fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

يوميات عن الكلمات التي اختفت

الشخص الخائف الذي يكتب لكم يتمنى أن تأتي لحظة يستطيع فيها البكاء على كُل ما سلبته الحرب... الشخص الخائف الذي يكتب الآن من غزة، يتمنى أن يكون شخصاً عادياً جداً ..
ــــــــ المـكـان
26 نوفمبر 2024

يوم: – / -/ –

لدي حكاية أرويها عن الرفض.. رفض النسيان، الألم، التخلي، التأقلم، اليأس، التوقف، السكون، الضعف..

***

أثناء محاولاتي الدائمة لعيش الحياة تحت الإبادة الجماعيةمحاولات من أجل الحياة نفسها لا من أجل النجاة فقطاستطعت رؤية كيف انتقلت من حياةٍ تُشبه بيتنا مليء بالأثاث، إلى حياةٍ النزوح التي تشبه إلى حدٍ كبير الشقة التي استأجرتها منذ أغسطس الماضي، فراغ مليء بفوضى أكياس اختصرتُ فيها البيت.

*

تُعلمني ابنتي ناي البالغة من العمر ثلاثة سنوات، والتي يعيش توأمها مجد في تركيا لتلقي العلاج هناك بسبب إصابته بتضخم الكبد واحتياجه الدائم للرعاية الطبية، أنه يمكن التعامل مع الحياة طالما استمر الإنسان حياً، إنها لا تعرف أننا نعيش مهددين بالموت طوال الـ 400 يوم الماضية، ولا تعرف إننا نعيش قسراً دون أخيها مجد ودون جدتها عايدة أمي التي ترافق مجد وتتلقى علاج لسرطان الثدي، ودون عمها محمد وعائلته الذين سافروا إلى مصر هرباً من الحرب. تعرف ناي جيداً أنها تريد التفاعل مع الحياة دون اكتراث بالأحباء والأقارب والأصدقاء الذين نفقدهم كل ساعة، ودون اكتراث أننا قسراً نعيش في منطقة تقع على شاطئ البحر. تتلقى ناي الحياة كأنها هكذا كاملة دون نقصان، وأنا أستعين بها لإنقاذي وشفائي من نقص وفقدان كل شيء امتلكته يوماً.

*

لدي حكاية أرويها عن الكلمات، الكلمات التي اختفت، كل الأماكن والشوارع والمعالم وخرائط المكان هي لغة لا أستخدمها قسراً منذ 401 يوم. أقول اسم المكان “مدينة غزة”، لكنّي لا أستطيع أن أجلس في سيارةِ أجرة وأخبر السائق أنني أريد النزول على رمزون الجامعات، أو رمزون السرايا، أو مفترق المجلس التشريعي، أو دوار العائلات، أو شارع عمر المختار، أو شارع الوحدة، وهكذا حتى أسرد كل العناوين التي أخبرتها لسائقي سيارات الأجرة للتحرك داخل المكان (قطاع غزة).

انعدمت أيضاً سبل استخدام لغة تحتوي على الكلمات التي كنت استخدمها لوصف حياتي، فمثلاً توقفت عن استخدام جملة ” تسرنا دعوتكم لحضور فعالية في جاليري 28 أو بيت الغصين” وكذلك جملة “إجازة في شاليه” وكذلك جملة ” طلبت سيارة”، ” ديلفري”، “سوبر ماركت”، “دكانة”، “مطعم”، وهكذا حتى تنتهي كل أسماء المطاعم والشركات والمحلات التجارية.

لدي حكاية أرويها عن الإبادة كيف دمرت كل العوالم التي عرفناها يوماً داخل قطاع غزة، وكيف بإدارتنا للحياة بنينا عوالم مؤقتة أثناء استمرار الإبادة، وكيف أننا سنختار دوماً الحياة والأمل في انتهاء الحرب وعودة الحياة. 

تُرى أي عوالم سنعيد بناءها..؟

***

يوم: -/ -/ –

لقد مرَّت أكثر من سنة الآن وأنا أتعرض لحرب إبادة جماعية مكثفة داخل قطاع غزة. وليس سهلاً عليَّ أن أتعامل مع الصدمات التي أتعرض لها والتي تدفعني لاتخاذ قرارات أنا نادم على معظمها الآن وأنا أكتب لك هذه الرسالة. وأتساءل كيف يمكن قراءة مستقبل الحرب وكيف يمكن قراءة الخطط التي يتم تنفيذها ضدي..؟ ولكن كيف أحاول النظر إلى المستقبل وأنا لا أستطيع ضمان الدقائق القادمة حياً..؟

يؤلمني توقع المستقبل والعمل على بناء مسارات له، كأنّي اعترف بالبتر، ولم تسلبني هذه الإبادة الأشخاص الذين قُتلوا، إنما تسلبني أيضاً امكانية التقائي مجدداً بكل أولئك الذين سافروا خارج البلاد هرباً من الإبادة. كُل هؤلاء أفقدهم مجدداً كُلما جرّبت أن أتخيل المستقبل وأصنع تمارين ومسارات لبناء أي فعل يُنقذني من الفراغ، والعجز المبني على الوقوع في هذا الفراغ.

الصمتُ يلتهمني، وذكريات الماضي لا تنفكُ تقفز أمامي، يؤلمني إدراك أن كل ما أراه في الصور المرفقة قد تم تدميره بالكامل، يؤلمني هذا الإدراك، لكنّي لا أنفكُ انظر إلى ما الذي لم تسلبه الحرب منّي، بالرغم من قسوة إدراك الذي تم سلبه بالفعل إلا أنني ما زلت أظن أنني أستطيع النهوض مجدداً إذا ما نجوت من هذه الحرب، وأنَّ كل الخسارات لم تسلب مني قدرتي على ممارسة فعل الإنتاج الثقافي. واعتقد أنَّ قُرابة عقدين من الحياة تحت الحصار دربوني جيداً على المرونة. لكنّي ما زلت أريد لهذه الحرب أن تتوقف.

يؤلمني توقع المستقبل، وتوقع الممارسات والأفعال والتمارين التي تفضي إلى إنتاج ثقافي أو فني، تُرى كيف سنتجاوز الرثاء والحزن على كل شيء مسحته آلة الحرب والإبادة الجماعية. كيف سأنجو..؟

يوم: – /- /-

ها أنا الآن/ مُحاصر داخل أرض المعركة/ الأرض من حولي حُفر محتملة لأحزمة نارية قادمة/ البنايات من حولي رُكام مُحتمل/ الشوارع والأرصفة ذكرياتٌ ستمحوها الجرافات والمُدرعات العسكرية/ الوجوه من حولي جُثث مؤجلة/ السماء من فوقي سحابات سوداء تنبعث من الأرض/ الأفق من أمامي جُدران مُغلقة/ المستقبل في خيالي لحظة موتٍ مؤجلة

***

يوم: – /- / –

أكتب الآن وأنا أبحثُ عن الأمل، وما أبحثُ عنه ليس شعوراً فقط، إنما تعريف وفهم المسافة بين اكتساب الأمل وفقدانه. 

*

أعيش اليوم 116 للحرب. 

*

استمعت لمناشدة طفلة من داخل مدينة غزة للخروج من سيارة تتعرض لإطلاق الرصاص من دبابة. برغم الخوف، كان الأمل عالياً في صوت الطفلة وهي تقول “عمو احنا محاصرين داخل سيارة والدبابة جنبنا تُطلق النار علينا”، ثم سمعت صوت صراخ الطفلة إثر تعرضها لأكثر من رصاصة قاتلة. لقد تأملت كثيراً اللحظات الأخيرة المليئة بالأمل في الحصول على فرصة للنجاة من الموت. لكنّ الوقت كان قد مضى وأصبحت الطفلة رقماً اضافياً لضحايا حرب إبادة الحياة داخل قطاع غزة.

*

أكتب الآن بلغة فقيرة، لم تعد كلماتي ومعجمي الشخصي مناسبة للحظة التي أعيشها، إذ أن كُل مفرداتي التي أفكّر باستخدامها في الكتابة تبدو مفردات ذات معنى لا يشرح ما نعانيه في الحرب، مفردات لا يمكنها شرح ما تغيّر في أسلوب حياتي ومبادئها. أخشى أن أقول: “نظرت إلى السماء” لأنَّ كُل نظرة هي لتتبع صوت طائرة حربية تريد أن تقصفنا. وأتجنب استخدام مفردة “صباح الخير” أو “مساء الخير” لأنَّ الخير يستحيل أن يأتي في سياق الحرب. وهكذا أمضي شاعراً دمّرت الحرب لغته وتركته إلى الخواء مشغولاً في البحث عن الأمان والأمل غير المضمون.

*

أكتب الآن بذاكرة بلا شواهد، كأنّي أشير إلى الفراغ كلما تذكرت أصدقائي، ولحظاتي السعيدة، وأماكني المفضلة، وأرصفة الشوارع، ومعالم المكان. وحدها تجربة زيارة أوروبا لمدة 45 يوم في صيف 2019 التي لم تتضرر حتى الآن، وما دون ذلك فإن تاريخي الشفوي الشخصي هو شاهدي الوحيد على من أنا ومن أكون.

الشخص الخائف الذي يكتب لكم ليس بطلاً ولا اسطورة، أنا كاتب من غزة لدي القليل من الأحلام البسيطة، أهمها أن أكون قادر على الحصول ما يكفي من الطعام والماء.

الشخص الخائف الذي يكتب لكم يتمنى أن تأتي لحظة يستطيع فيها البكاء على كُل ما سلبته الحرب ويتعافى من ظلامٍ يأكله.

الشخص الخائف الذي يكتب الآن، يتمنى أن يكون شخص عادي جداً لا أكثر.

***

يوم: -/ -/ –

أربعةُ أسابيع الآن، خارج البيت. 235 يوم خارج سياق الحياة. فقط صرتُ أعرف الوقت والطريق الذي أحتاجه للحصول على مياه الشرب. لا اتجاهات لديّ، إنها فقط المياه في الغرب، البحر الأبيض المتوسط الذي تحد السفن الحربية مداه. لا اتجاهات لدي، لقد جئت من الشرق الى أقصى نقطة لليابسة باتجاه الغرب. الجيش يمنعني من الذهاب جنوباً، شرقاً، شمالاً. لا اتجاهات لدي، الدبابات تطلق قذائفها في كل مكان، المنطقة الآمنة هي ذاتها منطقة القتال الخطيرة قبل قليل، أو بعد قليل. لا اتجاهات لدي، الرمادي يتصاعد من الأرض يغطي مدى الجنوب، مدى الشرق، مدى الشمال. لا اتجاهات لدي، دماء الضحايا تتطاير بالقرب مني وأنا لا حول لي ولا قوة، وأنا لا بيت لي ولا مأوى. لا اتجاهات لدي، الحرب تتغذى على كرامتي، الحرب تستهلك مواردي، الحرب تأسر المستقبل، الحرب تقتل الحاضر وتؤجل مشاعري. لا اتجاهات لدي، لا أشعرُ بشيء، لا أنتبه كيف أتكلم بكلمات لا أشعرُ بمعناها.

***

يوم: -/ -/ – 

لدي أمل بغدٍ تتوقف فيه حرب الإبادة ضدنا، أواجه الصعاب والعقبات ويلفني الخوف ورغم ذلك أريد أن أكون على أمل، لكنّ الأمل ثقيل حمله، والصبر على الأمل أثقل.

***

يوم: – / -/ –

تُرى أين أجد المعنى وسط هذا الخراب، تُشير التقارير الأولية إلى أنَّ العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزة أسفرت عن تدمير 80% من البنية التحتية والمباني داخل القطاع، وأنَّ إعادة إعمار هذا الدمار تحتاج إلى سنوات عديدة. أنا لا أعرف حتى الآن من أي مستوى للخسارة ستبدأ مرحلة التعافي والاستعادة.

لا أريد أن أنسى من أنا، مئة وخمسون يوماً من الحرمان، ليس مهماً أن تُحب الطعام المُقدم لك أو لا تُحبه، المهم أن لا تموت من الجوع. ليس مهماً أن يكون الماء كما تفضله للاستحمام، المهم أن لا تُصاب بأمراض تسببها عدم النظافة الشخصية. ليس مهماً أن تختار أين ستذهب اليوم وماذا ستفعل، المهم أن تجد مياه الشُرب.

لا أريد أن أنسى من أنا، خمسة أشهر من اختفاء المكان، وانحسار مساحة العيش على البيت ومحيطه ودروب مياه الشُرب والطعام، لا أسواق، ولا محلات تجارية، ولا عيادات، ولا مطاعم، ولا كافتريات، ولا فعاليات مجتمعية، ولا حفلات موسيقى وحفلات زواج، حتى شكل الجنازة سلبوه منّا. يُقتل الإنسان هُنا ورُبما لا يجد من يدفنه ولا من يلقي عليه نظرات الوداع الأخيرة.

لا أريد أن أنسى من أنا، كاتباً وناشطاً ثقافياً داخل مُجتمع يُعاني من حصار خانق منذ 2007م، أقضي أيامي وأنا أسعى إلى وجود مساحات ذاتية التنظيم تمنح الكُتّاب والفنانيين الشباب من كلا الجنسين منصة لتقديم أعمالهم الإبداعية لجمهورهم المحلي والإقليمي والعالمي، كُنت على مدار العشر سنوات الأخيرة أكتب وأشارك وأُجرب في صناعة الثقافة من خلال مجلة 28 ومساحة (الجاليري) وبيت الغصين الأثري الثقافي، لقد كانت حياة مليئة بالتحديات وبرغم ذلك كُنّا نستطيع العثور على الأمل والفرح والإنجاز رغم كُل شيء.

لا أريد أن أنسى من أنا، الركام أمامي هائل، الركام في كل شيء، الركام في السماء والسحاب الأسود، الركام في أصوات العصافير، الركام في الريح، الركام في الخيال، الركام في الذاكرة، الركام في علاقتي بالمجتمع، الركام في كل شيء.

لا أريد أن أنسى من أنا، شاب من غزة عمره 33 عام، متزوج ولديه طفلان، يحلم بأن تسمح له الفرصة لحياة في مكان لا تهدده احتمالات الدمار، شاب وُلد في غزة ويتمنى أن تُعطيه الأقدار فرصة لاكتشاف الحياة بدون حصار وحروب، شاب من فلسطين يبحث عن مكان حقيقي يشعر فيه بمعنى الأشياء من حوله، سماء عادية رُبما تحلق فيها الطيور والطائرات المدنية، بحر أو مُحيط أو نهر لا تقف فيه الزوارق الحربية مثل فزّاعات الحقل، أرض وحقول وأشجار لا تحدها أبراج المراقبة والدبابات.

لا أريد أن أنسى من أنا، لا أريد أن أفقد إرادتي في اختيار الحياة.