في شوارع الخرطوم بحري، كانت الحياة تُقاس بصفوف الجرار ودواليب المياه الفارغة، أكثر مما تُقاس بحركة الناس المتقطّعة ووجوههم المرهقة تحت وطأة الحصار والعطش الذي عاشته المدينة لحوالي عام ونصف.
العطش كان العنوان الأكبر للمدينة منذ بضعة أشهر، حين جُمعت هذه الإفادات للمقال، قبل أن تبدأ الحكومة في إعادة تشغيل بعض المحطات. تظلّ تلك المرحلة مرآة صادقة لمعاناة مدينة كاملة، ليس لناحية النقص في المياه فحسب، بل لناحية انهيار إيقاع الحياة نفسه في الأحياء التي طالما اتّكأت على النيل الأزرق. تحوّلت تلك الأحياء إلى مساحات يابسة، ووجد سكانها أنفسهم بين خيارين: انتظار التناكر التي يوفرها متطوّعون وأحيانًا الجيش السوداني، أو شراء قوارير المياه بأسعار تفوق قدرتهم اليومية.
لحن يومي لرحلة العثور على الماء
يقول عبد الله، أحد سكان حي الدناقلة بمدينة الخرطوم بحري، إنّه كان يرصّ باقات بلاستيكية ويتحرّك على صوت عجلة مطاطية تعرف محليًا بـ «الدرداقة» التي تُلامس الحصى الخشن كأنه لحن يومي يعلن بدء رحلة المعاناة اليومية لجلب الماء بصبر. بعدها، يعود أدراجه والدرداقة أمامه، كما أخبرنا، ملخّصًا وضعًا عامًّا عاشته بحري على امتداد أكثر من عامٍ ونصف.
في حي الدناقلة جنوب بحري، كانت الحياة تنساب بهدوء مع كل قطرة ماء تخرج من صنبور عبد الله عادل، وكان فتح الصنبور صباحًا طقسًا اعتياديًا لا يستدعي شكرًا ولا قلقًا. ثم قطعت الحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 نيسان (أبريل) 2023 هذا الحق البسيط، وحولت المياه إلى حلم صعب.
صبيحة السبت الأوّل من الحرب، حملت كارثة للمدينة؛ دمّر قصف عنيف محطة مياه بحري الرئيسية وهي المحطة التي كانت تُعد أهم محطة للشرب في العاصمة وتنتج نحو 320 ألف متر مكعب يوميًا، وتغذي مساحات واسعة من محلية بحري والخرطوم، بما فيها أحياء الصحافة جنوب الخرطوم.
توقّف تدفق المياه فجأة، وانقطعت الحياة عن الدناقلة وعن كلّ أحياء بحري الأخرى وتحوّلت المواسير إلى هياكل صدئة، وبدأت رحلة عطش طويلة لعبد الله ولآلاف السكان في مدينة الخرطوم بحري وجميع أحياء العاصمة.
تراجعت نسبة الحصول على مياه الشرب النقية في السودان بصورة حادّة من نحو 67% قبل الحرب إلى ما بين 25 و30% فقط الآن، بينما لا تتجاوز في ولاية الخرطوم 30% بحسب تصريح صحفي منشور في مجلة «آتر» السودانية لمدير عام هيئة مياه الشرب والصرف الصحي بوزارة الري والموارد المائية السودانية، هشام الأمير. موضحًا أنّ الانقطاع المستمر للكهرباء، أعاق عمل المحطات الكبرى، مضيفًا أنّ الهيئة اتجهت لاستخدام الطاقة الشمسية لتشغيل الآبار، بينما تظلّ محطات المعالجة الرئيسة متوقّفة لاعتمادها على الشبكة القومية للكهرباء. وأشار الأمير إلى أن الوزارة تعمل على تزويد الأحياء بمحطات طاقة شمسية لتقليل حدة الأزمة، لكنه حذّر من أن معاناة السكان مع نقص المياه ستستمر ما لم تُعالج أزمة الكهرباء.
طوال أشهر، كان عبد الله يدفع «الدرداقة» عبر الأزقّة قبل شروق الشمس، متّجهًا إلى نهر النيل حاملًا عبوات بلاستيكية لمياهٍ صار النيل مصدرها الوحيد. بعدها يعود على صرير العجلات، دون أن تمنع عنه الدرداقة في كثير من الأحيان رصاص قناصة الدعم السريع واعتداءات أفرادها. لم تكن حركة الدرداقة مجرد تنقل؛ كانت شهادة يومية على رحلة البحث عن الأمن المائي وعلى معاناة بيئية واجتماعية.
الصورة نفسها عكست تجربة آلاف السودانيين الذين فقدوا حقّهم في مياه نظيفة إثر القصف والتخريب الممنهج لمحطات التوليد أثناء سيطرة قوات الدعم السريع على بحري لما يقارب عشرين شهرًا، قبل أن تستعيدها القوات المسلّحة مطلع العام الجاري. ومع تحرير الأرض لم تنتهِ معاناة المياه على الفور: بقيت الأنابيب خاوية لأشهر، وبدت عمليات الإصلاح بطيئة ومعقدة ومكلفة، خصوصًا أنّ المياه التي انقطعت لأشهر طويلة عادت قبل أيام لكن على شكل فيضان هائل لنهر النيل ومجاريه في قرى شمال مدينة الخرطوم بحري، ومناطق في ولاية الجزيرة وشرق العاصمة الخرطوم، ابتلع منازلًا ومساحات زراعية واسعة وضاعف من أزمات البنى التحتية التي أرهقتها الحرب أساسًا.
آبار الموت
إلى جانب النيل، اعتمد أغلب السكّان أثناء الحرب على جلب المياه من آبار بعيدة تعمل بأنظمة طاقة شمسية أو عبر عربات بدائية تجرّها الدواب، بينما كانت جوالات المياه تُباع بأثمانٍ مرتفعة. وبعد تحرير بحري قدّمت تناكر الجيش والدفاع المدني إغاثة مؤقّتة، لكنها بقيت تخفّف العجز مؤقتًا إلى حين استعادة قدرة محطات رئيسية على العمل.
ومثلما لم تسلم المحطّات الرئيسيّة، تعرّضت 1250 بئرًا داخل الخرطوم للتعطيل والنهب أثناء سيطرة الدعم السريع، وسُرقت المضخّات والوصلات، ما زاد من هشاشة الإمداد المائي. كما أنّ انقطاع التيار الكهربائي المتكرّر أعاق تشغيل محطّات الضخ، فأصبح تأمين الطاقة شرطًا مسبقًا لعودة المياه بشكل مستقر.
تعرّضت 1250 بئرًا داخل الخرطوم للتعطيل والنهب أثناء سيطرة الدعم السريع عليها، وسُرقت المضخّات والوصلات، ما زاد من هشاشة الإمداد المائي في كافّة أنحاء الولاية
خلال الحرب، حاول أهالي الخرطوم الحصول على المياه بكلّ الوسائل. وحين تنقطع بهم السبل إلى النهر، فإنّ الوجهة دائمًا تكون إلى الأرض والعمق الذي تتيحه لهم الوسائل البدائية، نظرًا لانقطاع الكهرباء. أجبر المدنيين على استخراج المياه يدويًا، من آبار الصرف الصحي للبيوت قيد الإنشاء. وفي مناطق أخرى من شرق الخرطوم، حفر الناس في الأرض في محاولة يائسة للعثور على الماء، وهذا ما شكّل خطرًا مباشرًا على صحّتهم كون المياه في الطبقات الجوفية السطحية تختلط مع مياه الصرف الصحّي.
بعد استعادة الخرطوم، ووجود متّسعًا من الوقت للبحث والتنقيب في ما خلّفته الحرب، أظهرت الآبار ما لم يكن متوقّعًا خلال آذار (مارس) الماضي، حين عثر الناس 11 جثّة من ضمنها جثث لأطفال ونساء، في منطقة شرق الخرطوم التي كانت خاضعة لسيطرة ميليشيات الدعم السريع، وفق ما أعلنت وزارة الصحّة السودانية.
بسبب المناخ الجاف، عانى السودان من الفقر المائي، حتى ما قبل بدء الحرب، كون البلد يعتمد على نهري النيل الأزرق والنيل الأبيض، ويحتوي كلّ منهما على عدّة سدود، بالإضافة إلى مخزون المياه الجوفية التي يكتنزها تكوين الحجر الرملي النوبي في الأعماق. وعادة ما كانت تُستخدم المياه الجوفية للشرب وسقي الماشية، بينما تُستخدم مياه النيل الأزرق والأبيض بشكل رئيسي في الري.
تواطأت الظروف البيئية الصعبة في السودان، مع الاقتتال المسلح، مصحوبة بالطبع بالتغيّرات المناخية القاسية. يُضاف إلى كلّ هذه العوامل، الاستخدام العشوائي للمياه الجوفية منذ ما قبل الحرب. ففي عام 2022، كانت وزارة الري السودانية قد حذّرت من الخطر المتربّص بمدينة الخرطوم، بسب حفر الآبار العشوائي من دون التخطيط أو التنسيق مع الوزارات، مثل الآبار الارتوازية، وآبار «السايفون» التي تُحفر في الأساس لاستقبال مياه الصرف الصحي وتوجيهها إلى باطن الأرض، ما يؤدّي إلى تبعات خطيرة تؤثّر على بنية المنازل في المستقبل، وقد وجد الناس في آبار السايفون ضالتهم بسبب غياب شبكة للصرف الصحي عن الخرطوم.
حصار الكوليرا والضنك
من حي شمبات إلى السامراب، ومن الدناقلة إلى الكدرو وصولًا إلى قُرى الريف الشمالي في منطقة قري، سجّلت الإفادات المحلية مشاهد يومية لمعركة بقاء لا تختلف في قسوتها عن أزيز الرصاص: مواطنون يعتمدون على النيل مباشرةً، آبار ملوثة وحشائش كثيفة بسبب الحرب أدت إلى تزايد الحشرات والأمراض المائية مثل الكوليرا، وقطع أشجار على نطاق واسع لإنتاج الفحم وطبخ الطعام في غياب الغاز، وما نتج عن ذلك من تآكل للذاكرة الخضراء القديمة للمدينة.
هكذا اتّخذت المياه شكل الكارثة، أينما حلّت، وساهمت في حصار أجساد السودانيين العالقين أساسًا بين القصف والعطش. فمع تمدد الصراع تحوّلت أزمة المياه إلى مدخل يومي للأوبئة، انهارت شبكات الصرف الصحي التي كانت هشة أو غائبة في الأساس، وتلوّثت مصادر الشرب، حتى أعلن وزير الصحة السوداني هيثم محمد إبراهيم في آب (أغسطس) 2024 تفشي وباء الكوليرا في البلاد معلنًا حالة الطوارئ. استمرّ الوباء في التفشي، فحتى أيار (مايو) الماضي، سجّلت أكثر من 7700 حالة إصابة بالكوليرا في ولاية الخرطوم وحدها، منها 1000 حالة لأطفال دون سن الخامسة، و185 حالة وفاة مرتبطة بالمرض. أما الأسباب الرئيسية لذلك، فهي اضطرار السكان لشرب المياه من نهر النيل الأبيض، ومن مصادر المياه الملوّثة بسبب تعطّل إمدادات المياه. حالات الخرطوم تعدّ نسبة ضئيلة من إجمالي حالات الكوليرا المبلغ عنها في كلّ أنحاء السودان، والتي وصلت 83,000 حالة منذ بداية التفشي في تموز (يوليو) 2024، مما أسفر عن 2,100 حالة وفاة.
مع تمدد الصراع، تحوّلت أزمة المياه إلى مدخل يومي للأوبئة، انهارت شبكات الصرف الصحي التي كانت هشة أو غائبة في الأساس، وتلوّثت مصادر الشرب، حتى أعلنت حالة طوارئ في البلاد بسبب تفشي وباء الكوليرا الذي بلغ عدد حالات المصابين به في ولاية الخرطوم وحدها 7700 حالة خلال شهر أيار (مايو) الفائت
وبسبب هشاشة القطاع الصحي أيضًا، استمرّت الأمراض في التفشي لتتصدّر العاصمة قائمة الإصابات بحمى الضنك بنسبة 74% من إجمالي الحالات المسجلة في البلاد. وحتى هذه اللحظة، تواصل الكوليرا الانتشار مدفوعةً باعتماد ملايين السكان بينهم أكثر من مليون ونصف طفل، بحسب تقديرات سابقة لليونيسف، على مياه غير مأمونة.
هناك تحديات كثيرة تنتظر النازحين لدى عودتهم إلى المناطق التي تفتقر إلى أنظمة مياه وصرف صحي، وهذا ما ظهر على البشر، لكن ماذا عن نسبة التلوّث التي أصابت المصادر المائية؟ يعتبر الخبير البيئي طه البدوي أن الحل يبدأ برصد علمي دقيق للأضرار. ففي تصوره، لا بد من فرق متخصصة توثق ما جرى في المياه والزراعة والنباتات، وتقيس حجم التلوث وآثاره المرضية، ثم تضع تقارير مفصلة بين يدي المؤسسات المحلية والدولية.
ما يراه البدوي أن تشغيل المحطات المتضررة، ودراسة آثار القطع الواسع للأشجار، يحتاجان إلى دعم مباشر من الأمم المتحدة، لأن أي معالجة سطحية «لن تكون سوى مسكن قصير العمر» بحسب قوله.
خطــ٣٠ // باستخدام Ai // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
أسلحة العطش
خلال الفترة التي أعقبت استعادة أجزاء من بحري، تحرّكت فرق هندسية لتقييم الأضرار وإعادة التأهيل. وفي محطة بحري الرئيسية واجهت فرق الصيانة استهدافًا بالقنص من قوات الدعم السريع قبل سيطرة الجيش على العاصمة ككل، مما أجبر الطاقم على الانسحاب حفاظًا على أرواحهم. بعدها أعلنت الهيئة عن خطط إسعافية تضمنت حفر آبار وتشغيل مضخات تعمل بالطاقة الشمسية حتى تأمين تمويل لإعادة تأهيل المحطات الكبرى.
وبينما اجتمعت الأزمات متمثّلة في المياه المختلطة بالملوثات، والأمراض المرتبطة بالمياه، وشبكات الصرف الصحي المدمرة، ونقص آليات جمع النفايات، بالإضافة إلى جثث الموتى والمقاتلين المنتشرة في الشوارع، انتشرت المبادرات المحلية الشعبية والأهلية فظهر بصيص الأمل في بعض الأحياء وإشارة لانطلاقة تعافٍ بطيئة. في شمبات شمالي الخرطوم بحري تبرع رجل أعمال لتشجير الحي وحفر آبار بالطاقة الشمسية، وفي السامراب، مثلًا، نجحت جهود الأهالي والمغتربين وغرفة الطوارئ المحلية في توفير غازولين بانتظام لتشغيل مضخات تعمل بالديزل، ما خفّف من حدة العطش نسبيًا في الحي، بينما تحوّل قطع الأشجار لصناعة الفحم إلى واقع أزال كثيرًا من ظلال الشوارع.
وفي قُرى الريف الشمالي باتت 90% من الأسر، نحو ستة آلاف عائلة، تعتمد على مياه النيل دون تنقية، وهو ما صاحبه ارتفاع كبير في حالات الإسهالات والملاريا وفق إفادات طبية ومصادر محلية من غرف الطوارئ التي تحدّثنا إليها خلال شهري نيسان (أبريل) وأيار (مايو) الماضيين.
أمام محاولات التعافي المستمرّة بعد العودة إلى المدينة، دمّر عناصر من قوّات الدعم السريع المختبر الرئيسي لفحص المياه في ولاية الخرطوم في تموز (يوليو) الماضي، والذي يعتبر أكبر مختبرات المياه الولاية، وكان يقوم بفحص مياه نهر النيل والآبار للقطاعين العام والخاص، وهو المختبر الذي كانت ستعتمد عليه الولاية في هذه المرحلة. يستكمل هذا الاستهداف ما قامت به قوّات الدعم السريع خلال الحرب، من خلال توظيف المياه كسلاح بوجه الناس، عبر هجمات ممنهجة على البنية التحتية الحيوية للمياه في كل أنحاء السودان، مثل دارفور وكردفان والجزيرة والنيل الأزرق والنيل الأبيض، فيما كانت دارفور من أكثر المناطق تضرّرًا، خصوصًا المناطق التي تسكنها في الغالب المجموعات العرقية غير العربية.
وهذا ما يستحضر الفظائع التي ارتكبتها القوات السودانية وميليشيات الجنجويد (الدعم السريع) خلال صراع عامي 2003–2004، إذ وجدت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية أسبابًا دامغة على أنّ القوات الحكومية السودانية قامت بتسميم الآبار ومضخات المياه عمدًا في مجتمعات الفور والمساليت والزغاوة، كجزء من أعمال الإبادة الجماعية. كرّرت قوات الدعم السريع هذه الانتهاكات في 2024، خلال الهجوم الذي شنته على مدينة الجنينة، حين قطعت الكهرباء والمياه عن المدينة، وأطلق عناصرها النار على من حاولوا ملء المياه. بعد ذلك، سيطرت قوات الدعم السريع على محطة المياه الرئيسية في المدينة واستخدمتها كقاعدة عسكرية، واستولت على مصادر المياه، ودمّرت المضخّات عمدًا.
أجراس إنذار إضافية
مع اكتمال سيطرة الجيش السوداني على العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث (الخرطوم، الخرطوم بحري، وأم درمان)، وعودة قدر من الأمن النسبي، شهدت بحري عودة تدريجية للمياه إلى أغلب الأحياء بعد تشغيل محطات رئيسية جزئيًا، وعدد من الآبار العاملة بالطاقة الشمسية. إلا أن انتظام الإمداد ظلّ رهنًا بثبات التيار الكهربائي وتمويل إعادة التأهيل الكامل للمحطة الرئيسية. ولو أن المياه عادت اليوم إلى غالبية الأحياء، فإن انقسام الفترات الزمنية للضخ، والحاجة إلى صيانة مستمرة، وغياب مراكز صحية كاملة في بعض الأحياء أبقى المخاطر الصحية والبيئية موجودة.
لم تكن بحري وحدها من حملت آثار الحرب على البنية المائية والبيئية، لكنها بدت كمرآة لما جرى في العاصمة كلها. فالمياه التي غابت عن صنبور عبد الله في الدناقلة، وانقطعت عن مضخات السامراب والكدرو وغيرها من أحياء بحري، هي ذاتها التي تعطلت في أم درمان وجنوب الخرطوم. كذلك، تأثرت محطة المقرن وسط الخرطوم، بعدما جرى تخريبها، وفي المستشفيات جنوب الخرطوم كان الوضع أشد وطأة؛ إذ عطلت ندرة المياه النظيفة العمليات الجراحية وأجبرت بعض المرافق على تخزين مياه النيل في براميل بدائية لتعويض الانقطاع. وبحلول عام 2024، وثقت حالات فقدان محولات كهرباء ومعدات تشغيلية أساسية لمحطات المياه في جنوب الخرطوم وأم درمان، جراء السرقات أو التخريب خلال المعارك، ما جعل إعادة الخدمة مهمة شبه مستحيلة حتى مع فترات الهدوء النسبي. المشهد يوحده العطش والخراب، لكن التفاصيل تختلف بين حي وآخر. وبينما تتوزع جهود الأهالي بين «الدرداقة» وآبار الطاقة الشمسية ومحاولات التشجير، تظل الخرطوم مدينة تعيش بين التهديد والاستمرار.
في زحمة شهادات الأهالي، بدا صوت الخبراء كأنّه جرس إنذار إضافي. تركّزت الدعوات المحلية والدولية على ضرورة تمويل طوارئ لإعادة تأهيل المحطات وإدخال محطات تعمل بالطاقة الشمسية، ومشروعات شاملة لإعادة التشجير ومكافحة الآفات، إلى جانب ملف إعادة تأهيل شبكات الصرف ونقل النفايات لمنع تدهور أكبر للصحة العامة.
يرى الدكتور بشرى حامد أحمد، رئيس المجلس الأعلى للبيئة بولاية الخرطوم، أنّ ما يُبذل في بحري جهد مقدر، لكنه يظل «نقطة في بحر الخراب». في نظره، لا يمكن أن تعود الحياة الصناعية والسكنية دون تدخل اتحادي عاجل، وصناديق طوارئ إقليمية، وخطة لإعادة تشجير الأحياء التي جردتها الحرب من أشجارها، تاركةً فراغًا بيئيًا ساعد على انتشار القوارض والزواحف. ويشير أيضًا إلى أن المدينة فقدت أكثر من مئة آلية للنظافة، فتكدست النفايات حتى صارت تهدد صلاحية السكن نفسه.
في المنطقة الصناعية لبحري تحديدًا، تبرز ملامح الانهيار بوضوح؛ دُمّرت شبكات الصرف الصحي بالكامل، وباتت عودة الحياة الصناعية والسكنية مرهونة بإعادة تأهيل شاملة للبنية التحتية. يشير بشرى إلى تنامي السكن العشوائي داخل مناطق مخصصة للإنتاج، وهو ما يتطلب معالجة حازمة ضمن جهود التخطيط الحضري. وعلى صعيد النظافة العامة، يلفت إلى أن المدينة فقدت أكثر من 100 آلية لجمع النفايات، كما تضررت المرادم ومحطات المعالجة، ما ينذر بتكدس أكثر من 3 آلاف طن من النفايات أسبوعيًا، وتهديد مباشر لصلاحية السكن إذا لم تُتخذ خطوات سريعة.
وقد ترك قطع الأشجار خلال الحرب فراغًا بيئيًا ساعد على تدهور المناخ المحلي وانتشار الحشائش الطفيلية، التي ساهمت بدورها في تفشي العقارب والزواحف والقوارض. وهنا، يدعو الدكتور بشرى إلى خطة متكاملة تعيد التشجير وتكافح الآفات وتنظف الأحياء، مشيرًا إلى أنّ عرض هذه التحديات على المجتمع الدولي لا بد أن يتم عبر وثائق فنية واضحة ومنظمة، تضمن أن أي دعم يصل سيُستخدم بمهنية وشفافية، لأن بحري ـ بكل تاريخها وموقعها ـ تستحق فرصة جديدة، لا للبقاء فقط، بل للحياة الكريمة أيضًا.
ورغم هذا الواقع القاسي، بدأت بحري والعاصمة كلها ترى بوادر عودة جزئية للمياه. خلال الأشهر الماضية أعيد تشغيل محطات مثل الشجرة وبيت المال، إلى جانب تشغيل مضخة مساعدة في محطة الصهريج، واستئناف الضخ في محطات بحري (جزئيًا) والنية وكرري والجريف شرق وغيرها. لكن هذه العودة ما تزال مشروطة بالكهرباء المتذبذبة، وبالقدرة على تأمين قطع الغيار وكلفة التشغيل اليومية، وهكذا تبقى بحري، بين عطش الحرب وبدايات التعافي، شاهدةً على أن الطريق طويل، وأن استعادة الماء إلى كل بيت لن تكون ممكنة من دون خطة أوسع تُعيد التوازن بين النيل والكهرباء والناس.
* يُنشر هذا المقال ضمن مشروع «غرين بانتر» بالتعاون مع مؤسسة «تاز بانتر»