أحداثنا الأخيرة هدّت جبال التحمّل، وهمّة الصبر، وآخر حبال النجاة بالعقل.
في أغنية “الوداع” يفتتح زياد الكلام بـ “أنا صار لازم ودّعكن” وفيها لزوم الرحيل وضرورته.
أما بعد،
فلأنّه كان يعلم ما الذي جرى ويجري في غزة. لأنه رأى وسمع أهلها. لأنه رأى وسمع المسؤولين الاسرائيليين. لأنه عاش حرباً اسرائيلية اخرى على لبنان. لأنه راقب مجرياتها وفُجع بنتائجها. لأنه شهد انهيار المقاومة. لأن أهل الجنوب افترشوا الطرقات. لأن الاسرائيليين احتلّوا القرى مجدداً. لأن أميركا تحيّي اسرائيل من مقرّ الرئاسة اللبنانية. لأن الجيش الاسرائيلي على مشارف دمشق. لأن السوريين يقتلون بعضهم “عالهوية”.
لأن الكهرباء ما زالت مقطوعة. لأن إيجار المنزل يرتفع. لأن المصارف التي نهبت أموال الناس، لم تُمَس. لأن بيروت تزداد رطوبة. لأن الذكاء الاصطناعي. لأن الذكاء الاصطناعي بات يؤلّف موسيقى. لأن ترامب يحكم. لأن مصر لم تَقُم. لأن مسيّرة اسرائيلية تزنّ فوق رؤوسنا، تراقب تصوّر وتغتال. لأن تركي آل الشيخ يقيّم الفنّ. لأن الـ”تيك توك” هو مصدر معلومات الجيل الحالي وأصل معرفة الجيل القادم… لأنه يعلم جيداً خطورة العلاقة بين الدماغ والكبد. لأنها هزيمة.
كلُّ هذا قاسٍ لدرجة قاتلة. كلّ هذا قاسٍ حدّ رفض التعايش معه.
ما بيصحّ إلا الصحيح
زياد: بالنهاية، شو ما عملنا، وشو ما عمل حزب الله، وشو ما عمل مين ما بدّك، هنّي الأساس وهنّي اللي رح يحرّروا فلسطين. شو ما عملنا بالجنوب، وببيروت، وشو ما عملنا بسوريا. الفلسطينيين هنّي اللي كلّ يوم واقفين، شي ما بيتصدّق هالصبر اللي عندن ياه!
المذيع: بفهم منك إنو تحرير فلسطين وارد؟
زياد: ما بيصحّ إلا الصحيح. هيدي أمور لو طوّلت كتير، بتصير.
لم أسمع يوماً نبرةً حاسمة في جوابٍ لزياد كما قال عبارة “ما بيصحّ إلا الصحيح” في تلك المقابلة منتصف عام 2019. وكأنه ملَكَ خلاصةً لا ريب فيها ولا تردّد ولا تحتاج إلى وقت أطول لتُصاغ أو لمقاطعة المذيع بعد ثوانٍ لاستكمالها. خلاصة عُمرٍ من التفكير والنضال، من التفكير في النضال. الفكرة واضحة مكتملة ومحسومة في رأسه وعلى لسانه وتقول إن الصحيح/الحقيقي فقط هو الذي سينتصر في النهاية، سينتصر لأنه الصحّ/صاحب الحقّ. والحقيقة في رأس زياد وعلى لسانه منذ زمن بعيد هي فلسطين، والصحّ هم الفلسطينيون والحقّ هي مقاومتهم. هم الصحّ الذي سينتصر إذاً.
كيف يمكن لعاقلٍ بنى فلسفته حول نصرة الحقّ على فكرة مقاومة اسرائيل، وبنى حياته على أساس أن الصحّ/الحقّ هو الذي ينتصر دائماً، أن لا يفقد صوابه ومبرّرات البقاء منذ أكتوبر 2023؟
مريم العدرا
وقَفَت إلى جانبي سيّدة خمسينية أو ستّينية لا أعرفها، تَشاركنا طرفاً ضيّقاً جداً من باب قاعة العزاء سَمَح لنا استراق النظر لرؤية فيروز. قالت لي السيّدة حرفياً من دون أيّ مقدّمات وبوجهٍ أحمر متعرّق وارتباك ظاهر في كلّ خلّية من خلاياها: “ما بقدر.. لا ما بقدر. يمكن ما فيني شوفها. إذا سلّمت عليها يمكن إنهار. ييييي لا ما بقدر عزّيها لوحدي. بتفوتي معي؟ بتعرفي، فيروز عندي بعد مريم العدرا دغري. نحنا بسوريا منحبّها كتير. ومنحبّ زياد. يا الله شو بعمل؟!” ثم استغلّت فرصة قدوم مجموعة من المعزّين وانسلّت بينهم: “ما رح تزبط إلا هيك”، قالت لي مغادرةً.
أما أنا فلم أستطع الاقتراب من فيروز. كانت هناك، جالسة على بعد خطوات قليلة من مكان وقوفي على الباب، لكنّي تسمّرت مكاني، نظرتُ إليها لبضع ثوانٍ ثم أشحتُ نظري. لا أحد يستطيع التحديق بأمٍّ مكلومة، فكيف لو كانت أمّنا جميعاً.
قامة
كلّما قالوا “زياد قامة فنّية كبيرة” كنت أبتسم في سرّي، أتخيّلك واقفاً تشير بيدك عالياً ورأسك مرفوع إلى فوق ثم بيدك الاخرى تشير إلى قِصَر قامتك الفعلية وتطوي ركبتيك أكثر لتبالِغ في قِصَرك، ثم ترفع حاجبيك مبستماً وتطلق القهقهة مردّداً “قامة” تليها ضحكة منفجرة. فنضحك سوياً ملء قلوبنا.
التفاصيل
سَمَحت لي الظروف والحظ الجميل أن ألتقي بزياد وأن أتعرّف إليه عن قرب في إطار عملي في جريدة “الأخبار” اللبنانية منذ عام 2006 ومن خلال المشاركة في حفلاته منذ عام 2012. أكثر ما أدهشني طوال تلك السنوات وفي محطات مختلفة منذ لقائنا الأول هو لطف زياد تجاه الآخرين. اللطف الأصلي التلقائي الذي يأتي في محلّه من دون “أفورة” أو زيف. اللطف في التفاصيل. لطفه في التعارف وفنّ كسر الارتباك الذي أصابني وكثيرين غيري في اللقاءات الأولى. لطفه وخجله الشديد في تقبّل المديح. لطفه وحشريته الفائقة في تلقّي النقد. اللطف في طلب أي خدمة مهما كانت بسيطة وفي طلب رأيك بمقطوعة موسيقية جديدة أو أغنية أو مقال وانتظار رأيك بجدّية وترقّب. اللطف والاهتمام بضيوفه في المنزل كاهتمام أمّهاتنا بأصدقائنا وقت العزومات، عيونه على كؤوسنا إن فرغت فيسرع في ملئها ويعرف ما نحبّ من مأكولات. اللطف في الاعتذار إذا أحسّ أنه أخطأ بحق أحد أو أزعج أحداً. اللطف مع الناس في الشارع حتى في أكثر المواقف إزعاجاً له. يعرف أذواقنا أو يرصدها بمراقبة المهتمّ لأمرك فيقدّم الهدايا – غير التقليدية طبعاً – المرتبطة بها. يقدّر تعبنا في العمل وفي الحياة ويقول لنا ذلك في كلّ فرصة. يرى الرعب الذي انتابني بعد الصعود إلى المسرح لأول مرّة فيأتي إلى الكواليس ليقول: “فظيعة… ممتازة كنتِ!”، فأطير. يسألني في أي ساعة أستيقظ صباحاً كي لا يتصل قبل ذلك الوقت. يتّصل ليسأل عن أحوالنا إذا غبنا عن السمع قليلاً…
***
عَلِينا عَلِينا .. بس مُرّ عَلِينا
تتورّد الاحلام مِن تمُرّ علينا
سلامات سلامات حبّك سلامات
يبقى ندى وورود حبّك سلامات
(من الأغنية العراقية “سلامات”، غناء حميد منصور)
فقدُنا مشترك
ما كلّ هذا الحبّ الذي قاله الناس فيك منذ لحظة إعلان وفاتك؟ الناس العاديون البعيدون عن الأضواء. كيف لبشرٍ من بقاعٍ متباعدة ولهجات مختلفة ومن خلفيات سياسية وطبقات اجتماعية مختلفة لا يجمعهم شيء سوى أنهم سمعوك، أن يقولوا أموراً مشتركة وحقيقية إلى هذا الحدّ. تفاصيل عن علاقتهم بك وعمّا صنَعْتَه لهم عبر فنّك. ماذا فعلتَ ليحزن كلٌّ منهم كمَن فقد صاحباً عزيزاً. تحدّث الناس عن تفاصيل كيف تعرّفوا إليك، يذكرون الفترة الزمنية وفي أي عمر كانوا وما الذي سمعوه أوّلاً. يقول بعضهم إنهم من بيئة محافظة ومن بيت ملتزم دينياً وأنت الشيوعي وأنّ ذلك لم يكن عائقاً، يذكر آخرون أنهم على خلافٍ سياسي معك لكنهم صدّقوك، وآخرون اكتشفوا أنهم يحبّون الموسيقى بسببك… لم يكن الناس بحاجة إلى مصادقتك ليشعروا بقربهم منك أو بأنك تخصّهم. “كأنني فقدتُ فرداً عزيزاً من أفراد العائلة!” قالت لي أمي باكية وقد أربكها حزنها الشديد غير المفسَّر ذاك.
كلّ ما أردتَ أن يصل للناس وصل يا زياد، ليتك هنا لتسمع ما قالوا. عن كيف أثَّرَت فيهم موسيقاك (تلك الأغنية وذلك اللحن بالإسم) أنت الذي ظننت أن الناس “سيملّون” من كثرة الموسيقى في الحفلات و”لن يرغبوا” في أن تكون هناك أكثر من مقطوعتين أو ثلاثة في ألبوم واحد.
تحدّثوا عن كيف طبعت مسرحياتك مخيّلتهم وكيف قادت أفكارك تفكيرهم وكيف علَّمتَهم لغةً جديدة وحمّلتهم عدسة فجّة صريحة لرؤية الواقع وكيف جعلتهم يثورون على أمورٍ كثيرة عامّة وشخصية في حياتهم… قال الناس كلّ ما لديهم ببساطة ووضوح وبحبٍّ كبيرٍ وكثير كأنهم أرادوا أن يصرخوا لك ولمرّة أخيرة من مقاعدهم الخلفية في الحفلة: عيدها، عيدها!
“فقدُنا مشترك”، جملة كرّرتُها تلقائياً وأرسلتها إلى الأصدقاء المعزّين من مصر وسوريا وعكار وطرابلس والكورة والمتن والجنوب وبيروت وتونس والجزائر وفلسطين. وها هي إحدى النعوات الرسمية تقول “فَقَدَ لبنان وفلسطين والعالم العربي المبدع الكبير…”.
تَشاركنا الحزن والعزاء في الشارع وفي الكنيسة وفي الحانات وداخل البيوت من دون حصريةٍ لأحدٍ عليك. حُرّاً كما كنتَ وكما أردتنا أن نكون.
لم يأتِ أحد
ونحن خذلناه في عدّة محطات، كان آخرها عندما قرر إطلاق حركة سياسية – اجتماعية جامعة في لبنان اسمها “كوليكتيف” Kollektiv بداية عام 2019 والتي كان يفكّر فيها قبل ستّ سنوات من إعلانها على الأقلّ. تطرح الحركة مبادئ اشتراكية وخططاً عملية لها كمحاولةٍ لمواجهة الأزمة المعيشية التي كانت تلوح في الأفق في لبنان، قبل أشهر من انفجارها وانطلاق الانتفاضة الشعبية في أكتوبر من ذلك العام. دعا زياد في الإعلان عن الحركة الناس من مختلف انتماءاتهم أن يجتمعوا تحت شعار “في الاتحاد قوّة” لأن الشغل الجماعي هو الحلّ: “لمّا تشوفي مظاهرة فيها آلاف الأشخاص وجامعة كلّ الناس على اختلاف انتماءاتهم مجموعين ومش كلّ واحد جاي لوحده، هيدا بيخلّي الدولة تفكّر فيها”.
ربما كانت تلك محاولته الأخيرة لأن يقول لنا أنه باستطاعتنا أن نفعل شيئاً سويّاً على الأرض. وكان متحمّساً أكثر منّا ومستعدّاً للانخراط الكلّي في المشروع رغم وضعه الصحّي السيء حينها (أيضاً). لم يكتمل مشروع الحركة، ونحن نزلنا إلى الشارع بعد أشهر قليلة ثم عدنا أدراجنا من دون أي إطار يعيد لملمتنا وجمعنا. بينما هو، فتح باباً واسعاً لاستقبالنا جميعاً… ولم يأتِ أحد.
***
أمسك يحيى السنوار كلّ ما ملَك في تلك اللحظة، يداً غير مصابة وقطعة خشب، وقاتل بها الجيش الاسرائيلي في غزة.
ندرك، في لحظة هزيمةٍ كهذه، أنّنا لم نعد نملك شيئاً لنقاتل به أعداءنا من أجل أن “يصحّ الصحيح” يوماً ما. وهذه فكرة، أخرى، قاتلة.