خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

الحيوانية في قفص الحرب

في غزة، سقطت الحدود مع الحيوانات، حتى أصبحت مثل سكان القطاع؛ مهمّشة ومحاصرة من الاحتلال في مساحة ضيقة بلا طعام بيد أنّها بقيت في موقع الفرجة لكن مع الناس هذه المرّة
ــــــــ الحيوان
16 أكتوبر 2025

وضعت إحدى العائلات طيورها الملوّنة في مؤخّرة شاحنة محمّلة بما استطاعت حمله. طفلٌ جلس في عربة أطفال تجرّها أمّه سيرًا على الأقدام، محتضنًا قطّته. في مشهد آخر، يجر شابّان عربة حزموا عليها فرشهم وبطانياتهم وحاجاتهم الأساسية، بينما وقف كلبهم فوق الحمولة يحرسها طوال الطريق. وعلى طريق آخر من طرق التهجير، سقط حمار على الأرض من شدّة الجوع والعطش والجروح، فتسبّب بزحمة سير خانقة في الممر الوحيد الذي يسلكه الآلاف في غزة هربًا من مرمى نيران الاحتلال.

وصلتنا هذه الصور من زمن الإبادة الجماعية في قطاع غزة، لحيوانات أليفة وغير أليفة عانت الموت والمجاعة والمرض كأصحابها، ورافقتهم في طريق نزوحهم، لتعود وتنزح معهم مرة أخرى كلّما اشتدّ الخطر.

إنقاذ ما يمكن إنقاذه

على الطريق البحري لمدينة غزة، أنشأ فريق جمعية «سلالة» لإنقاذ الحيوانات نقطة طبية لتقديم العلاج للحمير والأحصنة والحيوانات الأليفة الأخرى التي ترافق النازحين ويعتمدون عليها في تنقلهم أحيانًا. لا يقتصر عمل الجمعية التي أسسها سعيد العرّ في عام 2006 على هذه النقطة. تواجد سعيد وفريقه إلى حيثما كان يصلهم نداء استغاثة لحيوانات على اختلاف حالاتها، أكانت مصابة أو مشرّدة أو فقدت مأواها بسبب الحرب. اضطرّ سعيد للنزوح من شمال غزة، ولكن لم يتوقف يومًا عن متابعة عمله في رعاية الحيوانات، فظلّ حاضرًا إلى جانبها رغم الإبادة والتجويع التي طالت كلّ حيّ في القطاع.

من بين آلاف القصص التي تجسّد هذا الارتباط، تبرز حكاية أحمد، الفلاح الصغير على منصة إنستغرام، الذي كان يطلّ علينا كلّ مرة مع أحد حيواناته الأليفة. تعرّض أحمد للكثير من الخسارات؛ خسر «سوزي»، إحدى قططه في كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، بسبب الحصار وغياب الرعاية الطبية اللازمة والمنقذة لحياتها. وفي حزيران (يونيو) 2025، أنقذ أحمد قطة تبلغ من العمر 3 أسابيع، وأسماها «أمل»، لكنها سرعان ما فارقت الحياة. وقف أحمد مع قطته «سيمبا» وقطه الجديد «ليو»، مع يافطة كتب عليها «نحن نموت جوعًا، حتى القطط تموت جوعًا»، لعلّ أحدهم يلبّي نداء استغاثة القطط، إذا قرروا تجاهل نداء أحمد. وبعد نحو أسبوعين، ودّع أحمد «ليو»، حتى اضطّر إلى وداع بيته وحديقته، حاملًا قطتّه الوحيدة «سيمبا» في قفص صغير أمّنه لها سعيد من جمعية سلالة، وفي يده الأخرى شنطة «سبيادر مان» ودبه، إلى وجهة مجهولة.

وحدات إنتاجية قابلة للقتل

تخرج الحيوانات الأليفة من الحيّز الشخصي إلى الحيز العام بفعل تدمير البيت أو المأوى، فتستميل تعاطف «المشاهد» الذي يحّدق فيها على شاشة تلفازه أو حاسوبه أو جواله، في بعض الأحيان أكثر من أصحابها. أما الحيوانات غير الأليفة، من دواجن ومواشٍ أو تلك المفترسة التي تعيش في حدائق الحيوان العامة، فقد لا تحظى بالتعاطف نفسه، وقد يعود ذلك إلى أن بعض هذه الحيوانات جرى استغلالها تاريخيًا  واستبعداها بشكل ممنهج. 

قبل الثورة الصناعية والتحضّر، وتشييد المدن، كان الإنسان يعيش مع الحيوانات، ويعمل الفلاحون إلى جانب الكلاب والأحصنة والقطط. سكنت الحيوانات في كل مكان، في الخرافة، والفن والدين، إلى أن كسرت الثورة الصناعية هذه الألفة، وشيدّت حدودًا بين الكائنات البشرية منها وغير البشرية. يرى الناقد الأدبيّ والفنّي البريطاني جون بيرجر في مقالته الطويلة «لماذا ننظر إلى الحيوانات؟» (1980) أنّ التحوّل الكبير حصل في المراحل الأولى للثورة الصناعية، حين باتت الحيوانات تستخدم كآلة، ما يتماشى بشكل كبير مع تنظير ديكارت الذي حدّد العلاقة بين الإنسان والحيوان، والذي يرى أنّ ما يميّز الإنسان هو امتلاكه للعقل.

مهّد هذا التصنيف والاستبعاد الممنهج للحيوانات، إبان الثورة الصناعية، إلى تحويلها أيضًا إلى وحدات إنتاجية للغذاء، ما حوّل العلاقة بين الإنسان والحيوان إلى علاقة اقتصادية تحكمها قواعد التكنولوجيا والأسواق. ترافق هذا التحوّل مع الظهور «الرمزي» للحيوانات، بحسب بيرجر كما في الإعلانات، والرسوم المتحركة وألعاب الأطفال التي تحمل أشكال حيوانات، مقابل غيابه المادي والجسدي التامّ عن محطّ الأنظار اليومي في المساحات الطبيعية. 

ولعلّ هذا الغياب التام للحيوانات غير الأليفة، أو تلك التي تشكّل وحدات إنتاجية عن الحيز العام، استخدم إلى حدّه الأقصى في التكتيكات الإبادية الإسرائيلية. فهذه الحيوانات غير مرئية، مهمشة، ما يجعل إبادتها غير مرئية أيضًا. وفي الوقت عينه، تشكّل حاجة رئيسية لإنتاج الغذاء، فتصبح إبادتها سلاح لتجويع الإنسان، وتغدو ضحية الاستهلاك والإبادة في آن معًا. 

 يعتمد الاحتلال الإسرائيلي في أيديولوجيّته العسكرية على سياسة الأرض المحروقة، وهو نمط ممنهج في استهداف كلّ مقومات الحياة من أراضٍ زراعية إلى ثروة حيوانية، لتفقد هذه الأراضي صلاحيّتها للزراعة ولرعي المواشي. ويتخلّل ذلك أيضًا تجريف الأراضي الزراعية وتدميرها تدميرًا كاملًا، بهدف حرمان سكان القطاع من أي شكل من أشكال الحياة والغذاء في ظلّ الحصار، تمهيدًا لشرعنة التجويع الذي يفرضه الاحتلال عليهم. 

 استخدم تغييب الحيوانات إلى حدّه الأقصى في التكتيكات الإبادية الإسرائيلية.. هذه الحيوانات غير مرئية، مهمشة، ما يجعل إبادتها غير مرئية أيضًا. وفي الوقت عينه، تشكّل حاجة رئيسية لإنتاج الغذاء، فتصبح إبادتها سلاح لتجويع الإنسان، وتغدو ضحية الاستهلاك والقتل في آن معًا

بالإضافة إلى استهداف الأراضي الزراعية، وآبار المياه والخيام البلاستيكية المستخدمة لزراعة الخضار، دمّر الاحتلال الإسرائيلي ما يقارب 97% من مجمل الثروة الحيوانية في غزة سواء بالقصف المباشر أو نتيجة للتجويع  وفقًا للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان

قبل السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، كان في قطاع غزة المحاصر ما يقارب 6500 مزرعة دواجن، دٌمّر منها أكثر من 93% بشكل كامل، وتوقف ما تبقى منها عن العمل. كما توثّق بينات المرصد قتل وتجويع 97% من 15000 بقرة كانت في القطاع قبل بدء الإبادة، أما الباقي فقد استُهلك كغذاء في الأيام الأولى من الإبادة نظرًا للحاجة الملحة التي ولّدها الحصار المحكم، ومنع دخول المساعدات الغذائية. 

كذلك الحال بالنسبة للمواشي، فقد كان في غزة ما يقارب 60000 خروف و10000 ماعز، تم قتل أكثر من 97% منها إما في قصفٍ مباشر أو بسبب التجويع. تشير هذه البيانات إلى أن إبادة الثروة الحيوانية تشكّل جزءًا من سياسة منهجية لفرض التجويع وتدمير جميع مقوّمات الحياة، ما يترتب عليه تداعيات وخيمة ستستمر إلى وقت طويل في المستقبل، ويهدف إلى التهجير القسري لسكان القطاع.

في قفص الفرجة 

لم تسلم حدائق الحيوان العامة في غزة بدورها من الإبادة والحصار. وفقًا لمقال نشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية وإحصاء لبلدية غزة لسنة 2023، يضم القطاع 19 حديقة حيوان تحتوي على نحو 100 حيوان مفترس. يوثّق المقال مأساة حديقة حيوان حي الزيتون، التي كانت تأوي أسود ونسور، وأسفر استهدافها عن مصرع هذه الحيوانات في ظل منع الاحتلال فرق الإنقاذ من الوصول إليها لتأمين الغذاء والدواء. 

كذلك الحال في حديقة حيوان رفح، التي جرفها الاحتلال بالكامل، بحسب فيديو نشر على صفحة الحديقة على فايسبوك. في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، أطلّ الكاتب والشاعر رفعت العرير، الذي اغتالته قوات الاحتلال بعد عشرة أيام من ذلك الظهور في تقرير للجزيرة الإنكليزية، من حديقة حيوان استهدفتها قوات الاحتلال في مدينة غزة التي كان يعمل كمتطوّع فيها. وثّق رفعت مشاهد الحيوانات التي قُتلت جراء القصف أو التجويع، وما تبقى منها كان يقبع خائفًا في الأقفاص شبه المدمّرة. تمكّن بعض المتطوعين من إنقاذ جزء من الأسود والنمور والقردة، ونقلها إلى دير البلح، أما الحيوانات الأخرى فبقي مصيرها مجهولًا. تُشكّل حدائق الحيوان – والتي يعود ظهورها إلى القرن الثامن عشر في أوروبا –  بحسب جون بيرجر مجالًا لتكريس الإنشطار في العلاقة بين الإنسان والحيوان واختفائه من الحياة اليومية، بالإضافة إلى أنّها تعكس الهيمنة. ففي التاريخ الاستعماري للقارة الأوروبية، شكّلت الحيوانات رمزّا لغزو بلدان جديدة، واستكشافًا لحضارات «غريبة». في حديقة الحيوان، يُجرّد الحيوان النادر من قيمته في النظام البيئي ومن دوره في دعم التنوع البيولوجي، ليصبح مهمّشًا وموضعًا للفرجة؛ نظرات المتفرّج والحيوانات تكون مصوّبة إلى حدود تلك العزلة. في حديقة الحيوان، تجسيد لسيطرة الإنسان على الطبيعة. سمحت الرأسمالية بتحويل الحيوانات إلى مادة للترفيه والتثقيف، وأصبحت الفرجة عليها مصدرًا لمراكمة الثروة، فيما تتعرض الحيوانات على اختلافها إلى إبادة بطيئة، فاقتلاعها من مسكنها الأصلي يحتّم بعد سنين طويلة إنقراضها. 

أما في الإبادة الفعلية، فيخرج الحيوان من كونه رمزًا للحياة، وإن تحت سلطة الإنسان، ليصبح دليلًا على فقدان الحياة لقيمتها. فوجود هذه الحيوانات في الأقفاص، في موقع الفرجة، غير كفيل لإثبات براءتها. يتحوّل رمز الحياة الذي كان يومًا تحت سلطة الإنسان، إلى مقبرة صغيرة لإثبات الهيمنة أيضًا. لإثبات من يسمح له بالحياة ومن يُحكم عليه بالموت. تعتبر الإبادة شريطًا سريعًا لمصير الكائنات، بشرًا كانوا أم حيوانات في نهاية النظام الرأسمالي. ففي حين أن الأخير يستهلك البشر والثروة الطبيعية والحيوانية ببطء، تستهلك الإبادة الحياة بسرعة، ويصبح موت الكائنات سلعة تترجم أرقامًا في الحسابات المصرفية للشركات المصنعة للأسلحة. 

في غزة، بقيت الحيوانات في موقع الفرجة، مع السكان هذه المرّة. يتفرّج عليهم الاحتلال بعين الآلة (الطائرة المسيرة)، والمتعاطف بعين التلفون المحمول أو الكاميرا. المفارقة أن الفرجة هنا غير مباشرة، فالعيون لا تلتقي بشكل مباشر، بل تفصل بينها الآلة، ما يضاعف مستوى العزل والاستبعاد

في غزة، سقطت الحدود مع الحيوانات المفترسة التي كانت يومًا وحدها في موقع الفرجة، حتى أصبحت مثل سكان القطاع؛ مهمّشة ومحاصرة من الاحتلال في مساحة ضيقة بلا طعام ولا عناية صحية، بلا أدنى مقوّمات للحياة، بيد أنّها بقيت في موقع الفرجة، مع السكان هذه المرّة. يتفرّج عليهم الاحتلال بعين الآلة (الطائرة المسيرة)، والمتعاطف بعين التلفون المحمول أو الكاميرا. المفارقة أن الفرجة هنا غير مباشرة، فالعيون لا تلتقي بشكل مباشر، بل تفصل بينها الآلة، ما يضاعف مستوى العزل والاستبعاد. ينظر المتفرج إلى موت أهالي القطاع وإبادتهم وتجويعهم من خلال مقاطع فيديو تعكس نظرتهم لما يمرون به، بأعينهم وبأعين آلاتهم، التي تشكّل خط التواصل الوحيد مع المتفرجين. هكذا تصير الهيمنة على الكائنات غير البشرية مثل الحيوانات، الوجه الآخر للهيمنة على الإنسان وتهميشه، واختزاله كوحدة إنتاجية واستهلاكية، يسهل قتله والتخلّص منه.

استعارة تقتل.. استعارة تُحيي

يرى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1997) أنّ اختزال جميع الكائنات غير البشرية في مصطلح «الحيوان» يشرّع العنف والإقصاء ضدّها، وأنّ إدراج كل أشكال الحياة غير البشرية تحت فئة عامة واحدة ليس مجرد خطأ معرفي، بل جريمة، مؤكّدًا أنّ هذا الاختزال يفتح الباب أمام شرعنة قتل الحيوانات، فكيف عندما تُستعار الصفة الحيوانية لنعت الإنسان؟ 

في بداية الإبادة الجماعية على غزة، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت الفلسطينيين في غزة بـ «حيوانات بشرية». مهّد التصريح لتبرير الحصار الكامل ومنع الغذاء والدواء والماء والكهرباء والوقود عن القطاع إلى حدّ التجويع. تتخطى استعارة الاحتلال للصفة الحيوانية لوصف البشر كوسيلة لشرعنة قتلهم فحسب، بل تحمل عنفًا مزدوجًا للبشر ولكلّ الكائنات غير البشرية على حد سواء. وإذا كان مصطلح الحيوان اختزاليًا لكل الكائنات غير البشرية، فضم البشر إلى هذه الفئة هو تبرير لقتلهم قبل أي شيء. 

يتجلى أحد أوجه هذه الإستعارة الحيوانية في التعامل مع الفلسطينيين في غزة كحقل لتجربة أحدث الصناعات العسكرية الإسرائيلية وتسويقها، تمامًا كما تستخدم شركات الأدوية الحيوانات في التجارب الأولى للابتكارات الطبية الجديدة. ففي هذا السياق، نشرت شركة «رافائيل للصناعات العسكرية» في تموز  (يوليو) الماضي مقطعًا ترويجيًا لطائرة «سبايك فايرفلاي» المسيرة عبر منصة أكس، مرفقًا بتعليق: «دقة مثبتة، إعادة تعريف للتفوق التكتيكي». المقطع يظهر فلسطينيًا أعزلًا يمشي وسط الدمار الهائل. ترصده الطائرة، فيهرع إلى الاختباء، لكنه لا يتمكن من الإفلات من نيرانها. يمثل الفيديو من جهة وحشية الآلة، ومن جهة أخرى مفاخرة في اقتراف هذه الوحشية، وهو أمر لم يكن ليتحقّق لولا تاريخ طويل من استعارة النعت غير البشري لوصف الفلسطينيين. 

كتب تيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية الحديثة في مذكراته عام 1895، عن كيفية تهجير الفلسطينيين خلال احتلال أراضيهم، مشيرًا إلى أهمية «إزالة الفقراء بشكل سري وحذر». هذا الانتقال من السرية إلى التباهي بالوحشية قام على قرنٍ كامل من محاولات تجريد الفلسطينيين من صفة الإنسانية. في عام 1930، وصف أبراهام ستيرن، قائد عصابة «الليحي» اليهودية التي أسسها عام 1940، الفلسطينيين بـ«وحوش الصحراء». وخلال محاداثات أجريت حول التكتيكات الإرهابية المعتمدة ضد الفلسطينيين، دعا يوسف كاتسنلسون إلى استخدام العنف السياسي والإرهاب ضد «العرب» باعتبارهما «أداتان مشروعتان» في النضال القومي اليهودي من أجل أرض إسرائيل، واصفًا فعل «قتل العرب» بأنه كقتل «الجرذان». تجدر الإشارة إلى أن هذه العصابة لعبت دورًا مهمًا في تنظيم الهجرة السرية لليهود إلى فلسطين. 

تتعدى هذه الاستعارة حدود خطاب المسؤولين الإسرائيليين في حروبهم المتتالية على الفلسطينيين، وتتسلل إلى مناهج التعليم الإسرائيلية. في كتابهما «الصور النمطية والأحكام المسبقة: صورة العرب في المجتمع اليهودي الإسرائيلي» (2005)، درس دانيال بار تال ويونا تيخمان من جامعة تل أبيب الصور النمطية عن الفلسطينيين في المجتمع الإسرائيلي. رغم أن الكاتبين اعتمدا على المساواة بين طرفي ما أسمياه بالـ «نزاع»، معتبرين أن نظرة الإسرائيليين للعرب هي مرآة لنظرة العرب للإسرائيليين، وهي مقارنة غير دقيقة، إلا أن بعض النتائج التي توصّلا إليها تشير إلى استعارة صفة «حيوانات مفترسة» لوصف الفلسطينيين في كتب التاريخ في المرحلة الثانوية. اعتمدت الدراسة أيضًا على عدد من المقابلات والرسوم ظهر فيها العرب على أنهم «كلاب»، و«خنازير» و«نازيون» في مخيلة الأطفال والمراهقين الإسرائيليين.لا تقتصر استعارة الصفة الحيوانية على كونها ممارسة خطابية تهدف إلى نزع الصفة الإنسانية في سياق الحروب والتطهير العرقي، إنما تشكّل ركيزة أيديولوجية تؤسس للعنف والإقصاء على مستويات سياسية وإجتماعية وتربوية. اختزال الفلسطينيين في خانة «الحيوانات» يشرعن القتل من جهة، ويمهد لاستباحة الأجساد من جهة أخرى بتحويلها إلى مسرح للاختبارات العسكرية. وبالتالي فإن الاختزال الذي أشار إليه دريدا في سياق الحيوانات، ينطبق بشكل كبير على الإنسان حين يتم اختزاله في المجموعة نفسها، خصوصًا حين يتمّ توظيف هذه الاستعارة لبترير العنف الهيكلي بوصفه موروثًا ثقافيًا تتناقله الأجيال.

حدائق للبشر

تستكمل العقيدة الاستيطانية الصهيونية النهج الذي اتبعته القوى الاستعمارية الأوروبية والأميركية في تعاملها مع السكان الأصليين عبر التاريخ، أو في تبريرها وتمهيدها للحروب، وللعبودية والتدخلات العسكرية. 

تعتبر قصة المرأة الموشومة من أصول الأنويت الكندية التي اختطفها بحارة أوروبيون عام 1566 مع ابنتها وعرضوها في حانة في بلجيكا، إحدى القصص المبكرة الموثّقة في هذا السياق. تعود الوثيقة إلى عام 1567، وهي عبارة عن ملصق دعائي أنتج باستخدام تقنية الطباعة الخشبية، ويٌعدّ أقدم تصوير أوروبي معروف للإنويت وللسكان الأصليين لأميركا الشمالية الموشومين. ترافقت الصورة مع نص يعكس صورة السكان الأصليين في المخيلة الاستعبادية الأوروبية، ويصوّر المرأة على أنها «همجية»، مع اختلاق قصة خيالية عن اللقاء الأول مع زوجها الذي «كان طوله اثني عشر قدمًا، قتل وأكل من الفرنسيين والبرتغاليين» لجذب انتباه المهتمين بشرائها. تنتهي الوثيقة بعبارة تعكس النظرة الدونية «للهمج» غير المسيحيين مقارنةً بالمجتمع الأوروبي الحضاري. 

تظهر هذه الوثيقة مدى رسوخ ثنائية حضري – بربري (أو همجي) ودورها في تغذية وهم التفوق العرقي. إلا أنّ استعارات الحيوانية لا تنحصر باللغة فحسب في السياق الغربي، بل تتخطاها إلى ممارسات فظيعة تظهر في «المعارض الإثنولوجية» أو بكلمات أخرى «حدائق الحيوان البشرية» التي تقوم على الفرجة أوّلًا على الناس المختلفين ضمن أقفاص من أجل المتعة أو تمهيدًا لبيعهم كعبيد أحيانًا. 

ويُعتَبر التاجر الألماني الأصل كارل هاجينبيك مؤسّس فكرة حدائق الحيوانات البشرية، حين أحضر عددًا من السكان النوبيين من السودان، والصوماليين، والهنود، بالإضافة إلى شعب الإنويت من لابرادور لوضعهم في «معارض» جابت أنحاء المدن الأوروبية من برلين إلى باريس إلى لندن، وصولًا إلى أميركا. في أمستردام، أسس المعرض الدولي للإستعمار عام 1883، وعُرض فيها سكان أصليون من أمريكا الجنوبية. في نيويورك عام 1905، عُرضت طفلة فليبينية مفصولة عن أهلها مثبتة بحبال حول عمود خشبي، يحدّق بها رواد الحديقة في مشهد يجمع التفوق العرقي واستباحة أجساد السكان الأصليين من خلال تثبيتها في موقع الفرجة مثل الحيوانات.

تعاطف مشروط 

غالبًا ما تحظى الحيوانات في عقل «المشاهد» بحيز كبير من التعاطف في الحروب، حتى من قبل الأعداء، وهذا ينطبق إلى حد كبير على الإبادة الجماعية في غزة. ترافق هذه الحيوانات أصحابها في معاناتهم المسجّلة في مقاطع فيديو، فيتسلل الحيوان الأليف الذي اعتاد حدود المنزل إلى الفضاء العام، ويجذب بالتالي تعاطفًا مضاعفًا عن الإنسان نفسه في بعض الأحيان. ربّما هناك أسباب كثيرة لذلك، أبرزها أنّ الحيوانات تفتقر للأيديولوجيا أو الانتماء أو العرقيّة التي غالبًا ما تُستخدم لتبرير قتل الناس الذين ينتمون لهذه المجموعة أو تلك. 

في تناقض فجّ وعبثي، أفرغ الاحتلال غزة من الحمير بحجة إنقاذها من «العبودية». تهدف خطة الاحتلال التي تقوم بها منظمة «Starting Over» الإسرائيلية والتي تظهر في قالب «إنساني»، إلى سلب سكان القطاع من وسيلة النقل الوحيدة المتوفرة لهم. تخطط المنظمة بحسب هيئة البث الإسرائيلية إلى نقل الحمير إلى فرنسا وبلجيكا لتعيش «بحرية»، بينما يعتمد سكان القطاع عليها وعلى الخيول في النقل، لتوصيل المياه والإغاثة، ما يجعل سرقتها جزءًا لا يتجزأ من الحصار الصهيوني للقطاع وتهجير أهله.

في تناقض فجّ وعبثي، أفرغت منظّمة «Starting Over» الإسرائيلية غزة من الحمير بحجّة إنقاذها من «العبودية»، إلا أنّها تهدف إلى سلب سكان القطاع من وسيلة النقل الوحيدة المتوفرة لهم ..

من جهة أخرى، استمالت هذه الحمير مشاعر الكثر على وسائل التواصل الإجتماعي أكثر من أقرانهم البشر الذين يشاركونهم المصير نفسه، بعد مرور عامين على إبادة متلفزة على مدار الساعة. ورغم تلاشي الحدود بين البشر وغير البشر في نظر الغزيين أنفسهم، إلا أنّ هرمية التعاطف بين من هم خارج غزة نجحت في استبعاد البشر في ما يمكن تفسيره بنظريات كالانتقاص من الشأن الإنساني (infrahumanization). تختلف هذه النظرية  وفق المحلل النفسي البلجيكي جاك فيليب ليينز (2001) عن نزع الصفة الإنسانية (dehumanization) بشكل كامل. فالانتقاص من الشأن الإنساني، يقوم على اختزال الأفراد الذين ينتمون إلى جماعات أخرى، بالمشاعر الأوّلية (الأقرب إلى المشاعر الحيوانية) فحسب، مثل السعادة والخوف والغضب. أي الاعتقاد بأن أبناء هذه الفئة أو الجماعة المختلفة، لا يُصابون إلا بهذه المشاعر الأوّلية التي تأتي كردّات فعل غالبًا. وفي المقابل، يميل الناس إلى اعتبار أنّ المشاعر الثانوية، أي تلك المعقدة التي تتأثّر بالعوامل الاجتماعية )كالأمل والعار والثقة( هي التي تصيب أبناء الجماعة نفسها التي ينتمون إليها، وبالتالي هذا ما يقلل من أهمية معاناة أبناء الجماعة الأخرى، أو يبيحها بطريقة أو بأخرى.

  يؤثّر هذا التمييز على قدرة الناس على التعاطف مع من ينتمون إلى مجموعات اجتماعية مختلفة عنهم، وبالتالي يصبح التعاطف مع الحمار الذي يحمل أشلاء الفلسطينيين على ظهره معقولًا، بما يتضمّنه من اعتبار الأشلاء خارج الصورة من الأساس. ولعلّ قصة حامد عاشور من غزة هي أدق مثال عن هذا الانتقاص، إذ نشر صورته مع كلبِ تقاطعت سبلهما خلال الإبادة، فأصبح الكلب رفيقه الدائم، وجذبت قصته مشاعر الملايين حول العالم، ودفعت بإحدى جمعيات الرفق بالحيوان للتواصل معه للبحث في إمكانية إجلاء الكلب إلى خارج قطاع غزة. علّق حامد بجملة تحمل في طياتها الكثير من الأسى: «أرادوا حياة أفضل، ومكاناً أنظف، وسماء أوسع للكلب، بينما لم يشِر أحدٌ إليّ، أنا الذي كنت أعيش في خيمة لا تصلح لأن يعيش فيها كلب».

تشكيل المعنى حول أنفسنا

تعتبر ثنائية «الحضاري» بوجه «البربري» إحدى أبرز الثنائيات وأكثرها استغلالًا في الفكر الصهيوني، وفيها تندرج الصفات المنسوبة للحيوانات تحت خانة الهوية البربرية.  إذا أردنا تفكيك هذه الثنائيات، لا بد لنا من العودة إلى جاك دريدا، لفهم كيفية تداخل علاقات القوى في تشكيل هوية الآخر، أكان إنسانًا أم كائنًا غير بشريً. يحاول دريدا، في سلسلة من المحاضرات التي أعطاها على مدى عشرة أيام في مؤتمر سيريسي في العام 1971 والتي نُشرت لاحقًا في كتاب «الحيوان الذي أنا عليه» (أو أتبعه)، تقديم تفسير لهذه الثنائيات من خلال تفكيكها ومساءلتها في الثقافة والتفكير الغربي. ولعلّ أحد دوافع دريدا لكتابة هذه المراجعة، بالإضافة إلى اهتمامه بمسألة «الحيوانات» في كتاباته المبكرة، هو الإجابة على سؤال جيريمي بنثام: «هل يمكن للحيوانات أن تعاني؟»، إضافة إلى نقض الديكارتية التي تحصر الحيوان في منزلة الآلة الخالية من الفكر والمشاعر، ونقد لاكان الذي يرى أنّ الفرق يكمن في استخدام الإنسان للغة والكائنات غير البشرية للإشارات. 

يدعونا دريدا إلى إعادة النظر في ما يفرّقنا عن الكائنات غير البشرية، مشيرًا إلى أنّ استخدامنا لمصطلح «حيوان» لاختزال جميع الكائنات غير البشرية ليس إلا محاولة منا لتشكيل المعنى حول العالم وأنفسنا، من خلال تحديد موقع الآخر في هذه الهرمية. ويشير إلى العنف الراسخ في اختزال الكائنات غير البشرية تحت تصنيف الحيوان.  

فضلًا عن مساءلة هذه الثنائيات من منطلق العلاقة بالكائنات غير البشرية ضمن نظام رأسمالي يستفيد من اختزالها، لا بدّ لنا من مساءلتها أيضًا من منطلق الهيمنة على أبناء المناطق الخاضعة للاحتلال وتقويض أجسادهم وطرائق تعبيرهم.. يتطرّق فانون في كتابه «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» الذي صدر عام 1952 باللغة الفرنسية، إلى هذه الثنائيات التي ينتجها الاستعمار في عقل المستعمَرين، وأهمية اللغة في صناعة الثقافة. يستخدم فانون في كتابه ثنائيات كالتحضّر والوحشية، الفوقية والدونية، الإنساني والحيواني ليس لتثبيتها، بل لمساءلتها، خصوصًا في عقل الرجل الأسود الذي يسعى للتمثّل بالرجل الأبيض والتماهي معه. وهنا يشرح أنّ الرجل الأسود من جزر الأنتيل مثلًا يرى نفسه أكثر بياضًا من السود الآخرين بسبب إتقانه اللغة الفرنسية مقارنة بأبناء بشرته. وهنا تعتبر اللغة هنا حقلًا للهيمنة ويعدّ اتقانها معيارًا لمدى التحضّر. 

يطرح فانون في نهاية الكتاب تصوّره لعالم لا تحكمه هذه الثنائيات وأهمية تشكّل إنسان جديد يرفض الامتثال لتعريف المستعمِر وتعابيره وتصوّره عن المستعمَرين، ليجد أن فعل المقاومة يبدأ برفض المستعمَر لفكرة أن لغة الاستعمار وثقافته هي معيار للحضارة، وأن إعادة الإعتبار للغة الأم، وطرائق التعبير التي ترافقها هو شكل من أشكال التحرر السيكولوجي من الاستعمار. ضمن هذه الثنائيات اللغوية، تُفرض السيطرة، ويتم انكار العنف المتمثّل بالاحتلال وتبرير آلياته. تحكم هذه السيطرة طريقة تعبيرنا، فتقيّد غضبنا من طرق تعبيرنا قولًا أو فعلًا وصولًا إلى جوهنا وأجسادنا، فيسكن مستترًا في كافة أنحاء أجسادنا. ويصبح فعل الاعتراض وحده كفيل بإقصائنا وتحييدنا.

بحثًا عن صوت مفقود

في فترة تتسم بصعود الفاشية عالميًا على نحو متسارع، وتزايد خطاب الكراهية تجاه المهاجرين والمسلمين في الغرب لتعبيد الطريق أمام عنف ممأسس، تظهر استعارة الصفة الحيوانية في هذا السياق بوصفها وسيلة مزدوجة، إذ أنها تهدف من جهة إلى نزع الصفة الإنسانية عن المتظاهرين بهدف قمعهم، كما أنّها تجعل الاعتراض فعلًا غرائزيًا يجب كبحه وترويضه. حضرت الصفة الحيوانية على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترامب لنعت المتظاهرين المناهضين للترحيل القسري للمهاجرين في مدينة لوس أنجلس، خلال حفل في فورت براغ بولاية نورث كارولينا للاحتفال بالذكرى الـ250 لتأسيس الجيش الأميركي، وكذلك خلال مؤتمر صحفي عن الأحداث نفسها في البيت الأبيض. وسبق أن وصف ترامب المهاجرين بالحيوانات خلال حملته الانتخابية في نيسان (أبريل) عام 2024، لتحقيرهم وجذب أصوات الناخبين العنصريين الرافضين للهجرة. 

لم يكن الخطاب معنيًا فقط بإقصاء فئة اجتماعية من خلال تبني سياسات مناهضة للهجرة، بل بتقويض شرعية التظاهر كأداة سياسية. فتصوير الاعتراض بوصفه «غضبًا حيوانيًا» يُعيد إنتاج ثنائيات «البشري/الحيواني» التي تمهّد الطريق نحو عنف الدولة. بذلك، تعمل استعارة الحيوان على تحويل المقاومة إلى مسألة أخلاقية لا سياسية، وإلى سلوك يجب تهذيبه لا مطلب يجب الإصغاء إليه. 

 تتّسم بعض أساليب المواجهة، خصوصًا في الأوساط الليبرالية، بتقديم المقاومة اللاعنفية كنموذج أسمى للاعتراض، بتمايزه عن الأساليب الأخرى التي قد تقع في خانة «غير المشروعة» خصوصًا بالنسبة للسلطة. ظهر هذا التمايز في التظاهرات المناهضة للترحيل القسري للمهاجرين في أميركا، وكذلك في نهج المهمات المتعددة التي قام بها أسطول الصمود في محاولته لكسر الحصار عن غزة. تشكّل هذه الأساليب اللاعنفية أستراتيجية ضرورية للمقاومة في بعض الأحيان، بسبب قدرتها على جذب قاعدة جماهرية أكبر وقبول شعبي أوسع. إلا أن الإصرار على اعتبارها الإستراتيجية الوحيدة، أو التركيز على طبيعتها اللاعنفية المتمايزة عن «الآخر» العنيف، قد يؤدي إلى وصم التعابير الأخرى في الإعتراض بطريقة سلبية، ويقلل من شأن أشكال أخرى من المقاومة العنيفة أو المسلحة في مواجهة الاجتلال.

 تلعب الصوابية السياسية في هذا السياق دورًا تهذيبيًا مشابهًا إلى حد ما. فرغم أهميتها في سياقات معينة، من ناحية الحدّ من العنف الرمزي الذي يتشكّل في اللغة خصوصًا نحو الفئات المهمشة في المجتمع من المهاجرين، النساء، العابرات والأشخاص ذوو الهويات الجندرية غير المطابقة لما هو سائد، إلا أنّها قد تتحوّل إلى أداة إخضاع. فتطبيق الصوابية السياسية على الأقوال التي تسمّي العنف وتدينه، أو الأقوال العنيفة الرمزية التي تواجه  العنف المادّي، تتعدى كونها محاولة لتهذيب اللغة لتصبح أداة للقمع، بفرضها معايير صارمة على ما يمكن قوله وكيفية التعبير عنه، كما أنّها قد تتحوّل إلى وسيلة لإعادة انتاج الأساليب القمعية للسلطة.

وهنا، يبدو الاعتراف بالحيوانية خطوة ضرورية لتفكيك الأنماط الاحتجاجية المنسوبة إلى «الطبيعة الحيوانية» – كالعدائية والشتيمة والبذاءة – واعتبارها جزءًا من الطبيعة الإنسانية، التي تشكل امتدادًا للحيوان في بادئ الأمر، لكنّها تصل إلى مراحل التمرّد على ما تسمح به السلطة وما تمنعه. خصوصًا حين تفشل اللغة التقليدية في احتواء الغضب، وتبدو المصطلحات غير قادرة عن التعبير عن هول المجازر والظلم والتهجير. يصبح البحث عن طرق أخرى للتعبير ضروريًا، من خلال محاولة توظيف اللغة وإعادة تشكيلها في وسائل خارج السياق السائد، كالصراخ والبذاءة، الصمت أو الخيال والسرد على لسان الحيوانات مثلما يقترح الكاتب المصري هيثم الورداني في كتابه «بنات آوى والحروف المفقودة: عن الحيوانات الناطقة في لحظات الخطر» (2023). يتداخل في الكتاب التحليل الذي قام به  الورداني لكتاب «كليلة ودمنة»، مع قصص قصيرة كتبها بنفسه على نهج ابن المقفع. يشرح  ظروف تحدّث العجماوات (بنات آوى وأي ما هو غير بشري) في كتاب «كليلة ودمنة» على أنه حدث في نقطة وصول العلاقة مع الآخر إلى نقطة حرجة، فظهرت الحاجة إلى إعادة تشكيل اللغة التي تمر فيها هذه العلاقة. 

يبحث الورداني في ترجمة ابن المقفّع لكتاب «كليلة ودمنة» وإضافته إلى باب ثاني لم يكن موجودًا في النسخ السنسكريتية ولا النسخة الفهلوية، مرجحًا أنّها إضافة أجراها ابن المقفّع بنفسه كتعليق على الواقع السياسي والاجتماعي المضطرب الذي عايشه الكاتب ومساءلته للسلطة في ذلك الوقت، مشيرًا إلى بنات آوى نطقت باللغة العربية أنذاك في «لب الصراع الإجتماعي واتساع الإمبراطورية الإسلامية» حيث كانت اللغة العربية المساحة الأساسية للصراع بين العرب وغير العرب، ويضيف «ابن المقفّع، الأعجمي الأصل، العربي اللسان، سمع العجماوات تنطق العربية، فجعل مُتحدّثيها البشر يصمتون ليسمعوا ما لديها لتقوله».. وهنا في الترجمة العربية، قالت بنات آوى ما لم يكن يمكن قوله، في لحظة تمكّن فيها الخيال الحيواني من الخوض في ما كانت تحظره السلطة.

تدفعنا هذه المراجعة النقدية والأدبية والتاريخية إلى النظر خارج حدود الهيمنة، بحيث تشكل الخرافة أو الخيال قطيعة مع ما حفظناه. ربما علينا الاكتفاء بالنواح أو العويل أو الصراخ الحيواني خارج حدود اللغة واللياقة، لعل صراخاتنا تعبّر عما لا تستطيع اللغة تجسيده. أو ربما ينبغي أن نصمت ونسمح الحمار الذي يحمل أشلاء الفلسطيني على ظهره إلى مستشفيات القطاع أن يتكلّم ويخبرنا عن واقعه، وعن الحياة التي يريدها، وعن معنى العيش في إبادة جماعية ومجاعة.