خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

مصحّات لبنان العقليّة.. من ينجو من العنف؟

في جبل لبنان استقطبت "مستشفى العصفورية" باكرًا المرضى من العواصم العربية، وبدت كأنّما تستشرف مصير البلد الصغير، وتتهيّأ لتصريف عنف حروبه الكثيرة
ــــــــ ماضي مستمر
6 نوفمبر 2025

كتاب يقع في مقهى يدفع الموجودين للالتفات بذعر، وصوت دراجة ناريّة يثير هلعًا بين سكان الأحياء. قبلها، وفي أحد مراكز النزوح في ضواحي صيدا، ارتطم باب بجانب شابّةٍ، فانهارت بالبكاء، ولم أفلحُ في إعادتها إلى حالة من السكينة إلا بعد وقتٍ، فقد دخل الجهاز العصبي لديها في حالة من التيقّظ المستمر، وكأنّه يتأهّب للهرب أو القتال أو التجمّد في أيّ لحظة، كما لو أنّ الحرب لم تنتهِ فعلًا، بل بقيت تعيش حياةً موازية في الأجساد والأنفس.

صنعت الحرب الإسرائيلية على لبنان العام الماضي منعطفًا جديدًا في مسار الصدمات الجماعية اللبنانية. لم يعش الجيل الجديد الحرب الأهلية، وكان معظم أبنائه في سنّ الطفولة خلال العدوان الإسرائيلي عام 2006، وجاءت الحرب الأخيرة لتوقظ مجدّدًا الصدمات التي صارت ضبابية ربّما، وفتحت بوّابات القلق البدائي على مصراعيها؛ اضطرابات نفس – جسدية مثل الإسهال، الإعياء النفسي، القيء المستمرّ، الصداع الناتج عن التشنّجات، ارتفاع ضغط الدّم أو الإغماء، ونوبات غضب حادة تصل إلى التكسير. لاحظتُ هذه العوارض عند الكثيرين ممن التقيت بهم خلال عملي النفساني الميداني بعد نزوحي من الجنوب. ولا يمكنّني إّلا أن أتوقّف عند التساؤلات الوجودية التي كانت تخرج من فم الأطفال، وهي تساؤلات فلسفية ترتبط بهموم البشرية الأولى، المعنى من الحياة، الخير والشر، الموت والعدم. أكثر الأسئلة عمقًا كانت تلك التي طرحها الأطفال عليّ بكلّ بداهة: “متى ستنتهي الحرب؟”، “هل سنخرج أحياء؟”، “ماذا سيجري عندما تنتهي الحرب؟”… ولكن أقساها بالنسبة إليّ، كان مشهدًا لثلاثة أخوة من بين عدد من الأطفال الذين كنت أجمعهم للتفريغ عبر الرسم. كان والد الأخوة الثلاثة قد استشهد في اليوم السابق للجلسة، وظلّوا في حالةٍ من الثبات الانفعالي وهم يخبرونني جملة واحدة: “من المؤكّد أنّ والدنا بطل”، من دون أن يكون لديهم تصوّرًا واضحًا عن معنى البطولة أو الموت، لكنّها كانت طريقتهم الوحيدة ربّما لتفسير حجم الفقد الذي أصيبوا به. 

سفينة الحمقى 

يحمل العنف هذه العلاقة الإشكالية مع الطبّ النفسي، وفي لبنان تصل العلاقة بينهما إلى ذروتها، في كلّ حرب شهدتها البلاد. الحاجة البشريّة إلى تصريف العنف الذي يتلقّاه البشر يوميًّا، وفي الحروب بشكل خاص، تحتّم المرور بالطبّ النفسي في المجتمعات الحديثة، وبتاريخه الغابر أيضًا، تحديدًا في المؤسسات العلاجية العقلية التي اعتمدت العنف كوسيلة أساسية للتعامل مع المرضى أو “المجانين”. اكتسبت المصحّات العقلية في التاريخ الغربي طابعًا متوحّشًا في التعامل مع الأشخاص الذين يعانون من أمراضٍ عقليةٍ وعصبية، إذ أُطلق عليهم لفظ “المجانين”. ويُعرَّف الجنون في المعجم العربي بأنه زوال العقل، وهو مصطلح يروق لـ”العقلاء” إطلاقه على “غير العقلاء”. اعتادت المجتمعات أن تُعاقب المضطرب عقليًّا وتُعذّبه، اعتقادًا منها أنّه ممسوس أو مسكون بالشياطين والجن. فمنهم من كان يُحرَق، ومنهم من كانت تُثقب جمجمته لإخراج الأرواح، أو يُوصم بالهستيريا، على اعتبار أن الرحم يتجوّل في بطن الأنثى.

إذا تتبّعنا مسار الجنون وتطوّره في التاريخ العربي، فسنرى أنّ المصحّات ودور علاج “المجانين” أقدم من نظيراتها في العالم الغربي، وأقلّ وحشية. هذا ما يؤكّده كتاب “تاريخ البيمارستانات في الإسلام” (1938) للمصري أحمد عيسى

يذكر مايك جاي في كتابه “بهذه الطريقة يكمن الجنون” (2016) كيف أن مستشفى “بيثلم الملكي” في لندن، في القرن الخامس عشر، كان مأوى للمجانين، لكنه في الوقت عينه كان كابوسهم. أما في ألمانيا والمدن المحيطة بها، فكانوا يجمعون المرضى العقليين في سفينة تُسمّى “سفينة الحمقى”، ويطلقونها في الأنهار إلى مصيرهم المجهول، أو يرمون “المجانين” في النهر من تلك السفينة لتخليص المدن منهم، كما يشير الفيلسوف ميشال فوكو في كتابه “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” (1961).

إذا تتبّعنا مسار الجنون وتطوّره في التاريخ العربي، فسنرى أنّ المصحّات ودور علاج “المجانين” أقدم من نظيراتها في العالم الغربي، وأقلّ وحشية. هذا ما يؤكّده كتاب “تاريخ البيمارستانات في الإسلام” (1938) للمصري أحمد عيسى، الذي يذكر أنّ أوّل بيمارستان أُنشئ في العالم الإسلامي كان في مدينة دمشق عام 707 م. وفي بلاد الشام أيضًا، كان هناك البيمارستان النوري الكبير في دمشق نحو عام 1154م. أما في العراق، فكان هناك بيمارستان الرشيد، وبيمارستان المقتدري، وبيمارستان الموصل، إلا أن أشهرها كان البيمارستان العضدي الذي أنشأه عضد الدولة بن بويه عام 978 م في بغداد.

والبيمارستان (بفتح الراء وسكون السين) كلمة فارسية مركّبة من “بيمار” بمعنى مريض أو عليل، و”ستان” بمعنى مكان أو دار، فهي إذًا دار المرضى. وقد اختُصرت في الاستعمال لاحقًا لتصبح “مارستان”، عندما بقيت مأوى للمرضى العقليين الذين لا مأوى لهم في أواخر حياتهم.

مصابون بالصرع في شوارع بيروت

إنّ تراكم هذا التاريخ الطويل من استخدام أساليب عنيفة وغير أخلاقيّة مع المرضى النفسيّين (كاستئصال القشرة الدماغيّة، وثقب الجمجمة، والتقييد بالسلاسل) في ظلّ الإمبراطوريّة العثمانيّة، وبالتوازي مع بروز الحاجة في العالم العربي إلى تطوير آليات علميّة تواكب العصر ومقتضياته في مجال الصحّة النفسيّة، أدّى إلى بروز مستشفيين حديثين ومعروفين لمعالجة “الجنون” في الشرق: السليمانيّة في القسطنطينيّة، الذي أسّسه السلطان سليمان القانوني عام 1560، ومستشفى العباسيّة في القاهرة، الذي تأسّس في عهد محمد علي باشا عام 1880، وفق ما تشير الطبيبة اللبنانية جويل أبي راشد في كتابها “العصفوريّة: تاريخ الجنون والحداثة والحرب في الشرق الأوسط” (2020). في سياق الحركة التاريخيّة المتعلّقة بالمصحّات العقليّة في العالم العربي، ومع تدهور حال البيمارستانات، لا سيّما في ظلّ الحكم العثماني حوالي عام 1300 م، لم تكن هناك مؤسّسات رسميّة متخصّصة في علاج الأمراض النفسيّة في لبنان. في سنة 1851، كان المصابون بالصرع مشهدًا شائعًا في شوارع بيروت، وفقًا لأبي راشد، نقلًا عن جورج إي. بوست، وهو مبشّر طبي وأستاذ جراحة وطب في كلية الطب في بيروت. يصف بوست شوارع المدينة المليئة بـ “الحمقى والمعتوهين”، “لا يُعتنى بهم” ويتوسّلون الصدقات. 

ومع ذلك، أفاد هنري دي فورست، ثالث مبشر طبي أميركي انضمّ إلى البعثة البريطانية السورية بأنه تم التعرف أيضًا على شكل طبي من الجنون عام 1860. كان يُستدعى طبيب وكاهن لتقييم حالة المريض، لكنّ دي فورست يروي حالة امرأة أصيبت بنوع وراثي من الجنون، نتج عن نوبة حمى نفاسية. استُدعي كاهن، وقُدّمت الصلوات، ورشّ الماء المبارك. لكن عندما أصرّت المرأة على رفض أوامر الكاهن، ضربها ضربًا مبرحًا حتى نزفت. ولأنها استمرت في عنفها ولم تستجب لمحاولاته لطرد الأرواح الشريرة، استنتج الكاهن أنه لا يوجد دليل على مسّها. بل وجد فقط “حزنًا بسيطًا”، الأمر الذي تطلب تدخلًا طبيًا لا إلهيًا.

 وفيما اعتمدت الرعاية النفسيّة على الأسرة والمجتمع المحلّي غالبًا، استُخدمت الأديرة أو المساجد كملاجئ للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات عقليّة. كان أشهر المواقع التي أُجريت فيها عمليات طرد الأرواح الشريرة في جبل لبنان هو “المغارة المقدسة” في دير مار أنطونيوس قوشية الماروني، حيث كان يُجلب “عشرات المجانين من جميع الطوائف من المسيحيين والدروز وحتى المسلمين كل عام” في هذا الدير الذي يعود تاريخه إلى القرن الحادي عشر (والذي لا يزال وجهة شعبية).

لم تُسجّل أي مصحّات عقليّة رسميّة في لبنان خلال هذه الفترة، ولم تكن الرعاية الصحيّة للمصابين بالاضطرابات النفسيّة جزءًا من النظام الصحّي العثماني. في تلك الأثناء، كان لبنان في أوائل القرن العشرين، وتحديدًا عام 1896م، وكان السبّاق إلى إعادة إحياء المصحّة المتخصّصة للتعامل مع الأمراض النفسيّة، وما رافق ذلك من تطوّرٍ في الرعاية الصحيّة النفسيّة المتخصّصة.

فعلى عكس السليمانيّة والعباسيّة، وكلتاهما مؤسّستان تديرهما الدولة العثمانيّة، كانت العصفوريّة مستشفى خاصًّا يعتمد كليًّا على التبرّعات. وفي هذا السياق، وُضعت اللبنة لأوّل مصحّة عقليّة متخصّصة في الشرق الأوسط، هي “مستشفى العصفوريّة”، لتتبعها لاحقًا سلسلة من المستشفيات المتخصّصة لتأمين الرعاية النفسيّة المناسبة.

من اللاذقية والموصل وحيفا إلى جبل لبنان

مع الوقت، أصبحت “العصفوريّة” مرادفًا للجنون والمستشفيات النفسيّة في العالم العربي، ربّما لأنّها أبرز المؤسّسات التي أدّت دورًا رائدًا في تطوير الطبّ النفسي في المنطقة. فمنذ تأسيسها عام 1896 في الحازميّة، جبل لبنان، على يد المبشّر السويسري ثيوفيلوس فالدماير، سعت إلى تقديم الرعاية النفسيّة باستخدام أحدث التقنيات المتوفّرة آنذاك.

كانت العصفوريّة من أوائل المستشفيات النفسيّة في العالم العربي ومنطقة البحر المتوسّط، واستقبلت مرضى من مدن مثل اللاذقية، الموصل، حيفا، القدس، وحتى طهران. تذكر أبي راشد في مقالتها، “العصفورية وتاريخ الطب النفسي العالمي”، أنّ “اكتشافات الغرب الجديدة سرعان ما تمّ تبنّيها في العصفوريّة: العلاج المهنيّ، وعلاج غيبوبة الأنسولين والعلاج بالصدمات الكهربائيّة والجراحة الفصية المثيرة للجدل، والأدوية العقليّة والنفسيّة. خلال الحربين العالميّتين، عولجتْ في مستشفى العصفوريّة القوّاتُ الأجنبيّة من الكومنولث البريطاني وأفريقيا. في الواقع، كل جيشٍ احتلَّ لبنانَ في القرن العشرين احتلّ في مرحلةٍ ما مبانيَ العصفوريّة”.

وفق أبي راشد، فإنّ إحدى المجلّات الطبية الرائدة، “المجلة الطبية البريطانية” (British Medical Journal)، وصفت العصفوريّة بأنها “المؤسسة الوحيدة من نوعها في الإمبراطورية العثمانيّة، بين القاهرة والقسطنطينيّة، التي تنشر التأثيرات المحسِّنة للعلوم الطبيّة الحديثة والحماسة الإنسانيّة، ليس فقط في محيطها، بل أيضًا بين المسافرين القادمين من بلدان بعيدة، على طول الطرق التجارية المؤدّية إلى دمشق وبغداد، وحتى على طريق الحج من دمشق إلى مكة”.

تميّزت المستشفى بتبنّيها أساليب علاجيّة مبتكرة، مثل العلاج بالصدمات الكهربائيّة والجراحة الفصّية، ولعبت دورًا مهمًا في نشر مفاهيم الطبّ النفسي والحداثة. وقد اختير موقعها في جبل لبنان استراتيجيًا، لابتعاده عن المدن التي اعتبرتها البعثات التبشيريّة مصدرًا للأمراض، كما أنه بعيد عن التوتّرات الجيوسياسية والطائفيّة. ومع تفكّك الإمبراطورية العثمانيّة، فقدت العصفوريّة طابعها الدولي وتحوّلت إلى رمز محلي للمرض النفسي. وبمرور الوقت، وُجّهت إليها انتقادات بسبب استخدامها أساليب تقليديّة، كالعزل القسري، والعمليات الجراحيّة القديمة، وجلسات الكهرباء.

بحسب دراسة منشورة عام 2023 بعنوان: «الأيديولوجيات الاستعمارية في مستشفى ثيوفيلوس فالدماير للأمراض العقلية (العصفورية) في لبنان العثماني 1896-1909»، كانت أكثر الأمراض شيوعًا حينها، بحسب الطبيبان أوتو وولف  (otto wolff) و ثويتس (Thwaites)،  هي الأمراض المرتبطة بالمعتقادات القديمة كالسحر والجنّ والشياطين التي تُعدّ أمراضًا ذهانيّة في جوهرها، صرع او أمراض مرتبطة بالفقر والهجرة. اعتبر الطبيبان أنّ الهجرة ظاهرة شائعة في ذلك الوقت، على اعتبار أنّ بعضهم قد يكون اصطدم بالعامل الثقافي وعاد مضطربًا أو أنّه خسر كل أمواله في المهجر، أو فقدها فور عودته. كما أنهما ربطا المرض النفسي بالفقر أحيانًا وشمل بذلك الأشخاص الأثرياء، الذين فقدوا ثرواتهم أو عادوا مصابين بالجنون من رحلاتهم الباذخة. 

كما أنّه في الستينات زاد عدد المرضى في المستشفى بالتزامن مع تجريم تعاطي المخدرات، وأصبح جزء من النزلاء هم من المدمنين على المخدرات. أُضيف هؤلاء إلى النزلاء المحكوم عليهم بجرمٍ لأسباب نفسية، وقد تمّ وضعهم في العصفورية التي تحوّلت إلى أوّل مستشفى ترعى الأشخاص المحكوم عليهم بالسجن لأسبابٍ تتعلق بجرم ذي دوافع نفسية.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

معارك “العصفورية”

بدأت سمعة العصفوريّة ومكانتها تتراجعان في ستينيات القرن الماضي، خصوصًا مع ظهور مفاهيم جديدة في الطبّ النفسي، إلى أن أُغلقت نهائيًا عام 1982 بسبب الظروف السياسيّة في لبنان، والاقتتال الأهلي الذي وصل إلى العصفورية. في مقالتها: “الهبوط المأساوي للعصفورية”، تشير أبي راشد، بلا مبالغة، إلى أنّ العصفورية صارت امتدادًا لساحة الحرب. بدأ ذلك حين اختُطِف طبيبًا نفسيًا مسيحيًا من المستشفى على يد ميليشيات مسلمة، ولم يطل الأمر حتّى جاء الانتقام. فقد اقتحمت الميليشيات المسيحية المستشفى واختطفت ونكّلت بالطلاب والعاملين المسلمين. كذلك، تعرّضت المستشفى للعديد من الاستهدافات بالمدفعية والرمي بالرصاص واعتداء الميليشيات على المريضات داخلها. لقد حوّل عناصر الميليشيات المستشفى إلى معتقل لمن يتم اختطافهم من الديانة الأخرى، و”حرّروا” من ينتمون إلى ديانتهم من المرضى في قسم الجرائم النفسية، ليلتحق المرضى المحرّرين تلقائيًّا بالميليشيا التي ستنكّل بالمرضى من الديانة الأخرى. تقمّصت المستشفى سريعًا لعبة الحرب إلى أن جاء وقف إطلاق النار المؤقّت في نيسان 1976، والذي سمح بخروج المرضى القلائل المتبقّين. وبعد الاقتتال والخطف والتصفيات المذهبية، كان لا بدّ من نقل المسلمين منهم بأمان إلى مناطق يسيطر عليها المسلمون، والمسيحيين إلى مناطق يسيطر عليها المسيحيون. كما نُقل أيضًا مرضى عرّفوا أنفسهم بأنهم “دروز، ويهود، وبوذيون، وملحدون”. 

تُشير تلك اللحظة، إلى بداية تفكّك مجتمع نجح حتى تلك الفترة في تقديم نموذجًا جامعًا لكافة أبنائه على اختلاف انتماءاتهم. هكذا أغلقت العصفورية عام 1982، وخرجت عن العمل رسميًّا بالتزامن مع بداية الحرب الإسرائيلية حينها.

بعد انتهاء الخرب الأهلية عام 1990، كان كلّ من على الأراضي اللبنانية يحاول لملمة شتات نفسه، والبحث عن مفقوديه. ترافق هذا البحث مع سيطرة الإضطرابات الذهانية والبارانويا والاكتئاب الذهاني والمتوسط والقلق بأنواعه على الناس، وغيرها من مظاهر الضيق النفسي الناجم عن سنوات الاقتتال الطويلة. حفرت الحرب شروخًا في شخصيّات المسالمين والمتحاربين على السواء، وأفرزت مجموعات مختلفة لاحقًا مثل “لجنة أهالي المفقودين” (التي تضمّ عائلات المفقودين الذين لم يعرف مصيرهم لا قبل الحرب ولا بعدها)، و”محاربون من أجل السلام” (تضمّ مقاتلين سابقين في الحرب الأهلية أصبحوا دعاة سلام)، التي ما زالت تقيم نقاشات ولقاءات وورشات عمل وتدريبات حول ذاكرة الحرب الأهلية والتصالح مع الماضي، كمحاولة للتشافي الجماعي من الحروب. ورغم إغلاقها، لا تزال العصفوريّة جزءًا من تاريخ الرعاية النفسيّة في لبنان، وبقيت كلمة “عصفوريّة” تُستخدم في اللغة العاميّة للإشارة إلى المصحّات النفسيّة، ما يعكس تأثيرها العميق في الذاكرة الجماعيّة.

دير الصليب.. لميسوري الحال

مع بداية الانتداب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى، بين عامي 1920 و1943، بدأت البنية التحتية الصحيّة في لبنان تتطوّر تدريجيًا. نتيجة هذا التطوّر، أنشئ دير الصليب في عام 1930، ويُقال أنّه تأسّس في البداية للعناية بالمسنّين، قبل أن يتحوّل لاحقًا إلى أحد أشهر مستشفيات الصحّة العقليّة في التاريخ اللبناني الحديث، وأوّل مصحّة عقليّة رسميّة في لبنان بعد العصفوريّة تعتمد نظام الإقامة الدائمة للحالات الدقيقة. أُدير المستشفى من قبل رهبانيّات كاثوليكيّة، وقدّمت خدمات شاملة للمرضى العقليّين، ما شكّل نقلة نوعيّة في مجال الطبّ النفسي في البلاد. 

وبعد استقلال لبنان عام 1943، شهدت البلاد توسّعًا ملحوظًا في البنية التحتيّة الصحيّة، واستمرّ دير الصليب في أداء دوره كمركز رئيسي وأكبر مصحّة عقليّة في لبنان، ولا يزال يواصل عمله حتى اليوم وبابه مفتوح للجميع دون تمييز ما خلا التفاوت الطبقي، إذ أنّ الإقامة لليلة الواحدة تكلّف 20 دولار تقريبًا. والجدير بالذكر أنّ المستشفى كغيرها من المستشفيات فيها أقسام أو غرف تعتبر VIP، كما أنّ هناك طوابق وغرف لميسوري الحال.

 عدد كبير من نزلاء المستشفى هم المرضى الذين يعانون من مختلف الاضطرابات النفسيّة والعقليّة، مثل الذهان، الفصام البارانويدي، الاكتئاب الذهاني، واضطرابات الشخصية كالحَدّية، الوسواسيّة، الهستيريّة، والنرجسيّة، إضافةً إلى اضطرابات المزاج كالاكتئاب ثنائي القطب، والاكتئاب المتوسط، والقلق بأطيافه، فضلًا عن علاج الإدمان على المخدّرات. يعتمد المتخصّصون في المستشفى أحدث التقنيات العلاجيّة، مثل العلاج بالموسيقى والرياضة، بوجود مدرّبين متخصّصين يشرفون على متابعة الحالات، ما يشجّع المرضى على التعبير والانخراط مع الآخرين، ويُسهم في تحسّنهم. كما يُعتمد العلاج الدوائي بجرعات ملائمة تُحدَّد بحسب حالة كل مريض، بخلاف ما كان سائدًا في الماضي من اعتماد ممارسات غير علميّة كالتخدير الدائم أو التقييد.

صورة “الفنار” الأخيرة

لا يُمكن محو تلك الصورة من ذاكرة مستشفى الفنار أو ذاكرتنا عنها. صُدم الجميع من المشاهد التي انتشرت على وسائل الإعلام عام 2019، والتي أعادتنا إلى الأزمنة الغابرة التي كان يتمّ فيها تقييد المرضى بسلاسل وعزلهم في الأقبية وتعذيبهم وتجويعهم لإخراج الروح الشريرة منهم. رأينا مرضى بأجسادٍ هزيلة، بعضهم مقيّد بالسلاسل إلى أسرّتهم، يقفون بجوار فئران نافقة، وطعام فاسد، وحاجات تُقضى على الأرض أو في أوعية بلاستيكيّة، وسط حشرات منتشرة وظلام دامس عاش فيه البعض لسنوات. قبل ذلك التاريخ، كانت مستشفى الفنار تُعدّ نقطة تحوّل في واقع الصحّة النفسيّة في لبنان، إذ كانت آخر المستشفيات التي خُصّصت بالكامل لعلاج الأمراض العقليّة والعصبيّة، معتمدةً نظام الإقامة الدائمة. لاحقًا، تحوّلت إلى قسم داخلي ضمن مستشفى طبي. وقد تأسّست في الستينيات على يد الطبيب والوزير الراحل عبد الرحمن اللبّان، في منطقة تقع على إحدى تلال بلدة المصيلح جنوب البلاد. وبعد وفاته، تولّت عائلته إدارة المستشفى. وتُعدّ المستشفى الوحيدة من نوعها في جنوب لبنان، وقد ارتبطت بالذاكرة الجماعيّة في المنطقة، حيث باتت أيضًا تُستخدم في عبارات التهكّم مثل “بدنا نحطّك بالفنار”، كما هو الحال مع “العصفوريّة” و”دير الصليب”. ورغم أن المستشفى قدّمت خدمات مهمّة لسنوات، فإنها عانت من الإهمال والفساد، وسادت فيها إدارة سيئة ومعاملة أقرب إلى أساليب العصور الوسطى كما أظهرت الصور المنتشرة. 

وفي عام 2019، حين كشفت الأزمة الاقتصادية عن واقعها المتردّي، خرجت عن الخدمة ونُقِل نزلائها إلى مؤسسات رعائيّة أخرى في الجنوب والجبل. فقد انفجرت الفضيحة إثر شكوى من أحد ذوي المرضى، ما استدعى تدخّل وزير الصحّة حينها برفقة قوى أمنيّة وممثّلين عن الوزارة والبرنامج الوطني للصحة النفسية. في إحدى حواراتها، حاولت مديرة المستشفى الدكتورة سمر اللبّان تبرير الأمر قائلة بأنّ على وزارة الصحّة ديونًا متراكمة للمستشفى تتجاوز 8 مليارات ليرة، وأن السقوف الماليّة المحدّدة لا تغطّي الحاجة، في ظلّ ارتفاع أعداد المرضى. وروت أنها ناقشت أحد الوزراء السابقين وطلبت رفع السقف المالي، وحين رُفض طلبها، فتحت أبواب المستشفى أمام المرضى احتجاجًا، ما أدّى إلى هروب 60 مريضًا. وكما في حال معظم المؤسّسات في لبنان، ضاع الحقّ بين تبادل الاتهامات بين الوزارات والإدارات، وبقي المرضى الفقراء، ضحايا الفساد والإهمال، هم الخاسر الأكبر. وبناءً على قرار وزير الصحّة وإشارة قضائيّة، تمّ إغلاق المستشفى بالشمع الأحمر إلى أجلٍ غير مسمّى.

عُصاب الحرب

نقل زياد الرحباني اضطرابات الهوية التي أنتجتها الحرب الأهلية وعنفها إلى مسرحيّته “فيلم أميركي طويل” (1980)، التي وضع فيها تصدّعات المجتمع اللبناني (بعد 5 سنوات على بدء الحرب) في مصحّة عقليّة أو مستشفى للمجانين. تصدّرت المسرحيّة الأدبيات التي أنجزت حول الحرب الأهلية اللبنانية من بوّابة الاضطرابات العقليّة والجنون، إذ كُتبت مؤلفات عديدة عن آثار الحرب الأهلية اللبنانية، وما خلّفته من صدمات نفسيّة وحداد جماعي. 

مع نهاية الحرب الأهلية عام 1990، وبعد مقتل ما يقارب 120 ألف شخص، لم تنتهِ المعاناة. فقد تخللت الحرب الأهلية مواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي، ثم جاء العدوان الإسرائيلي على لبنان عامي 1993 و1996، وبعدهما حرب تموز 2006، في وقت كانت العائلات لا تزال تبحث عن جثث أولادها ومفقوديها.

مستشفى العصفوريّة تأثّرت مباشرة بالحرب، إذ استُخدمت كمأوى مؤقّت وساحة صراع بين الميليشيات، فيما استمرّت مؤسسات كدير الصليب بالعمل رغم شح الأدوية والموارد

في كتابه “جرثومة العنف: الحرب الأهلية في صميم كلٍّ منّا” (1995) وثّق الأكاديمي والمحلّل النفسي اللبناني عدنان حب الله تجارب من لجأوا إلى العلاج النفسي بعد تعرّضهم للعنف الجسدي والنفسي والانتهاكات الجنسيّة والرعب المستمر  في الحرب. يقول حب الله إنّه في ظلّ غياب مراكز متخصصة، لجأ هو نفسه إلى دعم العائلات عبر مساعدتها في تنظيم الحياة المحيطة بالمريض وإرشادها لما يجب وما لا يجب فعله. فقد تركت الحرب ندوبًا عميقة في النظام الصحيّ، خصوصًا الصحة النفسيّة، وسط غياب شبه تام لأنظمة المعالجة، في وقتٍ كان فيه الموت ضيفًا مفاجئًا، يدخل المنازل شرقًا وغربًا دون إذن. بعض المستشفيات تعرّض للتدمير أو الإهمال. مستشفى العصفوريّة تأثّرت مباشرة بالحرب، إذ استُخدمت كمأوى مؤقّت وساحة صراع بين الميليشيات، فيما استمرّت مؤسسات كدير الصليب بالعمل رغم شح الأدوية والموارد.
يُعدّد حب الله بعض الاضطرابات المنتشرة حينها، منها الذُهان الاضطهادي (البارانويا) الذي كان أكثر الحالات شيوعًا؛ ففي حرب عبثيّة، قد تكون أنت مع الحزب “أ” فيما جارك منذ ثلاثين عامًا مع الحزب “ب”، وقد يقتلك في أي لحظة، حتى في خيالك. يعطي المحلل النفسي اللبناني بعض الأمثلة، مثل السيدة المرتابة، التي تشكّ بكلّ غريبٍ لا تعرفه، أو مثل ذلك الرجل الذي أرعبه أنّ المحلل عرف عائلته، فظنّ أنه سيبلّغ عنه. يُضاف هذا إلى مئات حالات خطف النساء واغتصابهن جماعيًا، والتي تركت آثارًا مديدة. 

تأتي الحروب كأحداثٍ مباغتة، وفق المحلّلة النفسية اللبنانية ألين الحسيني عساف في كتابها “الإرث النفسي للحروب: تعابر الصدمات بين الأجيال” (2023). من شأن هذه الأحداث أن تُدخل رمزًا غريبًا وغير مُعرّف إلى البنية المعرفيّة، فيُفجّر الفوضى في التنظيم النفسي. تروي عساف مثلًا كيف حمل الأطفال في حرب الجبل (امتدّت بين عامي 1983 و1984) ألعابًا أو بطانيات معهم كـ”مواضيع انتقاليّة” تمنحهم الأمان، فيما صار جمع الشظايا وعلب الرصاص طقسًا لتخفيف التوتر.

تسرد حالة طفلة عمرها 8 سنوات وأخيها 5 سنوات اختبآ بعد مذبحةٍ في بيتهما. لطّخت الفتاة نفسها وأخيها بدماء والدتهما واستلقيا أرضًا. وعندما عاد المسلّحون للتأكّد من موتهما، ركلوهما ولم يتحرّكا فظنّوهما ميتين. نجيا حينها، لكن هل عاشا حقًّا؟ 

تأتي كلّ حربٍ بأمراضها الذهانيّة الخاصّة، خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، رُصدت حالات ذعرٍ ورعب: طفلة في السابعة فقدت أحد أفراد عائلتها وظهرت لديها أعراضًا ذهانيّة، من بينها هلوسات بصريّة عن وجود إسرائيليين في المنزل، فيما عانت أختها من نوبات صراخ وتبوّل وتغوّط لا إرادي. هكذا يتبعثر التنظيم النفسي ليطال الجسد، في حالاته القصوى. 

 سجن داخل سجن

يطرح فيلم “صمت الحملان” (1991) للمخرج الأميركي جوناثان ديم، قضية مهمة وهي الموقف الأخلاقي من وجود شخص يعاني من مرض نفسي داخل سجن، مقيّد، ويقبع وسط أسوار مرتفعة وحراسة مشدّدة. السؤال نفسه يلاحقنا حين يأتي الحديث إلى “المبنى الأزرق أو السجن الاحترازي الذي تأسّس داخل سجن رومية عام 2012 وفق قرار صدر سنة 1995، وأعيد تأهيله عام 2015. إنّه المبنى الوحيد من نوعه في لبنان، وهو مؤلّف من طابقين يجمعان 53 سجينًا (عام 2022) من المرضى العقليين ومرضى الكلى والسيدا!  وبناءً على ما تنصّ عليه المادة 411 من أصول المحاكمات الجزائية، فـ “إذا أصيب بالجنون أو بمرض عقلي خطير المحكوم عليه بعقوبة مانعة أو مقيدة للحرية فللنيابة العامة أن تأمر بوضعه في أحد المستشفيات المعدة لأمراض العقلية”. والقابعون في المبنى الاحترازي مجبرين على قضاء إقامتهم إلى حين “ثبوت شفاء المجنون بقرار تصدره المحكمة التي قضت بالحجز” وفق المادّة 232، من قانون العقوبات اللبناني. النزلاء يعيشون داخله اليوم فيما القانون الذي يحكمهم إلى أجلٍ غير مسمّى يعود إلى تاريخ 1943.

لا تأخذ هذه المادّة بعين الاعتبار أنّ الشخص المصاب بإضطراب أو مرض نفسي، قد يعجز غالبًا عن إدراك الواقع – واقع الناس حوله – وأنّه لن يُشفى من تلقاء نفسه، وخصوصًا في السجن الذي لن يفعل شيئًا إلّا أن يزيد حالتهم سوءًا، وفق بعض التقارير الصحافية التي أشارت إلى ظروفٍ قاهرة يعيشونها، في سجنٍ. 

لقد ذكر تقرير الصحة النفسية في السجون اللبنانية المنشور عام 2015، أنّ الذهانيين ونسبتهم 5.7%، وأولئك المصابين بالاضطراب المزاجي ثنائي القطب 1.9% هم الأكثر انتشارًا في سجون في لبنان، وهي أرقام سيعتبرها أيّ عاملٍ في القطاع النفسي “مرعبة”، كونها معدّلات يمكن أن تكون متقاربة لمعدّلات الاضطراب بين سكّان بلدٍ كامل. دعنا من الإحصاءات والأرقام، فالأمر سيصبح مرعبًا فعلًا إذا تخيّلنا أو افترضنا أنّ شخصًا ذو اضطراب شخصية اضطهادية (برانوئية – وهو اضطراب ذهاني في بنية الشخصية يعيش صاحبه فيه حالة من الترقب الدائم للخيانة، للمؤامرات، للمراقبة، يمرّ بهلاوس وضلالات حول من يحيك له المكائد) وفجأة راودته فكرة أن يقتل أحدهم، لأنه يظنّ أنّ الآخر سيقتله، فسبقه إلى قتله. هذا ليس سيناريو متخيلًا، بل هذا تحديدًا ما جرى مع أحد النزلاء في المبنى الأزرق. كيف يتوقّع القانون شفاء شخصٍ كهذا، وقد تمّ إلقاء القبض عليه وسجنه خلف القضبان وهناك من يعطيه أدوية لينام، وآخر لا يأخذ الدواء لأن الأمن – بالنسبة له- يزرع أجهزة في داخله. إذًا بمعادلة بسيطة ضلالاته كانت حقيقية هناك من كان يكمن له الشر اذ انه مسجون لدى من يتخيل أنّهم أشرار.  

تتضارب التقارير وآراء المتخصّصين في هذا الملف. هناك من يقرّ بأنّ ليس هناك أيّ متابعة طبية أو نفسية للمرضى في السجن ولا تؤمن لهم أي أدوية نفسية. وأنه من المفترض أن يكون هناك طبيب نفسي يتابع المرضى الموجودين لكن مرّت سنوات منذ زارهم طبيب. واخرين ينكرون هذا الكلام بل يمجدون دور القائمين على المأوى الاحترازي لا بل ابعد من هذا يلمحون ان هناك من يدعي الجنون ليبقى في المأوى لما فيه من وسائل رفاهية. يمكننا الاستدلال على وضع المرضى القابعين في المبنى الاحترازي، بالنظر إلى اللغة التي يستخدمها القانون اللبناني في تعامله معهم، والذي يعتبرهم “ممسوسين”، و”معتوهين”، في إشارته إلى الشريحة المصابة باضطرابات نفسية. 

ونظرًا لصعوبة التواصل مع المرضى، أو الحصول على إثباتات دقيقة عن التعامل معهم من قبل الحرّاس أو القائمين على إدارة المكان، إلّا أنّ ما يمكننا استنتاجه هو أنّ هناك أشخاص يعانون من اضطرابات عقلية تصل إلى حدّ أذية أنفسهم، ويُتركون في مبنى احترازي لعقود من دون تقارير طبية واضحة تحدّد حالتهم ومستوى الخطر من عدمه الذي يمكن أن يشكّلوه على المجتمع وبلا محاكمة عادلة، أو الاهتمام بحالتهم النفسية ومتابعتها والعمل على تخفيف أعراضها.