شماليَّ العاصمة عمّان، يقع مخيّم البقعة في محافظة البلقاء، وهو أكبر مخيّمٍ للاجئين الفلسطينيين في الأردن، وأُخمّن أنه من أكثر الأماكن المليئة بكتابات الجدران على اختلاف أصنافها وأهدافها. هناك حيث الشوارع الضيّقة والمنازل الملتصقة ببعضها، وحيث يمكنهم تمييز الغرباء أو المتطفلين من أمثالي. حال الدخول إلى المخيّم يمكنك رؤية الكتاباتِ على الجدران، مثل “عيني عينك ضيّعونا”، و”أحلى مكان بالعالم المخيّم”، و”قل للوطن أنّ القلب مشتاق”، تجدها عباراتٍ مكتوبةً بالطلاء الأسود أو عبوات الرّش بخطٍ مفهومٍ وكبير. وهو ما يمكن رؤيته كذلك في الدرج المؤدي من وسط البلد في عمّان إلى منطقة اللويبدة، فعلى اليمين خلال صعود الدرج ستجد بابًا مفتوحًا يقود إلى زقاقٍ داخليّ وهناك سترى عبارةَ “يا أخي أحبك”، و”إلى فلسطين خذوني معكم” وبخطٍ قد كُتب بقلمٍ تلوين ستقرأ “شكرًا يا الله لأنك منحتني يومًا آخر لأكون حرًا في عبادتك”، وتحت كل كتابةٍ قد تجد تاريخًا معينًا أو أحرف حبٍّ لعشيقين كانا في المكان يومًا ما.
قبل سنوات وخلال مروري بالنفق الذي يسبق دوار الداخلية لفتتني كتاباتٌ على جدرانه، أحدهم كتب “عيونك زي شارع المدينة ما إلها حلّ”، وآخر كتب “كلهم خونة”، وثالثٌ كتب “خذني دائمًا على محمل الاستثناء”. تذكرت ساعتها احتجاجات 2018 التي قطع فيها وزير الاقتصاد الرقمي السابق مثنى الغرايبة الانترنت عن المتظاهرين في محيط الدوار الرابع بعد تسلّمه للوزارة وهو نفسه الذي اشتهر بصورته ورأسه مليئٌ بالدماء بعد إصابته بحجرٍ من أحد البلطجيّة خلال احتجاجات 24 آذار عام 2011 المطالبة بإسقاط الحكومة وإصلاح النظام.
لذا بدت لي حينها “كلهم خونة” أكثر بروزًا وفكرتُ في تلك العبارات وغيرها المكتوبةً في مكانٍ معزولٍ داخل نفق المشاة الواصل بين جانبيّ الشارعين والبعيد عن الأنظار.. ما الذي قد يدفع الناس للكتابة على الجدران؟ ألا يمكنهم التعبير عن أنفسهم بطرقٍ أُخرى؟
عام 2022 مررت بالنفق ذاته ووجدتُ أنَّ الجدران قد تمَ طلاؤها واختفت كل العبارات. الأمر ذاته لاحظته في شوارع وسط البلد وبضعة أماكن أُخرى، لكنها لم تكن ظاهرةً -باعتقادي-، بل أرادت الدولة أن تنظّف المدينة وتحافظ على جمالها بما يعكس مفهومها عن الجمال متحججةً بازدياد أعداد السيّاح في الأردن، إذ أنه خلال عام 2025، استمرت الزيادة؛ وبلغ إجمالي عددهم خلال الفترة من يناير حتى مايو 2025 نحو 2.696 مليون زائر، بنسبة ارتفاع بلغت 20.6% مقارنة بنفس الفترة من عام 2024. وحين سألت أصدقائي الأجانب عن سبب اختيارهم الأردن للزيارة، قالوا إنها الدولة الوحيدة المستقرة في ضوء الأحداث في المنطقة والدول المجاورة، كما أنهم يرغبون بتعلّم العربيّة وعادات العرب.
مقاومة المحو بالكتابة
المصوّرة بيان أبو طعيمة اعتادت توثيق صور للجداريات أثناء تنقلها هنا وهناك، تُحدّثني عن جداريات مخيّم المحطة، وهو امتدادٌ لمحطة توقف الحافلات في رغدان على امتداد وسط البلد. تمّر بيان بالمخيّم خلال ذهابها إلى وسط البلد أو جبل عمان، ومع بداية الإبادة كانت ترى عباراتٍ مثل “العودةُ حقٌ مقدّس”، و “لا تنازل عن حقّ العودة”، و”نعم للمقاومة لا للاحتلال”. التقطت أبو طعيمة صورًا لتلك الكتابات، وعادت بعد شهرين من نفس الطريق فوجدت أنَّ الجداريات قد تم طلاؤها، لكنَّ الأمر لم ينتهي هنا، فقد عاد الشُبان وكتبوا فوق الطلاء، تقول “كنتِ ترين طبقة بيضاء هي الجدار الأساسي، وفوقها طلاء أصفر، وفوقه كُتبت الكلمة، مثل “حماس هي المقاومة”.
يعبّر هؤلاء الشبان -سواءً أكانوا من أبناء المخيّم أو لا- عن أنفسهم بالكتابة، ثم يأتي شخصٌ ويقرر محو ما كتبوه، ويعود الشبان ليتحَدَوا الطلاء ويكتبوا فوقه، وتستمر الدائرة دون نهاية، وهو ما تسميه أبو طعيمة بـ”فن الشطب” أو “لعبة التحدي والشطب”؛ أي أن السلطات تتحدى هؤلاء الشبان، فتقول السلطة: “أنا قررت أن أشطب كلامكم”، فيعود الشباب ويرون أن هذا الكلام يجب أن يُكتب، ويعيدون كتابته. وفي إحدى الصور التي وثّقتها بيان بلغ عدد طبقات الطلاء ثلاث أو أربع طبقات، ورغم ذلك كُتب فوقها من جديد.
خلال نيسان الماضي، تداولت وسائل إعلام محليّة ودوليّة خبرًا، منقولًا عن تقرير حقوقيّ لإحدى المنظمّات الدوليّة، يؤكّد تنفيذ السلطات الأردنيّة عمليّات إخلاء قسريّ وهدم لمنازل ومحلاّت تجاريّة في مخيّم المحطّة. ورد في التقرير بأنّ السلطات لم تسع إلى التشاور الكافي أو الإشعار المسبق أو التعويض أو المساعدة في الانتقال، وذلك في إطار مشروع لتوسعة أحد الطرق. وأشارت المنظمة إلى أن المشروع أدى إلى تهجير عشرات السكان، وانتهاك حقوقهم في السكن والمستوى المعيشي اللائق، إضافة إلى التأثير على الحق في التعليم بالنسبة للعائلات التي لديها أطفال في سن الدراسة، في ظل توقعات بتأثر المزيد من الأسر مع استمرار أعمال التطوير.
وحول شطب الجداريات، تعتمد الدولة روايةً رسميّةً وهي أنَّ الفعل تشويهٌ للمناطق العامة، كما تصفها أبو طعيمة، وأن الطريق العام يجب أن يكون نظيفًا ومرتبًا، ولا يجب أن يُكتب على جدرانه، ومع ذَلك لا تحذف الدولة العبارات العاطفيّة أو غير السياسيّة، مثل عبارة “حبيبتي سوسو، أموت فيكِ وأعيش من أجلك”، لكنها مستعدةٌ لحذف عبارةٍ مثل “عاشت المقاومة الفلسطينية”.
تؤمن أبو طعيمة بأن الكتابات على الجدران تنقل صوت الشبان بأنهم موجودون، لكن حذفها ينقل صوت الدولة بأن الجدرانَ ملكٌ لها تمامًا مثل الآراء وحريّة التعبير أي أن رأيك مقبول ونقدّره، ولكن احتفظ به في رأسك ولا تعلن عنه، فبمجرد أن تُظهِر رأيك، يصبح من حقي كدولة أن أقمعه. قائلةً ” نحن كمنطقة لسنا معتادين على حق التعبير. فأي شكل من أشكال التعبير يصبح بالنسبة لهم تصعيدًا؛ أي أنك اليوم تكتب على الجدران، وغدًا لا نعلم ما قد تفعله”.
وبرأي بيان فإن غالبيّة الجمل المكتوبة نابعةٌ من غضبٍ أو شعورٍ بالقهر أو أي شكل آخر من أشكال التعبير. لذا، فإنها تشعر بالسخريّة عندما ترى كلمة مرّت بها من قبل ثم تجدها ممحوة.
في مكانٍ آخر في قلب مخيّم البقعة قبل ست سنوات تسلّلت ريما -التي طلبت عدم الكشف عن هويتها حمايةً لها- ذات الخمسة عشر ربيعًا مع قريبتها لكتابة عباراتٍ منددةً بصفقة القرن على الجدران، حاولت أن تكون بعيدة عن أعين الأطفال وعائلتها؛ فالأخيرة لن تأذن لها بالكتابة مهما حدث، لكن تمت رؤيتها، فبات أطفال الشارع يبادرونها “آه هاي اللي كتبت ع الحيط”.
لم تتوقف ريما من ساعتها عن الكتابة على الحوائط، تفعل ذلك سرًا وهي تخفي وجهها ولكنها الآن وهي تتذكر تلك المرة الأولى تقول: “فهمت ساعتها معني “وصمة اجتماعية” فالأمر ليس سياسيًا فقط، لكن أيضًا العائلات ترفض لبناتها أن يكتبن على الجدران”.
من ناحية أخرى تؤكد ريما أنَّ الدولة لن تُرحّب بأي شعارٍ سياسيّ لا يخدم مصالحها.. “مرة وجدت على خرائط جوجل شارع باسم ماهر الجازي المتقاعدٌ العسكريّ وأحد أبناء العشائر الأردنيّة في الجنوب، والذي أطلق النار في سبتمبر 2024 على أمن المعبر الإسرائيلي المعروف بمعبر اللنبي وقتل ثلاثة منهم، عرفت أن الأمر قام به أحد المجتهدين فالدولة لن تفعل ذلك كي لا تخالف اتفاقية “السلام”.
مع بداية الطوفان، كانت ريما تلاحظ وتبحث عن طُرُقٍ تعبير الناس عن غضبهم ووجدت أن معظمهم يعبرون على الجدران ويظهرون تمسكّهم بحق العودة ورغبتهم في الخروج من المخيّم، فقد تكررت كثيرًا كلمات: “غزة” و “فلسطين” و”شهداء غزة”. كان الناس يعبرون عن مواقفهم ورغبتهم عن طريق الجداريات.
أيضًا انتبهت ريما أنَّ الكتابات، تعتمد بدرجةٍ أساسيّةٍ على الإيديولوجيّة التي تتناسب مع كل منطقة، ففي منطقة الحسين تجد جدارياتٍ يساريّةً لجورج حبش، وفي الرصيفة قد تكون الجدريات لسرايا القدس وحماس، تختلف الكتابة باختلاف المنطقة، فهي كلها تعتمد على البيئة، وحتى جداريات المخيّم قد تغيّرت، وبات هناك تحيّاتٌ على الجدران لشهداء لبنان وقطاع غزة.. “الحوائط مساحة مفتوحة لإظهار اختلاف أفكار الناس وتعبيراتهم عند كل موقف”.




تصوير: بيان أبو طعيمة
الكتابة صوت الناس
يُعدّ توثيق الجداريات وتفاعلات الناس في الشارع ممارسة يومية بالنسبة للمشّاءة والصحفيّة المتجولة روان نخلة؛ إذ بدأت بتوثيقها قبل نحو عشر سنواتٍ عبر الكتابة أو تدوين الملاحظات، وأحيانًا من خلال التصوير الفوتوغرافي.
لم تكن نخلة تنوي توثيق الجداريات كهدف محدد، لكنها كانت دائمًا منتبهة لما يكتبه الناس أو يرسمونه على الجدران أو غيرها من المساحات العامة. أما التحوّل الجذري، فقد جاء بعد السابع من أكتوبر 2023، حين لاحظت تصاعد أشكال التفاعل الشعبي مع ما يحدث في غزة، ومع رموز المقاومة، وخاصة الجناح العسكري لحركة حماس “كتائب القسام” والجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي “سرايا القدس”. في تلك الفترة أصبحت أكثر وعيًا بأهمية التوثيق، وبدأت تُركّز على العبارات التي ظهرت فجأة في الشارع كجزء من هذا التفاعل السياسي والشعبي.
تنقّلت في محافظتي الزرقاء وعمان، لا سيما مدينة الزرقاء، وقضاء بيرين، ولواء الرصيفة، وفي عمّان، تحركت في جميع الاتجاهات؛ شرقًا، وغربًا، وشمالًا، وجنوبًا. ووثّقت في محافظة إربد، وأحيانًا في محافظة البلقاء، وذلك بحكم عيشها في الزرقاء وعملها بين عمان ومحافظات أخرى، وبالتالي فإن توثيقها نابع من واقع الاحتكاك والتواجد المستمر، وليس بصفتها زائرة، وهذا يمنح عملية الرصد عمقًا أكبر، كما تصفها.
من منظور نخلة فإنَّ الناس يكتبون على الجدران بحثًا عن منفذ، وعن صوت، وعن مساحة للتعبير، خاصة حين تضيق المساحات الأخرى؛ إذ يصبح الجدار مكانًا للاحتجاج، وللتذكير، وللتوثيق، وللمواجهة. هناك رمزية قوية للكتابة في الحيز العام؛ وكأن الناس يستعيدون الشارع من السلطة ويعيدون تعريفه وفق أولوياتهم وآلامهم. تقول: “الكتابة ليست دائمًا احتجاجًا سياسيًّا، ففي بعض الأحيان تحمل مشاعر، وحنينًا، وتساؤلات، وحبًّا، وتضامنًا، أو حتى غضبًا خامًا، تتداخل فيه ملامح شخصية وأخرى جمعية”.
منذ السابع من أكتوبر لاحظت نخلة تصاعدًا هائلًا في الكم، حتى باتت الجدران تبدو وكأنها تتحدث؛ فلا تمرّ في مكان إلا وتجد أثرًا مكتوبًا أو مرسومًا. كما تغيّرت طبيعة الخطاب، فأصبح أكثر مباشرة، ويتضمّن تأييدًا واضحًا للمقاومة، وتنديدًا بالتطبيع، ورفضًا للاحتلال، وبجميع الممارسات التي تُعتبر مناوئة أو مثبّطة لفعل المقاومة. الخطاب نفسه صار يحث على الفعل، ويحرّض، ويعارض مواقف بعينها، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو العالمي.
وبات هناك نوعٌ من التعبير العاطفي تجاه غزة، مثل؛ “أحب غزة”، و”كلنا غزة”، و”أهل غزة تاج الرأس”. هذه العبارات هي تعبير عن مشاعر حقيقية، وتضامن إنساني، وخوف، وأمل، وانحياز.
تصوير: بيان أبو طعيمة
الجدار كبديل
كما لاحظت نخلة أن التضييق على الفضاءات العامة، خاصة بعد تعديلات قانون الجرائم الإلكترونية قبل السابع من أكتوبر، دفع الناس أكثر إلى اللجوء للشارع كوسيلة للتعبير. فإذا لم يتمكنوا من التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي أو في العلن، يصبح الجدار هو البديل.
أدخلت السلطات الأردنية تعديلات جوهرية على قانون الجرائم الإلكترونية، شملت المواد (15)، و(16)، و(17)؛ إذ أصبح القاضي مخيّرًا بين إصدار حكم بالسجن أو الغرامة أو كليهما، بعدما كانت العقوبة المزدوجة مفروضة مسبقًا. كما خُفّضت الغرامات المالية؛ ففي المادة (16) مثلاً، أصبح الحد الأدنى للغرامة خمسة آلاف دينار، والحد الأعلى عشرين ألف دينار، بعدما كانت تتراوح بين خمسةٍ وعشرين وخمسين ألف دينار. ورغم أن هذه التعديلات تبدو تخفيفًا للعقوبات، فإنها عزّزت سلطة القاضي ووسّعت مجال التقدير، ما يزيد الضغط على المواطنين، ولا سيما في ممارستهم لحرية التعبير.
في الوقت نفسه، وسّع القانون الجديد، الذي حلّ محل قانون 2015، قائمة الجرائم لتشمل نشر الأخبار الكاذبة، واغتيال الشخصية، وإثارة الفتنة، وازدراء الأديان، وغيرها من المصطلحات الفضفاضة التي يسهل توظيفها لتقييد التعبير. كما أتاح للنيابة العامة ملاحقة الأفراد دون الحاجة إلى شكوى شخصية، خاصة عند توجيه الكتابات أو المنشورات نحو السلطات العامة.
وقد وثّقت منظمات حقوقية حالات احتجاز ومحاكمة لنشطاء وصحفيين على خلفية منشورات تنتقد السلطة أو تعبّر عن دعم فلسطين، مع فرض غرامات وأحكام بالسجن تجاوزت في كثير من الأحيان حدود ما يُعدّ تعبيرًا قانونيًا.
يُعدّ محو الجداريات جزءًا من عملية ضبط الحيز العام، – كما تصفها روان-؛ إذ لا يرغب النظام السياسيّ في وجود مساحات خارج سيطرته، خاصة عندما تكون الكتابات سياسية أو مناهضة أو حتى تضامنية مع المقاومة. وفي بعض الحالات، تم شطب عبارات بسيطة للغاية مثل “كلنا غزة” أو “تحيا المقاومة”.
على الرغم من توثيق روان للعديد من الجداريات إلا أنَّ هناك عبارتان لا تغادرانِ ذاكرتها الأولى، مكتوبة بخط ضخم على الطريق بين الزرقاء وعمان “كل عام وغزة والمقاومة بخير” والثانية “سبعة أكتوبر كان سببًا في استيقاظي” وإلى جانبها مكتوب “ضد التطبيع”. وتطلق نخلة على ما يحدث مسمى”توثيق طوفان الجدران”، معللةً ذلك بأن الجدران تشارك فعليًا في هذا الفعل الشعبي، بصوتها، ولونها، وذاكرتها.
منذ تشرين الأول 2023، غدت السلطات الأردنية أكثر تشدُّدًا في مواجهة النشاط الشعبي المناصر لفلسطين، سواء في الشارع أو على المنصّات الرقمية. فأوّقفت الأجهزة الأمنية والنائب العام نشطاء وصحفيين ومحاضرين للاشتباه في دعمهم للمقاومة أو نقدهم للسياسات الرسمية، مستغلّة أحكامًا غامضة في قانون الجرائم الإلكترونية الجديد لعام 2023، الذي يجرّم تصريحات مثل؛ نشر أخبار كاذبة أو تحريض على الفتنة وحتى التعبير عن التعاطف مع غزة.
سُجّل عدد كبير من الاعتقالات التعسفية -بحسب منظمة العفو الدولية، فقد تم توقيف ما لا يقل عن ألف شخص بين أكتوبر ونوفمبر 2023 لصلتهم بتظاهرات داعمة لغزة أو بسبب منشورات إلكترونية، بالإضافة إلى ذلك، اعتُقل منسق حركة المقاطعة BDS في الأردن، حمزة خضر، بسبب منشورات الدعم لغزة على وسائل التواصل الاجتماعي.
تصوير: بيان أبو طعيمة
الجدران دورٌ للنشر
في مكانٍ آخر، في السادسة عشر من عمره قبل سنوات كانت المحاولة الأولى لأمجد جبر بالكتابة على الجدران، لم يضع اللثام، لكنه كان يتوجه للكتابة في الأحياء التي يثق بأصحابها، أو يكتب ليلًا إذا كان الحيّ بعيدًا. واستلهم كتاباته من من بطولات المقاومة وصمود أبناء الشعب الفلسطينيّ في أي حدث كان يحدث في الأراضي المُحتلة سواء في فلسطين أو في لبنان أو أي جبهة تُقاتل الاحتلال. وتنوّعت العبارات التي كتبها وما يزال، بين “الحياة كلها وقفة عزٍ فقط”، و”لا تمت قبل أن تكون ندًا”، وشعارات رافضة للمواقف الحكومية العربية الرسمية، مثل “لا للتطبيع” و”تسقط وادي عربة”، وغيرها.
يقتبس جبر عبارة إدواردو غاليانو بأن “الجدران دور نشر الفقراء” ويضيف عليها بأنها دور نشر كل من يخاف أن يُعاقب على كلمة وردت على لسانه واسمه في فضاء عام، ولأنها مساحات عامة لكّل الناس قد يتحول فيها الشعار لسؤال عند قارئه يُذكره بكل مآسي الشعب تحت الاحتلال، ويلفت نظره لتضحيات المقاومة. فيما تختلف الأهداف من شخص لشخص -بحسب جبر-، لكن غالبًا ما يكتب الناس على الجدران لإيصال رسالةٍ ما إما شخصية لشخص بعينه أو مُجتمعيّة لكّل الناس.
لم تسلم الجداريات التي كتبها من الطمس، فبعضها تم مسحها؛ لأنها ظاهرة بشكل واضح في شوارع رئيسية يمر منها كل الناس من المخيم وبعضها لم تُمحى لإنها “متدارية” في الأحياء والشوارع الضيقة مما يصعب الوصول لها.
وكانت الأجهزة الأمنيّة قد اعتقلت في تشرين الأول لعام 2024، الرسام خليل غيث قبيل بدئه برسم جدارية في مخيّم البقعة تتحدّث عن رئيس حركة حماس يحيى السنوار. وغيث رسامٌ اعتاد الرسم على جداريات المخيّم واشتهر بذَلك، فيما أفرجت عنه السلطات في الشهر الذي يليه، وفي تصريحٍ له قال إن اعتقاله ضريبةٌ لا بد من دفعها رغم أنه لا يُحسَبُ على المعارضة، فهو فقط يناضل بريشته وهذا أضعف الإيمان.
يعتبر جبر أن وجود منفذ سهل وآمن ومضمون للتعبير، مثل الجدران التي تحمل الرسومات والكتابات، هو أمر أساسي للحفاظ على رمزية “المخيم” ذاته، والحفاظ على جدرانه من الشعارات التافهة أو الرديئة التي لا علاقة لها بالصراع سواء مع الاحتلال أو مع الظلم بشكل عام. ويشير إلى أن العبارة التي ما زالت عالقة في ذهنه، والتي تعكس جوهر الثورة، هي أن “الثورة مُرصعة بدماء الشهداء”.
تصوير: بيان أبو طعيمة
عندما يصبح الخوف أكبر من الهم
بالعودة إلى الأعوام السابقة، وتحديدًا عام 2007، كانت الجداريات السياسية في عمّان جزءًا من مشهد الشارع، لكنها خضعت فجأة لمحاولة تنظيم وقمع صارمة. حينها، يروي أحمد ممدوح وهو اسم مستعار لأحد الناشطين الذي طلب عدم الكشف عن هويته حمايةً له أنه قضى شهرًا في السجن مع مجموعة من رفاقه، ولولا اللثام الذي أخفى هوياتهم لواجهوا اتهامات أشد مثل “تقويض وتخريب ممتلكات”.
كان الحراك يقوده خليط من اللاسلطويين، الشيوعيين، والليبراليين داخل حزب اليسار الاجتماعي، الذي تميّز بتنظيمٍ لامركزي واسع آنذاك، وكانت منظمة القطاع الشبابي والطلابي داخله تضم تحت جناحيها عدة مجموعات، بعضها لا يحمل حتى اسمًا رسميًا. والجدران بالنسبة لهم مساحة حرة ومفتوحة، يكتبون عليها شعارات مثل؛ “لا سلطة، لا إكراه، لا استغلال”، و”الشعب يريد… خبز”، و”يسقط الإقطاع”.
امتدت كتاباتهم من جسر عبدون، إلى سور كراج العبدلي المقابل للمخابرات القديمة، وجدران جامع الأشرفية، وحتى الإسمنت الفارغ في وادي صقرة. لكن ما لفت أنظار الدولة لم يكن فقط الحبر على الجدران، بل تجربة طلابية ساخرة أطلقوها في إحدى الجامعات باسم “المرشح عدنان الهامستر” وهو مرشحٌ صوتوا له بانتخابات مجلس الطلبة رُغم أنه شخصيةٌ وهميّة، وفاز فعلًا بالانتخابات، وهو ما أشعل موجةً من الحملات المشابهة في خمس جامعات أخرى. ومع اتساع النشاط، تكاثفت المراقبة الأمنية، وتلقت الأجهزة بلاغات من طلاب جامعات، فيما استمر بعض المؤيدين بالرسم والكتابة.
استمر التنظيم ثلاثة أعوام قبل أن يتفكك بفعل الانقسامات والخلافات الداخلية، إلى جانب غياب الدعم القانوني بعدما تخلّى عنهم محامي الحزب، الذي تقلّد لاحقًا مصبًا حكوميًا. الحزب، الذي كان الوحيد في الأردن يعمل دون ترخيص رسمي اعتمادًا على نص دستوري يضمن حرية تشكيل الأحزاب، دفع ثمن تجربته.
يتذكر ممدوح تلك الأيام قائلًا إن العالم كان مختلفًا، والواقع مختلف، وإن الخوف كان حاضرًا لكنه لم يكن عائقًا، قائلًا “الهم كان أكبر من الخوف، والتنظيم كان يساعد في تنظيم الخوف وتجاوزه”. بالنسبة له، كان الخوف محاطًا بإحساس جمعي بالمسؤولية والرغبة في التغيير، وهو ما جعل تجاوزه ممكنًا.
في قصيدته الخالدة يقول محمود درويش “هذا البحر لي… وهذه الكتابة على الجدار هي لغتي، لا شيء يوجعني على باب القيامة”. لا تتوقف المقاومة عند حدود الحبر والطلاء، بل تستمر في الصمود كصدى لا ينطفئ، يُثبت أن صوت الشارع لن يُسكت مهما اشتدت محاولات المحو. هنا، على جدران المدينة، تُكتب قصص الحياة والمقاومة، حيث يبقى الأثر أقوى من المحو، واللغة أسمى من الصمت.
* تم كتابة هذا النص ضمن فترة التدريب والدراسة الخاصة بـ « الأكاديمية البديلة للصحافة العربية ».














