تسبق الصورة الكلمة، وتبدو لغة فوق اللغة، لغة خاصة جدًّا خرجت قبل أسابيع من التسليم بالقدر المحتوم وإعلان وفاة الأب أحمد الزفزافي في غرفة الإنعاش. صورة شيخ مستسلم للمرض في شهر أيار (مايو) الماضي، يقضي أيّامه الأخيرة في الحياة الدنيا، هي التي تصدّرت كلّ الصور الأخرى على التايم لاين المغربي. وخلف الصورة كلام سياسي يفصح عن نفسه بوضوح.. والد المعتقل الذي يقضي عقوبة سجنية لعشرين عامًا -أمضى منها 8 حتى الآن- بسبب مطالبته بتشييد مستشفى للسرطان، يحتضر بمرض السرطان. لقد فشل العلاج الكيميائي بسبب تأخّر تشخيصه بالمرض، لانعدام وجود مستشفى متخصّص في المدينة.
صورة الوالد مرفقة أيضًا بصورة الوالدة زليخة التي أنهك جسدها المرض الفتاك هي الأخرى.
تُترجم هذه الصور الانفعالات العامة بشفافيّة قبل أن توجّهها الكلمات والتعليقات، فهي تُشارَك لمئات وآلاف المرّات، وفي أحيانٍ كثيرة من دون تسجيل موقف مكتوب. تحلّ الصورة محلّ العبارة للتنديد والإعلان عن مطالب الناس.
صورة والد ناصر الزفزافي في لحظاته الأخيرة هي رأي سياسي وموقف موجّه إلى الدولة التي سيعتمد سلوكها المستقبلي في تقدير المواقف على مواجهة صورة باتت أشبه بشعار لحزبٍ سياسي أو حركة حقوقية.
ما إن ظهرت هذه اللقطة، استحضر المواطنون الخطاب القديم لناصر الزفزافي، خطاب الليلة المشهودة المؤلمة (28 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2016) التي لقيَ فيها بائع السمك محسن فكري مصرعه بآلة لشفط الزبالة، وهو يحاول يائسًا حماية أسماكه من الإتلاف.
أعلن ذلك الخطاب عن ميلاد ناصر الزفزافي زعيمًا جماهيريًا فريدًا، لم يكن مخطّطًا له لا في التاريخ ولا الجغرافيا. خطاب سيؤسّس لمطالب أبرز حركة احتجاجية معاصرة في المغرب، وسيضع شعارات ووعود عهد الملك محمد السادس تحت الاختبار.
إنّ استحضار الذاكرة، وإرفاقها بصورة الوالد المريض، يُكملان تشكيل عناصر الرسالة السياسية التي تنمّ عنها الصورة وحدها في وجه السلطة. إذ يكفي أن تسمع حدّة اللهجة ودرجة مساءلة السلطة ووقعها من طريقة وتوقيت مشاركة الصورة.
ثمّة لغة غير مُقالة، تلتهم البيان السياسي المؤدلج التقليدي، وتطالب دون مواربة وبلا نطق «أي تأخير في قرار إطلاق سراح ناصر الزفزافي وبقية معتقلي حراك الريف الآن، في الوقت الذي يعيش فيه والده أيّامه الأخيرة، قد يرتقي لأن يكون جريمة كاملة الأركان».
ينضمّ إلى هذا الكلام غير المنطوق كلام أقلّ جذريّة، لكنّه ينحاز بشكلٍ مفاجئ إلى المطلب الآني ولو اختلف كليًّا مع جوهره. من يُطلق المطالب هذه المرة هم مجموعة من المؤيدين للنظام والمسؤولين السابقين. تحتلّ صورة أب الأمة وقائد الدولة العطوف مركز الصدارة في هذه المواقف على صفحات التواصل الاجتماعي. تسبق صورة الملك وجه الشيخ الريفي المحتضر، قبل أن يتبعها التدوين ويستحضر مصطلحات من المعجم «المخزني» العتيق: حكمة، تبصّر، إنسانية، رأفة، رحمة، إحسان، عطف مولوي… الدعوة هنا صريحة إلى رحمة ملكيّة وعفوٍ عن المعتقلين رغم ذنبهم وخطئهم.
تأويل مضادّ
تتحرّك أركان معركة السلطة مع المواطنين ضمن مساحة بصريّة. لقطة الوالد المحتضر مؤثّرة إلى حدّ تحريك جوارح الجميع، حتى بعض أولئك المقيمين الدائمين في أحضان الدولة، لذلك لا بدّ من إنتاج صورة بديلة عنها. هكذا ظهرت صورة إخراج ناصر الزفزافي من سجنه إلى المصحّة لزيارة والده شبه الميت. تريد الدولة أن تقدّم هذه اللحظة إلى العالم وإلى كل المشاهدين كسلوكٍ متحضّر تتعالى فيه وتترفّع عن الانتقام، كما لو أنّها تصرّح من خلال الصورة «لا مشكلة شخصية مع الزفزافي و الريف، إنّها مجرّد قضية جنائية أخذت مسارها»، والدليل أنّ أجهزة الدولة كانت قد سمحت لناصر الزفزافي بمغادرة أولى مؤقّتة للسجن سنة 2021 تلتها أخرى، لزيارة والده المريض، فضلًا عن تسهيلها إجراءات استئنافه لدراسته من السجن.
لا أحد يدري إن كان خروج لقطة كهذه أمرًا متعمّدًا أم زلّة في السيناريو، لكنها خرجت وسارع الإعلام المقرّب من السلطة إلى نقلها. غير أنّ صورة زيارة الابن قبل الأخيرة للأبّ (في 15 تموز/ يوليو) خلّفت أثرًا عكس المتوقع، استهجنت الردود حجم الحراسة الأمنية المحيطة بسجين لا حول ولا قوّة له وكأنه «قاتل الرئيس كينيدي»، وفاقت التفاعل الإيجابي مع «الخطوة الإنسانية» لمؤسسات الدولة. التأويل المضاد لرواية السلطة عن الصورة سخر من تسليط كلّ هذه الإمكانيات من أجل رجل مسالم ووحيد لا قدرة له على إحداث الخطر. كان التعبير الذي يُقال بشكل ضمني: «أزعجهم حينما كان حرًّا ويزعجهم وحتى هو في السجن». ولمواجهة قاموس السلطة، كان الجمهور يستعمل مفردات مضادّة: صمود، تحدي، ثبات، كبرياء، صلابة.. بعدها لم يظهر أيّ أثر أو توثيق لزيارة الإبن الأخيرة لأبيه قبيل وفاته.
الأب يرث ابنه
قبل موته القاسي، كان الأب أحمد الزفزافي مركزيًا ومحوريًا في معركة الصورة التي امتدّت لأكثر من 8 سنوات. في هذا الصراع العنيف مع سردية السلطة في المغرب كان دور عيزي أحمد (لقب تشريف باللهجة الريفية المغربية) يتجاوز موقع الوالد الذي يُدافع عن ابنه ظالمًا أو مظلومًا، أو المشغول بالبحث عن خلاص فردي، بل كان وجهنا لدحض مزاعم دولة من دون أفق، تسير بالضغائن وبالكثير من الإسمنت و البوليس. مثلنا أحمد الزفزافي في كل شيء، في أحلامنا وأوهامنا وآمالنا وخيباتنا و انكساراتنا، في تأرجحنا بين الاعتدال والراديكالية القسرية.
اعتُقل ناصر الزفزافي بعد فرض حصار أمني شامل على منطقة الريف إبان الاحتجاجات، وترافق ذلك مع موجة تحريض عارمة على المتظاهرين. حينها أمّن سكّان الريف هروب الزفزافي بطريقة هوليودية لساعات طويلة لم يسبق لها نظير في تاريخ البلاد، لكن لدى اعتقاله بعدها، اعتقد الجميع وظننّا كذلك أن اسمه سيُدفن إلى الأبد. لم يحدث كلّ ذلك. خرج العم أحمد فجأة إلى العلن ومن العدم، تمامًا كما خرج إلينا ابنه ناصر، خرج من عزلة الموظف السابق في أسلاك الدولة، رجل فقير متقاعد لاقى الشعب، في انتقال غير مألوف للمشعل من الابن إلى الأب. أعلن في كلمة مرتجلة استمرار حراك الريف، وقاد إثر ذلك معركة عائلات وأسر المعتقلين السياسيين في المغرب من صحافيين ومدونين من الذين سيُجرّون تباعًا إلى السجن بعد قمع الاحتجاجات.
في كل احتجاج، في المسافات الماراتونية التي كان يقطعها من الحسيمة إلى محور الرباط – الدار البيضاء لحضور الفعاليات التضامنية وقبلها المحاكمات المضحكة المبكية، كان أحمد الزفزافي، ومن دون أن ينطق حتى، لسانًا للمغرب المضطهد، ولشعب يساء فهمه عن عمد ويمعن في التنكيل بحقوقه الأساسية
اجتهد النظام لتسويق صورًا عن الحراك، وصُرِفَت عليها تكاليف باهظة، صور الاحتجاجات «الانفصالية»، «المموّلة من الخارج»، و«الساعية إلى قلب مؤسسات الدولة وزعزعة السلم الداخلي». بوجه هذه الدعاية، كان أحمد الزفزافي يهزم الصورة الرسمية بالضربة القاضية عند الثانية الأخيرة من الجولة الأولى.. بنبرته الهادئة، المتعبة بسبب تقدّمه في السن، بكلامه المتقطّع البطيء بعربية فصيحة، بالسياق التاريخي لتراكم الأزمات بين الدولة المركزية في الرباط ومنطقة الريف الذي لا يغيب عن أيّ تصريح من تصاريحه.
في كلّ حوار، في كل احتجاج، في أي ظهور، في المسافات الماراتونية التي كان يقطعها من الحسيمة إلى محور الرباط – الدار البيضاء لحضور الفعاليات التضامنية أو الاحتجاجية وقبلها المحاكمات المضحكة المبكية، كان أحمد الزفزافي، ومن دون أن ينطق حتى، لسانًا للمغرب المضطهد، ولشعب يساء فهمه عن عمد ويمعن في التنكيل بحقوقه الأساسية في ذاكرة مؤلمة تتكرّر في مغرب «الإنصاف و المصالحة».
مثل ابنه، لم يخطّط لا لأن يكون بطلًا ولا رمزًا. لم يرد أن يخرج من نمط الحياة العادية لأي مغربي بسيط يمشي يوميًّا بجانب الحائط، لكن حينما فرضت عليه الظروف والأقدار أن يكون في الواجهة، رضي بقضاء الدولة وقدرها، بيد أنّه جعل من تبعات ما اقترفته يداها امتحانًا عسيرًا لها.
صور العمّ أحمد في السنوات الثمانية الأخيرة، تختزل صورة بلاد بأكملها. كان شاهدًا على دولة مشروعها التنموي الوحيد هو السجن، دولة عليلة لا تملك أجوبة اجتماعية وسياسية على أسئلة مواطنيها المستعجلة والحارقة، هي الوجه الحقيقي في المرآة للمغرب الذي سيحتضن نهائيات كأس العالم لكرة القدم عام 2030، وهو المشروع الذي لا يكفّ النظام عن الاستثمار فيه سياسيًّا وأمام المجتمع الدولي.
أمّا موته بهذه الطريقة، دون أن يستجيب الحكّام لنداءات العقل و القلب منذ سنوات بإغلاق ملفّ ابنه السياسي -كان خدم الدولة والذين يقومون لها أعمال السخرة يحاولون البحث له عن حل- فهو صورة مصغرة للتوازنات الغامضة ولانفلات صراعات الأجهزة داخل الدولة نفسها في مغرب يعيش مرحلة غير مفهومة، وعصيّة على التوصيف في العلوم السياسية.
بين جنازتين
ثم يأتي يوم الجنازة، بكلّ ما يحيط بالجنائز في الثقافة الشعبية من هالةٍ وتقديس. وقبيل ساعات من يوم الدفن في الرابع من أيلول (سبتمبر) الحالي، سادت الإشاعات قبل الحزن، فتضاربت الأنباء حول الترخيص لناصر الزفزافي لحضور الجنازة أو حرمانه منها. نُسجت الأساطير واشتغل الخيال لرواية أكثر القصص جنونًا عن رجل قوي في محيط الملك أو عن الاجتماع الليلي المتأخّر الطارئ والعاصف الذي حُسِمَ فيه كلّ شيء.. هنا أيضًا لدينا صورة خرافية عن الدولة وكيفيّة إدارتها للأمور.
في النهاية، وعلى ما يظهر، تغلّب صوت معتدل وسط السلطة، أو لنقل تقدير براغماتي، واتخذ القرار بالسماح بتنقل قائد حراك الريف من سجن طنجة إلى مدينة الحسيمة لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على والده. لكلّ قرار يُتَّخَذ في الرباط رهان، الدولة تراهن على تسجيل نقاط في حرب السرديات، أي نقطة الآن تعتبر ثمينة عند احتساب النتيجة النهائية للمباراة، مباراة لا تزال الدولة نفسها حريصة على أن تكون فيها صاحب الكرة والملعب والحكم في الوقت عينه.
وهنا، كان لا بدّ من أن تُعقَد المقارنات مع جنازة أخرى تخصّ الوزير الاشتراكي الأسبق خالد عليوة، الذي كان محتجزًا بتهم قضايا فساد مالي مرتبطة بإدارته لإحدى المؤسسات العمومية. غادر عليوة عام 2013 برخصة استثنائية لحضور جنازة والدته لكنه لم يعد إلى السجن بعدها أبدًا.
هذه الصورة كذلك هي من بين صور كثيرة غير قابلة للنسيان في التاريخ المغربي القريب، فقد تليت في تلك الجنازة تعزية ملكية موجّهة من رئيس الدولة، ومنحت له رخصة غير مسبوقة ممتدّة لأربعة أيام، ثم انصرف خالد عليوة بعدها إلى ممارسة أعماله وكأنّ شيئًا لم يكن، وظلّ إثرها يماطل في الاستجابة لدعوات التحقيق.
الفوقيّة الزرقاء
لفّ ناصر الزفزافي كتفه يوم الجنازة بالكوفية الفلسطينية (كرمز لعدم فصل النضالات)، وارتدى «الفوقية» الزرقاء اللون (جلباب تقليدي شعبي في المغرب). تلك الفوقية التي اشتهر بها حين كان لا يزال طليقًا يقود المظاهرات في الشارع، ويُصدّر بها خطاباته إلى الحشود عبر منصة «اللايف» الفيسبوكي. بهذه «الفوقية» نفسها، ظهر الزفزافي في فيديو يخضع فيه للتحقيق بعد اعتقاله، ويُعتقد أن جهات أمنية سرّبته بعيد اعتقاله بغرض إذلاله وإهانته، ما دفع حينها عشرات الريفيين إلى ارتداء الزي ذاته عند الاحتفال بعيد الأضحى سنة 2017.
تجمع لقطة الزفزافي في دفن والده لحظتين متناقضتين، في اللحظة التي يموت فيها الوالد، يُعلن ابنه عن نفسه بلا مخاتلة، بما يشبه الولادة الثانية.. هو الزفزافي نفسه الذي كان يتجمّع الناس حوله قبل 8 سنوات، يعود مجدّدًا إلى الحي نفسه، وإلى المدينة نفسها ويعيدهم معه إلى تلك اللحظة السابقة لاعتقاله. تبدّل الزمن بالطبع، لكنّ الفوقيّة لم تتزحزح كأنّها هي ما يختصر ثبات موقفه.
بمجرّد أن أوقفته سيارة الأمن، قفز الحاضرون لاحتضان ناصر الزفزافي، الطفل (الذي كان رضيعًا عند اعتقاله) قبل الشيخ، وعوض أن يتقبل التعازي بدا الزفزافي بشكل تلقائي في موقع من يؤدّي واجب العزاء للباقين ويرجوهم الصبر، يردّد جملتين بسيطتين لهما ثقلهما السياسي: «في سبيل الله»، «في سبيل الوطن»، وهو يستعيد سلطة العناق والاحتضان والتفاعل التي سُلِبَت منه لسنوات.
في اللحظة التي يموت فيها الوالد، يُعلن الابن عن نفسه بلا مخاتلة، بما يشبه الولادة الثانية.. هو الزفزافي نفسه الذي كان يتجمّع الناس حوله قبل 8 سنوات، يعود مجدّدًا إلى الحي نفسه، وإلى المدينة نفسها ويعيدهم معه إلى تلك اللحظة السابقة لاعتقاله
لم يحضر المعزون من الريف فقط، بل من كلّ المغرب، ذلك المغرب الذي يقال عنه مركزًا. جاؤوا لتحية ناصر المغيب في السجون منذ 8 سنوات، قبل أن يأتوا للتعزية. ولربما غطى ظهور ناصر غير مقيّد بين مناصريه والمتعاطفين معه على الحدث الرئيسي. وبالنسبة إلى الكثير من الحاضرين فإن هذه الجنازة هي موقعة سياسية قبل كلّ شيء، ولا يتعيّن ترك أي شيء للصدفة، لأن للدولة باع طويل في توظيف جنائز المناضلين والزعامات السياسية المعارضة لصالح صورتها.
يستمرّ الزفزافي في التقدّم إلى باب بيته حيث يحاصره المشيّعون ويؤخّرون دخوله، ويحرص الأخير على منح كلّ منهم وقته، وقبيل الدخول إلى المنزل يتسلّم الكلمة كزعيم يتحدّث إلى أتباعه، يوجه نداءً للمعزين المتجمهرين قبالة البيت داعيًا إيّاهم إلى التنظيم وتجنب الازدحام حرصًا على إنجاح أجواء العزاء وإفساح المجال للجميع للقيام بالواجب، صورة أخرى تؤكّد أن كلمته لا تزال مسموعة في الشارع الريفي وتحظى بالتقدير.
ثم تأتي الصورة الأبلغ، حينما وقف ناصر على سطح منزل والده وألقى كلمة أمام أناس ينصتون بخشوع كبير، كأنّه يحرص طوال مدّة الجنازة على استعادة لحظة الحريّة تلك قبل ثماني سنوات. الفارق الزمني بين المشهدين طويل، لكنّها اللقطة نفسها تقريبًا، والخطاب المركّب نفسه الذي يركز على البعد الوطني لاحتجاجات الريف. لم يتحدث الزفزافي كمعارض للنظام لكنه نفض يديه من موالاته بخطاب نقدي قوي يسائل سياسات السلطة.
رجال أمن بوجوه «متسامحة»
انقسم مناصرو الزفزافي إلى فريقين في قراءة وتحليل متن الخطاب، كلّ فريق دافع عن صورة في مخيلته تكاد تتحول إلى حالة اعتقادية، الرأي المهيمن يتّفق على استمرار ناصر الزفزافي في خطه السياسي وخطابه المعتدل، وأنه هو نفس الخطاب الذي سجن بسببه من دون مبرر و بتهم واهية. فيما رأى قسم آخر – وإن مثّلوا أقلية- كلامه أكثر تصالحًا أو استسلامًا و تراجعًا عن مواقف سابقة كانت أكثر صراحة، ومؤشّرًا على تكرار سيناريوهات جرى تجريبها قديمًا باحتواء المعتقلين السياسيين السابقين وإدماجهم في هيئات ومؤسسات أو مسارات سياسية رسمية.
يتقاطع التأويل الثاني وإن بشكل لا إرادي و غير مقصود مع تأويل تشتهيه السلطة لتبرير نجاعة فعل السجن مع أصحاب الرؤوس الحامية مثل قائد حراك الريف: الزفزافي الأمس ليس الزفزافي اليوم، لقد أجرى مراجعات عميقة، كلامه أصبح أكثر اتّزانًا ومقبولًا ومسؤولًا، أصبح ناضجًا.. ستظهر صورة التائب، أو عودة الابن المتمرد إلى صوابه كعنوان عريض للكثير من التدوينات والتصريحات خلال يوم الجنازة، أبرزها ما قاله وزير العدل الأسبق الإسلامي المصطفى الرميد، الذي يبرز أكثر فأكثر في جلباب مستشار غير رسمي للقصر.
في الأثناء تحرص الدولة على أن يكون ظهورها المادي غير مرئيًّا، بشكل مدروس تسمح للأمور أن تمشي بسلاسة ويسر لم يكن متوفرًا مثلًا في جنازة الناشط عماد العتابي الذي توفي سنة 2017 متأثّرًا بجروح أصيب بها خلال إحدى تظاهرات حراك الريف.
منذ لحظة وصول الزفزافي إلى منزله انتهاء بمقبرة «المجاهدين» وأمام الجماهير، انتشر رجال الأمن والمخابرات بالزي المدني (مع ذلك، يمكن تمييزهم في الصور بوضوح) ومعهم رجال الدرك الملكي والقوات المساعدة، للقيام بأدوار تقنية في الحرص على تأمين سير ناصر الزفزافي والتخفيف من فوضى التدافع دون تدخل واضح في خطة التشييع أو مسار الجنازة أو تفريق للجموع التي حوّلت صلاة الجنازة وطقوس الدفن إلى ساحة احتجاج سياسي ومحاكمة معلنة للدولة بشعار «الشعب يريد إطلاق سراح المعتقل».
يمكننا التنبّه إلى تراجع صورة الدولة البوليسية قليلًا في مشهد كهذا، لتعوّضها صورة الدولة الإنسانية المتسامحة، فالدولة ليست شرًّا مطلقًا ويمكنها أن تكون رحيمة، تحترم حزن الناس وخصوصياتهم وحتى غضبهم. حرص المصطفى الرميد على التسويق لهذا الاعتقاد بشكل أوضح في منشور كتبه على فيسبوك، حينما عبّر أن «المغرب شهد لحظة استثنائية، تجلّت بوضوح في السماح للمعتقل ناصر الزفزافي بحضور مراسيم دفن والده رحمه الله. وتأكدت هذه اللحظة. في كون المعني بالأمر، محكوم بعشرين سنة قضى أقل من نصفها، ومع ذلك ظهر وسط مئات الأنصار والمعزين، حرًَا طليقًا، دون أصفاد وتحدّث بكل حرية، وأيضًا بكلّ نضج ومسؤولية ..»، وسيُلمّح الوزير الأسبق إلى أن هذه رسائل واضحة عن قرب الوصول إلى حلّ للملف الذي وصفه بـ «الجنائي».
الاستثناء هنا، بحسب التأويل، تصنعه الدولة وعطفها، كونها الفاعل المركزي الوحيد والأوحد وصاحبة القرار الأخير فيما يتعلّق بمصير الزفزافي ورفاقه، وكونها تملك حقّ التقدير النهائي في تقييم مدى تحسّن سلوك المعتقلين السياسيين، كذلك الربط بين الخطاب الناضج للزفزافي وحصول انفراج يقال هنا مجدّدًا دون مواربة.
داخل ألبوم الدولة
في معركة تفسير الصورة، تدافع الدولة/السلطة عن موقعها كصاحب مبادرة، وترفض أن ينظر إليها كصاحبة ردود فعل، لذلك تنتج صورها الخاصة، بل تسعى إلى احتكار الصورة: الزفزافي الذي عاد عن غيه، الدولة الناضجة... في مواجهة هذا يحتفظ الجمهور/ الشعب/ الناس بصورة الشخص الذي لم تبدله الزنازن ولم يهادن، يرونه في عيونهم بطلًا شعبيًا ومتحدّثًا باسمهم، ابن رجل وطني توفي وهو يدافع عن مبادئه، ظلمه نظام لم يحدث أي تغيّر ملموس في سياساته، ويعتبرون الجنازة استفتاء شعبيًا حول عدالة القضية وتجذرها.
بعد ثماني ساعات -كانت خير عوض عن السنوات الثمانية بالنسبة إلى الجماهير- قضاها خارج أسوار السجن، رافق الناس سيارات الأمن وهي تنقل ناصر الزفزافي إلى سجن الدولة في طنجة مجدّدًا. لم يستفد الزفزافي من التسهيلات التي منحت للوزير الفاسد السابق. الزفزافي مقابل عليوة، لا يحتفظ الجمهور إلا بهذه الصورة، ولو بدت تبسيطية، كرمز لجور وطبقية الدولة.. يتكرّر هذا الصراع عند كلّ حدثٍ طارئ أو كلّما اقتربت مناسبة وطنية – دينية.
يرفع الناس صورًا عارية لما يعتبرونه حقيقة.. صور معبرة لكنها تبقى هاوية، بينما تتمسّك السلطة بألبوم صور ضخم كتب على غلافه: لا صور غير هذه الصور، ليست جميع الصور صالحة للنشر…