“لا حلّ لها إلا مينا قفصة” على هذا استقر رأي شيحاوي، أو سيدي شيحة، كما سيسميه الأبناء والأحفاد والأقارب بإجلال فيما بعد. أضمر في رأسه الفكرة ولم يصرّح بها لأحد، ففيها مخاطرة كبرى، لو علم بها سي فرج، شيخ التراب (العمدة)، لضاعت الخطة برمتها إلى الأبد، وربما يرمي به في سجن دولة الاستقلال الفتية، تمامًا كما سبق وحاول توريطه مع الفرنسيين أيام الثورة المستعرة في الجبل عام 1952.
لم ينس شيحاوي له ذلك، تمامًا كما لم ينس إساءة صهره، والتي دفعته لخوض كل هذا، يوم تقدّم منه مفاخرًا، وبيده صحن من زيت الزيتون البكر، وقال: “كُل من هذا، طرّي به كرشك”. تلقت يده الصحن وكسرة الخبز، وتلقى قلبه سهم السخرية والاستعلاء، ولم يأكل، وأضمرها في قلبه وانتظر.
قبلها، لم يكن يمتلك من الزيتون عودًا، على عكس صهره الذي ورث عن أجداده الأولّين زيتونات معدودة وقديمة. لكنه لم يقطع حبل التدبير، أمضى الأماسي متجولًا في قطعة الأرض التي آلت له من والد زوجته الأولى الثري. كانت أرضًا جرداء، لا تصلح للكثير، ولا ينبت فيها زرع، وتعلوها طبقة صخرية صلبة، يستحيل معها الحفر والوصول للتربة.
وفي لحظة صفاء، داهمته فكرة كالوحي: لا يفت الصخر سوى العزم والبارود. والعزم موجود، أما البارود نادر. فقد ولّت أيام حرب الألمان وحرب التحرير وثورة الجزائر، عندما كان البارود بكل أشكاله متوفرًا أكثر من الخبز. وحدها مناجم الفسفاط أو “المينا” كما يسميها أهلها في قفصة، تواصل فيها استعمال البارود بسخاء في بداية الستينات.
تلحف عمامته البيضاء، ووضع برنسه فوق كتفه، ميمّمًا وجهه شطر قفصة، حاضرة الجنوب الغربي وأقدم مدنه. انتظر لساعات “كار بن دُولة”، الحافلة الوحيدة، التي تعبر سفح جبل سي عيش. وفي ضواحي المدينة، نزل عند معارفه من “أولاد سلامة”، أحد فروع قبيلته “الهمامة”. بسط المسألة على أصحابه، وطلب منهم التوسّط لإيجاد مَن يساعده.
بمفاعيل الحميّة والصداقة، مرَّ طلبه من أولاد موسى، إلى أبناء أعمامهم الأبعد، عَمَلة المناجم من أولاد بويحيى، وعاد الجواب في شكل حزمة ديناميت صغيرة، بحجم أصابع اليد. خبّأها تحت برنسه ولم يعلِم بها أحد، إلى أن جاء اليوم الذي زعزع صوتها دوّار قرية “الواعرة”، تلك القرية الهادئة الواقعة في أقصى الوسط الغربي التونسي.
“اهرب” هكذا صاح في ابنه الأصغر وأخواته الخمسة، عندما أقام أول تجربة. كانت تجربة، لا تحتمل الخطأ. فور أن تبدأ، لابد أن تنتهي قبل تدخّل شيخ التراب أو غيره، وتلك كانت آخر مخاطرة عليه خوضها، وفعل.
في البداية، ضرب بالإزميل في الصخر، ما يقارب طول السبابة، حتى يتسع لإصبع الديناميت. ثم أشعل فتيله ولحق بأطفاله للاختفاء جنبهم. بسرعة تتالت التفجيرات، على امتداد صفحة الأرض، في أماكن مختارة بعناية لتكون مواضع باكورة حقل زيتونه. وعن طريق الفأس والمعول أكمل رفقة أسرته، تفتيت بقية الصخور وجرّها على مدار أيام، حتى استوت الأرض، وغرس فيها ما لن يحقق له الكفاف فقط، بل حوله ليكون واحدًا من أهم مزارعي الزيتون في القرية، إذ امتلك بعد ذلك زهاء ألف زيتونة، وهو رقم مهول بمعايير قريته، جلّها كان من صنف الشملالي.
على أيامه، كانت خيارات غراسة أصناف الزيتون محدودة، فرضتها الطبيعة شبه الجافة لقريته الواقعة، على أعتاب الصحراء، إضافة لتقنية الري “البعلي” المعتمدة كلّيا على مياه الأمطار والوديان القادمة من جبل سيدي عيش، ولا تسمح بغراسة أصناف متنوعة أو أعداد ضخمة. أمام هذه المعضلة، لم يكن أمامه من خيار سوى السير على ما سار عليه غيره من الفلاحين التونسيين، من أيام القرطاجيين القدامى، أولئك الذين ينسب لهم فضل زراعة الزيتونة أول مرّة، وعلى رأسها الشملالي.
الحاج طاهر سعيداني، ذو الشاشية الحمراء والعينين الزرقاوين، واحد من القلائل الذين مازالوا يتحدّثون بلهجة أمازيغ الدويرات القديمة، وآخر أمل في محاولة فهم كنه هذه التسمية. بحسب قوله، الشملالي أصلها “آشملال” وتعني بلغة الأمازيغ القدامى “أحمر مخلوط بشهبة”. يتوافق ذلك ولون حبّة زيتونة هذا الصنف ذات الحمرة، وزيتها الأخضر الداكن.
كان الشملالي القفصي، في مناطق الوسط، الخيار الأول عند الفلاّحين القدامى. لكن وبتأثير من مشاريع فلاحية استعمارية منذ أواسط القرن الماضي، استنسخت تجربة هناشير (ضيعات) صفاقس، مثل هنشير الشّعال، أكبر ضيعة فلاحية في تونس وواحدة من الأكبر في العالم. وعليه أصبح الشملالي الساحلي، منتشرًا حتى في المناطق النائية والبعيدة ..
الشملالي ليس الصنف الوحيد في تونس، إذ يوجد بجانبه ما يناهز الأربعين صنفًا سواء من الزيتون المعدِّ للعصر أو زيتون الطاولة المخصّص للأكل. ففي الشمال مثلًا، حيث يكثر تساقط الأمطار، يتراجع حضور الشملالي لصالح الشتيوي، أو الوسلاتي بين أحراج جبل وسلات. في حين لا تغيب عن أي مزرعة، زيتونة أو اثنتان من أنواع الزرازي والفوجي وناب جمل وغيره.
ورغم هذا التنوع، يبقى الشملالي سيّدا على امتداد السواحل التونسية ودواخل الوسط والجنوب، حيث تقع مزارع الزيتون الكبرى والأقدم. وينقسم لأصناف، تفرضها المعطيات الجغرافية.
ففي حين ينتشر الشملالي الساحلي- وهو الأكثر عددًا- في السواحل وسباسب الوسط، تظهر أصناف أخرى أكثر مقاومة للجفاف -وأقل إنتاجًا- في الجنوب وتحديدًا في قفصة حيث يزرع في واحة المدينة، صنف يعرف بـ الشملالي القفصي. وعلى عكس الساحلي، القادر على الإثمار كلّ سنة، لا يثمر القفصي إلا مرة كلّ سنتين حسب توفّر الأمطار، ولكن بكمّيات أكبر وبحبّات زيتون أضخم، وزيت أثقل عند العصر.
كان الشملالي القفصي، في مناطق الوسط، الخيار الأول عند الفلاّحين القدامى. لكن وبتأثير من مشاريع فلاحية استعمارية منذ أواسط القرن الماضي، استنسخت تجربة هناشير (ضيعات) صفاقس، مثل هنشير الشّعال، أكبر ضيعة فلاحية في تونس وواحدة من الأكبر في العالم. وعليه أصبح الشملالي الساحلي، منتشرًا حتى في المناطق النائية والبعيدة. وفي الواعرة، قرية شيحاوي، أمسى حاضرًا بقوة إلى جانب القفصي.
غير أن شيحاوي، لم يمِل إليه. ظلّ محافظا على محبته لزيتونات الشملالي القفصي وزيتها الحامض القوي، ينتظر شهر نوفمبر من كلّ سنة ليحتفي بثمرها. مثلما احتفى بأول أكياس قليلة منها أرسلها نحو بلدة “القصر”، لتُعصر هناك في معصرة “أحمد بن دُولة”، التاجر الوطني الذي عمل على إنشاء خط نقل لخدمة أهالي المنطقة ومعصرة كانت الوحيدة في قفصة وقتها وكانت توفر تقنية العصر عن طريق ضغط الزيتون داخل أكياس مصنوعة من نبتة الحلفاء تسمى “الشوامي”.
ظل ينتظر بشوق لعدة أيام خروج الزيت، الذي حمله في برميل حديدي على متن حافلة “بن دولة”. ومع كلّ مطب، كان قلبه يقفز فرطًا من احتمال انسكاب زيته وضياعه. في أواسط السبعينات، رزق بمحصول وفير لم يعد قادرًا معه على نقل زيته عبر الحافلة مثل غيره من أصحاب الكميّات القليلة. في تلك السنة، اكترى شاحنة خاصة، ليعود بمحصوله منفردًا، وهو ما لم تعرفه قرية الواعرة من قبل.
عند اقتراب الشاحنة من تخوم القرية، كان السائق قد تلقّى أمرًا سريًا من شيحاوي، لم يعلم به غيره: “زمّر وخوذ خمسمية”. وبالفعل ما أن لاحت الحوانيت والمدرسة والمسجد أمامه، حتى انطلق زمّور الشاحنة في زغردة قطعت القرية طولًا وعرضًا. تهافت الجميع لاستجلاء ما يحدث، الأصدقاء والحسّاد والفضوليون، ومن لم ينس لهم شيحاوي سخرية الماضي. وهكذا لقاء مبلغ مجزي ناله صاحب الشاحنة، شهد الجميع تغيرات موازين الثروة في القرية.
قبلها بسنوات، نجت ثروته من الزيتون من تأميم الدولة للأراضي الفلاحية في ظل سياسة التعاضد (1964-1969)، والتي استهدفت تحويل الأراضي الفلاحية الصغرى الخاصة، إلى تعاضديات (تعاونيات) ضخمة، مملوكة بشكل جمعي من الشمال نحو الوسط بالتدريج. وبمصادفة عجيبة، ما أن بلغت مشارف القرية، حتى انهارت نفوذ رئيس الحكومة صالح بن يوسف، صاحب مشروع التأميم وقُبر معه مشروعه.
وكما نجت أرضه من التأميم، نجحت زيتوناته في تجاوز الجفاف الطويل الذي سبق فيضانات 1989. كذلك استفاد هو نفسه، من الانفتاح الواسع للأسواق التونسية على التصدير في تلك الفترة وتطوُّر صناعة زيت الزيتون المحلية. في سنوات معدودة، توسَّعت ممتلكاته في أخصب مناطق القرية، وهو الذي لم يمتلك قبلها شبرًا واحدًا. علّم أولاده الذكور بالتعليم العمومي -وهو ما لم يكن متاحًا للكثير من أبناء جيلهم- وصاهر ذوي الحسب والنسب.
خلاف الأشجار الأخرى، لا تنقطع خضرة الزيتون على امتداد السنة، لكنه من الممكن أن يفقد ألقه، وتصّفر أوراقه، وعندما يبلغ به العطش أو المرض مبلغه، ينكمش ويشحب حدّ البياض، وفي النهاية يموت، واقفًا كالنخيل.
مع حلول شتاء عام 2000، تخفّفت زيتونة الواعرة من بعض أوراقها، وغادرها من بين مَن غادروا في ذلك الشتاء شيحاوي أو سيدي شيحة. بعد وفاته، شارفت ثروته على الذبول. يقول العارفون من كبار القرية، إن الزيتون “يحسّ بـ صحابه”، وبفقدهم، يفقد بركته، حينما يتقاسمه الورثة أو يبيعه الملّاك.
غير أن عوامل أخرى، ملموسة وموضوعية، أسهمت في هذا الانعطاف المأساوي لثروة الشيحاوي الزيتونية، بداية من التغيرات المناخية الكبرى، التي كانت من أبرز مظاهرها، سنوات الجفاف المتواصلة، خاصة سنتي 1999 و2000، وما لحقها من شح رهيب للثروة المائية الطبيعية المعتمدة في زراعة الزيتون البعلي. إذ تراجع بالفعل مخزون المياه السطحية في المجال التونسي من 2700 مليون متر مكعب سنة 1996، إلى 771 مليون فقط سنة 2020، أي ما يقارب الربع، خاصة في الوسط والجنوب.
كان الصراع على الثروة عنيفًا وفجّاً في محيط القصر، بين أسرة زوجة الرئيس “الطرابلسية” وأسر أصهاره الآخرين: شيبوب والمبروك والماطري. وقتها، كان كل مشروع ضخم يمر بإحدى الخيارات الثلاثة، إما المقاسمة أو الاستيلاء وفي أفضل الأحيان دفع الرشى. قلة من رجال الأعمال، استطاعت أن تمر بأمان وسط هذا الصراع، لقربهم من هرم السلطة أو محيطه الأسري ..
وإلى جانب إشكاليات المياه، عرفت زراعة الزيتون في منطقة الوسط تحديدًا، مشاكل هيكلية أخرى، أهمها التهرّم. فأشجار الشملالي، التي تجاوز عمرها السبعين عامًا هي السائدة. ويغلب على زراعتها الطابع العائلي المشتت. وتقع في حوذة فلاّحين كبار السن، ورثوها جيلًا عن جيل، ممّا حوّلها لزراعة ضيقة النطاق، خاصة في القرى القديمة، القريبة من السواحل.
كذلك افتقر فلاّحو المناطق الداخلية، للإمكانيات المادية، مثل الآبار الارتوازية، لتطوير زراعتهم وتحويلها لنموذج سقوي (استسقائي). وبذلك، لم يبق لهم سوى الاقتصار على ما آل لهم من زيتونات الشملالي القديمة، باعتبارها أصلًا ثابتًا، لا يوفر عائدًا ماديًا ضخمًا، لكنه يوفر ما يكفي الاستهلاك المنزلي البسيط: أو ما يطلق عليه “العُوْلَة”.
غير أن هذا الوضع الصعب في مناطق الغربية القريبة من قرية الواعرة، وتحديدًا منطقة سيدي عيش من ولاية قفصة، لم يستمر طويلًا وتغيّر مع مطلع الألفية. فالأرض السباسبية القاسية والغنية بزراعات الفستق واللوز والزيتون التي عانت من جفاف طويل وكانت في الزمن الغابر تمتد عليها الضيعات الرومانية الخاصة على طول سفح الجبل، كما تشهد بذلك الآثار المنسية والمتناثرة في قرى الواعرة والساهلة وأولاد إبراهيم، اُكتُشِف تحت أديمها ثروةٌ مائية جوفية ضخمة. كان من أوائل من فطن إليها، أصهار الرئيس بن علي، والمتحكمون في جلّ الموارد الاقتصادية الكبرى أيام حكمه.
كان الصراع على الثروة عنيفًا وفجّا في محيط القصر، بين أسرة زوجة الرئيس “الطرابلسية” وأسر أصهاره الآخرين: شيبوب والمبروك والماطري. وقتها، كان كل مشروع ضخم يمر بإحدى الخيارات الثلاثة، إما المقاسمة أو الاستيلاء وفي أفضل الأحيان دفع الرشى. قلة من رجال الأعمال، استطاعت أن تمر بأمان وسط هذا الصراع، لقربهم من هرم السلطة أو محيطه الأسري. ومن بين هؤلاء، كان توفيق الشعيبي.
ولد الشعيبي سنة 1936، لعائلة نازحة من الجنوب. سمعة والده ونضاله، قرّباه من أوساط العاصمة الارستقراطية، حتّى تمكن من تزويج ابنته لأحد أفراد أسرة “شيبوب”، التي أنجبت بدورها ابنًا سيتزوج في الثمانينات ابنة الجنرال الذي سيقود انقلابًا ضد الزعيم العجوز. وبفضل كونه خال سليم شيبوب، صهر الرئيس بن علي، أمسى الشعيبي أحد أبرز وجوه عالم الأعمال في البلاد، وأول من سيضع يده على سباسب سيدي عيش.
سنة 2007، انطلق الشعيبي، عن طريق مجموعته الاستثمارية أوتيك UTIC، في تحويل ما يناهز الألفي هكتار من الفيافي لسلسلة من حقول الزيتون الضخمة، والتي بلغ عددها ستمائة ألف شجرة زيتون، مع خمسمئة موطن شغل (مكان عمل) في مراحلها الأولى، ليصبح المشروع عنوانًا دعائيًا للنظام. لدرجة أن الإيكونوميست مغربيان نشرت أنه “في ثلاث سنوات، سوف تستحم قفصة في زيت الزيتون”، وصار “الشعيبي، بطل قفصة” كما وصفته مجلة ليدرز، في عنوان لمقال لها سنة 2008.
مع الثورة، تزعزعت نفوذ الشعيبي -دون أن ينهار- مع ظهور ملفات فساد شملت صهره شيبوب، وطالته آثارها. ومعها دخل فاعلون جدد على الخط، لتتضاعف أعداد أشجار الزيتون وتبلغ ما يناهز المليون شجرة. أصبحت أغلبها تحت ملكية “امبراطور زيت الزيتون” عبد العزيز المخلوفي، صاحب علامة سي أتش أو، أكبر شركات إنتاج وتصدير زيت الزيتون التونسية.
مع اكتشاف المياه الجوفية نشأ منوالٌ جديد من الزراعات الحديثة والمكثفة، قائمٌ على تكثيف الغرسات، وبناء جدران من الزيتون المتلاصق والمتشابه في كل شيء، ولمدة زمنية محددة. “سبعة وأقلب”، هكذا يقول الفلاحون عند الحديث عن الأصناف المستحدثة، التي تعمّر سبع سنوات بالكاد ثم يقلعها الفلاح ويستبدلها بأخرى ولا تجمعه بها رابط سوى الإنتاج. مثل شجرة الأربوزانا التي تثمر وتوفر العائد الاقتصادي المرجوّ من وراءها، وبعد سنين قليلة تنضب وتذبل.
غير أن قصة نجاح التنمية الفلاحية لزيتونة سيدي عيش، التي حوّلت المنطقة من “الأصفر الداكن إلى الأخضر اليانع” كما كُتِب احتفاءً بعشّرية المشروع، كان لها وجهٌ آخر. بداية من الاستنزاف الضخم للموارد المائية الجوفية -والمفترض فيها أنها ملك للمجموعة الوطنية – لصالح إنتاج يصّب أساسًا في مصلحة الخواص، ووصولًا لحالات التشغيل الهش والموسمي للسكان المحليين، خاصة النساء منهم. بل وزادت من تبعية المنطقة لمعاصر الساحل وصفاقس، بدلًا من الاستفادة من الثروة الضخمة للإنتاج وتطوير صناعة تحويلية متقدمة في المنطقة. حتى سنة 2016، لم تمتلك ولايات الوسط الغربي مع قفصة مجتمعة إلا على 15 بالمائة فقط من معاصر الزيت.
لم تحقّق زراعة الزيتون المكثّف لأبناء القرى الكثير، إذ كان ينتهي الأمر بخضوعهم لسوق الزيت و”بورصته” كما يحددها كبّار الفلاحين والمنتجين القادمين من الحضر، أو بدفع بعضهم لعجزهم عن استثمار أراضيهم إلى عمليات بيع طوعية، وهو ما يجدّد مشاعر الغبن والأسى الدفينة عند كل حصاد. “كنّا ملاّكة في أراضينا، والآن صرنا خَمّاسة (أُجراء) فيها لصالح الغير”، هكذا حكى “علي*”، أحد أبناء المنطقة، التي امتدت المستغلات نحوها في السنوات الأخيرة، ما اضطره إلى ترك ما جُبل عليه آباؤه من فِلاحة، والعمل أجيرًا في سوق الشاحنات والجرّارات الثقيلة.
امتدت آثار هذا المنوال الاقتصادي للزيتون حتى طالت الشملالي، إذ زاحمته أشجارٌ أقل حجمًا، بجذوع أرقّ وأسماء غريبة مثل “الارباكينا” و “الاربوزانا” و “الكورونيكي”. لم تعرف السوق التونسية هذه الأصناف، إلا في مرحلة متأخّرة، عندما وقع استقدامها من اليونان وإسبانيا وإيطاليا في إطار أجواء تنافسية جديدة.
هذا الانتقال من زيتون القدامى إلى المحدثين، لم يكن سرًّا أو مفاجئًا، ولم يقتصر على الفلاّحين الكبار دون سواهم وإنما امتد حتّى لصغارهم ممّن امتلكوا القدرة على تعصير إنتاجهم.
اتخذت الأسرة بالإجماع قرارها بحفر بئر عميق خاص بها. ومعه فٌتح النقاش حول أي نموذج نتّبع. هل تقلع زياتين الشملالي، وتعوّض من أجل الربح السريع، بأصناف مستحدثة؟ وكعادة أهل القرى، سرعان ما تحول النقاش لموضوع رأي عام، رمى فيه كلّ برأيه. لكن قولًا واحدًا علق في الأذهان: “اغرس الإسباني لنفسك، واغرس الشملالي لولدك” ..
عند سفح الجبل بين ضيعات “حنّبعل” و”قرطاج” وتخومها، تمكن أصحاب الجيوب المحليّة هناك من بلوغ المياه الجوفية، محوّلين بذلك أراضيهم من نموذج بعلي مشتت إلى أراضي سقوية ذات إنتاج مكثّف، قوامها الأصناف الأجنبية. أحد هؤلاء هو الأستاذ خالد*، مدرّس لغة عربية، تمكّن رفقة والده إثر سنوات من العمل في تجميع ثروة مكنتهم من استصلاح أراضيهم البور.
الرجل، من أيام تدريسه، وهو مدافعٌ شرسٌ عن فكرة التقدّم، وفي فلاحته، لم يخف امتعاضه من الحميّة المبالغ فيها لدى المتشبثين بالماضي، ونزعتهم “الوطنجية” المبالغ فيها، والتي تتضارب مع المعطيات الميدانية، الكاشفة عن قدرة النموذج الزراعة المكثف على مضاعفة الإنتاج لثلاث مرّات أو أكثر، من النمط التقليدي.
لا تتفق الأوساط الفاعلة في قطاع زراعة الزيتون مع هذا الرأي، المجتمع المدني يخِيفه تنامي استنزاف الثروات المائية، لانعدم قدرة الأصناف الأجنبية على مقاومة الجفاف عكس الأصناف المحليّة. تأكّد على ذلك ورقة توجيهية للفلاحين، أصدرها معهد الزيتونة -وهي مؤسسة بحثية حكومية مخصصة لأبحاث الزيتون-، كشفت أن الشملالي، أفضل الأصناف القادرة على مقاومة الجفاف، في حين لم تبد الأصناف المستوردة قدرة مماثلة باستثناء صنف وحيد هو الكورنيكي اليوناني.
لا يخلو الأمر على الفيسبوك من نكهة “نظرية المؤامرة” أحيانًا، خاصة بعدما راج خبر توزيع بعض مندوبيات الفلاحية، لمشاتل من الزيتون الإسباني مجّانا على الفلاحين، اعتبرها البعض “عملية استعمارية جديدة “ بهدف تقويض الإنتاج الوطني القائم على تقاليد عريقة وعلى أصناف معمّرة منذ قرون وخلخلته لصالح المنافسين الأوروبيين.
هذا الرأي، يذهب نحو الشطط. إذ حافظ الشملالي حتى سنة 2016 على نسبة 69 بالمائة من أشجار الزيتون المزروعة. كما أن دعوات تدعيمه بأصناف أخرى، تصدر حتّى عن أوساط بحثية تونسية، لتجديد الحقول التونسية المتهرّمة. غير أن نفس الموقف العلمي كثيرًا ما أكد على أهمية الأصناف المحلية في ظل التغيرات المناخية.
كما أن الشملالي مازال محتفظًا بمكانته في قلوب الأهالي عبر العقود. إذ لا يزال يفضّل البعض مذاق زيته القوي سواء في الطبخ أو من أجل تناوله مباشرة مع كسرة “الغناي” التقليدية، كلّ صباح. أما الزيت المستخلص من الأصناف الأخرى، فلا تخفي النساء سخريتهن منه باعتباره “صانقو”، مثله مثل الزيوت النباتية الرخيصة.
بل يمتد الرابط لدى البعض ليتخذ بُعدًا روحانيًا، تختزن فيه الزياتين قصص الأحياء والأموات. “زيتونة فرج” التي يستظل تحتها البنات كلّ يوم في الطريق إلى المدرسة، وكانت أمهاتهن تجلس تحتها، مازلت إلى اليوم تحمل سيرة سي فرج، الرجل القوي المخضرم الذي لم تزعزع نفوذه لا سلطة الفرنسيين ولا التونسيين مطلع الاستقلال، وتقف شاهدة على تلك المرحلة.
“زيتونة زهاء”، أمست حاملة لهذا الاسم، منذ تلك الليلة التي سقطت فيها، زهاء حفيدة شيحاوي، داخل حوضها. أما زيتونة “الخايبة” فتمثل شاهدا حيّا على الأحداث المناخية الكبرى، عندما ضربتها صاعقة مباشرة، وشطرتها نصفين، ولليوم مازالا شاهدين على الحادثة. وفي صحراء تطاوين، توجد زيتونة العكاريت، التي تعود لأيام الأمازيغ القدامى قبل تسع قرون. وفي أقصى الشمال، عند مدينة الهوارية، تقع زيتونة الشرف والتي ينسبها الناس لزمن الفينيقيين، قبل ألفي عام على الأقل. وعلى امتداد الساحل، تنتشر زياتين تناوب على غراستها الرومان والفرنسيون والعرب المسلمون عبر القرون.
ورغم تعاقب الظروف التي أزاحت وأتت بأصناف مختلفة، إلا أن الشملالي ظل الناجي شبه الوحيد الذي ظل مرافقًا للإنسان بشكل دائم على مدار رحلته على هذه البقعة. لكن الإنسان اليوم تغيّر بدوره. ولم يعد المنوال الاقتصادي المستجد، الذي حوّل الزيتون لزراعة مكثفة، حكرًا على الكبار وإنما وصل أيضا لصغار الفلاحين. أصبحت الآبار الارتوازية العميقة، ظاهرة للعيان وعلى امتداد الأفق في ولايات سيدي بوزيد وقفصة والقصرين وغيرها. بعضها أُنشِئ وفق المعايير القانونية، في محاولة لترشيد استنزاف الثروة المائية، وأغلبها في “النوار” أي دون رخص.
ولسداد تكاليف هذه العمليات، أُجهِدت الأراضي الصغيرة، بالاستهلاك المكثف. زُرعت الأراضي البور، مباشرة بالأصناف المستوردة، لكن الإشكال كَمُن في أراضٍ قامت عليها زياتين الشملالي من أيام الآباء. فهل يتحمل القلب قلعها؟
البعض فعل، والبعض اكتفى بمحاصرتها بالأربوزانا من كل جانب، بينما لا يزال آخرون في حيرة، ومنهم أولاد شيحاوي وأحفاده. في السنوات الماضية، فشلت كل محاولاتهم لإحياء مجد أرض جدهم كما كانت عليه قبل عقود. إذ خيّب شحّ المطر آمالهم، أما الري عن طريق الجرارات، سرعان ما تبين عجزه وارتفاع تكلفته. كذلك لم يكتب للري عن طريق مد أنابيب المياه الدوام.
اتخذت الأسرة بالإجماع قرارها بحفر بئر عميق خاص بها. ومعه فٌتح النقاش حول أي نموذج نتّبع. هل تقلع زياتين الشملالي، وتعوّض من أجل الربح السريع، بأصناف مستحدثة؟ وكعادة أهل القرى، سرعان ما تحول النقاش لموضوع رأي عام، رمى فيه كلّ برأيه. لكن قولًا واحدًا علق في الأذهان: “اغرس الإسباني لنفسك، واغرس الشملالي لولدك”. لم تحسم الأسرة قرارها بعد، إذ لم تمنحها السلطة رخصة حفر منذ ما يزيد عن سنة. وعليه بقيت كلّ المشاريع معلّقة.
الآن تلفّ السكينة الزيتون الظهري والدار السودة والكرم القبلي وغيرها من معالم أرض الشيحاوي. ومع كل مساء، تهب من الغرب نسائم الصحراء البعيدة، عابرة قفصة وسيدي عيش، نحو الواعرة وأبعد، لتداعب أغصان شملالي أنهكها العطش، مذكرة إياه، بأن لا أنيس له في بلاد السباسب غيرها.
* اسم مستعار
* تم كتابة هذا النص ضمن فترة التدريب والدراسة الخاصة بـ «الأكاديمية البديلة للصحافة العربية».