يُحكى أنه قبل قرابة مئتي عام، ضربت موجة جفاف قاسية منطقة جنوب سيناء، شملت جبال سانت كاترين بأكملها. وذات يوم رأى الناس وعلًا نوبيًا (يعرفونه هناك بـ «التيتل») يتجمع الواحد تلو الآخر حتى صاروا نحو خمسين وعلًا فوق قمة جبل «أم شومر»، أحد جبال كاترين الشهيرة، وفجأة هطلت الأمطار من السماء بغزارة وانكسرت موجة الجفاف. ومنذ ذلك اليوم قام عهد عند بدو كاترين بتحريم صيد هذه الوعول المبشرة بالمطر حول منطقة «أم شومر».
اليوم، وبعد الكثير من التغيرات المتطرفة التي طرأت على المنطقة، تحول الوعل من مبشِّر بنزول الأمطار إلى نذير بغيابها بعد أن بات هو نفسه نادر الوجود، وآل به الأمر إلى القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض التي يضعها الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN).
لم تقتصر آثار التقلبات المناخية المتطرفة وندرة المياه على تهديد بقاء الوعل النوبي وحسب، بل تجاوزتها لتطال النباتات البرية التي شكّلت عبر القرون أساس حياة البدو وطبهم الشعبي.
ففي هذه الجبال وحدها تنمو 472 نوعًا نباتيًا من أصل 600 نوعًا مسجلًا في الجبال المصرية، يضم بينها 19 نوعًا متوطنًا لا وجود له في أي بقعة أخرى على وجه الأرض، فضلًا عن 115 نوعًا على الأقل من النباتات ذات الخصائص العلاجية.
غير أن هذا الثراء البيولوجي النادر يقع اليوم تحت ضغط التهديدات المتصاعدة، إذ يواجه موجة ممتدة من الجفاف المتفاقم وارتفاع درجات الحرارة، ما ينذر بكارثة بيئية واجتماعية في آن واحد. وفي الوقت نفسه، تتقدم بعض مسارات “التنمية” بخطى متسارعة دون مراعاة لهشاشة هذا التوازن الدقيق، الأمر الذي يطرح تساؤلات منطقية عن طبيعة الحلول المطروحة، والمستفيد الحقيقي منها.
تحمست لزيارة «وادي التلعة»، أحد أشهر الوديان في سانت كاترين، بمجرد أن رأيت صورة واحدة على الإنترنت. شلالات تنحدر من بين الصخور وتُكون بركًا صافية يسبح فيها الناس وسط النباتات الخضراء والأشجار، بدا المكان وكأنه حلم. في الطريق، كلما مررنا بجانب بعض الصخور الكبيرة، كنت أسأل فرحان، الدليل البدوي، كثيرًا: «هل اقتربنا؟»، «متى سنرى الشلالات؟»، على الرغم من أنه أخبرني أكثر من مرة أن هذا الموسم لم يشهد أمطارًا، لكني بقيت أتخيل المشهد المنتظر. استفقت قليلًا عندما شاهدت عنكبوتًا نسج بيته في منتصف المجرى الجاف المفترض لمياه الأمطار. وصلنا أخيرًا، لم أجد أي شلالات.. فقط حوض بسيط متصل بخرطوم يضخ مياهًا جوفية، وبضع قطرات ماء تتساقط على صخور تعلقت بها بعض الأعشاب.
تختلف سانت كاترين عن أي مكان أخر في مصر، فهي ليست فقط الأعلى، بارتفاع يصل إلى 1600 متر فوق سطح البحر، بل إنها المساحة المحمية الأوسع برقعة إجمالية تقدر بـ 5130 كم مربع. هذا الارتفاع الشاهق والموقع المعزول وسط سلاسل الجبال يمنحونها مناخًا فريدًا، يمزج بين الصحراوي الجاف والساحلي المعتدل، تتفاوت فيه درجات الحرارة على نحو لافت. ففي الشتاء، تهبط إلى ما دون الصفر بدرجات تنخفض إلى -7.8 درجة مئوية في الذروة، بينما تصل إلى حوالي 36 درجة في الصيف. ومع ذلك، تظل حرارة الصيف فيها أكثر اعتدالًا من المناطق الصحراوية الأخرى.
وعلى الرغم من شهرة كاترين بثرائها النباتي النادر، يبقى الماء أندر مواردها على الإطلاق. فالأمطار السنوية نادرًا ما تتجاوز 50 ملم، وتتساقط على فترات متباعدة بين أكتوبر/ تشرين أول ومايو/ أيار، في تقلبات مناخية شديدة التغير. هذه الأمطار لا تعرف المواسم المنتظمة أصلًا، فقد تمضي سنتان أو ثلاث دون أن تسقط السماء قطرة ماء واحدة، ثم تنهمر فجأة بعنف كاسح، وتغزو الأودية الهادئة أنهار من السيول الجارفة.
ويُفاقم من قسوة هذا المشهد انخفاض الرطوبة النسبية التي تتأرجح عادة بين 10 و20%، وتندر أن تلامس الـ50%. وحين يرتفع معدل التبخر ليتجاوز 20 ملم يوميًا في ذروة الصيف.. مع هذا كله، تصبح مهمة احتفاظ التربة والنباتات بأي أثر مائي مستحيلة.
اعتادت المدينة على الجفاف، وعلى مواسم مطر لا تأتي إلا نادرًا، واعتاد الناس أن يعيشوا على القليل، ويصنعوا حياة كاملة من قطرة ماء. لكن منذ عام 2002، اختل هذا النسق وبدأت سنوات الجفاف تتوالى حتى امتدت لثماني سنوات متواصلة، جفت خلالها مجاري الوديان والآبار التي طالما ارتوت منها مزارع البدو في أعالي الجبال.
لم تقتصر الخسائر على النباتات الموسمية أو الخضروات، بل طالت الأشجار نفسها. حتى جاء منتصف العام 2010 بأمطار غزيرة أنهت سنوات الجفاف. بدأت المنطقة بعدها تواجه نمطًا جديدًا من التقلبات، حيث هبت في آخر 2013 عاصفة ثلجية غير مسبوقة منذ عقود، تلتها اثنتان أخريان في شتائي 2019 و2024. بين هذه الموجات، شهدت المنطقة سيولًا غزيرة امتدت على مدى ثلاثة أشهر في خريف العام 2015، ثم تكررت السيول في صيفي الأعوام 2020 و2023، على غير عادة الصيف.
وفي الشتاء الماضي، لم تسقط لا الأمطار ولا الثلوج كما هو متوقع، ثم أمطرت بعض الأمطار الخفيفة في الربيع الماضي، ليعود التساؤل من جديد: كيف تنجو النباتات تحت هذه الظروف؟ وكيف يتأثر الناس بغياب الأمطار؟
تركت هذه التقلبات المناخية آثارها الواضحة على حال النباتات الطبية في المنطقة، وفي مقدمة هذه النباتات الزعيتران، النبات الطبي النادر الذي لا يزدهر إلا على هذه الجبال وبات مهدداً بالانقراض. كشفت الدراسات عن تراجع مرعب في أعداده خلال الفترة بين 2002 و2010، إذ هوت من 1208 نبتة إلى 669 نبتة فحسب.
وأهمية الزعيتران تتجاوز كونه دواءًا شعبيًا للمغص، إذ يشكل المصدر الغذائي الوحيد ليرقة فراشة سيناء الزرقاء وللفراشة البالغة معًا، وهي كنز نادر آخر يعيش هناك، ومدرجة على القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض، كأصغر فراشة في العالم.
الزعيتران
وسط هذه التحديات البيئية المتصاعدة، كان السكان البدو ركنًا راسخًا في حماية التوازن الطبيعي. فقد اعتادوا منذ القِدم على صون أرضهم عبر أنظمة عُرفية محكمة تُنظم علاقتهم مع الطبيعة، مثل «الحِلف»، وهو اتفاق قبلي يحدد مواسم الرعي تجنبًا لاستنزاف النباتات، و«الدَخل»، الالتزام الفردي المتعلق بحماية الأشجار وتنظيم استخدامها.
وحرصًا على حماية الفراشة الزرقاء، أعلن البدو بمؤازرة إدارة محمية كاترين في عام 2002 أن منطقة صغيرة لا تتجاوز بضع مئات من الأمتار المربعة تعد «حِلفًا» مقدسًا، رغم ضآلة مساحتها، لكنها تضم تجمعات كثيفة من الزعيتران. ومنذ ذلك التاريخ، يُحظر دخول الحيوانات إلى المنطقة حتى يُزهر الزعيتران، وتفقس اليرقات. وقد كان هذا أول حِلف يُستحدث في العصر الحديث، ولا تزال هذه الأعراف مُطبقة حتى اليوم بكل قدسيتها.
على الصعيد الرسمي، بدأت كاترين تحصد اعترافًا عالميًا بمكانتها البيئية الفريدة. ففي عام 1988، صدر قرار من رئيس مجلس الوزراء بإعلانها محمية طبيعية، تبعه في 1996 قرار وزاري رسم حدودها وأطلق العمل الفعلي بها، مُستهلًا برنامجًا تنمويًا امتد سبع سنوات بتمويل بلغ 6 ملايين يورو.
وفي عام 2002 ضمتها منظمة اليونيسكو إلى قائمة مواقع التراث العالمي، وفي العام ذاته، انطلقت مبادرة جديدة ثلاثية بين جهاز شؤون البيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومرفق البيئة العالمية، هدفها حماية النباتات الطبية النادرة، وكأن الاعتراف الدولي بعظمة المكان قد أضحى حافزاً إضافيًا لصونه وحمايته.
لم يطل الانتظار حتى بدأت خطوات ملموسة لحماية التنوع النباتي في منطقة كاترين، ففي يناير/ كانون الثاني 2003، انطلق مشروعًا قوميًا لـ «صون النباتات الطبية»، وامتد حتى عام 2013.
كان المشروع محاولة جادة لحماية ما يمكن إنقاذه من خطر الندرة والانقراض، حيث زُرعت الأنواع النادرة في بيوت محمية، وجُمعت بذورها وخُزنت بعناية، ثم أُعيد إطلاقها وزرعها في بيئتها الأصلية. لم يكن الهدف مجرد المحافظة على النباتات كتحفٍ منعزلة، بل مواجهة ما يهدد بقائها من أسباب الفقد والتدهور، وتطوير أنظمة لإدارتها بشكل يضمن استدامتها. وفي قلب هذا المسعى كله، احتل المجتمع البدوي مكانة الشريك الأساسي، إذ عمل المشروع على تمكينه من إدارة موارده بوعي يوازن بين توازن البيئة ومتطلبات العيش.
لكن على الرغم من ما تحقق من نتائج إيجابية، توقفت أنشطة المشروع بانتهائه، دون خطة تضمن استمراره أو تمويل يكفل توسيعه. وهكذا، ترك خلفه بذورًا من المعرفة والتجربة تنتظر من يحييها مجددًا.
تجلى ذلك بوضوح في مايو/ أيار الماضي، خلال زيارة إلى إدارة محمية سانت كاترين المختصة اليوم بمسؤولية حماية النباتات الطبية. هناك، أمام طاولة خشبية تتناثر عليها الخرائط والكتيبات التي يبرز على أغلفتها اسم مشروع «صون النباتات الطبية» كذكرى من زمن مضى، شرحت لي صابرين رشاد، الباحثة البيئية في المحمية، أن الجهود المبذولة لحماية النباتات المهددة لم تُستأنف منذ عام 2013، والسبب بسيط: انقطاع التمويل. وتشرح: حماية النباتات النادرة ليست مجرد عمل ميداني أو رغبة نبيلة، بل منظومة شديدة التعقيد تقوم على أبحاث طويلة، تستلزم وقتًا مديدًا وخبرات علمية دقيقة وميزانيات مالية تليق بجسامة المهمة. لذا لا يمكن إنقاذ جميع النباتات دفعة واحدة، ويتم اختيار الأولويات وتركيز الجهود على ما هو في وضع حرج أو أكثر ارتباطًا بالتوازن البيئي.
تحاول إدارة المحمية بأدواتها المحدودة مواصلة السير في هذا الدرب من خلال رعايتها لبعض شتلات الزعيتران، إلى جانب شجيرات الورد البري المعروف بـ «وردة كاترين»، وهو نبات آخر غير موجود في أي مكان آخر، وبات مهددًا بالانقراض. كما تقوم المحمية بمتابعة منتظمة للنباتات المحمية داخل المناطق المسيّجة، بالتعاون مع حارس بيئي من البدو، لمراقبة تأثير الحماية على أعدادها وانتشارها، إضافة إلى تنظيم جولات سنوية لتفقد حالة النباتات وبيئتها الطبيعية، وتسجيل أي تغيرات أو أنشطة قد تلحق بها الضرر.
ورغم هذه الجهود لمراقبة النباتات ورعايتها، تبقى المشكلة الأساسية في الأسباب الكامنة وراء هذا التدهور في الغطاء النباتي؟ في العادة، يُشار إلى الرعي الجائر للأغنام والماعز كأحد الأسباب، ويُذكر إلى جانب التغيرات المناخية بوصفهما عاملين رئيسيين. غير أن هذا التفسير لا يستند إلى أدلة علمية كافية. فالدراسات التي أُجريت في سانت كاترين ترسم صورة أكثر تعقيدًا. إذ أظهرت أن أعداد الماشية قد انخفضت بشكل ملحوظ منذ الستينيات. إذ كان متوسط حجم القطيع آنذاك نحو 78 رأسًا، ثم تراجع إلى 13 في السبعينيات، وانخفض أكثر إلى 10 في الثمانينيات، ويُقدر اليوم بنحو 7 أو 8 رؤوس فقط.
كما أن معظم الرعي يتركز في ارتفاعات تتراوح بين 1500 و1800 متر. ومن بين النباتات التي شملتها الدراسات، لم يتأثر الحد العلوي – أي أعلى نقطة يبلغها نمو كل نوع نباتي على الجبل. فعلى سبيل المثال، من بين جميع الأنواع المرصودة، لم يُسجل سوى نوع نباتي واحد، العُليق المقدس، الذي ينمو على ارتفاع ضمن نطاق الرعي، لكن اللافت أنه ظل مستقرًا في موقعه بين السبعينيات وعام 2014 دون أن يتراجع إلى ارتفاعات أدنى. أما الحد السفلي – وهو أدنى نقطة ينمو عندها النبات – فقد وُجد أن 17 نوعًا من أصل 22 تقع ضمن نطاق الرعي، لكن 8 أنواع فقط أظهرت تحركًا طفيفاً نحو الأسفل. وبناءًا على هذه النتائج، ربما أثر الرعي على بعض التحركات المحدودة، لكنه ليس السبب في التغيرات الكبرى التي شهدتها النباتات، خاصة وأن ظهور النباتات في ارتفاعات أعلى من تلك المعتادة عليها، يفسّره بوضوح ارتفاع درجات الحرارة وتغير المناخ، وبالتالي احتياج تلك النباتات لبيئة أقل حرارة.
وردة كاترين
لكن إن كان تغير المناخ قد حرّك النبات عبر سفوح الجبال، فإن يدًا بشرية أخرى تتدخل في الأرض، لا لتُحييها، بل لتُعيد تشكيل ملامحها من الأساس. فبين محاولات الصون وحماية ما تبقّى، تتسارع وتيرة التطوير في كاترين، وتتجلى ملامح مشروع «التجلي الأعظم» منذ انطلاقه عام 2020. هذا المشروع الحكومي المهول يمتد على ما يقارب مليوني متر مربع، ويشمل شبكة طرق وفنادق وبنية تحتية واسعة، ويراهن على تحويل المدينة المعزولة إلى وجهة سياحية كبرى.
هذا التوسع العمراني المُركز يفرض ضغوطًا شديدة على النُظم البيئية الجبلية الهشة والغطاء النباتي النادر، ويُهدد الموارد المائية المحدودة في المنطقة. كما امتدت أعمال البناء إلى مناطق ذات القيمة الطبيعية، مثل سهل الراحة، الذي شكّل عبر القرون بوابة تاريخية وطبيعية للحجاج المتوجهين إلى دير سانت كاترين وجبل موسى، مما يُعيد تشكيل المشهد الثقافي والطبيعي للمنطقة بصورة جذرية.
وفي قرارها الأخير الصادر هذا العام، شددت لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو على ضرورة تعليق أي أعمال تطوير جديدة مُتوقعة ضمن المشروع إلى حين إخضاعها لمراجعة فنية شاملة من قِبل الهيئات الاستشارية، مطالبة باستكمال جرد شامل للاحتياجات العاجلة للصون ووضع خطة إدارة متكاملة للموقع، مع حماية بيئته الطبيعية الوعرة وعُزلته باعتبارهما عنصرين جوهريين في قيمته العالمية الاستثنائية، في حين تبقى بعض أعمال البنية التحتية القائمة، مثل إعادة تأهيل الطرق، مستمرة بالفعل.
لم يتردد خالد مجاهد، رئيس برنامج تربية وصون النباتات في مركز بحوث الصحراء، حين سألته عن مصير نباتات كاترين، في القول إن الحل يبدأ من الماء: «لازم نلاقي مصدر مياه مستدام… زي ما حصل في شرم الشيخ». واقترح بدائل تقنية مثل تحلية مياه البحر، أو استخراج المياه الجوفية، أو حتى معالجة مياه الصرف، الذي وصفه بحماس بـ «مشروع قومي جميل جداً».
بالنسبة لأهالي كاترين، لا شيء يُحيي الأرض ويجلب البركة مثل المطر. فكل زيادة في الضغط العمراني تعني مزيدًا من الضغط على الموارد المائية الشحيحة أصلًا، وتتزايد معها الحاجة لأن تكون استدامة المياه حجر الأساس في أي رؤية للمستقبل، لا مجرد بند عابر في خطط التطوير.
على تذكرة دخول المحمية، تتوسط صورة بانورامية للمدينة، تبرز فيها على اليسار صورة مقصوصة للوعل النوبي، بينما تستريح الفراشة الزرقاء برشاقة على شعار كاترين في المنتصف.. تأملت التصميم البسيط وما قد يختفي منه في المستقبل، وتساءلت: إذا حدث وانقرض الوعل والفراشة، فهل يكفي مشروع «التجلي الأعظم» لتعويض الخسارة؟