حين دمّر العدوان الإسرائيلي قصر العدل في غزة، لم يكن مجرد تفصيل من ضمن خطط التدمير الواسع التي ينفذها الاحتلال، بل اختفاء كامل لصرح مهم يمثّل قمة منظومة العدالة في القطاع، وذاكرة كاملة محفوظة لكل قصة قانونية ولكل مواطن، حيث كانت أرشفته تحتضن مئات آلاف الملفات التي توثق حياة الناس وتفاصيل حقوقهم من نزاعات عائلية قديمة إلى قضايا مالية وعقارية، ومن وثائق إثبات زواج وطلاق إلى صكوك ملكية وأوراق رسمية أخرى.
في لحظة خاطفة، تحوّل قصر العدل إلى ركام، وتلا ذلك قصف متسلسل طال محاكم شمال غزة التي دُمّرت بالكامل، إضافة إلى محاكم خان يونس ورفح التي تلقت ضربات مدمّرة أوقفت عملها. لم يكن القصف فقط دمارًا للبنايات، بل كان ضربة قاتلة للملفات القضائية، إذ تُقدّر الخسائر بنحو مليون و210 ألف ملف قضائي، منها 900 ألف في قصر العدل وحده، و100 ألف ملف في محاكم الشمال، و150 ألف ملف في خان يونس، بالإضافة إلى 60 ألف في رفح. كل هذه الملفات ليست مجرد أوراق، وإنما حقوق وأحكام وأدلة براءة وأخرى للإدانة، كلها تبخرت.
في القضاء الشرعي، لم تكن الخسائر فقط مادية، بل إن القضاء نفسه فقد وجوده وفاعليته، فقد تعرضت خمسة مقرات محاكم شرعية لأضرار جزئية، بينما تعرض اثنان لدمار شبه كامل، وعشرة أخرى اقتحمها مجهولون ونهبوا محتوياتها، وأُحرق أرشيفان كاملان لمحكمتين شرعيتين، وكذلك قتل الاحتلال خلال هذه الحرب قاضيان شرعيان، إضافة إلى ثلاثة موظفين وثلاثة مأذونين.. هنا اختفى المكان، والأوراق، وكل من يستطيع يومًا ما تعويض ما دُمر.
المحافظة الوسطى شهدت محاولات جادة لاستعادة بعض مظاهر العدالة بداية من منتصف فبراير/ شباط 2024، لكنها لم تكن سوى محاولة لتطويق انهيار النظام القانوني، وسط ظروف صعبة وإمكانيات محدودة، وحرب إبادة لا تتوقف، فتوقفت القضايا الجديدة، وصار من المستحيل رفع دعوى أو تبليغ الخصوم، وفي كثير من الأحيان لا يُعرف مكان القضاة بسبب النزوح والتشريد.
تزداد فداحة الخسارة في المحاكم الشرعية، خصوصًا وأن نسبة كبيرة من الملفات لم تحوسب إلكترونيًا وبالتالي فإن ضياعها لا يمكن تعويضه، الأمر الذي يعني في النهاية أن هناك من لا يملك أوراقه الثبوتية
القاضي الشرعي عمر نوفل يقول “توقفت القضايا، نعم، لكننا لم نتوقف عن استقبال الناس، فالمعاملات الأساسية لا يمكن أن تُؤجل، كالزواج والطلاق والوكالات والحجج، هذه أمور لا تنتظر نهاية الحرب”. يتحدث القاضي بصوت هادئ ووجه ثابت كأنما يستعد للانهيار، مشيرًا لفترة ما قبل الحرب إذ كان مختصًا باستقبال قضايا التفريق والنفقة وإثبات الوفاة وغيرها، حتى أتت الحرب وعلّقت هذا المسار تمامًا، فمهما حاول القضاة الالتفاف على الواقع، يقول “لا يمكننا التحرك ضد مدّعى عليه لا يُعرف مكانه، ربما لا زال تحت الأنقاض، أو دُفن في مقبرة جماعية.. ولا توجد مكاتبة، ولا تبليغ، ولا مكان ثابت حتى للبقاء فيه”.
وسط هذا الواقع، لا يزال القاضي عمر يحاول قدر الإمكان إنجاز ما يمكن من معاملات بالتفاهم بين الطرفين، “إذا حضروا، حررنا اتفاقًا له حكم القرار القضائي، وإذا لم يحضروا نؤجل النظر، لكن دون أجل محدد. هذا وضع أعداد كبيرة من النساء لا يمكن إثبات طلاقهن، وأمهات لا يحصلن على نفقة أطفالهن، وعائلات تنتظر حصر إرث لبيع قطعة أرض والتصرف بثمنها”.
أوضح نوفل أن الطلاق زاد خلال الحرب، “الحياة اختلفت وغابت الخصوصية وزادت المتطلبات وبات الناس يعيشون تحت ضغط لا يحتمل.. غياب المحكمة الشرعية ليس غياب مؤسسة عادية، بل مؤسسة تحفظ السلم المجتمعي عمومًا”.
تزداد فداحة الخسارة في المحاكم الشرعية، خصوصًا وأن نسبة كبيرة من الملفات لم تحوسب إلكترونيًا وبالتالي فإن ضياعها لا يمكن تعويضه، الأمر الذي يعني في النهاية أن هناك من لا يملك أوراقه الثبوتية، ما جعل القاضي نوفل يحاول التواصل مع مؤسسات لتوفير مكان مؤقت لعله يحفظ ما يمكن حفظه، ويقول: “حتى غرفة صغيرة، لم يستجب لنا أحد، مؤسسات كثيرة تتلقى تمويلًا باسمنا، لكن لا شيء يصل، ونعمل بما نملك، لا بما نُمنح”.
بالنسبة لنوفل، الحل يبدأ بإعادة بناء المنظومة القضائية من جديد، على أسس أكثر مرونة واستعدادًا للطوارئ، فيجب أن تُحوسب المحاكم بالكامل، وأن توضع قوانين خاصة بالأزمات، ولا يجوز أن تُشلّ العدالة كلما اندلعت حرب، “نحن نواجه نفس السيناريو منذ سنوات، ولم نكن مستعدين، هذه ليست حربًا أولى، لكنها فقط الأقسى“.
قطع يد القضاء
لم ينجُ جهاز قضائي أو قانوني في غزة من آثار الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من عام وسبعة أشهر، حيث تُستهدف المحاكم جنبًا إلى جنب مع مقرات نقابة المحامين ومكاتبهم، دُمرت محكمة الاستئناف والمحكمة العليا، إضافة إلى ما يزيد عن 200 مكتب محاماة بمحتوياتها من وثائق ومعاملات قانونية ومالية، واستشهد نحو 160 من المحامين والمحاميات تحت التمرين.
يقول المحامي محمد مهنا إن العدوان لم يترك محكمة واحدة على حالها، ولا ملفًا يمكن الوصول إليه، موضحًا أن مكاتب المحامين التي تم تدميرها تحتوي على مستندات أصلية تمثل ركيزة قضايا الناس، مما يضع المتقاضين أمام أزمات إثبات وتعطيل للحقوق. ويشير إلى أنه حتى لو توقف العدوان الآن، فإن عودة عمل المحاكم ستحتاج إلى فترة انتقالية طويلة يتم خلالها ترميم المباني، واستعادة ما يمكن من ملفات، ومحاولة إعادة تنظيم العمل القضائي.
ويضيف مهنا أن كثيرًا من المحامين اضطروا للاتجاه إلى أعمال أخرى لتوفير دخل في ظل الارتفاع المذهل في الأسعار، في حين لجأ المواطنون للقضاء العرفي والمخاتير في ظل غياب الشرطة والنيابة، رغم ما تحمله هذه البدائل من سلبيات، مثل عقد تسويات تفتقر للعدالة الكاملة أو التنازل عن الحقوق تحت ضغط الحاجة إلى إنهاء النزاع، ويبيّن مهنا أن النساء تأثرن بشكل خاص، إذ استغل بعض الأزواج غياب المحاكم لقطع النفقة أو حرمان الأمهات من الحضانة، أو التنصل من دفع مؤخر الزواج وحقوق الطلاق.
وعلى صعيد النقابة، فيقول إنها تعرضت للنهب والدمار، ومع ذلك تواصل العمل الوطني من خلال تأهيل قسم التصديقات، وإنجاز الوكالات لأهالي الشهداء والجرحى، والتصديق على العقود، واستقبال الشكاوى ضد المحامين، ويؤكد أن القضايا المستعجلة كالحضانة والنفقة لا تجد طريقها إلى المحاكم حاليًا، ما يدفع الناس نحو بدائل غير رسمية.
وبالرغم من أن المحاكم كانت قد أرشفت ملفاتها إلكترونيًا سابقًا، فإن إعادة بناء الجهاز القضائي يتطلب إعادة تأهيل المباني واستئجار بدائل للمقرات المدمرة، وتجميع الملفات من النسخ الإلكترونية المتاحة، لكن هذا مرهون بانتهاء الإبادة، ولا يوجد حاليًا تنسيق رسمي لإعادة العمل. ويرى مهنا أن إعادة تفعيل النظام القضائي يتطلب دعمًا دوليًا وعربيًا واسعًا، يشمل إعادة الإعمار، وتأهيل البنية التحتية والكوادر البشرية، وفتح باب التوظيف لتعويض الخسائر، إذ فقد القضاء الكثير من العاملين في هذا المجال، سواء كانوا قضاة أو موظفين إداريين أو محامين.
النساء تأثرن بشكل خاص، إذ استغل بعض الأزواج غياب المحاكم لقطع النفقة أو حرمان الأمهات من الحضانة، أو التنصل من دفع مؤخر الزواج وحقوق الطلاق
في غياب مؤسسات الدولة، تصدّر رجال لجان الإصلاح والمخاتير مشهد العدالة. ولجان الإصلاح في غزة هي منظومة عرفية تقليدية تقوم على تدخل وجهاء محليين لحل النزاعات المجتمعية بوسائل سلمية، بعيدًا عن القضاء النظامي، معتمدين على الأعراف والتفاهمات الشفوية لا على النصوص القانونية. هؤلاء ليسوا جهات قضائية ولا يصدرون أحكامًا مُلزمة قانونيًا، بل مبادرون يسعون لاحتواء الخلافات ومنع تصاعدها، من باب الحفاظ على النسيج الاجتماعي.
وفي الوقت ذاته، نشطت ما تُعرف بالمحاكم العرفية، وهي مجالس مجتمعية تصدر أحكامًا بناءً على الأعراف والعادات، لا القوانين المدنية. وتختلف هذه المحاكم في غزة عن نظيراتها في دول أخرى، ففي بعض الدول تعمل المحاكم العرفية ضمن أطر قانونية موازية وتحظى بقدر من الاعتراف أو الرقابة، أما في غزة، فظهرت هذه المحاكم كبديل اضطراري، في ظل انهيار النظام القضائي، وتعمل بالكامل خارج أي إشراف قانوني، ما يجعلها أقرب إلى ملاذ مجتمعي أكثر من كونها مؤسسات عدلية معترفًا بها.
جهاز الشرطة، الشريك الطبيعي في فضّ النزاعات، انهارت بنيته بفعل الاستهداف الإسرائيلي المباشر، حيث دمرت قوات الاحتلال 19 مركز شرطة بشكل كلي، و 3 مراكز جزئيًا في المحافظة الوسطى، إضافة إلى تدمير 4 مقرات إدارات المحافظات كليًا وواحد جزئيًا، كما دُمّر بالكامل مقر الجوازات وما يتضمنه من إدارات ووحدات، وقد قُتل نحو 5000 شرطي، ما أدى إلى شلل شبه تام في أداء الجهاز الأمني.
ويقول رجل الإصلاح أبو أسامة، الذي تجاوز الخمسين سنة، إن دوره انقلب رأسًا على عقب، قبل الحرب كنا نرافق الناس إلى مراكز الشرطة، نتواصل مع معارفنا، نطلب تدخلًا سريعًا، نحل المشاكل بأقل ضرر، أما الآن، لا شرطة ولا قضاء، ولا حتى رقم نتصل به، فالناس تأتي إلينا منذ الفجر، نزاعات، سرقات، مشاجرات، تهديدات، وقضايا دم، ونغيب أحيانًا يومًا كاملًا عن بيوتنا، لا لشيء إلا لنُطفئ نارًا هنا، أو نوقف كارثة هناك.. “تضاعف الجهد، وتقلّصت الأدوات، لا قوة تنفيذية تدعم اتفاقًا، ولا أوراق تُلزم طرفًا، نوقّع على أوراق من باب الطمأنة، لكن لا جهة تعتمدها، ولا محكمة تُثبّتها خصوصًا في الشجارات العائلية، فالناس تعرف ذلك، ولهذا يتهرب البعض، ويستقوي البعض الآخر”.
مع كل يوم يمر، يزداد العبء النفسي على رجال الإصلاح، فهم الذين كانوا يعملون جنبًا إلى جنب مع مؤسسات الدولة، باتوا اليوم خط الدفاع الوحيد في مجتمع متوتر ومستهدف، تتزايد فيه الخلافات، ويغيب فيه القانون، ما كان يُحلّ ببلاغ أو مذكرة توقيف، صار يُحلّ بمكالمة هاتفية، أو بزيارة ودّية، أو لا يُحلّ أبدًا. وبينما تتأرجح العدالة بين الأنقاض، تُترك الحقوق معلّقة، تنتظر عودة المنظومة، لكنها عودة لم يعد أحد يعرف متى تأتي، ولا كيف ستُبنى من جديد بعد أن مُسحت من جذورها.
خسائر غير مرصودة
في الحرب لا تُفقد البيوت فقط، بل تُفقد أيضًا الحقوق التي لا تحميها أوراق رسمية، فتسقط حضانة الأطفال من حسابات الأولوية حين تغيب الدولة، ويعلو صوت الناجين على صوت الأمهات، وهكذا تجد كثيرات أنفسهن في مواجهة الفراغ الكامل مع الحرمان من الحقوق.
لم تكن خولة تتوقع أن تفقد ابنتها بهذه الطريقة.. لم تخض معارك في أروقة المحاكم، ولم ترفض ترتيب الحضانة الذي توافقت عليه العائلة بعد الطلاق. كانت ابنتها الصغيرة تقيم مع والدتها فيما تحاول هي البدء من جديد مع زواج آخر وخطط معلقة، لكن الحرب جاءت دون استئذان، ولم تنتبه خولة إلى أن كل الاتفاقات التي بدت مستقرة، يمكن أن تنهار بمجرد أن يغادر القصف الشارع ويدخل البيت.
الجدة نزحت من المدينة ومعها الطفلة، والجد، الذي لم يحتمل مسؤولية النزوح والطفلة معًا، قرر أن يعيدها إلى والدها، لم يسأل أحد ولم يتصل أحد، فقط خولة بقيت تنتظر سماع صوت ابنتها، أو حتى سؤالاً بسيطًا من أحد: هل ما زلتِ تريدين الحضانة؟ تقول، “روحت على الشرطة بعد ما سمعت إنهم رجّعوا البنت لأبوها، حكيت، وطلبت يعملوا إجراء، لكن قالولي ما في جهة مسؤولة تتابع، ولا حد بيقدر يلزم الأب بشيء، رجعت البيت وأنا مش عارفة شو أعمل، وكل الأبواب تسكرت بوجهي”.
ما شفت بنتي من أول شهر بالحرب، وكل يوم بفكر فيها، وين عايشة كيف شكلها صار، ولما سألت الشرطة حكولي إحنا ما إلنا علاقة، والمخاتير تدخلوا لكن بيقولوا ما في حدا بيرجعها غير المحكمة
ريم عزام، أم أخرى، لا تزال تحمل حرمانًا أقدم، فمنذ لحظة ولادة ابنتها لم تراها طويلًا، والد الطفلة أخذها بعد خلافات عائلية طويلة، بدعم من جدها لأمها، وخرج بها من البيت، فبقيت ريم ترى الطفلة في موعد شهري، بترتيب هش لا يثبّته قانون ولا حكم قضائي. كانت تقطع المسافات لرؤية وجه صغير، ثم تعود إلى وحدتها. ومع بداية الحرب، توقفت الزيارات، كما توقفت كل مظاهر القانون، ولم تعد ترى ابنتها، ولم تعد تعرف كيف تسأل عنها. ذهبت إلى المخاتير، وإلى إحدى فرق الشرطة حين أعيد فتحها مؤقتًا، لكنها لم تجد إجابة.
تقول ريم، “ما شفت بنتي من أول شهر بالحرب، وكل يوم بفكر فيها، وين عايشة كيف شكلها صار، ولما سألت الشرطة حكولي إحنا ما إلنا علاقة، والمخاتير تدخلوا لكن بيقولوا ما في حدا بيرجعها غير المحكمة”.
العدالة هنا، حيث نحاصر منذ 19 شهرًا لنباد بصمت، لا تزال تحت الركام.. أجساد قضاة ومحامين وموظفين تنتظر الانتشال، مئات الآلاف من الملفات القضائية المحروقة، وركام بالأطنان.. غير أن كل ذلك، وإن حالفه الحظ بفرقة إنقاذ أو حصّة مساعدات، فإنه غير قابل للتعويض.