رغبتُ بالنوم لأسبوعٍ كامل أو أكثر، بعدَ عودتي من تونس إلى الأردن، لم يكن ذلك بسبب التعب عقب قضاء 10 أيام في رحلة عمل، بل بسبب حُزني الشديد إزاء عودتي لبلدي. تذكرتُ حديثًا لصديقي والطائرة تُقلع بنا، قال إن هناك “فلتر” أصفر في سماء الأردن يُشعرك بالكآبة ما أن تمر به.
هذا الشعور يُشاطرنا به آخرون، وهو ما جعلني أتساءل “لمَ نشعر بالحزن حين العودة إلى بلداننا؟”، “لماذا نُصاب باكتئاب ما بعد السفر وننهار بُكاءً في غُرفنا؟”، “هل هذا هو شعور العودة إلى الأردن أم هي حالةٌ عامة للبلدان من حولنا؟”، “لماذا يُحزننا الرجوع إلى الوطن؟”.
في اليوم الأول الذي خرجتُ به لمقابلة أصدقائي بعد عودتي من السَفر، -وكنتُ قد خرجتُ مُجبرةً لأودّع صديقي المُسافر-، بكيتُ كثيرًا أثناء طريق العودة إلى المنزل، أذكر أنني مشيتُ لأكثر من ساعةٍ والهواء البارد يصطدم بجسدي دونَ أن أُعيرهُ اهتمامًا، رأيت “خطَّ الباص” سريع التردد، ومشفى الحسين للسرطان، ولافتةً إرشاديةً كُتِبَ عليها “صويلح”.
توقف سائق سيارة أُجرةٍ بالقرب مني وهو يسألني “وين رايحة يختي؟”، في تونس لا يقولون “يختي” أو “يا حجة”، يقولون “مدام”، فتشعرين بأن الجميع يحترمونك ويستخدمون الكلمات اللطيفة لمخاطبتك، هل فكَّر أحدٌ من قَبل كم تنزعج النساء من استخدام كلمة “حجة”، مثلًا؟
ارتديت في ذَلك اليوم وشاحًا كان قد أهداني إيَّاه أحد أصدقاء السفر قبل أن نودّع بعضنا، لم يكن ذلك الوشاح محض قطعةٍ عاديّة، بل كان مليئًا بكل تلك الذكريات التي نسجتها مع الأشخاص في تونس، بنقاشاتنا واختلاف لهجاتنا خلال الحديث، بضحكاتنا وسهرنا وعملنا الطويل، ولم أتوقف للحظةٍ عن البكاء وأنا أحتضنه وأتذكرهم، واقترح أحد الأصدقاء أن نتبادل الهدايا أو ما يذكّرنا برحلتنا، ولهذا أيضًا قامت صديقتي بشراء البطاقات التذكارية لنكتب الرسائل لبعضنا.
شعرتُ بالحزن يغمرني، لم تكن مرتيَّ الأولى في السفر ولقاء الناس، إلا أنهُ الشعور الذي يُصاحبني في كل مرةٍ أُسافر فيها وأرجع للأردن، تساءلت إن كنتُ أكره بلدي؟ لا، لا أكرهها، لكنني أكره وجودي فيها، ولا أشعر أنني راغبةٌ بمغادرتها، ومع ذَلك أبكي في كل مرةٍ أعودُ إليها.
أنظرُ لصوري التي التقطتها في بلادٍ أُخرى، لِمَ أبدو سعيدةً إلى هذه الدرجة؟ لا تظهرُ مشاكلي حيال شكلي في هذه الصور، بل أظهر بأبهى صورة، جميلة، وسعيدة، وأضحك! هل هذه السعادة غير موجودةٍ في الأردن؟ بلا شك أنني أراها هنا، أُحب عائلتي، وأصدقائي، أُحبُ عمّان، لكنني لست سعيدة، منذ متى توقفت عن الشعور بالسعادة؟ هل كان ذَلك عقب أول سفرٍ لي عام 2022؟ لا أدري.
سمعت أحدهم يُجيب حين سؤاله عن تعريفه للقبيح، بأنها مشاعره تجاه الأردن، بدا الأمر كئيبًا وحزينًا جدًا؛ لدرجةٍ جعلتني أرغب باحتضان كل ذلك الألم الذي بدا عليه وهو يتحدث، كيف انطلت هذه البلد بكل هذا القُبح والحُزن؟ تذكرت ما يقوله عزت القمحاوي في كتاب غرفة المسافرين بأننا “لا نحدق بالجميل إلا ونصبح أكثر وعيًا بعيوبنا”، ولعل هذا أحد أبرز الأسباب التي تصيبنا باكتئاب ما بعد السفر أو الحزن أو المشاعر السلبية التي تنتابنا حيال الأماكن التي عشنا وترعرعنا فيها، لا أدري ما الاسم المناسب لأطلقه على هذه المشاعر، لكنني أعي لونها، إنها زرقاء، تمامًا كما لون الوشاح الذي أعطاني إيّاه صديقي، أزرق جدًا، ممتلئُ بالزراق، فهل المُشكلةُ فينا أم بالأماكن نفسها؟
يشعر الأشخاص الذين يسافرون لفترةٍ طويلةٍ بالغربة إزاء عودتهم لأوطانهم ويحزنون، فكلُ شيءٍ تغيَّر وبات فارغًا منهم، الأماكن الاعتياديّة والأشخاص، أمّا من يُسافرون لفتراتٍ قصير، فيعودون لمواجهة الأماكن والأشخاص الذين هربوا منهم، وينظرون للحياة المُعتادة بشكلٍ جديد وبنظرةٍ جديدة، لا العائدون هم أنفسهم ولا الناس الذين تركوهم ظلّوا على حالهم، وكما قيل، السفرُ والعودة، هما مجازا الحياة والموت.
سلسلة من المقارنات
في خضم أفكاري عن السفر والحزن الذي ينتابنا، سألت غزل محمد، العشرينيّة التي قضت جلّ طفولتها في السعوديّة قبل الانتقال إلى الأردن، حول مشاعرها عقب عودتها إلى هذه البلاد التي تحمل جنسيتها.
أخبرتني غزل عن العلاقة السيئة التي تشكّلت بينها وبين السعوديّة، المكان الذي كان يضع قيودًا على النساء، لكنها أحبّت البلد لتواجد أهلها فيه، كانت مُقربةً من عائلتها بدرجةٍ جعلتها تفتقدهم بشدة بعدَ سفرها إلى الأردن ثُمَ توجهها إلى مصر.
وفي مصر بَنَت رابطًا مع الأماكن من حولها، وكانت تعيش بتكاليف ماليةٍ أقل من تلك التي تحتاجها في الأردن، وأمكنها التوجه للمصيف أو إيجاد أماكن ترفيهيّةٍ هنا وهناك، هذا الخيار الذي لا يُعدُ مُتاحًا في الأردن، فأماكن الترفيه أسعارها عالية، والبحر الوحيد موجودٌ في مدينة العقبة (جنوبيّ الأردن ويبعد قُرابة الـ6 ساعاتٍ عن العاصمة عمّان) وهي مسافةٌ بعيدةٌ إذا أضفنا لها عدم توفر المواصلات العامة باستثناء المواصلات الخاصة التي تحتاج نحو (20 دولارًا للفرد الواحد كثمن تذكرةٍ للحافلة)، هذا باستثناء أنَّ البحر الميت والذي يبعد مسافة ساعةٍ عن العاصمة عمان لا توجد مواصلاتٌ عامةُ مؤمنةٌ له، ويهدده الجفاف.
كما أنَّ أماكن الترفيه غير متاحة وتقتصر على المقاهي الشعبية أو الثقافيّة وبأسعار مرتفعة، ولربما هذا هو السبب الذي يدفع معظم الشباب للخروج للمطّلات أو الاستمتاع بقيادة السيارة، وهو ما لم يعد مُتاحًا كما السابق بعد ارتفاع أسعار الوقود، فقد تصدّر الأردن قائمة أعلى الدول العربيّة بأسعار الوقود لعام 2024 بعد أن كان الثاني عربيًّا بعد سوريا عام 2023؛ بحسب بيانات موقع غلوبل بترول برايسس.
والأردن واحد من الدول العربيّة التي تعاني ارتفاعًا في تكاليف المعيشة، في ما يتعلّق؛ بالسكن والتعليم والرعاية الصحيّة، وتحتّل العاصمةُ عمّان مرتبةً متقدمةً في قائمة المدن الأعلى تكلفة في العالم العربي، ووفقًا لمؤشر تكلفة المعيشة العالمي فإنَّ تكلفة معيشة شهرية لعائلة مكونة من 4 أفراد تصل إلى حوالي 1819.7 دينار أردني (نحو 2505.09 دولار)، دون احتساب الإيجار.
تجربة رؤية العالم للمرة الأولى تضعك وسط سلسلةٍ لا منتهيةٍ من المُقارنات التي قد تقذفك بوجه الحقيقة وهي أنك غير قادرٍ على العيش وسط بلادٍ كل ما تطلبه منها هو الحياة!
ولا يتماشى الدخل الفرديّ في الأردن مع ارتفاع تكاليف المعيشة، بحسب تقرير المنتدى الاقتصاديّ العالميّ، وهو ما يؤدي – بالضرورة- إلى ضغطٍ اقتصاديٍّ على الأسُر.
يعد الوضع الاقتصادي واحدًا من أبرز الأسباب الذي يدفع الأشخاص للسفر إلى دولٍ أُخرى تمكّنهم من الاستمتاع بأسعار أقل وخيارات سياحية متنوعة؛ لذا فإن العديد من الأردنيين يختارون السياحة الخارجية بسبب الأسعار المرتفعة في الداخل؛ إذ تراجع الدخل السياحي الأردنيّ بنسبة 4.3% في عام 2024، وهو ما يعكس تأثير الغلاء على السياحة؛ فالقطاع يواجه تحديات كبيرة تؤثر على قدرة الأردنيين على الاستمتاع بالسياحة.
ولذا فإن تجربة رؤية العالم للمرة الأولى تضعك وسط سلسلةٍ لا منتهيةٍ من المُقارنات التي قد تقذفك بوجه الحقيقة وهي أنك غير قادرٍ على العيش وسط بلادٍ كل ما تطلبه منها هو الحياة!
لماذا نحزن؟
لا يعد اكتئاب ما بعد السفر وهمًا أو حالةً بلا تعريفٍ طبي، فهو الشعور بالقلق والخوف من العودة للحياة الحقيقية بعد انتهاء السفر أو الإجازة، وبشكلٍ خاص إذا كانت الإجازة جميلة وممتعة، وساعدت الشخص على التخلص من التوتر والضغط الذي تسببه له الحياة اليومية؛ وهذا بحسب تعريف موقع عرب ثيرابي المختص بالطب النفسيّ.
ويُعزى لانخفاض مستويات الأدرينالين بعد العودة للاستقرار والحياة اليوميّة والعودة للروتين، وفي بعض الحالات لا يشعر الشخص بالتحسن من اكتئاب ما بعد السفر، وتستمر الأعراض ذاتها التي تستوجب الحصول على الاستشارة النفسية من قِبل الأخصائيين النفسيين.
أذكر حديثًا دار بيني وبين إحدى صديقاتي التي أخبرتني أنها حجزت موعدًا مع المعالجة النفسيّة خلال نزولها من الطائرة عُقب وصولها إلى بلدها؛ لأنها لم تعرف كيف ستُمضي أيامها وكل هذا الحزن يعتريها.
لا تملك غزل إجابةً واضحةً عن سبب الحزن الذي أصابها عند العودة إلى الأردن بعد سنواتٍ قضتها في الدراسات العليا بمصر، لكنها تصف الاستقرار في البلد بأنه مليءٌ بالسوداويّة التي يمكن استشعارها أكثر في وجوه الناس “بتستشعري قديه البلد غالية وقديه كئيبة”.
كما لا يتوقف الحال هنا، بل يمكنك أن ترى كلمات غزل في وجوه الشبان الذين يمتلكون إمكانياتٍ ومعرفةً شخصيةً تتحطم عند أول منعطفٍ ماديّ وتدفعهم لـ”المعافرة”من أجل حياةٍ أقل من المتوسط.
ينسيك السفر أو يجعلك تتناسى المكان الذي تعيش فيه ومشاكله، فتجدك تطرح على نفسك أسئلةً من قبيل “هل كان الأمر بهذه الصعوبة لتجهيز مثل هذه المقاعد؟”، أو “لماذا لا نكون مثلهم؟”
ولا تنفك الفتاة تقارن مصر بالأردن، التي تعدُ أغلى منها بمراحل، ووفقًا لمؤشر تكلفة المعيشة العالميّ، فإنه وبمقارنة كُلف المعيشة في العاصمة عمّان مع العاصمة المصرية القاهرة، فإن أسعار المستهلك في عمّان أعلى بنسبة 48.1% عما هي عليه في القاهرة (بدون الإيجار)، وأسعار الإيجارات في عمّان أعلى بنسبة 56.8% ،وأسعار المطاعم في عمّان أعلى بنسبة 55.3%، وكذلك أسعار البقالة أعلى بنسبة 34.4% ؛ لذا لا أستغرب إحساس غزل بالفرق بين البلدين، خاصةً حديثها عن ما يفتقر إليه سكان الأردن وهو الاستمتاع بالحياة، “احنا هون الهَم ماخدنا لدرجة ما بنقدر نسرق لحظات الفرح بس بمصر غير، الكل بيقدر يصيّف والكل بقدر يروح رحلات جوا البلد، غير عن هون”.
أتساءل بالفعل عن حقيقة الاستمتاع بالحياة؟ هل يرتبط هذا الأمر مع الإيجابيّة؟ ألا يمكن أن يكون الإنسان مستمتعًا بحياته وسلبيًا في الوقت نفسه أو لنقل واقعيًا؟ رُبما عدم الاستمتاع يجلب الكآبة، فتغدو حتى صورنا في الخارج أكثر جمالًا وبهجة، ونغدو لا نعرف أنفسنا، إذ ينعكسُ الفرحُ على ملامحنا ويغيّرها، فنشارك صورنا ونحن خارج البلاد عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ، رُبما كنوعٍ من الإثبات للذات بأننا سُعداء وقادرون على الابتسام خارج حدود الوطن.
تظهر حقيقتنا
ولعل ابتساماتنا تُسرقُ منا ما أن نرجع إلى أرض الوطن لنصطدم بالواقع الذي ينتظرنا هنا وهناك، وقد يكون ما شاركني إيّاه مهند جويلس، وهو صحفيٌّ رياضيٌّ سافر لتغطية مباريات كرة القدم في دولٍ مثل ألمانيا وماليزيا، خبرةً عمليةً لخّصها بأنَّ الإمكانيات واحترام الصحفيين واللاعبين كان واضحًا في الخارج، ليعود للواقع الأردنيّ ويشعر بالحزن لما تعيشه الملاعب هنا.
بالمقارنة بأكبر الملاعب خارج الأردن وتغطيته لمباريات نهائي كأس آسيا فقد كان يُعامل باحترامٍ دون أن يتم توقيفه عند بوابات الملعب، أو يتعرض للمضايقات والأسئلة حول سبب وجوده ومن هي الجهة التي يغطي لحسابها وغيرها من الأسئلة، أما في الأردن “ملعب صغير وبصير ألف حدا يدقق وراك مين انت وشو معك وشو بتسوي جوا وغير انه فش كراسي نظيفة ومليون شغلة”.
ينسيك السفر أو يجعلك تتناسى المكان الذي تعيش فيه ومشاكله، فتجدك تطرح على نفسك أسئلةً من قبيل “هل كان الأمر بهذه الصعوبة لتجهيز مثل هذه المقاعد؟”، أو “لماذا لا نكون مثلهم؟”، ورُبما ترفض أن تستسلم للإجابات التي تُعدُّ واقعًا حقيقيًا بأنَ لا مانع من ذَلك، إذًا لماذا لا نكون؟ لا تعرف وإن حاولت أن تعرف أكثر قد تغدو فضوليًا تخشى السلطات من أسئلتك التي لا ترويها إجابةٌ مثل؛ “ما فيش موارد” أو “همه دول عالم أول”.
بالتفكير بالسفر بشكلٍ عام، يذكر عزت القمحاوي في نفس الكتاب أنَّ السفر يخفف من ارتباطات الإنسان بماضيه وتقاليده، ويكون المرء جاهزًا للعودة إلى البداية الأولى وهو اكتشاف لأنفسنا أكثر مما هو اكتشاف للمكان المُختلف، حيث نصبح أكثر قدرة على تقدير مشاعرنا بعد الانتقال إلى عالمٍ آخر، ويُعمّق السفر العلاقة بين الإنسان وذاته.
أتذكر ما قالته غزل حول شعور العائلة والمجتمع الذي يُحاصرك فتغدو لا تُشبهُ نفسك، يساعدك السفر على اكتشاف جوانبك ومن تكون وكيف تكون، وجودك خارج بلدك يجعلك أكثر راحة تجاه تصرّفاتك والتصالح مع ذاتك؛ لتكتشف أن عودتك إلى أرض الوطن ترجعك خطوةً للخلف بدل التقدّم للأمام “ما بعرف ليش، بس بحس اني مش مقدّرة في بلدي كعلم وإنجاز وشخصية”.
أخبرتني صديقتي من قَبل بأن السفر يخرج نسخةً جديدةً منها في كل مرة، الفتاة القوية غير الخجولة وغير الصامتة طوال الوقت، الفتاة التي تُحبُ الرقص وتجربة كل ما هو جديد، غير المتوترة، الشجاعة، وهو ما بدى غريبًا بالنسبة لي لأن هذه هي الصفات بالفعل التي كُنتُ أراها فيها خلال معرفتنا خارج البلاد، إلا أنها قالت إن نسختها في الخارج تكون أكثر قدرةً على الحُب والإبداع والخفة، تُصبحُ شخصًا آخر لا تعرفه، ومن المحزن أنَّ دموعها لا تتوقف خلال رحلة عودتها إلى بلدها.
حديثها ذكّرني بكلام أحد أصدقائي الذي سافر للعمل على فلمٍ في إحدى الدول الإفريقيّة الفقيرة، وكان بالكاد يجد الطعام ليأكله، والبلد ذاته يعّج بالأمراض التي من الممكن أن تقتل المرء في أية لحظة! وبعد شهرين من رحلته انهار باكيًا عند عودته إلى الأردن، لم يكن يريد العودة، ولا يعرف سبب هذا الحزن الذي ملأ قلبه حين رجع إلى عمّان! شعر بأن البلاد أصبحت أضيق وأنَّه لم يعد جُزءً منها، وأن حياته خارج البلاد جعلته أكثر حريةً وخفة، وتأكد من رغبته بترك عائلته والسفر مرةً أُخرى، لم يكن مُشتاقًا لشيءٍ أكثر من نفسه في الخارج.
بعيدون عن الوطن مليئون بالحريّة
سافرت هناء سالم، السيدة الأربعينيّة إلى إيرلندا عدة مراتٍ كان آخرها في العام الماضي، ولم تختلف تجربتها عن تجارب الآخرين بتوقها لوضعٍ ماليٍّ أفضل، وتقرّبها من ذاتها خلال السَفر، إلا أنَّ أكثر ما لفتها هي المظاهرات الداعمة لفلسطين والرافضة للإبادة في غزة دون أية علاماتٍ لقمع السلطات لهم أو اعتقال المتظاهرين، وهو ما جعلها تشهد الحُريّة على أصولها -كما تصفها- للمرة الأولى دون خوف “هون بالأردن ما بقدر الواحد يطلع ع المظاهرات، بخاف من الاعتقال والضرب”.
ومنذ 7 اكتوبر/ تشرين أول 2023، اعتقلت السلطات الأردنية ما لا يقل عن 1500 شخص في أعقاب احتجاجات ضخمة أمام السفارة الإسرائيلية في عمان، وانتشرت عدة مقاطع مصوّرة عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ منذ بدء طوفان الأقصى تظهر بعض رجال الأمن الأردني وهم يعتقلون مجموعة من المتظاهرين في العاصمة عمّان ويلقون القنابل المسيلة للدموع ويعتدون بالضرب بالهراوات على المتظاهرين، في حين ضمّت المظاهرات نساءً ورجالًا وأطفال، واستمرت الاعتداءات إلى حين فرض الأمن ساعاتٍ محددةٍ لبدء وانتهاء المظاهرة بعيدًا عن محيط السفارة الإسرائيليّة، في ما وصفه البعض ساخرين بتحوّلها لـ “كرنفال”.
واعتقل ثلاثة أردنيين على خلفية دعم المقاومة، ويحاكمون بتهمة بمحاولة إيصال أسلحة للمقاومة الفلسطينية في شمال الضفة الغربية، بينما مارست جامعاتٌ أُردنيّةٌ التضييق على طلابها عقب تضامنهم مع غزة، وأصدر المرصد الطلابي بياناتٍ عدةً آنذاك قال فيها إنه يتابع ما جرى من انتهاكات حقوقية في عدد من الجامعات الأردنية بإصدار عقوبات بحق مجموعة من الطلبة بسبب تفاعلهم مع قضية غزة وتضامنهم مع أهلها وحقها في المقاومة.
ونشرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريراً في شهر فبراير من العام الماضي، قالت فيه إنَّ السلطات الأردنية اعتقلت وضايقت عشرات الأردنيين الذين شاركوا في احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جميع أنحاء البلاد أو شاركوا في المناصرة عبر الإنترنت منذ أكتوبر- 2023، ووجهت إلى بعضهم اتهامات في إطار قانون الجرائم الإلكترونية الذي لاقى انتقادات واسعة.
لم يتوقف الاعتقال على المشاركة بالمظاهرات، بل كانت الاستدعاءات الأمنيّة لأسباب تتعلق بالهتاف أو التغريد عبر موقع التواصل الاجتماعيّ “إكس”، ووجّه المدعي العام – آنذاك- لمعظم من تم إلقاء القبض عليهم في المظاهرات تهمتي “التجمهر غير المشروع” و”إقلاق الراحة العامة”.
ما يحدث كان كفيلًا بجعل هناء تقلق من المشاركة في مظاهرات الأردن، وبدت مُستغربةً من المظاهرات الإيرلندية وتعاون الشرطة ووجودهم لحماية المتظاهرين، ورفع سقف الهتافات والمطالبة بوقف الإبادة ومحاسبة المجرمين دون أي قلق.
لماذا يشعر البعض منا بالأمان والراحة حين التعبير عن آرائهم خارج حدود بلادهم؟ ولمَ امتلأت هناء بكل تلك المشاعر وكأنها في بلادها بينما هي تبعد عنها آلاف الأميال في إيرلندا؟ ولمَ استمرت بإخباري بأنها لولا عائلتها لما عادت إلى الأردن؟
لعلني هنا أُشاطر هناء مشاعر الخوف هذه، فحين سافرت عام 2023 لتغطية قمة المناخ في دبي، كانت هناك مُظاهراتٌ لنشطاء يتضامنون مع غزة وكنت أشعر بالخوف عند اقتراب رجال الأمن التابعين للأمم المتحدة، بأشكالهم الضخمة وبناهم الجسديّة القادرة على تحطيمي مباشرة، خفتُ أن يعتقلوني لأنني أقوم بتغطية المظاهرة صحفيًّا وكان عقلي مُتحفزًا للركض في أية لحظة، فقد اعتدت الجَريَ خلال تغطيتي للمظاهرات في الأردن ولحظات فضّها بالقوة وتوثيقي إلقاء الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين، ولا ينفصل المشهد في ذاكرتي عن أولئك الشبان الذين ارتموا على الأرض إثر استنشاقهم الغاز.
لا أدري بالفعل لمَ يتظاهر الإيرلنديون بكل إخلاصٍ مع القضية الفلسطينيّة، تقول هناء بأن تاريخهم المناهض للاستعمار وثورتهم عليه قد جعلت منهم شعبًا وفيًّا لفلسطين راغبًا بأن تنال حرّيتها هي أيضًا، وهذا الحال ينطبق على العديد من شعوب العالم. وأتذكر حديثًا دار بيني وبين صديقي جون عن هذا الأمر، وهو من إقليم الباسك شماليَّ إسبانيا والذي احتله الإسبان وقاوم شعبه وانتفضوا قبل أن يصلوا للحكم الذاتيّ. كان جون يتحدث باستمرار عن ارتباط الناس هناك بالفلسطينيين وعن الانتفاضة التي تُشبه انتفاضتهم للحصول على حرّيتهم، وحين زارت صديقتي جون في بلاده وجدت أعلامًا لفلسطين، وكتاباتٍ عنها هناك، وكأن الشعوب الحرّة تتوق للحريّة دومًا في كل مكان، وترفض الاستعمار.
إذًا، ماذا عنا؟ هل يخاف الأردنيون؟ من ماذا تحديدًا؟ لمَ يثور “الوطنجيون” حين نأتي على ذكر الاعتقالات، وأسميتهم “وطنجيين” من باب السُخرية، فهم أبعدُ ما يكونون عن الوطنيّة، لكنهم يدّعون أنهم كذَلك ليعطوا لأنفسهم الحق بالدفاع عن الصالح والطالح في البلاد، بينما الأصل أن نُشير على الطالح حتى لا ينتشر، وحتى لا يغدو مجرد عيشنا هنا منهكًا جدًا، وأعتقد – شخصيًا- إذا كانت الشعوب تتوق لتحرير فلسطين، فإننا – كأردنيين- أولى الناس بهذا التوق؛ لأنَّ أطماع إسرائيل تتجه إلينا تاليًا، ولأننا الهدف الآخر بعد فلسطين، فَلِمَ يتم اعتقال الشباب الذين هم بالأصل يدافعون عن مستقبل هذه البلاد المهدد بشكلٍ دائِم قبل الدفاع عن أيِّ شيءٍ آخر؟
لماذا يشعر البعض منا بالأمان والراحة حين التعبير عن آرائهم خارج حدود بلادهم؟ ولمَ امتلأت هناء بكل تلك المشاعر وكأنها في بلادها بينما هي تبعد عنها آلاف الأميال في إيرلندا؟ ولمَ استمرت بإخباري بأنها لولا عائلتها لما عادت إلى الأردن؟ وما تزال تخطط أكثر وأكثر للسفر والاستقرار في بلدٍ آخر بعد كل هذا الحزن الذي يصيبها حين الرجوع إلى البلاد.
ما هو الوطن؟
إذا لم تكن العائلة أو الأرض كافيين للشعور بالسعادة عقب العودة للوطن، فما هو الوطن إذًا طالما لا نشعر بالانتماء له لدرجة الشعور بالراحة فيه؟
سألت صديقي جون ذات يوم إذا ما كان يشعر باكتئاب العودة للوطن حين عودته إلى إسبانيا؟ نظر لي مُتعجبًا وكذلك فعلت حبيبته ميرن، قالا إنهما يرجعان إلى منزلهما ويشعران بالدفء هناك، فلماذا سيكتئبان عند عودتهما للوطن؟ أو بتعبيرٍ أدق “للمنزل”.
شعرتُ بسخافة سؤالي وعمقه في الوقت ذاته، لماذا نكتئب أو نشعر بالحزن عقب عودتنا للأردن؟ تذكرت اقتباسًا قرأته في إحدى روايات غسان كنفاني، رواية عائد إلى حيفا، “أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو أن لا يحدث ذلك كله!”.
ما هو الذي لا يحدث يا غسان؟ سألتُ هذا لصديقي مازن عصام، الثلاثينيُّ الذي عُرف ببغضه لهذه البلاد ولشعور العودة إليها، أو رُبما أنا عرفتُ عنهُ ذَلك. لماذا يبدو مازن حزينًا حين يتحدث عن الأردن، ما الذي أذاقته إيَّاه هذه الأرض ليشعر بالحزن إزاء العودة إليها؟
مازن انتقل للعيش خارج عمّان، حين كان في الرابعة عشر من عمره، كان متحمسًا للالتحاق بالمدرسة ومقابلة الأصدقاء، إلا أنهُ صدم بردة الفعل حين عرّف عن نفسه بأنه أردنيّ لكن أصوله من نابلس، إذ قام الطلاب بضربه بعد المدرسة، وعُرف بعدها بمازن الفلسطينيّ بين أبناء الحيّ، لم تكن الكلمة إلا وصفًا بأنهُ دخيلٌ على البلاد، رُغمَ أن أكثر من مليونيّ شخص من أصولٍ فلسطينيّة يحملون الجنسيّة الأردنيّة ويعيشون في الأردن، وهو ما يجعل من الطبيعي – بنظري على الأقل-، أن لا تُصدم عند معرفة شخصٍ من أُصولٍ فلسطينيّة.
حاول مازن التقرّب من الآخرين بصفته أُردنيًا، فهو قد وُلدَ في الأردن ويحمل الجنسيّة الأردنيّة، إلا أنَّ الآخرين عاملوه بصفته فلسطينيًّا “مجنّسًا” لا يحقُ لهُ إبداء رأيه فيما يتعلّق بالبلد أو انتقادها، “في الأردن إذا بدك تحكي أي شيء يتعلّق بالأردن أو تنتقد حتتجرد من وطنيتك”.
لطالما آمن مازن بأنه وبعد تحرير فلسطين سيزورها بلا شَك، لكن بيته وعائلته وأصدقائه في الأردن، غير أن الأخير يرفض الاعتراف به، وهو ما دفعه للتفكير في فلسطين وخيار العودة لها بعد التحرير ليُصدم بالواقع الذي يُخبره بأنه غير قادرٍ حتى على الحديث عن فلسطين “ما بقدر أنقُدها زي أي فلسطيني، أو أحكي عنها، ما عشت فيها”.
“فأنا شو؟”، السؤال الذي يطرق رأس مازن باستمرار، ويخبره بأنه ولد في الشتات وسيظل طوال عمره في الشتات! كل تفكيره يتمحور حول تذكرةٍ بلا عودة للأردن، وإن كان شخصٌ ما من أمثال الذين قابلوا مازن في طفولته سيقرأون الأسطر الأخيرة فلن يترددوا بإخباره “مش عاجبك اطلع برا البلد”، لكنه يُحاول ولا يمكنه ذَلك، مع التأكيد بأنَّ لا أحد يملك الحق بتقرير من يظل بالبلد ومن يُغادرها أيًّا كان.
خارج الأردن، مهما واجه مازن صعوبات سيظل متيقنًا بأنه يُدرك من أعماق قلبه بأن هذا البلد “مش وطنه” الذي يرفض أهله الاعتراف به؛ لذا يمكنه التعامل مع كونه غريبًا، أمَّا في هذه المساحة فهو دائمًا يعيشُ في وطنِ لا يعترفُ فيه.
إذًا، هل تكفي العائلةٌ لتكون الوطن؟ أو هل يكونُ شخصٌ واحدٌ تعبيرًا عن الوطن؟ ماذا عن الأرض؟ ألم تمنح لنا من المُستعمرين الذين قسّمونا برغبتهم وكيفما يشاؤون؟ فرُبما كان أحدنا ليكون الآن مصريًا بدلًا من فلسطينيّ، وربما كنتُ لأكتب هذه المادة عن اكتئاب العودة إلى دمشق بدلًا من عمّان؟ فهل تولدُ هذه المشاعر تجاه الأرض معنا أم تُزرع بناءً على إرثٍ توارثناهُ إزاءها رُغم أنَّها من أعقاب المُستعمر الذي جاء إلى بلادنا وقسّمنا حسب ما يشاء؟
ما هو لون الغربة
إن كان للغربة لون فلن يرتبط بالحزن بالتأكيد، هذا إذا ما ارتبط الحزن بالأوطان؟ فالغربة بمجملها تكون صعبةً لأنها مُرتبطةٌ بالوحدة، فإذا ما زالت الوحدة واستطعنا التأقلم لرُبما تغدو الأمور أسهل، لربما نُحبُ غُربتنا.
يميل البعض للشعور بالسعادة في الخارج لما يرونه من جمالٍ بصريٍّ قد يكتمل إذا ما عُزز بصحبةٍ تهوّن السَفر، أو غرباء باتوا أصدقاء وبتنا نتشاطر معهم يوميّاتنا ومغامراتنا، ولعل الأوطان تكون غريبةً أحيانًا أو نكون غرباء فيها؛ فالذكريات والرفاق والأماكن تتغير حين تفقد الشعور بالراحة في بلادك وتشعر بأنها جزءٌ منفصلٌ عنك ولا تُشبهك!
وربما لا يجد الروائي أحمد خيري العمري الغربة سيئةً، وخاصةً تلك البعيدة عن البلد، فنراه يقول “بقدر ما تأخذ منا الغربة، فهي تعطينا، بالذات هي تعطينا فيما نتوقع أنها أخذت منا، تأخذنا من أولوياتنا القديمة، من روتين عاداتنا، من ألفتنا مع الأماكن والأشياء، من توهمنا بأننا لا يمكن لنا أن نعيش دون ما تعودنا عليه”.
إذا، يمكن أن يعتاد المرء على كل شيء، فهو إن اعتقد أنَّه خسر في غٌربته كل شيء، سيعرف أنها مراحل ومحطات تعيد فيها ترتيب حقائبك، تخفف الوزن أحيانًا، وتزيده في أحيانٍ أخرى، ولو أنَّ الشاعر عبدالله منعم يقول في ديوان الغربة “رجعنا جيوبنا دفيانة.. لكن أغراب..وليه أولادنا نسيانا.. وبيبصوا لنا باستغراب!”.
تترافق الغُربة بالألم، لكنَ ما يُخفف وطأتها هو شعور الأمان والراحة، فتنسى آلامك أينما كنت، تنسى هروبك من الواقع، وقلقك الدائم من المستقبل، وتشعر بالانتماء لهذا المكان شيئًا فشيئًا، فهوَ الذي يحميك ويشكّل صورتك دون أي خوفٍ أو قلق.
رُبما تزرع فينا هذه البلاد اكتئابًا قد يًشفى إن غادرناها، أو لا يعود مُرتبطًا بحلقة المقارنات التي ندور فيها ونحنُ بها، أو حتى رؤيتنا الجديدة للأماكن وللأشخاص، رُبما ينضجنا السفر فلا نغدو نحنُ أنفسنا، وربما نشعر حين نسافر بأن هذه الأرض كلها ملكٌ لنا فلا تُقيّدنا حدودٌ ولا جوازات سفر، وربما نختلفُ في الوجوه والأعمار والأفكار، إلا أننا نتشابه بملامحنا الحزينة إزاء عودتنا لما نشأنا ونحنُ نسميه الوطن.