لم يتوقع مدّثر * ، الفتى السوداني ذو الخمسة عشر عامًا، الذي قَلَبت الحرب حياته رأسًا على عقب، حيث عطّلت مسارَه الدراسي، وأجبرتْه وأسرتَه على النزوح من ولاية لأخرى، ثم العبور إلى مصر تهريبًا، أن يجد نفسه محتجزًا لأسابيع داخل قسم شرطة، مهدّدا بالترحيل، بَرًا من الإسكندرية وحتى السودان.
في بداية يوم عمل عادي كان يجلس مع اثنين من رفاقه، داخل المطعم الذي يعمل به لاثنتي عشرة ساعة يوميًا، بإحدى مناطق شرق الإسكندرية، ليفاجَأ بدخول أفراد أمن يسألونهم عن أوراقهم. أخبرهم أنه نسي بطاقة “طالب اللجوء” الصفراء، التي كان قد تسلّمها من مفوضية الأمم المتحدة للاجئين عند تسجيله بها في أيار/ مايو الماضي، في المنزل. ألقي القبض على الثلاثة، وأُخذوا إلى قسم الشرطة، ولا يزالون منذ أسابيع قيد الاحتجاز.
حدث ذلك في الأسبوع الأخير من شهر تشرين أول/ أكتوبر الماضي، حيث بدأت حملات أمنية بعدد من مناطق المدينة أسفرت عن توقيف أعداد غير معلومة من السودانيين بينهم قُصّر، من الشارع أو من المحال التي يعملون بها، وشملت هذه المناطق سيدي بشر وخاصة شارع محمد نجيب بها والعجمي -وهما من مناطق تركّز السودانيين بالمدينة- ومحطة الرمل.
مُعيلون وطلّاب
وقالت ناشطة سودانية على تواصل مع أهالي المحتجزين -فضّلت عدم ذكر اسمها- إن كل المحتجزين من الذكور، وبينهم قُصّر ابتداء من عمر 14 عامًا، وإحدى الأسر لديها ولدان محتجزان كلاهما أقل من 18 عامًا، وصولًا لرجال في الثلاثينيات والأربعينيات.. وقد تجاوزت مدة احتجازهم حتى الآن الشهر الكامل، وإنهم هم المعيلون لأسرهم، ومنهم عدد من طلاب الشهادة السودانية (توازي الثانوية العامة في مصر)، المقرّر عقد امتحانها أواخر كانون أول/ ديسمبر لأول مرة منذ اندلاع الحرب في السودان، وهناك من اقتربت المواعيد التي حددتها لهم المفوضية للتسجيل لديها وستفوتهم هذه المواعيد، كما أنهم ليس لديهم مشكلات جنائية أو سياسية. وأضافت أنهم بعد توقيفهم احتُجزوا في أقسام شرطة أول المنتزة والعطّارين والعامرية.. ثم عُرضوا على النيابة العامة، وعلى جهات أخرى كالأمن الوطني وإدارة الجوازات والسفارة السودانية بالقاهرة.
وبترحيل المُعيل يمكن أن تواجه الأسر صعوبة في توفير احتياجاتها الأساسية، بينما تعتمد أسر أخرى في دعمها ماليّا على أقارب بالخارج، خصوصًا في الخليج والولايات المتحدة.
طالبة الشهادة السودانية “زمزم” (17 عامًا)، قالت إنه قد ألقي القبض على ثلاثة شباب من رفاقها تبلغ أعمارهم 19 و20 و29 عامًا بمنطقة الأزاريطة خلال الأسبوع الثاني من تشرين ثاني/ نوفمبر. حيث طلب منهم شخص بزي مدني أوراقهم، ولم يكن لديهم سوى رسالة من المفوضية العليا للاجئين على هواتفهم بتحديد موعد للتسجيل، ومن ثم أخذهم في عربة ميكروباص مكتوب عليها “ترحيلات الإسكندرية” إلى قسم الشرطة.
وأضافت الفتاة الآتية من مدني بولاية الجزيرة أنها وعدد من أفراد عائلتها دخلوا إلى مصر عن طريق التهريب الصيف الماضي، وعندما ذهبوا للتسجيل في مفوضية اللاجئين أعطتهم موعدًا في شهر نيسان/ إبريل من العام المقبل. وأنها سبق لها المجيء إلى مصر قبل الحرب بالطرق الرسمية ولكن صعوبة استخراج التأشيرات بعد الحرب هو ما يدفعهم للمجيء عن طريق التهريب بتكلفة أقل كثيرًا. وأنها ورفاقها كانوا في طريق عودتهم من دروس تحضير لامتحان الشهادة السودانية ينظمها أحد المراكز السودانية بالمنطقة، قبل أن توقف القوات الأمنية الشباب/ الذكور منهم.
ووفقًا للمصادر السودانية، من بين الموقوفين أيضًا عدد من الطلاب الجامعيين، وهؤلاء غير مسجلين بالمفوضية كلاجئين بل يدخلون بتأشيرات رسمية ويستخرجون إقامة دراسية مدتها سنة تجدد مع كل عام دراسي ووجودهم في مصر سابق على الحرب، وقد أوقفوا واحتُجزوا لأيّام ثم أطلق سراحهم بعد عرضهم على النيابة والأمن الوطني وإدارة الجوازات، بينما يستمر احتجاز مَن دخلوا بطريق غير رسمي ومَن يحملون بطاقة اللجوء الصفراء، في ظروف احتجاز صعبة، حيث عدم كفاية الطعام والوضع غير المريح في النوم، ومِن بينهم من ليس لديه أهل في مصر، ومن لديه طفل رضيع، أو زوجة كانت على وشك الوضع، بالإضافة إلى بعض الحالات المرضيّة.
وتقول خالة مدّثر إنه كان على وشك استئناف دراسته بالمرحلة المتوسطة/ الإعدادية في إحدى المدارس السودانية بالإسكندرية يديرها أحد معارف والده المنفصل عن الأسرة والموجود حاليًا في السودان، وإنهم كانوا سعيدين لرجوعه إلى الانتظام في المدرسة، على أن تتولى شقيقتاه الأكبر سنًا العمل ليتفرغ هو للدراسة.
بطاقة اللجوء لا تحمي
بمجرد علم الأهالي بتوقيف ذويهم، هرعوا إلى قسم الشرطة الذي يُحتجزون فيه، لتسليم أوراقهم متوقعين الإفراج عنهم، على الأقل بالنسبة للمسجلين في المفوضية بالفعل كلاجئين. “توقعنا مجرد ما يستلموا (إدارة قسم الشرطة) الكارت (بطاقة اللجوء الخاصة بالمحتجز) هايفرجوا عنه بس ما حصلش”، تقول خالة مدّثر.
وكانت المفوضية قد أبلغتهم وقتها بأن “الأسماء سوف تُعرض على إدارة الهجرة والجوازات والأمن العام”، وأنها إجراءات لن تستغرق أكثر من يومين، ثم يفرج عن المحتجزين المسجلين لديها، وهو ما لم يحدث.
وكان مدّثر قد جاء إلى مصر مع أسرته أوائل العام الحالي عن طريق التهريب، وسجلوا جميعًا في مفوضية اللاجئين، وتسلّموا منها بعد أشهر من مجيئهم بطاقات صفراء (طلّاب لجوء)، وكان سيَحين موعد استخراج الإقامة المحدد لهم خلال شهر أيلول/ سبتمبر من العام القادم.
ويرى السودانيون الذين تحدثنا معهم أن الاتجاه إلى الدخول بالتهريب سلوك اضطراري بالنسبة لهم مع ظروف الحرب وما يحدث فيها من قتل واغتصاب لا يوجد ضمانة لعدم امتداده حتى للولايات الآمنة حاليًا، مثلما حدث في ولاية الجزيرة مؤخرًا كما تقول خالة مدّثر، وتوقّف التأشيرات، وارتفاع تكلفة “الموافقة الأمنية” التي باتت شرطًا للدخول.
وفي تلك الولايات الآمنة، تزداد الكثافة السكانية نتيجة توافد النازحين، وترتفع بدرجة كبيرة -مع انهيار قيمة العملة المحلية- أسعار الإيجارات، والمواد الغذائية، والخدمات الطبية حال توفّرها.
من بين الموقوفين أيضًا عدد من الطلاب الجامعيين، وهؤلاء غير مسجلين بالمفوضية كلاجئين بل يدخلون بتأشيرات رسمية ويستخرجون إقامة دراسية مدتها سنة تجدد مع كل عام دراسي ووجودهم في مصر سابق على الحرب، وقد أوقفوا واحتُجزوا لأيّام ثم أطلق سراحهم بعد عرضهم على النيابة والأمن الوطني وإدارة الجوازات
وقالت المصادر إن أمهات الموقوفين بادرن بالتوجه لأكثر من جهة سعيًا للإفراج عن أبنائهن، أولها قسم الحماية بالمفوضية بالإسكندرية، كما تواصلن مع منظمات دولية كاليونيسيف، ولم يسفر ذلك عن شيء. وإن محامية مكلّفة من المفوضية توجّهت إلى قسم الشرطة في الأيام الأولى لاحتجازهم، وخرجت لتبلغ الأهالي المنتظرين بالخارج بأن ذويهم سيُرحّلون.
وتشمل حقوق اللاجئ بموجب اتفاقية اللاجئين لعام 1951 عدم الإعادة القسرية، وعدم التعرض للعقاب بسبب الدخول غير النظامي إلى أراضي دولة متعاقدة، علمًا أن مصر من الدول الموقعة على هذه الاتفاقية، وبروتوكولها لعام 1967، وعلى اتفاقية منظمة الوحدة الإفريقية لعام 1969، “التي تحكم الجوانب المحدّدة لمشكلات اللاجئين في أفريقيا”.
وكان مدّثر -مع غيره من المحتجزين- قد عُرض على النيابة التي قررت إخلاء سبيله كونه مسجّلًا كطالب لجوء. ثم نقل إلى السفارة السودانية التي سألت المحتجزين المعروضين عليها إذا ما كانوا يريدون الترحيل أم الرجوع للمفوضية، فاختار الرجوع للمفوضية، ليُعاد إلى قسم الشرطة ويستمر احتجازه حتى اليوم. كما تحكي خالته.
“ظروف الاحتجاز غير مناسبة أبدًا لشخص في عمره”، تقول الخالة، “ينام على الأرض ويُحاط بالمدخّنين. لقد أخبرنا أناس في المحل المجاور للمطعم الذي يعمل فيه إن مدثر أثناء خروجه وهم في طريقهم إلى قسم الشرطة كان يبكي”.
وقالت إن الأهالي طوال فترة احتجاز أبنائهم داخل الأقسام يُستنزفون ماديًا. وكانت أسرة مدّثر قد تركت الشقة التي كانت تستأجرها في بداية مجيئها إلى مصر في شرق الإسكندرية، إلى منطقة أخرى في أقصى الغرب بحثًا عن إيجار أقل تكلفة.
ويعيش اللاجئون السودانيون بوجه عام أوضاعًا اقتصادية ومعيشية صعبة في مصر، مع فقدان ممتلكاتهم ومدخراتهم بسبب الحرب، وعدم وجود مصدر دخل ثابت لهم هنا، وصعوبة الحصول على فرص عمل، وانخفاض الأجور مع الارتفاع المتزايد في الأسعار.
نظام مُشدّد للدخول وضغط للمغادرة
وقالت الخالة إن مدّثر الذي يتواصل معهم تليفونيًا أحيانا -بشكل غير رسمي- من داخل قسم الشرطة المحتجز فيه، كان في البداية لديه أمل في الخروج السريع، لكن في المرّات الأخيرة “قال جهزوا لي هدوم الصيف عشان هاترحّل للسودان” هكذا أخبروهم داخل القسم، تقول. وتضيف “فَرَضنا هم رّحلوهم هايمشي لمين هناك؟!” وهو -كما تصفه- فتى صغير السن ذو خبرة حياتية محدودة، وأنه يريد البقاء. “مقرّرين لو طلع من الاحتجاز أو اترحّل، نرجع السودان لإن تاني خطر عليه يطلع بره (يخرج من البيت).. ع الأقل هناك أطفالنا بيكونوا في أحضانا”.
وتقول الناشطة السودانية إن ما وصل لهم من المسؤولين في أقسام الشرطة الذين تحدثتْ معهم أن كل من دخل عن طريق التهريب سوف يرحّل، حتى إن كان مسجلًا في المفوضية، وإن المفوضية التي جاء السودانيون إلى مصر أملًا في حمايتها، لم توفر لهم هذه الحماية، وقد باتت تعطي المتقدمين للتسجيل لديها مواعيد بعد مُدد طويلة تستغرق شهورًا، كما لم تقدم لهم السفارة السودانية شيئًا.
وأضافت الناشطة أن مصر في بداية الحرب قدّمت بالفعل الكثير من التسهيلات لدخول السودانيين، لكن مع استمرار الحرب وزيادة أعداد القادمين تغيّر الوضع، حيث بات من الصعب الحصول على تأشيرة، وأضيف شرط الحصول على “موافقة أمنية” تتجاوز تكلفتها الألف دولار، لا يستطيع تحمّلها السودانيون من الطبقات دون المتوسطة، التي ينتمي إليها جلّ المحتجزين حاليًا، وفقا لقولها.
وتشير المفوضية في أحد تقاريرها عن السودان (نيسان/ أبريل 2024) إلى أن “حدود معظم الدول المجاورة مفتوحة مع متطلبات دخول متساهلة نسبيًا للسودانيين. ومع ذلك، فإن العبور إلى مصر أصبح صعبًا بشكل متزايد مع سياسة تأشيرة صارمة وحصة دخول يومية صغيرة بالإضافة إلى زيادة معدل ترحيل السودانيين الذين يدخلون مصر، على أساس الدخول غير القانوني ونقص الوثائق وكذلك تجاوز المدة الممنوحة في البداية. حتى إبريل 2024، رُحِّل أكثر من 10000 فرد من مصر، 3679 منهم رُحِّلوا في عام 2024 (..) وفي فبراير 2024، تلقّت المفوضية تقريرًا يفيد بوفاة 15 مواطناً سودانيًا في حادث مروري بعد عبور الحدود بشكل غير نظامي إلى مصر”.
ووفقا لتقرير آخر لها فإن “المفوضية رفعت قدرتها على التسجيل لضمان تزويد الأشخاص الباحثين عن الحماية الدولية بالوثائق التي تحميهم من الاعتقال والترحيل. ومع ذلك، ونظرًا للقدرة المُقيَّدة لسلطات الهجرة، فقد كان هناك وقت انتظار متزايد للحصول على تصريح الإقامة على أساس اللجوء، وهو 576 يومًا اعتبارًا من 30 يونيو. وهذا يؤكد الحاجة الملحة لزيادة الدعم للاجئين”.
وأضاف التقرير أن الدولة المصرية عملت على فرض “نظام هجرة أكثر قوة على الأجانب غير النظاميين. وقد ظهر ذلك في إجراءات أمنية أكثر صرامة فيما يتعلق بنقاط التفتيش الأمنية، وزيادة الاعتقالات ذات الصلة، وتحذير الأجانب لضرورة الحصول على تصاريح إقامة، وتعليق خدمات الدولة لأي أجنبي ما لم يكن لديه تصريح إقامة ساري المفعول”. مما أدى إلى “حشود غير عادية في مكاتب المفوضية سعياً للتسجيل والتوثيق”.
وأن نظام التأشيرات المطبّق على السودانيين والمستمر منذ حزيران/ يونيو 2023 “أدى إلى فترات انتظار طويلة في القنصلية المصرية في السودان لأولئك الذين يسعون للحصول على تأشيرات الدخول”.
وقالت الناشطة السودانية إن الترحيل سوف يؤدي إلى تشتيت الأسر، لذلك ترى أن مثل هذه الملاحقات يمكن أن يكون الغرض غير المعلن وراءها الضغط على السودانيين لدفعهم للمغادرة والرجوع لبلدهم.
خَــوْف
صارت خالة مدّثر تتلفّت أثناء سيرها في الشارع، تشك فيمن حولها هل يأتي لتوقيفها؟ “بقيت بخاف من مصر شديد”، رغم أنها تحفظ أوراقها بعناية داخل حقيبة يدها. ومع أخبار التوقيف التي يتداولها السودانيون عبر مجموعات واتساب، منها مقطع صوتي لسيدة تقول إنها تتحدث من حلفا وإنها ضمن مجموعة من الأسر السودانية رُحّلوا من مدينة طنطا (غربي القاهرة) بعد أن أوقفوا من داخل شققهم السكنية، أصبح لديهم حالة عامة من الخوف تقيّد تحركاتهم.
وقالت الخالة إنها عندما ذهبت للقسم لمحاولة مقابلة مدّثر شعرت بتمييز في المعاملة حيث كان الأهالي المصريون يدخلون لرؤية أبنائهم بينما قيل لها إن الزيارة بالنسبة لها ممنوعة، كما قال لها أحد الواقفين أمام القسم إن على السودانيين أن يرجعوا بلدهم. لكن شقيقته الكبرى زارته أكثر من مرة وقالت إن القصّر مجموعون في مكان معًا، ويجلسون على الأرض، كما تحكي خالة مدّثر.
ويتاح للأهالي تسليم “زيارة” لأبنائهم مرتين في الأسبوع، تتضمن بشكل أساسي الطعام، حيث يصطفّون، المصريون والسودانيون، في طابور على جانبي باب صغير للقسم بانتظار طويل ليأتي دروهم للتسليم.
تقول الناشطة السودانية إن هؤلاء المحتجزين وأسرهم -باعتبارهم مهاجرين حديثين جاءوا بعد الحرب- يمكن أن يكون لديهم صعوبة في التواصل بسبب اللغة، إلى جانب خوفهم الشديد من التعامل مع الضباط أو ممثلي الأمن ومن التوجه لقسم الشرطة للسؤال، مشيرة إلى أن زوجة أحد المحتجزين على سبيل المثال لديها أطفال صغار عبّرت عن خشيتها إذا ذهبت لقسم الشرطة للاستفسار بشأن زوجها من أن يتم توقيفها هي الأخرى لعدم امتلاكها إقامة.
وأضافت أن الأهالي كانوا عُرضة لمعلومات مغلوطة تقال لهم، ولمحاولات احتيال استغلالًا لكونهم من غير أهل البلد، كما وضعت تجربة الاحتجاز عبئًا ماديًا عليهم لتوفير احتياجات ذويهم داخل الاحتجاز وإدخالها. بالإضافة إلى التشدّد في عدم السماح لهم بلقائهم.
الخوف لا يقتصر على أهالي الموقوفين، بل يمتد لآخرين تصلهم أخبار “الكشّات” -التعبير السوداني لحملات التوقيف- التي يمكن القول إنها باتت حديث المجتمع السوداني السكندري. رُقيّة، امرأة في بداية الخمسينيات جاءت إلى مصر الصيف الماضي بتأشيرة رسمية وتقيم حاليِا مع بعض الأقارب، أرادت التسجيل في المفوضية التي أعطتها موعدِا في شهر حزيران/ يونيو القادم. تقول إنها اضطرت للمبيت مع كثيرين في حديقة قريبة من مقر المفوضية بالإسكندرية كي تستطيع اللحاق بدور لأخذ موعد للتسجيل، بعد أن فشلت في ذلك مرتين سابقتين كانت تأتي فيهما في الصباح الباكر، حيث كثرة عدد الراغبين في التسجيل والعدد المحدود الذي تستقبله المفوضية في اليوم، الذي كان لا يتجاوز الثلاثين في الأيام الثلاثة التي ذهبت فيها. في الصباح عندما أتى دورها للدخول، أرسلت لها المفوضية رسالة على هاتفها بموعد المقابلة للتسجيل، حرصت رقية على طباعة هذه الرسالة ورقيًا لمزيد من الحفظ، وهي تحمل تلك الورقة المطبوعة معها في حقيبتها. وقد تركت وراءها في السودان عددًا من الإخوة من الذكور والإناث هي أكبرهم، بعضهم يعاني من حالات مرضية، يقيمون حاليًا في حلفا التي نزحوا إليها من الخرطوم، منتظرين صدور تأشيرات دخول من القنصلية المصرية هناك.
كانت رقيّة ترغب في الحصول على عمل هنا كمدرّسة ذات خبرة بعد أن أفقدتهم الحرب وظائفهم ولم يجدوا عند نزوحهم سوى أعمال هامشية تدر دخلًا محدودًا، ولكنها لم تجد حتى الآن عملًا أو جهة دعم “قبل الحرب، كُنّا مستورين بجد ما بنقدر نمد إيدنا لزول”، جاءت باحثة عن الأمان والعمل عندما فقدتهما في بلدها، ولكنها لم تجدهما كذلك في مصر، مما يجعلها تفكر في العودة، “أحسن أتكشّ (يتم توقيفي) ولا أروح أقعد هناك؟!”، “أنا عايزة حاجة أمان وأشتغل.. عدم الشغل بالنسبة لي مشكلة”.. قالت بقدر كبير من التأثّر.
وتشعر خالة مدثر بتعمّد ملاحقة السودانيين، وسط جنسيات أخرى للاجئين في مصر. وإن كانت رأت فِتيان سوريين محتجزين أثناء انتظارها لرؤية مدّثر عند انتقاله من وإلى القسم للعرض على جهات أخرى. وحتى على المستوى الشعبي تتلقى تعليقات سلبية في تعاملاتها اليومية، كسائق التوكتوك الذي قال لها “غلّيتوا علينا البلد”.. “حتى نظراتهم تحسّيها فيها ضيق، متضايقين مننا”، وأن هناك من فضّلوا الرجوع إلى السودان بسبب هذه المعاملة. تقول إن السودانيين كانوا ينظرون لمصر والمصريين باعتبارهم البلد والشعب الأقرب لهم، لذلك فإن ما يحدث حاليًا غير مفهوم.
لا يُعرف على وجه الدقة عدد المواطنين السودانيين الذين اعتُقلوا ورّحلوا منذ اندلاع الصراع في السودان، إذ إن السلطات المصرية لم تقدّم إحصائيات، ولم تُقرّ علنًا بانتهاج سياسة الترحيل
وحسب من تحدثنا معهم من السودانيين، ومنهم من يعيش بالإسكندرية منذ عقود، فإن السودانيين يعيشون حاليًا أصعب أيامهم، والطريقة الحالية في التعامل معهم ليست معهودة في تاريخ البلدين، وهو شيء مُحزن ومحبط بالنسبة لهم، حيث تتزامن حملات التوقيف مع إجراءات أخرى كارتفاع المصاريف الجامعية على الطلاب السودانيين الذين كانوا يحظون بخصم خاص بالجامعات المصرية لتبلغ بضعة آلاف من الدولارات سنويا، وإغلاق المدارس السودانية، مع الاعتراف بوجود أخطاء من الجانب السوداني في هذا الملف حيث كثرة عدد المدارس التي جرى فتحها وعدم الالتزام بالحد الأدنى من المواصفات المطلوبة بها.
كما يشكون من التأخر الطويل الذي باتوا يواجهونه في إدارة الجوازات والهجرة لتسليمهم إقاماتهم بعد التقديم عليها (تصدر بثلاثة أشهر وبرسوم 25 دولارًا)، إلى وقت قريب من انتهائها أو حتى وهي منتهية، مما يجعلهم غير قادرين على إجراء معاملات بنكية أو مالية، أو على السفر للخارج ولقاء ذويهم المغتربين مثلًا بدول الخليج كما هي حالة من تحدثتُ معهم، وهؤلاء يُطالَبون بدورهم بدفع 1500 دولار تكلفة “موافقة أمنية” للدخول إلى مصر من البلدان التي يقيمون فيها. تقول سيدة سودانية يعمل زوجها بالسعودية إن مثل هذه الإجراءات “فرّقت العائلات”.
على بعض مجموعات فيس بوك خاصة بالسودانيين مثل مجموعة “سودانيين في الإسكندرية” كانت قد ظهرت منشورات عن “حملات قبض على السودانيين” كما ذكر منشور بالمجموعة في 30 تشرين أول/ أكتوبر الماضي، وتفاعل معه كثيرون بالتعليق: “رجال ع شباب كاشِّنْهُم (قابضين عليهم).. كانوا في الجوازات جايبنهم، (في) محطة الرمل”، “الحل شنو عندنا ولد مسكوه والله مقلقين عليهو شديد لو حاجة ممكن نعملها كلمونا.. ما عندو (كارت أصفر) يا دوب جاي.. ساقوه من الشارع ولد صغير مسخ علينا الدنيا”، “أنا ولدي قبضوهو يوم السبت الفات لغايت هسه ما فكوهو.. يا مستجير من الرمضاء بالنار.. الحل نطلع نخلي ليوم (لهم) بلدوم دي نرجع بلدنا نموت بي كرامتنا قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وحسبي الله ونعم الوكيل في الكان سبب وطلعنا من بيوتنا وبلدنا”.
وتحدث منشور آخر عن: “حملات مكثفة شديد ومن مناطق مختلفة وداخل الأحياء وفي شباب رفعوهم من مكان شغلهم والله ولابسين يونيفورم..” وذكر المعلّقون مناطق منها العجمي (غرب المدينة) وكوبري المندرة (شرقها).. “-ما تخلّي الولاد يطلعوا -حاضر ربنا يستر”، وفي مجموعة أخرى كُتِب منشور “نهيب بالسادة المقيمين والوافدين من السودان بالإسكندرية عدم التحرّك والتجوال بدون هوية (جواز سفر) وإقامة سارية كما نهيب بالوافدين بطريقة غير شرعية تقنين أوضاعهم حتى لو لديهم كارت مفوضية”.
“يا رب تفك كربتنا” اسم مجموعة أنشأها أهالي الموقوفين على واتساب للتواصل ومتابعة أي أخبارعن ذويهم وكيف يمكنهم التصرف من أجل إطلاق سراحهم، وأي الجهات يمكنهم مخاطبتها..
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
كل الأسماء الواردة بالنص مستعارة
من نزوح لاحتجاز وترقّب ترحيل
هاجر، زوجة شابّة لأحد المحتجزين، التقيتُها في محيط قسم الشرطة المحتجز فيه زوجها العشريني، حيث تأتي للقسم بشكل شبه يومي وقد تظل تنتظر ساعات لعلها تصل لمعلومة حول مصير زوجها، أو لمحاولة رؤيته أثناء نقل المحتجزين للنيابة أو السفارة السودانية.. تقول هاجر إن زوجها أوقف أواخر تشرين أول/ أكتوبر الماضي من المحل الذي يعمل به، وإنه دخل مصر بداية العام الحالي عن طريق التهريب وما لبث أن التحق بهذا العمل، بينما دخلت هي وبقية الأسرة (والدته وشقيقتاه وأخ أصغر) بعده بأشهر، حيث عمل زوجها لفترة ليتمكنوا من توفير تكلفة الرحلة للعبور، “ما يقرب من 10 آلاف جنيه مصري للفرد”.
أضافت الزوجة، القادمة من إحدى مناطق جنوب الخرطوم، أنهم قدموا بسبب ظروف الحرب التي اضطرتهم للنزوح مرّات عدة على مدار عام، “من جَبْرة في جنوب الخرطوم لأم دُرمان لعطبرة لود حسونة، حيث بتنا في الشارع، لمدني للفاو للمفازة في ولاية القضارف حيث مكثنا 7 أشهر، لكسلا لعطبرة مرة أخرى..” مشيرة إلى أن النزوح تجربة مرهقة للغاية جسديًا ونفسيًا، البعض لا يستطيع تحمّلها وقد رأوا بالفعل أثناءها حالات وفاة، وأنهم فقدوا مدخراتهم وأعمالهم، مع نقص الغذاء والدواء وغياب الخدمة الطبية. وأن زوجها بعد فترة من وصوله مصر سجّل في مفوضية اللاجئين وحصل بالفعل على بطاقة صفراء (طالب لجوء)، وعلى ورقة موعد توجهه لـ”مقر الإدارة العامة للجوازات والهجرة والجنسية بالعباسية” بالقاهرة للحصول على تصريح الإقامة.
وقالت إنهم بمجرد علمهم بإلقاء القبض عليه من زميل له توجهوا للقسم لتسليم أوراقه، وإن زوجها يحمل دائمًا أوراقه معه وقد كان يضع أوراقه في حقيبة داخل المحل الذي يعمل به ولكن لم يترك له مَن أوقفوه الفرصة لإحضارها لهم. كما توجّه الأهالي لمقر المفوضية “قالوا عاملين اجتماع وهانرد عليكم”، وتعلّق بأن المفوضية لم تفعل أي شيء حتى الآن ولم تقدم أي دعم لأسر المحتجزين ولم يتواصل معها محامون من المفوضية أو من أي منظمة أخرى. وبالنسبة لها ولباقي أفراد الأسرة، تقول إنهم قد أجروا مقابلة بالفعل في المفوضية للتسجيل، وهم على وشك تسلّم بطاقاتهم كطالبي لجوء.
وقالت إنهم اضطروا للدخول عن طريق التهريب لصعوبة الدخول الرسمي، إذ لم يعد هناك تأشيرات وصار مطلوبًا الحصول على “موافقة أمنية” مكلفة للغاية، “كنا عاوزين بس نستقر ونشتغل ونجمع فلوس لحد ما الحرب تنتهي ونرجع بلدنا“.
تقرير سابق لمنظمة العفو الدولية
وكانت منظمة العفو الدولية قد أصدرت خلال هذا العام تقريرًا عن “الاحتجاز التعسفي والإعادة القسرية للاجئين السودانيين في مصر” (حزيران/ يونيو 2024)، تتصدره صورة لنساء وأطفال سودانيين في مركز احتجاز مؤقت بأسوان بانتظار إعادتهم القسرية إلى السودان مؤرخة في كانون الثاني/ يناير 2024، كما يذكر التعليق أسفل الصورة. يتضمن التقرير ما وثّقته المنظمة من حالات لـ “عمليات الاعتقال والاحتجاز التعسفية” بالقاهرة والجيزة وأسوان المحافظة الحدودية، على يد الشرطة، أو قوات حرس الحدود، وظروف الاحتجاز في مرافق خاضعة لسيطرة الشرطة أو لسيطرة قوات حرس الحدود، بالإضافة إلى “الإبعاد الجماعي وغيره من أشكال الترحيل غير المشروعة”.
وذهب التقرير إلى “تصاعد عدد من يتم اعتقالهم وترحيلهم من السودانيين منذ سبتمبر 2023″، عقب -كما يبدو- إصدار رئيس الوزراء المصري قرارًا في أواخر آب/ أغسطس من العام نفسه نصّ في مادته الثانية على “يجب على الأجانب المقيمين بالبلاد بصورة غير شرعية توفيق أوضاعهم وتقنين إقامتهم شريطة وجود مستضيف مصري الجنسية، وذلك خلال ثلاثة أشهر من تاريخ العمل بهذا القرار (مُدَّت لاحقا أكثر من مرة آخرها في أيلول/ سبتمبر الماضي لمدة عام)، مقابل سداد مصاريف إدارية بما يعادل ألف دولار..”. ويذكر تقرير المنظمة أنه “لا يُعرف على وجه الدقة عدد المواطنين السودانيين الذين اعتُقلوا ورّحلوا منذ اندلاع الصراع في السودان، إذ إن السلطات المصرية لم تقدّم إحصائيات، ولم تُقرّ علنًا بانتهاج سياسة الترحيل”.
وأنه حسب القانون الدولي، “لا يجوز احتجاز الأفراد لأسباب تتعلق بالهجرة إلا في ظروف استثنائية لأقصى الحدود، وبحيث لا يتم اللجوء إلى هذا التدبير إلا بحسبانه الملاذ الأخير. ويجب أن ينص القانون على هذا الإجراء، ويكون مبررا بشكل صارم لهدف مشروع، وأن يكون ضروريا ومتناسبا مع مقتضى الحال وغير تمييزي، وأن يسبقه تقييم لظروف كل حالة على حدة، واحتياجات كل أجنبي. أما الاحتجاز الذي يتم بصورة روتينية أو تلقائية لأسباب تتعلق بالهجرة فهو بحكم التعريف احتجاز تعسفي، وبالتالي غير قانوني. ولا يجوز بأي حال من الأحوال إخضاع الأطفال للاحتجاز لأسباب تتعلق بالهجرة”.
وتشير المنظمة في تقريرها كذلك إلى الشراكة التي أعلنها الاتحاد الأوروبي مع مصر في آذار/ مارس الماضي تتضمن تقديمه “حزمة دعم مالي واستثماري لمصر تبلغ قيمتها 7.4 مليارات يورو خلال الفترة 2024-2027، وتشمل 5 مليارات يورو على هيئة قروض كمساعدة مالية للاقتصاد الكلي، و1.8 مليار يورو لدعم الاستثمارات الخاصة، و600 مليون يورو على هيئة مِنَح، شاملة 200 مليون يورو لإدارة الهجرة“. ويشمل الدعم المالي المقدّم للبرامج المتعلقة بالهجرة كما ينقل التقرير: مكافحة تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر، وتعزيز إدارة الحدود، وضمان العودة وإعادة الإدماج بصورة كريمة ومستدامة، والاستمرار في دعم جهود مصر لاستضافة اللاجئين، مع التأكيد على “التزام كلا الطرفين بحماية حقوق المهاجرين واللاجئين“.
قانون لجوء الأجانب الجديد
وكان الرئيس المصري قد صدّق منذ أيام على مشروع قانون “لجوء الأجانب” الذي تقدمت به الحكومة ووافق عليه البرلمان، وينص على إنشاء “اللجنة الدائمة لشؤون اللاجئين” تكون “الجهة المعنية بشؤون اللاجئين بما في ذلك المعلومات والبيانات الإحصائية الخاصة بهم”، وتتولى “الفصل في طلب اللجوء، والتعاون مع المفوضية وغيرها من المنظمات والجهات الدولية المعنية بشئون اللاجئين”، وكذلك “التنسيق مع الجهات الإدارية في الدولة لضمان كافة أوجه الدعم والرعاية والخدمات للاجئين”.
ومن المفترض أن تتلقى اللجنة طلب اللجوء وتفصل فيه خلال 6 أشهر إذا كان طالب اللجوء دخل البلاد بطريق مشروع، وخلال سنة إذا كان دخل بطريق غير مشروع. وتكون أولوية الدراسة والفحص لـ”الأشخاص ذوي الإعاقة أو المسنين أو النساء الحوامل أو الأطفال غير المصحوبين أو ضحايا الاتجار بالبشر والتعذيب والعنف الجنسي”. وفي حالة رفض طلب اللجوء “تطلب اللجنة المختصة من الوزارة المختصة (وزارة الداخلية) إبعاد طالب اللجوء خارج البلاد”. وخلال فترة الفصل في الطلب يكون للجنة “طلب اتخاذ ما تراه من تدابير وإجراءات لازمة تجاه طالب اللجوء لاعتبارات حماية الأمن القومي والنظام العام”.
وتنص المادة 31 من القانون على أن “يلتزم كل من دخل إلى جمهورية مصر العربية بطريق غير شرعي، ممن تتوافر فيه الشروط الموضوعية لطالب اللجوء أن يتقدم طواعية بطلب للجنة المختصة في موعد أقصاه 45 يومًا من تاريخ دخوله”. ووفقًا للمادة التالية “لا يعد من قدم مباشرة من أقاليم كانت فيها حياته أو حريته في خطر، مسئولا مسئولية مدنية أو جنائية بسبب الدخول أو الوجود غير المشروع إلى أراضي جمهورية مصر العربية، متى سلّم نفسه فور وصوله إلى أي من السلطات الحكومية”. إلا أن من لا يلتزم بتقديم طلب اللجوء خلال 45 يوم على الأكثر كما نصّت المادة 31، “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة اشهر، وبغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه ولا تزيد عن 100 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين” (مادة 39). وتنص المادة (13) على أنه “يُحظر رد اللاجئ أو إعادته قســـريًّا إلى الدولة التى يحمل جنســـيتها أو دولة إقامته المعتادة”.
“حالة ابني استثنائية ولا نعرف سببًا لترحيله”
تتساءل والدة “شهاب”، الطالب الجامعي السوداني الذي رُحّل من مصر للسودان مؤخرًا، عن سبب ترحيله إذ لم تجد لسؤالها حتى الآن إجابة، وتعتبر حالة ابنها “استثنائية”، كونه دخل عبر الطريق الرسمي -قبل الحرب- ويحمل إقامة دراسية سارية. وقد جاءت الأسرة إلى مصر بتأشيرات رسمية منذ خمس سنوات تقريبًا لغرض تعليم الأبناء، في ظل التدهور العام للتعليم في السودان من قبل الحرب، وهم يدرسون في مدارس مصرية وسودانية، بينما التحق الابن الأكبر العام الماضي بإحدى الكليات بجامعة حكومية، بعد حصوله على الشهادة الثانوية السودانية من السودان، ولم يسجّلوا بالمفوضية كلاجئين.
من حَلفا حدّثنا شهاب، ذو الثمانية عشر عامًا، وقد وصلها مؤخرًا مُرحّلًا من مصر، ويقيم فيها مع بعض الأقارب. وفقًا لروايته، فقد أوقف في الشارع خلال الصيف الماضي من قبل أفراد أمن بزي مدني (ليس شُرَطيّا) فور خروجه من أحد فروع شركة تحويل أموال بعد تسلّم حوالة مالية بعثها له والده كجزء من مصروفاته الجامعية في العام الجديد (1500 دولار سنويًا تُسدّد بالدولار)، وطُلب منه بطاقة هويته وسئل عن الحوالة وسبب إرسالها والمرسل.. تقول والدته إنه لم يكن ليستطيع قط صرف الحوالة لو لم تكن إقامته سارية. وبعد فترة من الانتظار أُخِذَ في “تاكسي” إلى قسم الشرطة ثم عُرض على النيابة في اليوم التالي التي قررت إخلاء سبيله كما يروي، ثم أعيد إلى القسم، وعُرض لاحقًا أكثر من مرة على كل من الأمن الوطني وإدارة الجوازات.. وبينما كان يتوقع الخروج بسرعة لسلامة أوراقه كما يقول، امتدّ احتجازه في قسم الشرطة لشهرين ونصف. وفي النهاية كانت دهشته كبيرة حين أبلغوه داخل القسم أنه سيُرحل في اليوم التالي إلى خارج البلاد.
يقول شهاب إنه لا يعرف حتى الآن سبب توقيفه واحتجازه وترحيله رغم اكتمال أوراقه. وقال إنه حُرِّر ضده أكثر من محضر (بلاغ) منها اتجار بالعملة الأجنبية والوجود في مصر دون إقامة.. وقد وكلت له والدته محاميًا لمتابعة دعوى الإقامة ولم يكن شهاب يحضر جلساتها وقد رُحِّل قبل انتهائها، بينما استردّت قيمة الحوالة من قسم الشرطة في اليوم التالي لعرضه على النيابة والثالث من توقيفه، حسب ما تقول.
تجربة الاحتجاز
علمت الأم بتوقيف ابنها عبر صديق له كان مارًا بالصدفة في الشارع أثناء توقيفه. حَدَثٌ تَدخُل الأسرة بعده في دوّامة لمتابعة وضع ابنها والأخبار بشأنه والسعي لإطلاق سراحه أو حتى للسماح بالالتقاء به، ما بين القسم والنيابة وإدارة الجوازات ومديرية الأمن والسفارة السودانية. وتعيش في ضغط نفسي وعصبي، وعبء مادي كبير. تقول الأم إنها أنفقت آلاف الجنيهات (تقدّرها بأكثر من 60 ألف جنيه- أكثر من ألف دولار أمريكي) خلال مدة احتجاز ابنها على تجهيز الزيارات وإدخالها مرتين أسبوعيًا، وقد سعت لأن يكون ابنها في وضع مريح داخل القسم.
بالنسبة لشهاب، فإن التعامل معه داخل القسم سواء من الإدارة والعاملين أو من المحتجزين مثله كان في مجمله جيدًا –مع بعض الاستثناءات– ولم يواجه تصرفات عنصرية، إلا أن هناك بعض الأمراض عانى منها المحتجزون، خاصة الأمراض الجلدية، وكذلك أعراض احمرار وتورّم بالعين. وقال إنه التقى بوالدته 5 مرات تقريبًا خلال فترة احتجازه.
تجربة الترحيل
تقول والدته إنها لم تُبلَغ رسميًا من إدارة القسم بموعد الترحيل، ولكنها علمت بشكل مفاجيء من خلال اتصال هاتفي من أحد المحتجزين مع ابنها في وقت متأخر من الليل بأنه سوف يرحّل. وتوجهت الأسرة أولا إلى قسم الشرطة حيث انتظروا لساعات الصباح الأولى بانتظار خروجه، ثم تتّبعوه إلى مديرية الأمن. “شفناه من شبّاك العربية بس” تقول شقيقته الصغرى. وكان عدد من أسر المرحّلين يقفون انتظارا لتوديع ذويهم، وهناك من لديه أكثر من ابن مرحّل، وهناك مرحّلون لم يأتِ أحد لتوديعهم. وتصف والدته المشهد بـ”منتهى الكآبة والإحباط.. والمصير المجهول”.
تحرّكت عربات الترحيلات باتجاه أسوان قاصدة معبر القسطل على الحدود المصرية السودانية. يقول الطالب إن أسوأ ما في تجربة الترحيل التي استمرت يومين هو أن “تفضل متكلبش طول السكة لحد ما توصل حَلفا”، أي أكثر من 1680 كيلومتر، ولم يُفكّ قيده سوى مرتين، في إسنا ثم في أبي سمبل حيث توقفوا فيهما للاستراحة. “ده الوقت الوحيد بتاع ساعتين تلاتة هي اللي بيتفك فيها الكلابش، غير كده الكلابش ما يتفكّش أبدا”، فطوال الرحلة داخل عربة الترحيلات يكون مقيّد اليد مع مرحّل آخر مما يعيق نومهم “ما نعرفش ننام (على أرضية العربة) بنّام وإحنا قاعدين”. منظر الكلابش، والصعود إلى عربة الترحيلات أو النزول منها، يكون قاسيًا على الأسر التي تشعر بإهانة أبنائها، عندما ذكرته والدته أثناء حديثها انخرطت في البكاء “عمره 18 سنة بيتكلبش بالحديد حرام”..”الحمد لله”.
يقول الطالب إن أسوأ ما في تجربة الترحيل التي استمرت يومين هو أن “تفضل متكلبش طول السكة لحد ما توصل حَلفا”، أي أكثر من 1680 كيلومتر، ولم يُفكّ قيده سوى مرتين، في إسنا ثم في أبي سمبل حيث توقفوا فيهما للاستراحة
يقول الطالب إن العربة كان بها حوالي 14 مرحلًا ولم يكن هناك اكتظاظ بالنظر إلى كبر حجمها. وكان معه عدد كبير من المرحّلين، وهم -بخلافه- من الداخلين بطريق غير رسمي، موزّعين على عدة عربات لا يقل عددها عن عشرة كما يقدّره، كلهم من الذكور من أعمار مختلفة: في سنّه أو أصغر ورجال كبار أو مسنّين، باستثناء امرأتين مع زوجيهما، إحداهما شابّة والأخرى أكبر سنًا. وإن المرحّل كان هو من يشتري ما يحتاجه من طعام على حسابه في الاستراحات. وعندما وصل المعبر المصري تسلّم جواز سفره، لكنّه لم يتسلّم بطاقة الإقامة.
بدخوله السودان شعر شهاب بالراحة، بعد احتجاز “متعب جدًا” داخل القسم في مصر. ويقول إن المرحّلين عادة يمكثون في حلفا أو يتوجهون إلى ولايات آمنة كالولاية الشمالية ونهر النيل والنيل الأبيض وولاية البحر الأحمر. ورغم أنه قانونًا يحق له الطعن على قرار إبعاده المذكور فيه “لاعتبارات الصالح العام” دون تفصيل لأسباب الترحيل، وهي قرارات تصدر وفقًا للقانون رقم 89 لسنة 1960 بخصوص دخول وإقامة الأجانب، فلا يبدو مهتمًا لذلك وقد جعلته التجربة لا يريد العودة إلى مصر مرة أخرى، التي كان معتادًا على زيارتها. وحاليًا ينوي استكمال تعليمه الجامعي في إحدى الجامعات بالخارج.
وقالت الأم التي أنهكتها تجربة ابنها إن ترحيله بعد الاحتجاز الطويل في القسم مثّل راحة لهم، وإن ما حدث أربك خطط الأسرة التي كانت قد باعت بعض الممتلكات في السودان لكي يكمل أبناؤها تعليمهم في مصر. وكان الأب وهو في الأصل مهندس قد اضطر للسفر إلى أوغندا بحثا عن عمل بسبب ظروف الحرب في السودان وعدم توفر فرص عمل له في مصر، لينتهي به المطاف حاليّا للإقامة بأحد معسكرات اللاجئين هناك بعمل غير مستقر. ورغم أن الأسرة ذات جذور مصرية تعود لصعيد مصر من ناحيتي الأب والأم، فالشعور بالاستياء يسيطر على الجميع، من قسوة التجربة.
***
بعد الانتهاء من كتابة التقرير، رُحّل بالفعل في أوائل شهر كانون الأول/ ديسمبر عشرات من المحتجزين بينهم قُصّر إلى السودان. وفي صباح اليوم المنتظر للترحيل كانت مجموعة من السيدات يجلسن على الرصيف المقابل لمديرية أمن الإسكندرية: من تصطحب طفلًا، ومن تحمل رضيعًا، وأمهات بسيطات أكبر سنًا.. ينتظرن وصول أزواجهن أو أبنائهن من أقسام الشرطة، لتوديعهم سريعًا، قبل أن تنطلق بهم تلك الحافلات الزرقاء الكبيرة إلى أقصى الجنوب.. بينما لا يزال آخرون محتجزين داخل الأقسام ينتظرون مصيرهم، بينهم “مدثر”، ذو الخمسة عشر عامًا.
لاحقًا، ووفقًا لأهالي محتجزين، فقد أبلغهم مسئولو الأقسام، بأن الترحيل البرّي لم يعد متوفرا في الوقت الحالي، وأن عليهم تدبير تكلفة الترحيل بالطيران وحجز التذاكر لأبنائهم (بتكلفة 8500 جنيه على الأقل أي 170 دولارا للتذكرة إلى بورتسودان)، وإلا سيستمر احتجازهم. وهو ما يعني المزيد من الأعباء المادية على الأهالي، بعد إنفاقهم الكثير طوال مدة احتجاز أبنائهم التي امتدت لبعضهم لثلاثة أشهر، وغياب الدعم سواء من المفوضية أو غيرها من المنظمات، مع هشاشة أوضاعهم الاقتصادية من الأصل.
* كل الأسماء الواردة بالنص مستعارة