خرجتُ من بيتي في مدينة أفلو في الجزائر بلا بصر. جلست في المقعد الخلفي للسيارة بعينين مغلقتين بالضمّادات. كانت السيارة تمشي في اتجاهين. أمي وخالي وأخي عبروا مدنًا عدّة بحثًا عن طبيب عيون في تونس العاصمة لزرع قرنيّة لعيني اليمنى. وأنا كنت أعبر، أو أحاول العبور من العتمة إلى احتمالات الضوء مجددًا.
أعود ساعات إلى الوراء. جالَت في السماء غيوم خفيفة وشفّافة، وفي الأفق كانت الشمس على وشك الانسحاب من نهار آخر. احتفظتُ بتلك المشاهد العادية من أحد أيام سنة 2015، كأنّني أتمسّك بصورة أخيرة عن العالم. صار رأسي يبثّ مشاهد لم تكن لتأتي على بالي لو لم تُطفأ عيني. وجه رفيقي الذي عدت معه من الثانوية، أمي تصلّي بصمت في البيت حين دخلت، عمود الستارة الذي سقط على عيني وفجّر العتمة ما إن ضرب بعيني اليمنى التي كانت مصابة بالقرنية المخروطيّة أساسًا.
وحين لم تكن عيناي منشغلتين بشيء، بدت الأيّام الثلاثة كدقائق متوقّفة. 4320 دقيقة من العماء المؤقّت ومن الأسئلة.. كيف يصبح النظر ذكرى لا فعلًا؟ كيف تدور في العالم كظلّ؟ كيف تستعيد وجهك والطريق؟ وكيف تعيد إحياء تجربة العماء من خلال الكاميرا؟
زرع الطبيب قرنية جديدة لعيني، وبعد عشر سنوات، استعنتُ بقرنية جديدة، هي عدسة الكاميرا، للتحديق في ما لم أكن قادرًا على رؤيته حينها.
عندما اخترق عمود الستارة عيني اليمنى، انفجر ضوء حارق، ثم بدأ يخفت تدريجيًا إلى أن حلّت العتمة تمامًا. أغلقَتْ عيني نفسها بهدوء ولحقتها العين الأخرى.
رحت أبحث عن شيء في المرآة، أو أهرب من شيء، أو فقط أردت أن أرى إن كنت لا أزال هنا. ما رأيته في النهاية كان ظلًّا، نصف وجه، نصف وجود. صورة مشوّشة كما لو أنّ المرآة لم تعترف بي، أم أنني أنا من يتلاشى؟
تسكن جدّتي في حيّ الأمير عبد القادر، على مسافة خطوات قليلة من بيتنا في مدينة أفلو الجزائرية. ضللت طريقي إلى بيتها.. وصار الحي غريبًا كصوتٍ آتٍ من تحت الماء.
إصبع أمي قادني إلى بيت جدّتي التي استقبلتنا بالماء والسكر، على ما تقتضيه العادة عند الصدمات. كنت مستلقيًا، وقد بدأت أعتاد على طريقة أخرى في التعرّف على العالم من حولي. حين جاء الناس، ميّزتهم من أصواتهم، من طرقات الباب، من الهمسات.
يدٌ متجعّدة كجدار قديم يمكن أن تلقي عليه ثقلك. تصلك هذه اللمسة بالذاكرة المتراكمة والممتدّة التي تحملها.
فقدت أمي ملامحها حين فشلت ذاكرتي باستحضار وجهها. مع ذلك، بقيت كظلّ لا يفارقني، ظلّ بلا تفاصيل.
الخطوات المتردّدة نحو الزجاج تتحوّل إلى صدى لحيرة أعمق: كيف أرفع عيني التي سقطت؟
رشّت جدّتي الماء خلف السيارة، كطقس لتحصين المسافرين. توجّهتُ مع أمي وأخي وخالي إلى تبسة، وبعدها إلى تونس في رحلة طويلة تتجاوز الـ900 كيلومتر. التعب تراكم في حركة الساق المرفوعة. كلّما تقدّمنا، ابتعد شعاع الأضواء، كأنّ السيارة كانت تنزلق إلى الخلف.
بقي أبي في البيت متعلّقًا بخيط من الأمل ليسند قامته.
أنحتسب الوقت بالضوء أم بالعتمة؟
في تبسة كان علينا أن نبدّل السيارة لعبور الحدود. أمسك خالي بيدي في المحطة ومشينا معًا. كنت أصوّب وجهي نحو الأرض. ألمح أحذية الناس بلا وجوههم. أحذيتهم التي بدت كأنما أفلتت من أجساد أصحابها، أو تُرِكَت على الإسفلت كأثرٍ لخطوات لم أستطع أن أكون جزءًا منها..
عبرنا الحدود نحو تونس. وصلناها في ليلةٍ ماطرة. صوت المطر كان أوّل شعرت به. كانت النافذة نصف مفتوحة، ووصل البلل إلى يدي… حلّت تلك اللحظة كصدى، ورائحة، ولمسة. تذكّرت مجدّدًا أنني ما زلت هنا.
شارع طويل واحد يربط كلّ المدن التي مررنا بها، موكب من الأطياف القاتمة والهياكل التي أمشي وسطها بخطوات ونظرات متثاقلة.
الأفق اشتعل بألوان الغروب، أما القضبان والأسلاك الحديدية فكانت كمن يحاول حبس الضوء. من السيارة، كنت أرى القضبان فقط، لكنهم أخبروني أنّ الوقت كان غروبًا.
أخبروني أيضًا أنني خرجتُ من العملية بعين حمراء ومنتفخة.
هذه صورة شبكية لعيني اليمنى (OD)، أخال أوعيتها الدموية ندوبًا وتشقّقات ثابتة من فترة عمائي المؤقّت.
العدسة التي كبّرت المشهد لم تكن زجاجًا بل قرنيتي المزروعة، تفتح لي عالمًا مقلوبًا، مشوّهًا، لكنه حقيقي. حين خرجت إلى الشارع بعد زمن طويل من العتمة، لم يبدُ لي المشهد كما كان. الضوء الساطع اخترق عيني المرهقتين، والمنازل خلف الغشاء بدت غائمة، محجوبة بنقاط سوداء تسبح في مجال رؤيتي.
على شاطئ حلق الوادي في تونس، كبر ظلي على الرمل وغطس رأسي في الماء. البحر سقى عيني فنما بصرهما مجدّدًا.