لو كنت قضيت مثلي وقتًا في قرية من قُرى دلتا مصر في طفولتك، ولو كانت طفولتك في التسعينيات أو قبلها، فلعلك عرفت شجرة الصفصاف، أو أم الشعور، واسمها في بلاد أخرى «weeping willow». شجرة كبيرة مهيمنة خصوصًا في أعين الصغار، مقارنة بالأشجار الأخرى القليلة والحقول المنبسطة من حولها. فروعها الخضراء، وكأنها خُصلات من الشعر الأخضر، تمتد في أقواس أنيقة.. ترتفع لأعلى قليلًا، ثم تترنح لمسافات طويلة في اتجاه الأرض، حركتها مع الرياح لا تهدأ، لكنها حركة ناعمة هادئة. رأيتها دومًا على شاطئ الترعة الصغيرة، ورآها غيري على شاطئ النيل.
في هذا المقال أمشي مع الصفصافة عبر الأعمال الأدبية التي وصفت تلك الشجرة على ضوء النوستالجيا، الحنين للماضي الريفي النقي، واستخدمتها في أغراض أخرى، من ثم أنتقل إلى رحلة عبر الزمن، عندما كانت شجرة الصفصاف تُستخدم – ومعها شجرة السنط في الصعيد – لصناعة الفحم الشجري من أجل بناء الاقتصاد المصري وإمداد مشاريع محمد علي باشا بمواد لازمة لمشروعه التوسعي الإقليمي. هاتان مساحتان متناقضتان للشجرة، بين الأدب والشعر والحنين على جانب، والاقتصاد والحرب على الجانب الآخر، يستكشفهما المقال لغاية محددة، هي مُطاردة وعد أرى «التاريخ البيئي» كحقل معرفي يعدني به، ألا وهو: مُراجعة تاريخ مصر الحديث والنظر إليه على ضوء جديد.
وانحنت صفصافة كانت على النهر تُصلّي…
أسرت الصفصافة خيال روائيي مصر وشعرائها الحداثيين، وأصبحت كيانًا ذا دلالات عدة في شعر وأدب الستينيات، الذي ارتكن إلى – أو استخدم – النوستالجيا الريفية بعدة سُبل ولأغراض مختلفة. يوسف إدريس – ولعله من أشهر وأنجح من تعامل من الأدباء مع ريف الدلتا في النصف الثاني من القرن العشرين – وصف الصفصافة على ضفاف نيل القاهرة في الثمانينيات وكأنها أم لطفل مُشرد يقيم في الشارع. في قصة «أمه» من مجموعة «العتب على النظر»، يغادر طفل بيته ويتخذ ثنايا جذوع وجذور صفصافة على النيل في فضاء القاهرة الصاخب بيتًا له. تصبح مأواه الذي يرجع إليه من المدينة ويختبئ فيه.
أما محمد جبريل، روائي الإسكندرية، فهو يقدّم لنا الصفصافة في حوار بين سكندري وقروي يقدمان مقابلة بين حياة الريف والمدينة. القروي يتكلم عن «أم الشعور» ومعها «داير الناحية ووابور الطحين (..) وسكة الزراعية والمصطبة»، ويقارن بين هذه الموجودات – بمحبة – والمدينة الكوزموبوليتانية الصاخبة ومفرداتها: «المعارض الفنية، والمتاحف، والحفلات الموسيقية (..) ومزق الأوراق والزجاجات الفارغة ومعلبات الصفيح والكرتون».
وفي الشعر، أصبحت أم الشعور رمزًا لمصر الريفية نفسها – على غرار دورها كأم لطفل في قصة يوسف إدريس «أمه» – في قصيدتين على الأقل كُتبتا تأبينًا للزعيم جمال عبد الناصر سنة 1970. في قصيدته إلى ناصر، «أحزان الفقراء»، يقدّم فاروق شوشة الصفصافة مع المُعزين المتألمين على فراق الزعيم:
وانحنت صفصافة كانت على النهر تصلي
وانثنت حبارة تغمس في الشط المدمى راحتيها
وهي تبكي..
تلثّم الأرض التي ضمتك عودًا فارعًا كالسنديان
عندما عدت إليها ذات يوم
قطعة من أرض مصر
قطعة من قلب مصر
نبتة تزهر خصبًا وحياة
سمع الملايين ما زال يصغى لصوته
ويجهش بالدمع حين يراه بصمته
على خطوة الكادحين
وفى أوجه الشرفاء
وفى نظرة الفقراء
وفى كل فأس بكف السنين
وفى كل صفصافة كفكفت
بأوراقها أدمع المتعبين.
ولعل السطر الشهير من أغنية عبد الحليم حافظ بعد نكسة 1967، «بلدنا على الترعة بتغسل شعرها»، كانت فيه إحالة ضمنية إلى أم الشعور. أما شِعر حلمي سالم ما بعد الحداثي كافكاوي الأجواء، فنظر إلى بيئة الدلتا نظرة مختلفة، وإلى الصفصافة ككيان له وجود غير مريح ومشؤوم. في قصيدة تناوئ الأداء النوستالجي للشعر الحداثي المذكورة أمثلة منه أعلاه، حيث المفردات الريفية مجازات تحيل إلى مصر الطيبة الكائنة في الماضي العزيز القريب، كأمّ تنتظر أبنائها الذين خرجوا في مغامرات التحديث والتقدم والكفاح، قال سالم:
طلمبات الطريق الزراعي
ما تزال في مكانها بجوار صفصافةٍ.
كنا شربنا وغسلنا الوجوه
ونظفنا الحذاء من وحلة الحقل،
وحينما مررنا يوم الأحد،
لم نشرب ولم نغسل الوجوه،
ولم ننظف الحذاء من وحلة الحقل.
ربما كان السبب
تصلب الشريان
أو ندرة الوحل في مصر،
مع أن الطلمبات ما تزال في مكانها
بجوار الصفصافة.
طلمبات الطريق الزراعي ظلت في مكانها بجوار الصفصافة، لكن كابوس يُطارد المشهد المألوف، المُريح في خيالات أخرى، ويخبرنا سالم أن «طلمبات الطريق الزراعي ما تزال/ في مكانها/ لكن المؤكد أن الوحل/ انتقل من الأحذية/ إلى الحجاب الحاجز».
ثم إن الصفصافة وشجرات مصر الريفية الأخرى واجهت الإزالة الجماعية منذ مطلع الألفية الجديدة، مع تحوّل سياسة الري والصرف الزراعي إلى نُظم ري مُغطاة عبر مناطق ريفية كثيرة على أطراف المُدن والمراكز. ودخلت الكثير من قنوات وشرايين وأوردة المياه العذبة الأخرى مؤخرًا في برامج الحكومة لتبطين التُرع بالخرسانة المسلحة، لتقليل الفاقد في المياه. إذن أصبحت الصفصافة زائدة على الحاجة – إذ كانت من قبل ذلك تُستخدم زراعيًا في دعم وإمساك التربة على ضفاف الترع – وتعينت إزالتها لتفسح الطريق أمام الحلول الخرسانية لتوفير المياه.
تبطين الترع
الشجر في مصر «الحرّانة»
برزت بقوة مسألة الأشجار على عمومها – وليس الصفصاف حصرًا – على مواقع التواصل الاجتماعي في صيف 2023 ثم صيف 2024. في وسط موجات الحر المطولة الملتهبة في هذين الصيفين – حيث ارتفعت درجات الحرارة فوق 40 درجة مئوية وظلت على هذا المستوى لأسابيع دون هُدنة، وانتشرت كتابات على السوشيال ميديا تشتكي من قطع أشجار القاهرة، وكيف سقطت ضحية لخطط الدولة الطموحة لتهيئة طرق سريعة جديدة عبر المدينة، سعيًا لخفض مدة الرحلة من وسط البلد إلى العاصمة الإدارية الجديدة، وقيل إن السبب في موجة الحر – هذه وتلك – سببه جزئيًا قطع الأشجار، رئة المدينة.
لكن تغير المناخ – ومعه موجات الحر غير المسبوقة – ورائه عوامل وسيرورات أكبر نطاقًا من شجر القاهرة، فنحن نعيش في عصر الأنثروبوسين (الحقبة الجيولوجية التي صنعها البشر بتغييرهم من توازنات الكوكب الفيزيقية-الكيميائية-الحيوية بما يشمل تكوين المحيطات والغلاف الجوي والتربة، إلخ، ويُطلق الوصف كمجاز أو كوصف علمي دقيق، بحسب رؤية هذا الباحث وذاك للأمر) حيث كل العواصف أكثر دمارًا وكل موجات الحر أشد التهابًا وفتكًا بالبشر. على ذلك، تبقى الأشجار وثيقة الصلة بتاريخ تغيّر المناخ في مصر. اللافت أن غرس الدولة لأعداد هائلة من الأشجار في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر – وليس قطعها – كانت عملية مثلت جزءًا لا يتجزأ من مرحلة سعي مصر إلى الانضمام للقوى العالمية المُحركة لتغيّر المناخ، لمّا بدأ ينفض عن رأسه الغبار وينهض من تحت الأرض بفِعل الرأسمالية الصناعية التي حرقت الوقود الأحفوري (الفحم ثم النفط) لزيادة تراكم الثروة. إنها مفارقة تحتاج للتوضيح والتفسير.
لكن قبل شرح وتفسير هذه المفارقة، دعوني أذكر أمرين دالين على وجاهة هذا الادعاء واستحقاقه للنظر ضمن ما ننظر إليه في تاريخ مصر الحديث (أي الادعاء بأن لغرس الشجر على نطاق واسع دور في تدشين تغيّر المناخ). أولًا، الرجوع بالزمن قرنين للتعليق على الوضع الراهن لتغير المناخ، كما أقصد بهذا المقال، ليس فيه من الشطط أو الخطأ أي شيء. على النقيض، يوضّح لنا علم المناخ بجلاء أن تغير المناخ ظاهرة تاريخية، إذا كانت ثمة كلمة واحدة تصف علاقة تغيّر المناخ بالزمن. فجزيئات الكربون التي اشتدت كثافتها في الغُلاف الجوي وتسكنه حاليًا – لتسبب الاحتباس الحراري، وهي مسؤولة جزئيًا على الأقل عن موجات الحرّ المذكورة – صعدت إلى السماء وظلت تتراكم يومًا بعد يوم من لحظة انطلاق الثورة الصناعية، ومنذ بدء الصناعة الحديثة والميكنة الزراعية في مصر بعد عقود من انطلاق الثورة الصناعية في إنجلترا. ثانيًا، بعد أن أصبحنا نعرف أن للمؤرخين دور في محاولة فهم تغيّر المناخ، هناك أدلة تاريخية وأرشيفية كافية – وصلتنا من عقود محمد علي باشا في السلطة – على أن للأشجار صلة تاريخية قوية بتغيّر المناخ في سياق مشروع محمد علي التحديثي التوسعي.[1]
صفصاف بناء الإمبراطورية: لصُنع البارود والوابورات
ظهر أدب وشعر حداثة الستينيات والسبعينيات في سياق حركة ثقافية أعرض لم تشكك لحظة في كون محمد علي قد بنى مصر الحديثة. كان ذلك أدعاءً بدأ يظهر في الصحافة المحلية منذ أواسط عشرينيات القرن العشرين، حين وُصف محمد علي بـ “منشئ مصر الحديثة”. ما كان أحد – بما يشمل الشعراء والروائيين المذكورين أعلاه – ليختلف مع التصور السائد، بأن الباشا وطّن الصناعة الحديثة في مصر، وحدّث جهاز الدولة، وأدخل التعليم الحديث.
غلاف مجلة المصور (العدد 15، 30 يناير 1925)
لكن ذلك الشق الخاص بالصناعة الحديثة غير صحيح. سعى محمد علي إلى إدخال الطاقة البخارية إلى مصر منذ مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر، لتشغيل مصانع الغزل ومعامل البارود ومسابك الحديد التي كان يصنع فيها آلات الغزل والنسيج وغيرها من الماكينات. لكن بريطانيا – الدولة التي حازت تلك التكنولوجيا الحديثة غير المسبوقة حينئذ – كانت تحرس ذلك السرّ بكل حرص، على الأقل لبعض الوقت (اشترى محمد علي بعض المحركات البخارية في عشرينيات القرن التاسع عشر من ورشة فرنسية كان يعمل بها صُناع محركات إنجليز، لأن بريطانيا ظلت حتى سنة 1824 على الأقل تحظر تصدير المحركات البخارية). حتى المحركات البخارية (الوابورات) القليلة التي تمكّن محمد علي من شرائها في عشرينيات القرن التاسع عشر لم يجد لها إمدادات فحم محلية في مصر تشغلها، وكان الفحم المستورد من إنجلترا باهظ الثمن لدرجة جعلت الإنتاج باستخدام المحركات البخارية مسألة غير اقتصادية.
كانت هناك الكثير من المعامل والفابريقات (مسميات مختلفة لكلمة مصنع، التي لم تظهر في اللغة العربية بمعناها الحديث إلا في بدايات القرن العشرين) ازدهرت حتى مطلع أربعينيات القرن التاسع عشر، وكان مصنع غزل واحد بين ثلاثين مصنعًا يكفي إنتاجه لتغطية احتياجات كل السوق المحلية في مصر، لكن ، وكانت تلك الماكينات مُصممة في الأصل بحيث يحرك عمودها المركزي هذا (ويُسمى الطنبور، أو عمود الكرنك بلغة الميكانيكا حاليًا) مُحرك بخاري يعمل عن طريق حرق الفحم لتوليد ضغط جوي بُخاري، بموجبه تتحول الطاقة الحرارية إلى طاقة حركية.
في اللحظة التي دأب الباشا فيها على صبّ آلات الغزل والنسيج في بولاق والمسابك الأخرى التي انتشرت في أنحاء الدلتا، بناء على تصميمات لآلات فرنسية وبريطانية على أحدث طراز وبمساعدة مهندسين أوروبيين استعان بخدماتهم، كانت كل الآلات تدور بقوة الحيوانات العضلية، حتى يعثر الباشا على مناجم الفحم في مصر وحولها ليشغّل المحركات البخارية بدلًا من الثيران.
بحلول أواخر أربعينيات القرن التاسع عشر، كان الباشا قد استعان بخدمات الكثير من الجيولوجيين والمنقبين عن الفحم من أوروبا، ليبحثوا له عن عروق مناجم الفحم في مصر والسودان وفلسطين وحتى حدود فارس. جاءوا من إنجلترا وفرنسا والسويد ومن بلاد أخرى، ولم يجدوا شيئًا، باستثناء مناجم فحم جبل لبنان. وكانت غزواته – التي كان مصيرها النهائي الفشل – في سوريا الكبرى في ثلاثينيات القرن التاسع عشر من بين دوافعها الأساسية سعيه وراء الفحم.
كان الفحم الذي فهم الباشا جيدًا أن لا نفع من المحركات البخارية التي شغّلت آلات الثورة الصناعية الحديثة من دونه، يحتل مساحة كبيرة من تفكيره حول ما قدّمه المؤرخون من بعده في صورة مشروع خلق إمبراطورية في بعض المناطق العربية – بالأساس – من الإمبراطورية العثمانية. في أواسط الأربعينيات، بعد عقدين من الإخفاق في العثور على مناجم فحم محلية، قال الباشا لدبلوماسي إنجليزي صديق: «الفحم! الفحم! الفحم! (..) ذاك هو الشيء الوحيد الذي أحتاجه». وفي الوقت نفسه، عيّن جيولوجيًا إسكتلنديًا، حتى بعد أن ظنّ الجميع أنه هُزم وهرم من بعد تكالب القوى الأوروبية عليه في سوريا، واستدعى المهندس إلى قصره في شبرا وكشف له عن دوافعه وراء سعيه المحموم وراء الألماظ الأسود. قال محمد علي مُخاطبًا المهندس: «عندما تعثر على الفحم (..) سوف أصنع البنادق والمحركات البخارية، وسوف أستقلّ عن إنجلترا».
في تلك اللحظة – أواسط أربعينيات القرن التاسع عشر– كان الباشا في خضم أزمة كبرى. كانت بريطانيا قد هزمت ابنه إبراهيم باشا في سوريا الكبرى عام 1840. كان الأسطول البريطاني مجهزًا بأحدث تكنولوجيا السفن العسكرية البخارية، وأوّلها، ما أدى إلى انتصاره بشكل حاسم. وكان الطاعون البقري قد أجهز على كل القوة الحيوانية في مصر بين 1842 و1844، فأصبحت عملية تشغيل المصانع شاقة بل شبه مستحيلة، وانهار التصنيع الحديث الذي قيل إن محمد علي بدأه ونهض على أكتاف الفلاحين والبهائم. وكانت بريطانيا – كما يتبين لنا من كلامه مع الصديق الدبلوماسي – هي الخصم الذي تمنى لو يجد الفحم فيتمكن من مواجهته متسلحًا به كوقود للصناعة وذخيرة للحرب. هزمت السفن البخارية البريطانية إبراهيم باشا في عكا في عام 1840. كان الفحم البريطاني هو الأساس تحت-الأرضي للصناعة الإنجليزية الحديثة. وكان – باختصار – البنية التحتية للإمبراطورية البريطانية، أول قوة عالمية مهيمنة تعتمد على الوقود الأحفوري.
راح الباشا يبحث عن الفحم إذن ليبني دولة قوية مهادها تحت-الأرضي هو الوقود الأحفوري، تكون قادرة على تحدي الإمبراطورية المهيمنة. لو نجحت مساعيه، لكان الاحترار العالمي يتسلل إلى بقعة جديدة من العالم وكان ليُراكم انطلاقًا من سمائها سحابات جديدة من جزيئات الكربون، ليضيف إلى ما كان ينبعث منها بالفعل بكثافة بالغة من تحت سماء إنجلترا.
لكن بينما سعى الباشا حثيثًا وراء الفحم – بما يشمل إجبار الدروز في جبل لبنان على استخراجه – سعى أيضًا إلى إضافة قوى محركة مُتجددة إضافة إلى قوة الثيران العضلية، لتشغيل الآلات. جرّب محمد علي إقامة طواحين الهواء وتشغيل طاقة المياه – الأولى على مقربة من الإسكندرية والثانية على أهوسة مشاريع الريّ في مختلف أنحاء الدلتا والصعيد – لكن تلك المشروعات لم تحقق له نتائج. وفي أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر – في اللحظة التي نهض فيها الفلاحون للفرار من قراهم بأعداد غير مسبوقة هربًا من السخرة والضرائب العينية – استثمر الباشا كثيرًا في زراعة الأشجار لينتج منها الفحم الشجري، وكان يريد استخدامه في صناعة البارود وسبك حديد الآلات البخارية وتصنيعها، وتشغيل المحركات.
والفحم الشجري لا علاقة له بالفحم. الفحم معدن ثقيل الوزن يُستخرج من مناجم تمتد في عروق تحت الأرض، وهو في الأصل كان نباتًا مائيًا قبل ملايين السنين، دُفن وتحجّر وتحوّل إلى مادة عضوية قوامها بالأساس الكربون. مصدره الأول نباتي لكنه بعد ملايين السنين تحوّل إلى معدن كثيف الجزيئات يحترق ببطء ويولد طاقة حرارية هائلة. أما الفحم الشجري فهو خشب طبيعي يُحرق بتقنيات مختلفة في كمّارات. وزنه خفيف واحتراقه أسرع وطاقته الحرارية أقل بكثير من الفحم.
شجرة السنط، واسمها العلمي Acacia Nilotica، قطعها الباشا وحوّل خشبها إلى فحم شجري مشهور بجودته العالية كوقود لمحركات البخار في غياب الفحم. أما فحم الصفصافة فكان يُحرق ويُسحق ويتحوّل إلى مكوّن أساسي وضروري في صناعة البارود، في غياب الفحم.
باتت أشجار السنط والصفصاف إذن من صُنّاع الإمبراطورية التي حلم بها محمد علي؛ الأولى تمنّى لو تعطيه الوقود الكافي لصُنع وتشغيل المحركات البخارية، والثانية كان خشبها يُحرق ويُسحق ويدخل في صناعة بارود البنادق.. أشجار تتحول إلى غذاء للصناعة الثقيلة وذخيرة في الحروب المُراد شنّها لحماية التجارة العالمية القائمة على هذه الصناعة.
وكانت الصفصافة والسنط من الأشجار القديمة في مصر (والأولى انتشرت في الدلتا والثانية انتشرت في مصر الوسطى والعليا) من قبل القرن التاسع عشر. هناك أدلة تاريخية كافية تشير إلى وجود الشجرتين وإلى استخداماتهما المادية والثقافية منذ عهود مصر القديمة (فضلا عن أدلة تشير لوجود الصفصاف في التاريخ القديم في كل من فلسطين والعراق)، أو هي على الأقل أدلة كافية للجزم بانتشار الشجرتين في الدلتا ووادي النيل من قبل وصول محمد علي إلى السلطة في سنة 1805.
بين 1828 و1830، زرع محمد علي في الدلتا 4.3 مليون شجرة جديدة. كان من بينها 1.1 مليون شجرة سنط، و300 ألف شجرة صفصاف. ولا يُظهر لنا الأرشيف إذا كان محمد علي قد استورد سلالات جديدة أعلى إنتاجية للخشب من هاتين الشجرتين، أو هو كرّس لوجود السلالات المصرية القديمة، لكن المؤكد أن هذه الملايين من الأشجار قد غُرست وزُرعت في ظل استثمارات كبيرة من الأموال واليد العاملة، مع مد تجهيزات الريّ إليها وكأنها محاصيل قطن أو غلال، وقد زُرعت في أراض زراعية خصبة كان من الممكن زراعة القطن أو محاصيل نقدية أخرى فيها وبيعها في السوق العالمية.
في مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أمر الباشا عماله بتحويل 700 فدان في طنطا ونواحيها إلى غابة من السنط واللبخ (بكميات أقل بكثير في حالة اللبخ)، مع اختيار الأرض بعناية، وإمدادها بالقدر الكافي من البنية التحتية للري واليد العاملة، من «الأنفار والمواشي الكافية مع الجناينية» (أمر من عزيز مصر إلى مأمور طنطا، 15 رمضان 1246 هـ). وكانت تلك الفدادين السبعمائة مجرد دفعة جديدة من مشروع غرس السنط في الغربية. في مايو 1831، ذكر الباشا في أمر من أوامره أنه «لضرورة لزوم حطب السنط وإعمال الفحم منه؛ فقد اهتم في زراعة ستة آلاف فدان من شجر السنط بالغربية، وعليه يشير ببذل الهمة والاجتهاد في زرع ألف ألفين فدان بالأقاليم القبلية من ذلك بمصاريف على طرف الميري» (أمر إلى كتخدا بك مدير الوجه القبلي، 8 ذي الحجة 1246). إذا كانت آلاف الأفدنة في الغربية والصعيد مُستخدمة في زراعة السنط بناء على نفس النمط الكثيف في الإنتاج المشهود في السبعمائة فدان في طنطا أعلاه، فلابد إذن أنها كانت محاولة جادة وكبرى لإنتاج الوقود البديل – أي الفحم الشجري – بكميات تجعله مجدٍ اقتصاديًا كوقود.
وفي الوقت نفسه، صدرت أوامر موازية من الباشا لعماله بتعيين صُناع للفحم الشجري. ومنذ أواسط القرن الثامن عشر على الأقل كانت دندرة مركزًا لتصنيع الفحم الشجري بكميات تغطي أغلب الطلب في مصر. في صيف 1835، سأل الباشا مديري مديريات الدلتا إذا كانوا يعرفون أسطوات الفحم الشجري. وقال لهم، إنه إذا لم يكن في مديرياتهم مثل هؤلاء الأسطوات فعليهم استقدامهم من الصعيد. وأضاف أخيرًا ضرورة: «عمل الفحم وعدم حرمان الأهالي من هذه الفائدة» (أمر إلى مديري بحري ما عدا الجيزة والبحيرة، 16 ربيع آخر 1251). وبعدها مباشرة، أمر أحد مديريّ وجه قبلي الاثنين:
«”يلزم إرسال أكم نفر لإقليم المنوفية لتعليم أهليها، وتخصيص ما هي [ماهية/أجر] مناسبة إليهم، وصرف ماهية أكم شهر فورًا، وبعد تعليم أهاليها تلك الصنعة سيجري إعادتهم بالثاني للمديرية، والاكتفاء بإرسال معلمين منهم لسائر مديريات وجه بحري». (أمر إلى مدير نصف أول قبلي، 27 ربيع آخر 1251).
الصفصافة.. أم الشعور.. كان مُخطط أن تزيد أعدادها بعد سنوات من زراعة 300 ألف شجرة منها في طنطا بداية من عام 1828. بدلاً من تخصيص أراضيه عالية الجودة لزراعة المزيد منها، بدأ محمد علي برنامجًا هو تنويعة على نظام التوريد من المنتجين المباشرين، بدلًا من الإنتاج الكبير. في مارس 1833 أمر الباشا جميع مديري المديريات بإخبار الفلاحين أن أي شخص يزرع صفصافة سيأخذ بعض النقود. ومن هذا البرنامج التحفيزي، يؤمر بنقل كل الأشجار والخشب إلى «البارودخانة أولًا بأول». (أمر إلى رئيس المجلس 3 ذو القعدة 1248).
ومع أواخر القرن التاسع عشر، بعد عقود من انتهاء ونسيان مشروع محمد علي للوقود العضوي البديل، هيمن السنط والصفصاف على المشهد الريفي الذي صادفه السائحون حيثما حلّوا في مصر. في دليل بايدكر للسياحة، طبعة 1885، ثمة انطباع بأن السنط كان يهيمن على المشهد في الصعيد، وأن الصفصاف كان منتشرًا بقوة في الدلتا. وفي دليل للبستنة في وجه بحري، وُصفت الصفصافة بأنها منتشرة في القاهرة كذلك، و«تُزرع بكميات كبيرة على ضفاف الترع».
وفي تلك العقود – من بعد محمد علي – اندمجت مصر بدوائر الرأسمالية العالمية عن طريق الديون وتكثيف الزراعة الأحادية للقطن وقصب السكر، ونشر تكنولوجيا الوقود الأحفوري في النشاط الزراعي بهدف تكثيف إنتاج هذين المحصولين تحديدًا. وسرعان ما دُمجت مصر بالرأسمالية الصناعية في صورة اقتصاد ريفي تابع، بعد أن حرمها غياب الفحم في مطلع القرن التاسع عشر من ملاحقة بريطانيا في صعودها المحموم إلى قمة حقبة الأنثروبوسين مُسلّحةً بحرق الفحم وتشغيل المحركات.
أشجار الأنثروبوسين
الأشجار التي غُرست بكثافة في غابات وصلها الماء بالري المُكلّف لتتحول إلى فحم شجري لصناعة البارود وتشغيل المحركات البخارية، خرجت من مساحة بناء الدولة والمطامح الإمبراطورية الخائبة من أواسط القرن التاسع عشر، وانتقلت إلى مساحة دعم ضفاف الترع والمصارف، ثم تحوّلت أخيرًا إلى مفردات للرومانسية والنوستالجيا في أدب وشعر مصر الريفية الحداثي، قبل أن تُقطع أخيرًا ضمن خطط الدولة لتحسين البنية التحتية للريّ وبناء مدن جديدة هائلة في الصحراء.
مشينا مع الصفصاف والسنط وفكرنا معه، فها نحن نصل الآن إلى نقطتين، عن إعادة كتابة تاريخ مصر الحديث من عدسة وأعين «تاريخ الأنثروبوسين»، وعن طبيعة الأنثروبوسين ذاته. يبقى أن أعرض هاتين النقطتين في تشابكهما.
الأنثروبوسين مفهوم يستعين بالمفردات الجيولوجية للإمساك بهول وجسامة تأثير النشاط البشري على كوكب الأرض عبر آخر قرنين من الزمان. إنه عصر البشر، حيث اُستخراج وحُرق الوقود الأحفوري قد أدّى إلى تجاوز نقاط اللاعودة في اختلالات المنظومات الكوكبية الحيوية-الكيميائية-الفيزيقية. ورغم استمرار الجدل النظري حول لحظة بدء هذه الحقبة الجيولوجية – وما إذا كان يجب أن نستخدمها كمجاز أو كحقبة جيولوجية مُعتبرة عند الجيولوجيين – فمن المعقول افتراض أن الأنثروبوسين قد أصبح تلك العلامة الفارقة – كقوة غير مسبوقة سببها تعاطي البشر مع الكوكب مرورًا بمنظومات الإنتاج الرأسمالية – منذ لحظة تسارع عجلة الثورة الصناعية، منذ مطلع إلى أواسط القرن التاسع عشر.
أي أن الصعود الهائل للرأسمالية الصناعية المعتمدة على حرق الوقود الأحفوري (الفحم ثم النفط) منذ القرن التاسع عشر تتيح لنا مداخل تحليلية انطلاقًا من مجموعة متنوعة من الحقول المعرفية، ومصر جزء مركزي من هذه المساحة.
رأس المال الأحفوري ينتمي كمناط للتحليل إلى التاريخ الاقتصادي بقدر ما يمكن أن ينتمي إلى النقد الأدبي البيئي. في كتاب فارق ألّفه كريستوفر بونويل وجان- بابتيست فريزوس بعنوان «صدمة الأنثروبوسين»، يعرض لنا المؤلفان مساحات عديدة يمكن أن نصادف فيها تغير المناخ، وفي كل مساحة يستعرضاها نراه على ضوء جديد. وهناك موقعان يتصلان أكثر بأشجار محمد علي: الكابيتالوسين (أي الأنثروبوسين بصفته عصر رأس المال الأحفوري، أو «عصر رأس المال»)، والثاناتوسين (أي عصر الحروب المدمرة التي جلبتها على العالم الرأسمالية الصناعية وأفضت بدورها إلى المزيد من الرأسمالية الصناعية في دورة جدلية محمومة). إذا نظرنا إلى هذين المفهومين أو المدخلين لفهم تغير المناخ معًا، قد نرى كيف أن الإنتاج الموسّع عن طريق التصنيع – ثم الحروب للدفاع عن التجارة في القرن التاسع عشر – كان قوة هائلة دفعت بتسارع عجلة الأنثروبوسين.
في بريطانيا، أدت الرأسمالية إلى تبني التكنولوجيا البخارية في صناعة الغزل والنسيج، وخلقت الثروة المتراكمة من هذه الصناعة – وقاعدة التكنولوجيا الأحفورية التي وسّعت قاعدتها – قوة عسكرية لحماية الأسواق التي صُرفت فيها منتجات هذه الصناعة. وفي مصر، غيّر محمد علي من طبيعة المشهد المائي للدلتا بالكامل، إذ فرض عليها الريّ الدائم على مدار العام، من خلال مد الترع الصيفية، من أجل زراعة القطن وبيعه. بعد ذلك مباشرة، انتقل في مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر إلى تصنيع القطن وتحويله إلى خيوط وأنسجة. ثم رأى أن الفحم المنشود حرقه لتدوير محركات هذه الصناعة يجب أن يُجلب من أماكن أخرى، فأرسل جيوشه شرقًا لاستخراجه من جبل لبنان. وكانت هي نفس الجيوش التي جهّزها للدفاع عن إمبراطوريته التجارية الوليدة ولتمديد رقعة هذه الإمبراطورية. و ، الياوران الواقفان ينفخان في بوق يُعلن مجيئ تغيّر المناخ… الفحم! الفحم! الفحم! لصُنع المحركات البخارية والبارود، كما قال الباشا لصديقه الإنجليزي في قصر شبرا.
هكذا تُصبح أشجار الدلتا ووادي النيل، الصفصاف والسنط، مادة جديرة بالتأريخ والتحليل التاريخي في المساحة البينية-المعرفية التي لنا أن نسمّيها كما أسماها بعض الفلاسفة والمؤرخين “تاريخ الأنثروبوسين”. هذا التاريخ له سمات. هو أولًا «عالمي» في نطاقه التحليلي، يسعى إلى فهم القوى والمصادفات واللحظات الفارقة الصانعة معًا لتغير المناخ. وهو ثانيًا، وبالنسبة لتاريخ مصر الحديثة، قادر على كشف ما لم تذهب إليه أنظار المؤرخين والمؤرخات من قبل ونحن بصدد إعادة كتابة العالم الحديث، ومصر في قلبه، بدلًا من التعامل مع التاريخ المصري كجزء من تاريخ العالم منقطع الصلة عنه في الوقت نفسه. إنه مسعى ومنطلق لطرح الأسئلة يعيننا على العثور على «البنية التحتية» لبناء الدولة والإمبراطورية والقوة السياسية والعسكرية في أشياء ومساحات لم نفكّر فيها من قبل كعناصر مُستحقة للتأريخ.
[1] ما زالت المؤرخات والمؤرخون في سجال حول ما إذا كان محمد علي قد خطط بشكل قصدي لمشروع صناعي أم أن الصناعة كانت سلسلة من التطورات غير المُخطط لها كبرنامج. انظر/ي على سبيل المثال، خالد فهمي. كل رجال الباشا: محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة. ترجمة: شريف يونس. القاهرة: دار الشروق، 2001، الفصل الأول.
نُشر هذا المقال بالإنجليزية على مدوّنة سيداج (مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية) بتاريخ 8 مايو 2025، وهو هنا مُترجم بقدر كبير من التصرّف ومصحوب بمواد بصرية جديدة