[الأرض المقصودة هنا هي المستوى الأرضي أو سطح الأرض Ground Zero، وليست الأرض بما هي إقليم أو مساحة. ]
قبل طوفان الأقصى، كانت مجرد الإشارة إلى مواجهة ما مع إسرائيل، تنتهي بالقول أننا كعرب وفلسطينيين، لا قِبل لنا بمواجهة من هذا النوع؛ فإسرائيل أخذها الأمر ستة أيام فقط لتقضي على الجيوش العربية! وعادة ما يعتمد هذا الخطاب على أشكال أدائية يسهل تتبعها تاريخيًا، وبجهدٍ بسيط، لتوصلنا إلى اتفاقية كامب ديفيد المصرية – الإسرائيلية، التي عقدها الرئيس المصري محمد أنور السادات مع إسرائيل، وجُند لها عدد من المثقفين والفنانين المصريين. نذكر منهم علي سالم (1936 – 2015) (مؤلف مسرحية العيال كبرت 1971)، الذي ينسب له القول: «الحرب لا تعني شيئًا سوى إضاعة المزيد من العمر العربي في الخسائر… وأمامنا فرصة تاريخية للحياة، لا للموت». استبطن هذا الخطاب مخيالات متعددة ومركبة بشأن قدرة إسرائيل العسكرية، باعتبارها الجيش «الأقوى» في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وأنها كدولة تقوم بالأساس على التكنولوجيا العسكرية وتصنيعها وتجارتها وأبحاثها، وهو أمر صحيح، لكنه يستبطن الكثير بشأننا نحن.
لعل أهم التصورات التي انضمت إلى تلك الجوقة مؤخرًا هي القبة الحديدية الإسرائيلية، باعتبارها سماءً -إلهية- حامية لإسرائيل لا يمكن لأي شيء أن يخترقها. بحسب صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، كان الامتحان الحقيقي الأول للقبة الحديدية الإسرائيلية بصاروخ باليستي أطلقه اليمنيون في عام 2023 ، بما هم أقل من جيش نظامي (كما يجري تصويرهم). وبحسب الصحيفة، فإن نسبة نجاح القبة لم تتأثر كثيرًا.
في المواجهة الإسرائيلية الإيرانية الأخيرة، دعت الجبهة الداخلية الإسرائيلية مواطنيها إلى عدم تصوير ونشر مشاهد وقوع الصواريخ الإيرانية في إسرائيل. الصواريخ التي أثارت تساؤلات تخطت «فاعلية الردع العسكري» للقبة الحديدية، إلى محاولة البحث في القبة الحديدية بما هي مخيال المستعمر والمستعمر معًا!
بداية بعيدة
في العام 1984 كتب فريدريك بول (1919 – 2013) روايته «سنوات المدينة» Years of the City، متخيلًا مآلات الانهيار المديني لنيويورك. قدم بول تصورًا لتركيب مقبب يُشيد في نيويورك المستقبل، يتكون من قبتين متشابهتين (حويصلتين Blisters)، في انعكاس لانقسام سكان المدينة اجتماعيًا (مخيال 1) وغرقها في الجريمة (ما يعكس تنامي موجات الجريمة في المدن الأمريكية في ثمانينيات القرن العشرين، ولعل أبرز تجلياتها كانت في تصاوير مدينة شيكاغو ونيويورك، سينمائيًا).
مخيال (1)
ألهمت فكرة بول مشاريع مختلفة ومتنوعة في السنوات التالية، منها مشروع «الكرة البيولوجية» (الشكل الأول) في عام 1991، من بنات أفكار المهندس والبيئي جون آلن، عن طريق شركته Space Biospheres Ventures. قامت الفكرة على افتراض مفاده أن البشر وتجمعاتهم يمكن أن يكونوا ذات أثر أقل هيمنة وأكثر اندماجًا طبيعيًا مع محيطهم البيئي والطبيعي (مخيال 2). غطى المشروع مساحة ثلاثة أفدنة، وقضى فيه ثمانية أفراد ما يقارب عامين، داخل بيئة يفترض بها أن تكون معزولة تمامًا عن المحيط الخارجي، من خلال أنظمة صرف وإذابة وتدوير.
مخيال (2)
فشل المشروع فشلًا ذريعًا لعدة أسباب منها ما واجهه من صعوبات جسيمة منذ البداية – منها نقص الأكسجين، وانعدام الاكتفاء الغذائي– إلا أن أهم الصعوبات التي واجهها كان عدم التعاون بين أفراد الفريق المشارك في المشروع (مخيال 3). لعل هذا ما يهمنا في النظر إلى التشكيل الاجتماعي لأمكنة من هذا النوع ومخيالاتها، وأثره على قاطنيها. وبالذات أن النسخة الأخيرة من هذا المشروع لم تستمر أكثر من 6 أشهر، حين أقدم اثنين من أعضاء الفريق على فتح المسد الهوائي للتركيب المعماري وتخريب المشروع قصدًا.
لعل تلك هي المشكلة الأساسية هنا أن هذا المسار من التشاؤم لم يلق بالًا لتحويراته الاستعمارية والجسدانية بالقدر الذي نراه في القبة الحديدية الإسرائيلية، وهذا ما سنصل له لاحقًا من هذا المتن.
مخيال (3)
سرعان ما أخذت الفكرة أشكالًا مختلفة متأثرةً ومؤثرةً في السياق العام لها، كما سنرى. فقبة الألفية Millennium Dome في لندن 1999 (الصورة الثانية)، ومشروع عدن Eden Project في كرونوول 2000 – 2001 (الصورة الثالثة)، وصولًا إلى قبة غوغل في سياتل 2016، هي أماكن وفراغات تستلزم شكلًا ما من أشكال الهندسة الاجتماعية للأفراد المنضوين تحتها، في مجالها، والمتأثرين بهذا النوع من الخطاب، على عكس ما يشير إليه بول دوبراشتيك (بنفسٍ نراه عقيمًا) في كتابه «مدن مستقبلية: العمارة والمخيلة» (2019)، بأن أغلب التخيلات والسرديات الأدبية بشأن هذه التركيبات تميل «إلى الانتهاء بمسحة مغرقة في التشاؤم، لأنها كانت مجرد نصوص جدلية تحدَّت على نحو مباشر، عجرفة أولئك الذين آمنوا بأن الصراع النووي لن يُحتوى، وبأننا لن ننجو منه». وكأن مسار هذه التركيبات المعمارية الاجتماعي واحد، وأنه تطور من مخاوف البشرية من العالم الطبيعي أو حتى من تطورها، دون الإشارة إلى دور تلك التركيبات المعمارية القمعي والاستعماري.
ثمّة نموذجًا مقببًا آخر يمكنه أن يكون أداتنا لفهم أثر القبة كتركيب معماري (أو لنقل الفراغي) على عقلية من فيه، وبالذات ما يبدو لنا من معاني وتحويرات يشهدها إحياء البيئات المُقببة في السنوات الأخيرة. فيما يعبر عن قراءة سطحية لتاريخ القبة وقصرها على معاني الترفيه والاستهلاك، والأعمال التجارية، والمتع اللحظة الزائلة، كما يخبرنا دوغلاس ميرفي في كتابه «نهاية العمارة». وهذا النموذج هو Sunny Mountain Ski Dome في دبي، والذي بُني بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، باعتباره جزءًا أساسيًا من بلاغة الرأسمالية والاستهلاك وأشكالها الأدائية للتغطية على ما تشي به القباب «بكل بساطة» من «عزل وإقصاء» (أليس هذا هو جوهر مدينة دبي: مُتع لحظة وترفيه واستهلاك، يغطي عزلة وإقصاء ووحدة سكانها؟ – المخيال 4).
إلا أن هذه المقاربة –البسيطة– تغفل أمرًا آخر: وهو ما توحي به القباب من قوة. يقول بول دوبراشتيك في كتابه إن «الرغبة في عزل مدن برمتها تحت قباب صناعية واقية، لم تكتسب زخمها إلا في القرن التاسع عشر، حين أشارت التقنيات الهندسية الجديدة، المتعلقة بالحديد والزجاج، إلى إمكانية حدوث ذلك بالفعل».
مخيال (4)
ما علاقة الزجاج والحديد بالقوة والسيطرة؟
وإن أتى استخدام الحديد والزجاج في العمارة الحداثية باعتباره تمردًا على الزخارف والرمزية والأيقونية في العمارة، وتحررًا منها، بما حملته من إحالات إلى الماضي والخرافة والأساطير (مخيال 5)، إلا أن هذا التحول لم يكن فقط تمرد وتحرر، بل حمل في طيّاته دلالات عميقة تتصل بالقوة والضبط والمراقبة. وقد أنتج ذلك موجة من النقد الفلسفي والمعماري، رأى في هذه المواد رموزًا لعصر عقلاني يجنح نحو السيطرة لا التحرر وهو ما سنجده في اللاوعي الخاص بالتكوين النفسي والاجتماعي للأفراد تحت هذه القبة.
رأى فالتر بنيامين (1892 – 1940) أن الزجاج لا يمنح الحماية بل يزيد من منالية الإنسان واتاحته، قائلاً إن «الزجاج لا يتلطّف ولا يخفي، بل يُظهر كل شيء». ففي مبانٍ ذات واجهات زجاجية بالكامل، كما في عمارة ميس فان دير روه، لا يعود هناك فرق بين الداخل والخارج، وتُلغى حدود الحميمية وتنفتح مسامات الجسد. وقد قرأ بنيامين في ذلك تجسيدًا لمجتمع حداثي يفقد فيه الفرد قدرته على الاختفاء.
أما الحديد، فاعتُبر في نظر نقاد مثل زيغمونت باومان (1925 – 2017) جزءًا من بنية عقلانية أنتجت وشرعنت أشكال العنف المنظم. في تحليله للهولوكوست ومعماريته، يرى باومان أن «الحداثة وفرت الشروط التقنية والتنظيمية التي جعلت الإبادة أمرًا ممكنًا». من هنا، فإن استخدام الحديد في العمارة لم يكن محايدًا، بل تعبيرًا عن نزعة للضبط والرقابة والتحكم والقوة الصناعية، كما ظهر في المعارض العالمية، والمطارات، بل وحتى في معسكرات الاعتقال. أما بول فيريليو (1932 – 2018)، فقد رأى في العمارة الحداثية بُنية عسكرية مقنّعة، تربط بين شفافية الزجاج وصلابة الحديد، لتُنتج ما يُشبه «الملجأ البصري» الذي يُخضع الإنسان لسلطة النظرة أو التحديقة. فالحداثة بالنسبة له لم تكتفِ بإعادة تشكيل الفضاء، بل أعادت تشكيل الإدراك والزمن.
إن المواد التي بدت محايدة في ظاهرها؛ مثل الحديد والزجاج، تحولت في العمارة الحداثية إلى أدوات خطابية تؤسس لعلاقات قوة وهيمنة، لا تقل تأثيرًا عن الأدوات العسكرية أو المؤسسات السلطوية، وبالتالي فهي تفرض مخيالها وقوتها الاستعارية. العمارة، بهذا المعنى، ليست مجرد غلاف للمجتمع، بل آلة تُعيد إنتاجه وترسم مخياله الجمعي. ولعل هذا ما يتبدى جليًا في تعليق زائر ألماني للقبة الدائرية لـ «قصر الكريستال» في لندن عام 1851، وهو لوثار بوتشر، حين قال: «فالعين لا تنتقل من الجدار المنتصب في إحدى الزوايا إلى ذلك المنتصب في الزاوية الأخرى، وإنما تجتاح مشهدًا لا متناهيًا يتلاشى في الأفق. لا نستطيع معرفة إن كان هذا البناء يتطاول مئة قدم فوقنا أو ألفًا».
ما لا يصرح به مباشرة (أو بشكلٍ واعٍ) انفعال لوثار، هو العلاقة المركبة بين الزوايا والدائرة، وبين الخط والقبة، وكذلك العلاقة الرأسية مع المكان، بما هي كلها تجسيدات معمارية ومكانية وتصميمية للخطوط في الحداثة الغربية، لها لا وعيها ومخيالها.
هنا يظهر تأثير القبة ولو كانت غير مادية من حديد وزجاج، وتلك هي إحدى عتبات اللاوعي اللازم إدراكها لفهم أثر المادة غير الموجودة للقباب: منها الزجاج والحديد والخط والدائرة، وغيرهم، وكلها عناصر لها علاقة بالتركيب المقبب.
الخط في الحداثة ليس أداة رسم فقط، أو حتى بشكل مجرد ليس تراكمًا لنقاط متلاصقة، أو استمرارية (ما) لمسار (ما) بين نقطتين. إنما هو في السياقات الكولونيالية والنيوليبرالية (باعتبارها تحويرات حداثية)، بنية سلطوية تتحكّم بالفضاء وتعيد إنتاجه في ضوء منطق السيطرة والإقصاء. ينبهنا مانليو بروزالين في كتابه «قصة الخطوط» إلى أن الخط هو أداة ادراكية في أساسه، وهو أول ما تستحضره السلطة عندما تقرر إخضاع الحيّز، بداية من الحدود الدولانية وحتى دراسة المنظور الهندسي لطلاب العمارة والتصميم في سنتهم الأولى، حيث يجبرون على ترويض المكان في خطوط. ما يكشف لنا كيف أن بنية الخط تمارس فعلًا سياسيًا مهيمنًا أكثر مما تؤدي وظيفة هندسية.
لا ينحصر الخط المعماري في كونه أداة رسم، بل هو بنية سلطوية معقدة تُشكّل الفضاء وتعيد إنتاجه ضمن أفعال السيطرة والإقصاء. يرى تيم إنغولد في «Lines: A Brief History» أن الخط هو «علاقة متصلة بين الجسد والمكان، تحكمها حركات ملموسة»، ما يجعل أي انهيار أو تقويض له فعل مقاومة وجودية، وتقويض لحركة ما معينة بغيرها وانتاج مكاني ما. هذه الرؤية تدعم تحليلنا إلى أن «الخط” في السياسة الاستعمارية ليس مجرد علامة، بل هو مسار لامتلاك الأرض والجسد والحياة. ويعود تاريخ الخط ودوره المهيمن على انتاج المكان، باعتباره أحد أهم القواعد الأساسية للبصريات، تمأسست وتقعدت في أواخر القرن الخامس عشر وظلت كذلك إلى يومنا هذا، بفضل فيليبو برونالشي (1377 – 1446) وليون ألبرتي (1404 – 1472)، فيما عدَّ انجازًا رئيسيًا للنهضة الأوروبية. حيث الخط في منظور الخرائط واللوحات إنما جرى «رفعه وجعله بعيدًا عن الحس والتناول. ما أنتج احساسًا «هندسيًا باردًا» و«منهجيًا»، يعطي حسًا زائفًا «بالانسجام مع القانون الطبيعي، مؤكدًا بالتالي على المسؤولية الأخلاقية للإنسان داخل عالم الله المنظم على نحو هندسي».
هذا التموضع في محل الإله على المكان أنتج ذواتًا متألهة. إذ يقدم لنا جيل دولوز (1925 – 1995) وفيليكس غواتاري (1930 – 1992)، من خلال مفهومهما عن «خطوط إنتاج الذوات»، أن الخط لا يشكّل المسارات المكانية فقط، بل أيضًا يرتبط بتكوين الذات والهوية السياسية. إن «الخط المستقيم»، كما يشرح ستيفن غراهام في Vertical: The City from Satellites to Bunkers، هو تجسيد لإرادة الاختراق، والهيمنة العمودية والأفقية، حيث تُصبح المدن «مساحات تُقاس بالمدى القابل للضبط والرصد، لا بالحياة التي تُسكنها». وأما القبة تظهر كتحوّل مؤدلج في هندسة الخط: انحناء ناعم يموّه استمرار السيطرة. يشير دولوز إلى مفهوم «الخط المطوّق»، الذي يشتغل على الإحاطة لا الفصل فقط.
هنا يمكننا فهم استثارة زائر القبة لوثار، بما هي استثارة ذات امتداد استعماري وامبريالي، وكيف تسللت الهيمنة الرأسية عبر خطوط القبة، الخالية من الزوايا، إلى لا وعيه.
كيف تتسلل القبة الحديدية إلى وعي المستعمِر والمستعمَر؟
في تاريخ العمارة، حملت القبة دائمًا دلالة مزدوجة: ملاذًا روحيًا ومجالًا للهيمنة. فمن قبب المعابد والكنائس في العصور الوسطى، التي ربطت الأرض بالسماء، إلى القباب الطوباوية عند بكمنستر فولر (1895 – 1983)، والتي بشّرت بيوتوبيا تكنولوجية، تحوّلت القبة من رمز للانكشاف الكوني والروحاني – أحيانًا- إلى أداة لإعادة إنتاج السيطرة. وفي زمن ما بعد الحداثة، صارت القبة تُمثل بنية مغلقة، وأنوات محوكمة على التماهي مع السلطة وأداءاتها. بذلك، لم تعد القبة مجرد غطاء، بل نظامًا معماريًا–اجتماعيًا يعيد ترسيم العلاقة بين الأمان والخطر، وبين الداخل والخارج، وبين من يُرى ومن يُراقَب.
اليوم، تتجلى هذه الرمزية في ذروتها التكنولوجية– الاستعمارية في نظام «القبة الحديدية» الإسرائيلي، الذي لا يُجسِّد قبة مادية، بل ينتج «قبة افتراضية لا مادية أو ما بعد مادية» فوق فلسطين المحتلة، تعيد تعريف المجال الجوي باعتباره حيّزًا استعماريًا محضًا وتحرر الاستعارات الاستعمارية لكل المواد والمفاهيم المتضمنة فيها. فهذه القبة لا تحمي فحسب، بل تُنظّم الفضاء كآلة للفرز والإقصاء، وتُعيد توزيع الحياة والموت في مشهد استعمار رأسي رقمي للمجال والأرض.
وكما يُبيّن إيال وايزمان في كتابه «Hollow Land»، فإن الاستعمار الإسرائيلي لا يقتصر على الأرض، بل يمتد إلى السماء: «تتحول السماء إلى حيّز استعماري»، تُمارس فيه السيادة من الأعلى، عبر الطائرات المسيّرة، والأقمار الصناعية، والتقنيات الذكية. هذه «الجيوبوليتيكا العمودية»، كما يسميها ستيفن غراهام، تُعيد إنتاج الحرب الاستعمارية ليس من خلال الاحتلال الأرضي، بل من خلال إدارة الارتفاع، والتفوق من الجو، وتوزيع أشكال السيطرة والقتل من السماء. في هذا السياق، تصبح القبة الحديدية تجسيدًا لعنف استعاري وتجريدي في آن: ليست مجرد منظومة دفاعية، أو حتى مكانية مادية، بل بنية تكنولوجية رمزية وخطابية تُكرّس الهيمنة من خلال إنتاج أفق غير متكافئ للأمان والجسد المحمية مسامه، وترسم حدود الهيمنة من خلال حالة الاستثناء المستمرة، والتي تخاض بالعلاقة الرأسية مع الأرض (أو مستوى الأرض) والأفقية مع حدود الدولة الميهمينة وماجلها الترابي والخطابي.
وهو ما نجده على أطراف القبة الحديدة الاستعمارية حيث تتراكم مشاهد سياسات الحركة والجسد من خلال النيكروبوليتك والهيمنة (فلننظر إلى ما يحدث غزة وما حدث لقافلة الصمود في مصر وليبيا، ولدعوات مشابهة في سوريا والأردن، والإعلان الإماراتي الأخير عن تعاون عسكري مع إسرائيل نتج عنه إقامة نقطة رادار للقبة الحديدة في قاعدة إماراتية في الصومال، بهدف تتبع صواريخ الحوثي. كل هؤلاء ليسوا حدودًا للقبة الحديدية الإسرائيلية ماديًا لكنهم يصبون في ترسيم حدودها الاستعارية والخطابية، وحتى الأدائية عن مسائل “الأمن القومي” أو السيادة وغيرها، والأهم أنهم يعيدون ترسيم مفهوم الهيمنة الاستعمارية، متخطين حدود نظريات الاتصال بشكلها التقليدي!).
تتجلى هذه الرمزية في ذروتها التكنولوجية– الاستعمارية في نظام «القبة الحديدية» الإسرائيلي، الذي لا يُجسِّد قبة مادية، بل ينتج «قبة افتراضية لا مادية أو ما بعد مادية» فوق فلسطين المحتلة، تعيد تعريف المجال الجوي باعتباره حيّزًا استعماريًا محضًا وتحرر الاستعارات الاستعمارية لكل المواد والمفاهيم المتضمنة فيها
القبة أيضًا آلة تصنيف؛ تمنح حماية شبه مطلقة لمفهوم المدينة الاستعمارية (تل أبيب) والعلاقات الحداثية فيها وتفرض لها تاريخًا تقدميًا حداثيًا جغرافيًا، بينما تترك غزة مكشوفة، قابلة للقصف الدائم، ومحو تاريخها الحضري والاجتماعي والحداثي، ومنقطعة جغرفيًا، حيث تطمس ارتباطاتها التاريخية والاجتماعية المدينية بمصر وغيرها، تمامًا كما حدث مع المدن الفلسطينية الأخرى، كنابلس ودمشق وحيفا وبيروت.
يُحلل أخيل مبيمبي (1957)، تجليات السيادة المعاصرة بوصفها قدرة على «توزيع الموت والحياة»، وصياغة المجال كساحة للموت الطبقي والاثني والفراغي والحركي: من يُحمى ومن لا يستحق الحماية، من يًراقِب ومن يُراقَب ومن يُكتب ومن يُمحى. والأخطر من ذلك أن القبة الحديدية تُحوّل المجال الجوي إلى بنية خوارزمية، حيث تُتخذ قرارات القتل عبر تقاطعات بين الذكاء الاصطناعي، والاستعمار، والمراقبة، وكل تلك الأدوات لها تحيزاتها الاستعمارية والاستشراقية. هذا ما يسميه ديريك غريغوري بـ«الاستعمار الرقمي»، أي توظيف التقنيات الرقمية لفرض سيطرة فوق–مادية على الحيز، تعيد تشكيل الفضاء كموقع للعنف الشبكي. لذا، فإن تحليل القبة الحديدية يتطلب الخروج من الإطار العسكري التقليدي، نحو قراءة معمارية– سياسية–استعمارية – اجتماعية، تُبيّن كيف تعيد هذه البنية تركيب المجال الفلسطيني كساحة للقتل المُبرمج، وتُعيد إنتاج علاقة المستعمِر بالمستعمَر من خلال سيطرة رأسية متعالية، لا تُرى، ولا تُقاوم بالطرق التقليدية، بل تُفرَض عبر البُنى التحتية للذكاء الاصطناعي، والتفوق الجوي، والتكنولوجيا الأمنية.
وهذا هو الدرس الغزي المناهض للاستعمار: تحرير استعارة التركيبات تحت الأرضية، وإعطاب المستوى صفر Ground Zero من الأرض ودوره التصنيفي الاستعماري الجسداني والمديني!
شهد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبالتحديد الفترة الفيكتورية عددًا من التصورات الأدبية بشأن الأماكن الجوفية – تحت الأرضية Subterranean. نذكر منها رواية جيمس دي مل (1833 – 1880)، «A Strange Manuscript Found in a Copper Cylinder»، والتي نشرت عام 1888. وتصف رواية المغامرة هذه أرضًا تحت الأرض بقيم مغايرة لمن هم فوقها وعادات غريبة بالنسبة لهم، أحيانًا كثيرة مهددة. بينما لا تحتوي على شرير واحد، يتم تصوير المجتمع تحت الأرض نفسه على أنه خطير وتهديد للغرباء. وفي رواية جورج ساند «Laura, Voyage dans le Cristal» (1884) وهي رواية أقل شهرة، يستكشف البطل باطن الأرض، ويواجه وحوشًا غريبة. تلعب هذه المخلوقات الوحشية دور الشرير.
تظل الرواية الأشهر في هذا الأمر؛ «آلة الزمن» (1895) لإتش جي ويلز، والتي جسدت الهوس الحداثي التنويري بالسيطرة على الزمن/التاريخ والمكان/الجغرافيا، عبر ترسيم سطح الأرض أو المستوى صفر Ground Zero حدًا فاصلًا بين الإنسان المتقدم الجغرافي فوق سطح الأرض بما هو كائن تاريخي وحضاري، والوحوش تحت الأرضية، أو المورلوك كما أسمتهم الرواية، بما هم كائنات خارج التاريخ والزمان، وغير جغرافيين، ومتوحشين. نجد الوصف الأدق للمورلوك، يرد على صفحة «المعهد البحري الأمريكي» US Naval Institute في مقال كُتب منذ عشرين عامًا، ويكاد يصف مايحدث الآن:
«هم جنس من مخلوقات ليلية صناعية تشبه القردة وتأكل اللحوم، تعيش تحت الأرض وتتحكم في عالم المستقبل. منحدرون من البشر، يصطادون سكان السطح، الإلوائيين، الذين يعيشون حياة تشبه جنة عدن»، ويكمل المقال:
«العالم اليوم مقسم بالمثل بين سكان السطح والمفترسين تحت الأرض. خلال عملية عاصفة الصحراء، حددت القوات الأمريكية الأهداف ودمرتها من الأعلى، باستخدام التفوق الجوي وصور الأقمار الصناعية، مع تأثير مدمر. مراقبين ومتأقلمين، تطور أعداؤنا. كما أظهرت التجارب الأخيرة مع طالبان وصدام حسين، عندما يريدون تحدي الغرب، فإن أعداءنا—بالمعنى المجازي وأحيانًا الحرفي—يذهبون الآن إلى تحت الأرض. هذا التوجه تحت الأرض سيكون أسلوب الحرب لأخطر خصومنا في المستقبل القريب».
شكل مقترح للمورلوك بريشة فرانز فرازيتا، أحد أهم فناني الخيال العلمي في القرن الماضي
في مقابل «القبة الحديدية»، بوصفها تركيبًا معماريًا لا ماديًا، يعمل على السيطرة على المجال الجوي من خلال منظومة ضبط ورصد عمودية، تُعيد إنتاج ما يسميه إيال وايزمان بـ «الاستشراق الرأسي»، حيث يُعاد تعريف العلاقة المجال الأفقي للهيمنة من خلال مركزية سطح الأرض، بما هو المستوى صفر Ground Zero، يظهر النفق الغزي، بما هو بنية تحت أرضية Subterranean، تقلب معادلة المرئية Visibility بما هي تركيب استعماري يجعل الفلسطيني المستعمَر مادة الرؤية (In)Visibility وتحققها، بشكل يقلب معادلة الرؤية، والسلطة، والتضاريس، ويُنتج في عمق الأرض أفقًا جديدًا للجسدنة لا للمحو، وللنجاة لا للطمس.
النفق ليس مجرد مساحة للهرب، بل هو بنية للكمون السياسي. هو ما يسميه إيال وايزمان «التحايل الفراغي» (spatial subversion)، أي إعادة استخدام التضاريس والجغرافيا لأهداف تقوض بنية السيطرة نفسها. ففيما ترتبط الحداثة المعمارية بـ«شفافية الحديد والزجاج» كما رأينا، فإن النفق يرفض هذه الشفافية بوصفها شرطًا للمرئية والخضوع. وبدلًا من ذلك، يبني عتامة واعية بمجالها وأجسادها وجغرافياتها، تُمكن الجسد الفلسطيني من الخروج من مجال الاستهداف المرئي–الخوارزمي- المادي- الجسدي والرمزي.
وفي بحث بالانجليزية يُنشر لنا قريبًا، بعنوان «الحركة والثبات: عن أنفاق غزة كتفكير معماري مضاد»، فإن النفق يعيد «صياغة الفضاء كعملية، لا كمشهد»، من حيث أن الحفر وجغرافياته ومساراته هي إنتاج جماعي للجغرافيا، لا تسكين لها. فهو لا يعمل على الإخفاء بقدر ما يُمارس زمنًا مقاومًا، مضادًا للزمن الحداثي، القائم على ثنائية الإنسان والمورلوك. في هذا، نجد أصداء لفكر جوديث بتلر (1956) حين تقول إن «الاختفاء قد لا يكون انسحابًا، بل طريقة للبقاء على قيد الحياة في شروط لا تعترف بك ككائن حي».
النفق، من هذا المنظور، ليس فقط تجويفًا تحت أرضيًا، بل مجالًا معرفيًا متحركًا، يتحدى الاستعارات الحداثية التي تربط العمارة بالصعود، بالانفتاح، وبالمركزية البصرية، ويقصر العمارة والتركيب تحت الأرضي/الجوفي على كل ما هو متوحش. كما تشير دونا هاراواي (1944)، فإن «التخفي في داخل بنية تقنية ليس دائمًا خضوعًا، بل يمكن أن يكون استعادة للسيادة من داخل أنظمة المراقبة». النفق الغزي يعكس ما يسميه ستيفن غراهام بـ«الجيولوجيا السياسية المضادة» (counter-geopolitics of the underground)، حيث تتحول طبقات التربة نفسها إلى مواقع للتمرد على تقسيمات الفضاء الاستعماري الرأسي. فبينما تمنح القبة شرعية الحياة الفوقية، يُنتج النفق إمكانية النجاة من المحو عبر إعادة توزيع العمق، والزمن، والحركة. بذلك، تُصبح الأنفاق في غزة نقيضًا معماريًا للقبة الحديدية: فبينما تُقسم القبة الفضاء فوق الأرض على أساس «من يستحق أن يُحمى»، يعمل النفق على تمكين من حُرِم من السماء من اختراق الأرض لا لمغادرتها، بل للامتداد فيها.
فيما ترتبط الحداثة المعمارية بـ«شفافية الحديد والزجاج»، فإن النفق يرفض هذه الشفافية بوصفها شرطًا للمرئية والخضوع. وبدلًا من ذلك، يبني عتامة واعية بمجالها وأجسادها وجغرافياتها، تُمكن الجسد الفلسطيني من الخروج من مجال الاستهداف المرئي
الأنفاق هي آلية اختفاء، لكنها ليست أداة محو. والاختفاء هو الامتحان الفعلي لمنظومة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، القائم على الانكشاف واختراق المسامات بالمنطق الفوكوي (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو).
في مواجهة أنظمة الرؤية والرصد والضبط التي تجسدها القبة الحديدية، تُقدّم رواية سفر الاختفاء (2014) لابتسام عازم نموذجًا عكسيًا لفعل الاختفاء، لا بوصفه فناءً أو محوًا، بل كتمرد على بنية السيطرة الاستعمارية، وتماهٍ مع الأنفاق باعتبارها آلية رأسية للاختفاء. تطرح الرواية سؤالًا مخيفًا في بساطته: ماذا لو اختفى الفلسطينيون جميعًا؟ يبدو الأمر وكأنه استجابة تخييلية لمخيال صهيوني طالما تمنى غياب الفلسطيني، لكنها تفككه من الداخل، بإظهاره بوصفه بنية مرضية، وليس وعدًا بالخلاص.
الاختفاء في الرواية استعارة سياسية مكثفة، استخدمت الكتابة والخيال محل الحفر والأنفاق. فالفلسطيني، رغم اختفائه الجسدي، لا يُمحى من بنية الدولة الاستعمارية، بل يكشف اختفاؤه هشاشتها البنيوية. كما تقول عازم: «تراكمت الملفات، وتوقفت الشوارع، وتراكمت الأسئلة. اختفاء الفلسطينيين فجّر الأزمة التي لم تكن تظهر طالما ظلوا في الظلّ». إن الصدمة هنا مزدوجة: اختفاء المُستعمَر لا يحرر المُستعمِر، بل يعريه.
تمثل يوميات علاء، بطل الرواية، ما يمكن تسميته بـ «جغرافيا الذاكرة الناجية». من خلال علاقته بجدته اليافاوية الناجية من النكبة، تنتقل الصدمة من جيل إلى آخر، لا فقط عبر الحكاية، بل عبر الجسد واللغة والكتابة والمكان. كما يقول في أحد المقاطع: «جدتي لم تكن تتكلم عن اللجوء، كانت تُصلي له، كما لو أنه إلهٌ كامن تحت جلدها». هذه الذاكرة، حتى في غياب الجسد، تبقى عصيّة على المحو، وتُعيد إنتاج الحضور الفلسطيني الجغرافي خارج أنظمة الرؤية/التحديقة الاستعمارية، وبالتالي تسعى الآلة الحضرية والتخطيطية الاستعمارية على نقض الجغرافية والجسدانية Un-geographing الفلسطينية، وليس نزعها De-Geographing.
الفضاء الحضري والمديني، تحت القبة في يافا، التي تدور فيها أحداث الرواية، ليس محايدًا. تلك المدينة الفلسطينية التي ساهمت نظريات ومدارس العمارة والتخطيط الحديثين في احتلالها ومحوها (لعل أبرز نماذجها كان الباوهاوس). تشير الرواية إلى ذلك بوضوح: «في يافا، الشارع يلمع لكنه لا يرى أحدًا، الحيطان مطلية لكنها لا تعكسنا». ولعل ما يجعل الرواية تتقاطع مع التحليل المعماري لأنظمة التخفي والمراقبة، هو أنها لا تستخدم الخيال للهرب، بل لتفكيك الواقع، على المستوى المادي والرمزي والخطابي والأهم الجغرافي. في سفر الاختفاء يظهر «الاختفاء» بوصفه سلاحًا مضادًا للمحو، لا خضوعًا له، تمامًا كالأنفاق. كما تقول دونا هارواي، «في بعض الأحيان، يكون الانسحاب من الرؤية تكتيكًا سياديًا، لا انمحاءً». وهذا بالضبط ما تفعله الرواية: تمنح الفلسطيني الحق في أن يكون غير مرئي، دون أن يكون منسيًا، وأن يكون غائبًا دون أن يُمحى.
نختتم بالسؤال: ماذا لو اختفى الفلسطيني؟ كيف يرى الإسرائيلي مدينتـ(ـه) تحت القبة؟
يجيبنا الروائي الإسرائيلي عوز شيلاح في كتابه أراضٍ للتنزه بقصة صغيرة:
«في تل أبيب طُلب من مجموعة عشوائية من طلبة علم النفس، الذين كان عليهم المشاركة في ثلاث إلى أربع ما يسمى «تجارب» كل فصل، أن يتخيلوا المدينة كلها عارية، أن يجردوها بأعين عقولهم إلى ما كانت عليه، أو ما يمكنها أن تكونه. تخيل الطلبة كلهم فراغًا كبيرًا. رأوا شوارع وبنايات، أو امتدادات رملية عريضة، وشجيرات واطئة، وبضعة جداول تصب في البحر، وبعضهم رأى أنقاضًا، لم يذكر حتى مشارك واحد في التجربة البشر».