الطريق الفاصلة بين قرية كفر أسد بمحافظة إربد شمالي الأردن، وبين قرية سحم الجولان في محافظة درعا جنوبي سوريا تتطلّب أقلّ من ساعتين بالسيّارة. وبالنسبة إلى نوال حواري (35 سنة) وزوجها محمد علي خطابي (46 سنة)، احتاج عبور تلك المسافة أكثر من 12 سنة، وهي الفترة التي أقاماها بعيدًا عن سوريا. وصل الزوجان مع تسعة من أولادهما العشرة إلى الأردن في كانون الأول (ديسمبر) 2013. في الأيام الأولى، أقامت العائلة مؤقّتًا في أحد مخيمات اللجوء، قبل أن تخرج منه نحو كفر أسد التي يعرف الزوجان فيها بعض الأصدقاء، ثم “استأجرنا بيتًا وعشنا فيها كلّ هذه السنوات”، وفق ما تستذكر نوال.
عودة متأخّرة
لم يكن قرار العودة مجدّدًا إلى سوريا سهلًا بالنسبة إلى نوال، رغم إلحاح زوجها عليه في السنوات الفائتة. فضلًا عن شعور الأمان، وجدت العائلة، كما الكثير من السوريين، الترحاب من أغلب الأردنيين الذين “احتضنونا، وصار لدينا جيران وأصدقاء منهم، وتقاسمنا معهم الأكل والشراب والبيوت”، كما تقول، حتى بات الأردن “بلدنا الثاني.. صحيح أننا فرحون برجوعنا إلى سوريا، لكن قلبنا بقي معلّقًا هناك”. مع ذلك، كانت حياة اللاجئين مليئة أيضًا بالتحدّيات في بلدٍ يعاني الكثير من أبنائه أنفسهم من البطالة (21.3%) والفقر(35%) .
بعد عمله قرابة عشر سنين في تبليط الأرضيات، اضطرّ أبو قاسم إلى الانقطاع عن العمل بسبب آلام ظهره. لم يتمكّنا من العودة حينها، لأن “الوضع في سوريا كان صعبًا، ولا نستطيع العودة، فاتخذنا قرارًا بالعمل سوية”، تستذكر أم قاسم التي بدأت فيها تبيع مأكولات تُعدّها في مطبخ البيت، وتشمل “طبخات، مكدوس، مخلّلات، دبس فليفلة، لبنة، وكل ما يخطر على البال”، فيما يتولّى الزوج إحضار المكونات اللازمة.
أراد أبو قاسم الرجوع إلى مسقط رأسه منذ ما قبل سقوط نظام الأسد. أتعبته ظروف اللجوء وتفرّق العائلة واتّخاذ بعض أبنائه قرار العودة إلى سوريا مجدّدًا. وبحصول ما لم يكن متوقعًا، حين انهار حكم الأسد في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، صار أبو قاسم أكثر إلحاحًا بالرجوع إلى سوريا. فبالإضافة إلى لمّ شمل الأسر، يُعدّ الحنين إلى البلاد والرغبة في المشاركة بإعادة إعمارها بعد سنوات الحرب الطويلة، أبرز الدوافع لعودة اللاجئين السوريين أو نيّتهم القيام بذلك خلال الأشهر المقبلة.
مع أنّها كانت متردّدة في العودة، خصوصًا بسبب بقاء بعض بناتها المتزوجات في الأردن، إلا أنّ أم قاسم لا تستطيع إخفاء سعادتها برؤية الأهل والجيران، لاسيّما أنّها خلال فترة وجودها الأخيرة في الأردن كانت تمرّ عليها أيام من الإرهاق “لا أعرف فيها النوم”، كما تقول.
الطريق إلى البيت
في طريق العودة، رأت نوال آثار الدمار التي لحقت ببيوت محافظة درعا، أسوةً بالكثير من المحافظات السورية التي تشير التقديرات إلى أن واحدًا من كل ثلاثة من منازلها مدمّر أو متضرّر، فيما تم تدمير 328 ألف بيت بشكل كلّي.
“كنت أخشى أن أرى المشهد ذاته عند وصولي إلى بيتي، وألّا أستطيع التعرّف إليه”، تقول أم قاسم. خلّفت القذائف وطلقات الرصاص أثرها على البيت، بسبب المواجهات العسكرية التي شهدتها محافظة درعا عمومًا منذ العام 2011. ورغم الضرر الذي ظهر على جدانه الخارجية، “رأيت منزلنا قصرًا” مقارنة بالمنازل الأخرى، بما في ذلك بيوت الحي ذاته.
كان أبو قاسم قد عاد إلى سحم الجولان قبل زوجته بقرابة ثلاثة أسابيع لتفقّد بيتهما، وتولّى إصلاح ما يمكن إصلاحه من آثار القصف والدمار. ابنه قاسم كان قد بنى مسكنًا قريبًا من بيت العائلة عقب رجوعه من الأردن قبيل سقوط نظام الأسد السابق. ورغم عدم اكتمال البيت نهائيًّا، يظلّ هذا الشابّ أحد القلّة المحظوظين بين ملايين المهجّرين السوريين الذين لا يجدون مأوى في سوريا، وفق الأمم المتحدّة التي تُقدّر وجود نحو 5.7 مليون سوريّ بحاجةٍ إلى مساعدة في تأمين المأوى في وطنهم. من ليس لديه بيتًا في سوريا، سيتردّد في العودة بالطبع، إذ يُعدّ عدم توفر السكن أو دماره أهم أسباب إحجام أغلبية اللاجئين، لاسيما في دول الجوار، عن الرجوع إلى وطنهم.
منطقة واحدة لعدّة جبهات
خلال سنوات الحرب، لم تعان سحم الجولان من المعارك بين قوات نظام بشار الأسد السابق وفصائل المعارضة فحسب، بل شهدت أيضًا مواجهات بين هذه الفصائل وتنظيم “داعش” عقب سيطرة الأخير على حوض اليرموك، بما فيها قرية أسرة أبو قاسم. وامتدّت هذه السيطرة منذ عام 2016 وحتى 2018، أي إلى حين تمكنت قوات النظام السابق، بدعم روسي، من السيطرة على كامل الجنوب السوري.
خلال هذه الفترة، حوصر قاسم وزوجته وطفلته لمدّة أسبوع في المنزل، إلى حدّ أنّه لم يكن قادرًا على الخروج لتحريك السيارة المتوقّفة في الخارج، ما أدى إلى إصابتها بالكامل، كما تروي الوالدة. وخشية الموت، قرّر الابن الأكبر الالتحاق مع أسرته الصغيرة بذويه في الأردن، تاركًا خلفه كل ما تملكه العائلة.
هل انتهت الحرب؟
سقط نظام الأسد عقب قرابة أربع عشرة سنة من اندلاع احتجاجات شعبية في آذار (مارس) 2011، وما لبثت أن تحوّلت إلى حربٍ مدمّرة بعد أشهر. لكن رغم انهيار الحكم، عاد سريعًا السؤال عمّا إذا كان سقوطه يعني نهاية الحرب حقًّا، خصوصًا في ظلّ المجازر الطائفية التي ارتكبت في الساحل السوري، وفي السويداء.
ومنذ نهاية العام الماضي، تُنفّذ إسرائيل توغّلات وعمليات عسكرية على طول الحدود في جنوب سوريا، بما في ذلك حوض اليرموك. وقد شمل ذلك قصفًا مدفعيًا على سحم الجولان ذاتها في الثالث من حزيران (يونيو) الماضي، ردًّا على إطلاق صاروخَي “غراد” من درعا سقطا في منطقة مفتوحة بهضبة الجولان السورية التي تحتلّها إسرائيل منذ العام 1967.
الجفاف يأتي من كلّ الاتجاهات
إضافة إلى الاعتداءات والتهديدات الإسرائيلية، تُعاني سوريا حاليًّا من أسوأ موجة جفاف منذ العام 1989. وفي درعا الشهيرة بخصب أراضيها وخضرتها، تواجه جميع سدود المحافظة البالغ عددها 16 سدًّا خطر الجفاف التامّ، بما في ذلك سدّ سحم الجولان الذي يُعدّ بين أكبر هذه السدود وكان يكفي لريّ أراضٍ زراعية واسعة في المحافظة. لهذا، يُنذر الجفاف باختفاء مصادر الغذاء الزراعية خصوصًا مع غياب المساعدات الغذائية، ما قد يُفاقم عدد الذين يُعاون من انعدام الأمن الغذائي في سوريا والذين يُقدّر عددهم اليوم بأكثر من 14.5 مليون إنسان.
العودة إلى الديار لا تعني بالضرورة استعادة الوطن، ولا الخسارات تعني الدمار حتمًا. لا تزال سوريا تفيض بكلّ أنواع المعاناة، حتى “تغيّر علينا كل شيء في سهل حوران”، بحسب أم قاسم. فقد أدت الحرب إلى فقدان 5.4 مليون إنسان وظائفهم أو مهنهم، ما أسهم في تصاعد الفقر إلى نسبة 90% حاليًا، وتضاعف الفقر المدقع ستّ مرّات ليصل إلى نسبة 66%، بالإضافة إلى نقص الخدمات الأساسية، لاسيّما الماء والكهرباء والتعليم والرعاية الصحية. لهذا، لدى السيّدة أمنيتين اليوم؛ الأمنية الأولى أن تعثر على فرصة عمل في سوريا، إذ أنّها بالكاد تستطيع مع زوجها تأمين متطلّبات العائلة الأساسيّة. أما الأمنية الثانية؛ أن تعمر سوريا مجدّدًا “بأيدي أولادها وشبابها”..
* هذه القصة من إنتاج “ويش بوكس ميديا” بالتعاون مع برنامج “قريب”، الذي تنفّذه الوكالة الفرنسية للتعاون الإعلامي (CFI)، وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD).