمناشير لمقاومة هياكل السلطة الاجتماعية والسياسية، فهي تضع قوة إعلامية بيد الشارع من أولئك الذين لا صوت لهم، تصيغ الوعي الشعبي، تحشد وتنبأ بالخطط القادمة، توثق الأحداث التاريخية المهمة وتتذكرها. وفي سياق الاستعمار الاستيطاني، يسترد فنانو الشارع الفضاءات المُعمّرة للأرض المسلوبة.

يشترك جرافيتي الشوارع وخربشات الحمامات في كونها وسائل تعبير ومقاومة، إلا أنها تخدم أهدافاً سياسية مختلفة. بينما يصنع الجرافيتي نظام اتصالات عامة بديل، تخدم خرابيش الحمام المرصودة هدفا أقرب للتضامن وطابعها تنفيسي، وخصيصتها الملفتة هي عدم العناية. يمكن اعتبار الجرافيتي أقوى من حيث الطابع التخريبي خصوصاً عند تعديه على ممتلكات الدولة، لكنه أيضاً خَضوع وميالٌ للتلطيف، وهذا ليس مقارنة بخربشات الحمام وحدها، بل بالخربشات بشكل عام.

كما يُفرق أحياناً بين الجرفيتي وفن الشوارع باعتبار أن الفن يأتي بتكليف من صاحب الجدار للفنان، يُمكن التفريق بين الجرافيتي والخرابيش باعتبار أن الخرابيش باعثها التعبير وليس القيمة الجمالية. على العكس، إنها تُقبّح، وتبغي إصلاح العالم عبر التقبيح.

العربية محرمة في برلين. تُحظر الهتافات العربية، وتُفض المظاهرات بدعوى تشغيل أغنية لا يفهم كلماتها الشرطي. لكن ليس بوسع أحد أن يُسكت الشوارع، أو يعتقل الحيطان. ستتكلمها المدينة التي نتندر بتسميتها “عاصمة الشرق”.