fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

من سيرة السعادة القصيرة والحزن الطويل

في لحظة فارقة من طفولتي، انطفأ النور من عيني، لكن في المقابل، شعرت بنور آخر يشتعل في قلبي.. نور الإصرار الذي زرعه أبي وأمي في داخلي. لم يكن فقد البصر يعني نهاية حياتي أو أحلامي، بل كان بداية مشوار مختلف
ــــــــ جسد
24 يناير 2025

ولدتُ لعائلة لا تُحب الصبيان فحسب، بل تعتقد أنّهم السحر الذي يجعل الحياة مكتملة. كلّ فرد فيها، من الجد إلى الأب، وصولاً إلى أصغر حفيد، اعتقدوا أنّ الصبي هو سرّ العز والمجد، هو الذي يحمل اسم العائلة. أمّا أمي، ورغم محبتها للجميع، فقد احتفظ قلبها بحلمٍ مختلفٍ، حلم ظل يرافقها طوال سنوات. أنجبت الأولاد واحدًا تلو الآخر، وكلّما رزقت بولد، فرحت، لكن في الوقت نفسه، كان قلبها يذكّرها بأن هناك شيئًا مفقودًا.

الحمل السابع

في كل مرة ولَدَت فيها، كانت ترفع يديها إلى السماء، وتدعو بصمتٍ “يا رب، ارزقني ببنت، حتى لو كانت بتشوفش، لكنها ستملأ البيت بحبها”. كانت هذه الدعوة جزءًا من روحها، تتمنى أن يكون لديها ابنة، حتى لو لم تكن ترى.

ثم جاء الحمل السابع، فراح الجيران يقولون “يا الله، أكيد هالمرة ولد”، حتى أبي الذي كان يعتقد أن الذكور هم عتاد العائلة، ذهب وأشترى كبشًا وأعدّه للاحتفال بالولد السابع. كانوا يجهّزون كل شيء، لكن للأقدار رأي آخر، فجئتُ أنا، وليس صبيًّا كما كانوا يتوقّعون.

ظهرت المفاجأة على وجه أبي في البداية، توقّفت الدنيا لثوانٍ، وبعد لحظات قليلة، راح يتأملني بنظرة جديدة. ربّما بدأ ينشرح لي، كأنني قطعة من الأمل كانت تنقصه في حياته. وأنا، لا أذكر كثيرًا من تلك اللحظات، لكني متأكّدة أنني كنت تلك الوردة التي طالما حلموا بها، والتي لم يتوقعوا أن تكون فتاة.

عندما بلغت السادسة، بقيت أرى الألوان، الوجوه، والنور الذي يملأ النهار. كأن القدر أراد أن يمنحني فرصة أخرى، مهلة إلهية أعيش فيها طفولتي بكل تفاصيلها

أما بالنسبة للاسم، فكان الموضوع مليئًا بالحيرة؛ أمي أرادت أن تسميني نور، لأنها رأت فيَّ الأمل والنور الذي طالما انتظرته، أما أبي، الذي كان له رأي مستقل، فقرر أن يسميني بنفسه، وقال بكل حسم “أسميتها وردة”. أمي، التي أحبّت اسم نور، لم تعرف كيف تتقبّل الاسم الجديد في البداية، وكانت تردّد “وردة؟ شو أقول للناس؟”، لكن أبي، ردّ بكلّ هدوء قائلًا “هي وردة حياتنا”، وبذلك، أصبح اسمي وردة.

كبرتُ وأنا أسمع هذه القصة مرارًا وتكرارًا، ومع مرور الوقت، بدأت أدرك أن هذا الاسم حمل لي أكثر من مجرد حروف. كنتُ تلك الوردة التي انتظرها أمي وأبي، تلك التي جلبت الأمل وسط التوقعات الكثيرة،  واسمي حمل قصة، حمل حلمًا، وحمل الكثير من الحب الذي لم يكن مُتوقّعًا.

القدر يمنحني مهلة

عندما صار عمري تسعة أشهر، كانت الحياة تنسج أولى خيوط قصتي ببطء، دون أن أدرك أن مستقبلي سيحمل معه تجربة استثنائية. في ذلك العام، سافرت جارتنا، الحاجة رسمية والحاجة حمدة، إلى الحج، وعادتا من هناك محملتين بالبركات والهدايا، وخصّصتا لي هديتين صغيرتين هما فستانين جميلين، تُشبه ألوانهما زينة العيد. يومها حملتني الحاجة رسمية بين ذراعيها، وراحت تتأمل ملامحي الصغيرة، قبل أن تهمس لوالدتي “بنتك  عيونها بتحول”.

نظرت أمي إلى عينَي الصغيرتين وقالت بحزم “لا، عينيها سليمتين، فش فيهن أي مشكلة”، لكن الشك بدأ يتسلل إليها، خاصة عندما لاحظت شيئًا غريبًا لم تستطع تفسيره، فأخبرت والدي بما قالته الحاجة رسمية، ورغم محاولاتهما إقناع نفسيهما أن الأمر بسيط، إلا أن الأيام أثبتت أن المشكلة حقيقية، وبدأت تظهر بوضوح.

لم ينتظر أبي طويلًا. حملني ذات صباح وقرّر أن يبدأ رحلة العلاج، فتوجهنا إلى مدينة القدس. في مستشفى هداسا عين كارم، خضعت للفحوصات تحت إشراف فريق طبي فرنسي وإسرائيلي، هناك، واجه والداي صدمة قاسية، حين أخبرهم الأطباء أنني أعاني من تلف شبكي نادر للغاية، مرض يصيب شخصًا واحدًا من بين كل مليون، وقالوا إن المرض سيتسبب في فقداني لبصري بشكل كامل، عند بلوغي سنّ السادسة على الأرجح.

خضعت حينها إلى سلسلة من العمليات الجراحية، معظمها كان تجريبيًا، محفوفًا بالشكوك والآمال. ولم تكن تلك الإجراءات تضمن الشفاء أو وقف تقدّم المرض، فكان والداي يعيشان بين الأمل والخوف، وأنا، كطفلة صغيرة لم أكن أعرف سوى أن العالم مكان جميل ومليء بالدهشة، أعيش يومي دون أي اكتراث لكل ما يدور حولي.

بينما كنت أتشبث به، شعرت أنّ شيئاً آخر قد تغير، ولم يكن الألم الجسدي هو ما أشعر به فحسب، بل كان هناك فراغ مخيف يسيطر على عالمي. رفعت رأسي نحوه لأرى ملامح وجهه المطمئن، لكنه لم يظهر لي، ولم يظهر شيء، ولم أكن أرى سوى ظلام دامس، كأنه ستار أسود سقط فجأة على عينيّ 

ما كان يشغلني في تلك الفترة هي الرحلات التي كنا نقوم بها إلى القدس. أحببت الذهاب إلى المسجد الأقصى، أتأمل جدرانه المزينة بالنقوش والزخارف، وأشعر بروحانية المكان تغمرني. كنت أتشبث بيد أمي وأمشي بخطوات صغيرة، بينما يقودنا أبي عبر الأزقة والأسواق القديمة. وأكثر ما كنت أنتظره بفارغ الصبر هو سوق باب العمود، إذ يترك لي أبي حرية الاختيار، فيضحك عندما أطلب بحماس “بدي خبزة كعك بسمسم وبدي طبلة”.

مرت الأيام، وكبرت عامًا بعد عام، وكلما اقتربت من عامي السادس، كان الخوف يتسلل إلى قلب والديّ، وهما يستعيدان أقوال الأطباء “لن ترى بعد هذا العمر”، غير أنّي ظللت أرى، وكأن رحمة الله كانت تفتح أمامي نافذة وقت إضافية لرؤية هذا العالم.

عندما بلغت السادسة، لم أفقد بصري كما توقع الإطباء. بقيت أرى الألوان، الوجوه، والنور الذي يملأ النهار، كأن القدر أراد أن يمنحني فرصة أخرى، مهلة إلهية أعيش فيها طفولتي بكل تفاصيلها. لم أكن أعرف ما يخبئه المستقبل، كنت أعرف فقط أنني أريد الاستمرار في التحديق بالسماء، بوجوه أحبتي، وبكلّ ما يجعل هذا العالم مدهشًا وساحرًا.

تجاوزت السادسة من عمري وبدأت رحلتي في التعليم بالمدارس الابتدائية التي تديرها “وكالة الغوث”. كلّ خطوة على هذا الدرب كانت مليئة بالتحديات التي لم يدركها من هم حولي. بدأ نظري يضعف تدريجيًا،  فصرت أجلس في الصفوف الأولى محاولة أن أرى ما تكتبه المعلمة على السبورة، لكن الخطوط الملونة بالطباشير الحمراء أو الزرقاء كانت تختفي أمام عينيّ، تاركة وراءها ظلالاً باهتة لا معنى لها. بدا كل يوم في المدرسة أشبه بمعركة صامتة لم أملك لها حلاً، وأصبحت المعاناة جزءاً من يومياتي دون أن أعي حجمها.

مرّت السنوات ثقيلة حتى جاء يوم العشرين من نيسان (أبريل) عام 2002. استيقظت ذلك الصباح كالمعتاد، في بيت جدتي الذي كنت أمضي فيه غالبية الوقت، والذي كانت تفصله عن بيتنا حديقة المنزل. قررت أن أعود إلى منزلنا حيث كانت أمي وأبي ينتظرانني، فخرجت من البيت بخطواتٍ سريعة رغم ما كان يثقل صدري من تعب لم أستطع تفسيره. عبرت الحديقة التي كنت أحفظها جيداً، متلمّسةً طريقي بين الأشجار والأزهار التي حفظتها من روائحها أكثر من أشكالها.

تعثّرت قدمي فجأة بجذع شجرة جوري، وسقطت على الأرض، فلفّتني أشواكها كأنها أفخاخ صغيرة علقت على ملابسي وجلدي، وبدأت أشعر بوخزها المؤلم يخترقني. حاولت النهوض، لكن الألم كان شديداً، وصرخت بكل ما فيّ من قوة “الحقوني الحقوني”، لم تمر سوى لحظات حتى جاء أبي مسرعاً، قلقاً من صراخي، ورفعني بين ذراعيه.

بينما كنت أتشبث به، شعرت أنّ شيئاً آخر قد تغير، ولم يكن الألم الجسدي هو ما أشعر به فحسب، بل كان هناك فراغ مخيف يسيطر على عالمي. رفعت رأسي نحوه لأرى ملامح وجهه المطمئن، لكنه لم يظهر لي، ولم يظهر شيء، ولم أكن أرى سوى ظلام دامس، كأنه ستار أسود سقط فجأة على عينيّ.

أدرك أبي في تلك اللحظة، أنّ ما كان مجرد ضعفاً في النظر قد انتهى إلى فقدان كامل للبصر. لم تقتصر الصدمة على الألم الذي شعرت به، بل على الواقع الجديد الذي وجدت نفسي أمامه؛ كنت أعيش سنوات طفولتي بعينين متعبتين، لكن الآن، في العاشرة من عمري، اختفى ما تبقى من بصري إلى الأبد.

عندما خطفني صوت الراديو

في لحظة فارقة من طفولتي، انطفأ النور من عيني، لكن في المقابل، شعرت بنور آخر يشتعل في قلبي.. نور الإصرار الذي زرعه أبي وأمي في داخلي. لم يكن فقد البصر يعني نهاية حياتي أو أحلامي، بل كان بداية مشوار مختلف، مليء بالتحديات التي صقلَتني وجعلتني أؤمن أنّ الإرادة قادرة على قهر المستحيل.

بدأت رحلتي التعليمية في مركز النور التابع لـ “وكالة الغوث”، بالتزامن مع فترةٍ حسّاسة من تاريخ قطاع غزة، قبل أن ينسحب الجيش الإسرائيلي من المنطقة. كنت أعيش في المحافظة الوسطى، وكان المركز يقع في مدينة غزة، يفصل بيننا حاجز نتساريم الذي كان الجيش يغلقه ويفتحه متى شاء. لم يمنعني ذلك، ولم يمنع أبي وأمي من أن يمسكا بيدي ويمشيا بي ساعات طويلة حتى أصل إلى المركز، كانا مؤمنين بي أكثر مما كنت مؤمنة بنفسي، وكانا على يقين أنني أستطيع تحقيق المستحيل.

هناك، تعلمت طريقة برايل، وهي تحدٍّ بحدّ ذاته بالنسبة إلى طفلةٍ صغيرة كانت تقرأ وتكتب كبقية الأطفال بالطرق العادية، إلى أن وجدت نفسها أمام نظام جديد يعتمد على اللمس بدل الرؤية. البداية كانت شاقّة ومليئة بالدموع، قبل أن تتحوّل البرايل مع الوقت إلى نافذتي على العالم، وسبيلي الوحيد لفهم الكتب والحروف، وجسري نحو العلم.

انتقلت بعد ذلك إلى المرحلة الإعدادية في مدرسة النور والأمل لذوي الإعاقة البصرية، ورغم أن البيئة كانت مجهزة ومهيأة لنا، إلا أنني كنت أشعر أن ما ينتظرني أكبر من مجرد التكيف مع هذا الواقع، إذ كنت أحلم بأفق أوسع، وبإنجاز أكبر. جاءت المرحلة الثانوية لتثبت لي ذلك، حين قررت إكمال دراستي بين طلاب من دون إعاقة، في مدرسة عامة لم تكن مهيأة لاستقبال طالبات من ذوي الإعاقة. لم يكن المعلمون ولا الطلاب يعرفون الكثير عنا، وكانت نظراتهم في البداية مليئة بالتردد والدهشة، لكنني كنت عازمة على كسر تلك الحواجز، وشيئًا فشيئًا، أصبحت الطالبة المتفاعلة، التي تشارك زملائها طموحهم وأحلامهم.

دخلت الجامعة الإسلامية في غزة كأول طالبة بإعاقة بصرية تدرس الصحافة، فكان الأمر غريبًا على الجميع؛ أعضاء هيئة التدريس، الطلاب، وحتى النظام التعليمي نفسه. واجهت تحديات كثيرة، من عدم توفر المواد الدراسية المطبوعة بطريقة برايل، إلى نظرة المجتمع التي كانت تجهل قدرات الأشخاص ذوي الإعاقة. لم أستسلم مع ذلك

عندما أنهيت المرحلة الثانوية، واجهت القرار الذي يواجهه كل شاب وشابة: ماذا أريد أن أكون؟ كان والدي مثل كل الآباء، يريدني أن أتخصص في علم النفس، وكانت والدتي ترى أنّ دراسة الأدب الإنكليزي خيارًا مناسبًا لي، لكنني كنت أملك حلمًا مختلفًا، شغفًا خاصًا، عشقًا لشيء نما معي منذ الصغر. دائمًا ما كنت أستمع إلى الإذاعات وأقلّد المذيعين، أشارك في البرامج والمسابقات الثقافية، وأشعر أنني أعيش في عالم من الكلمات والصوت، لذلك، اخترت الصحافة والإعلام.

دخلت الجامعة الإسلامية في غزة كأول طالبة بإعاقة بصرية تدرس الصحافة، فكان الأمر غريبًا على الجميع؛ أعضاء هيئة التدريس، الطلاب، وحتى النظام التعليمي نفسه. واجهت تحديات كثيرة، من عدم توفر المواد الدراسية المطبوعة بطريقة برايل، إلى نظرة المجتمع التي كانت تجهل قدرات الأشخاص ذوي الإعاقة. لم أستسلم مع ذلك، فكنت أبحث عن بدائل، أسجل المحاضرات، وأقرأ الكتب بالاعتماد على تقنيات الصوت، وأتحدى نفسي في كل خطوة.

إذا استعدت تلك السنوات الآن، أعرف أنّها لم تكن مجرّد رحلة تعليمية، بل أقرب إلى ملحمةٍ شخصية كانت تدفعني لكي أثبت لنفسي وللآخرين أن الإعاقة ليست في الجسد، بل في العقول التي تستسلم. هكذا شققت طريقي إلى عالم الصحافة، لأكون الصوت الذي ينقل قصص الآخرين، وأحمل رسالة أمل لكل من يظن أن الظروف يمكن أن تهزمه.

حنجرة منفردة تسعى إلى إحداث فارق

كانت رحلتي الإعلامية بمثابة الحلم الذي بدأ يكبر مع الوقت.. مشوارًا مليئًا بالتحديات والشغف الذي لا ينطفئ. بدأت هذه الرحلة عندما التحقت بالعمل كمعدّة ومقدمة برامج في إذاعات محلية عدّة منها إذاعة “زمن”، حيث كنت أتنقل بين الأثير حاملةً رسائل تلامس قلوب الناس، وتروي قصصًا لم ترو من قبل. أشعرتني تلك التجربة أنّ صوتي يمكن أن يكون وسيلة لإحداث فارق، حتى لو كان منفردًا، في حياة من يستمعون إليّ، ولم يكن الأمر سهلًا، فقد كانت البداية مليئة بالتجارب التي تتطلب مني أن أتعلم بسرعة، وأن أطور نفسي، وأن أواجه التحديات بثبات.

سرعان ما تطورت هذه الرحلة لتشمل مجال الصحافة المكتوبة، حين أصبحت محررة صحفية أبحث عن القضايا التي تتوارى خلف العناوين الكبيرة، تلك التي لا تجد مكانها في الصفحات الأولى لكنها تحمل في طياتها معاناة وآمالًا تستحق أن تُروى. ووسط كل هذا، مال قلبي وعقلي دائمًا إلى قضايا الإعاقة التي شعرت منذ البداية أنّها ليست مجرد عمل، بل رسالة أؤمن بها بكل كياني.

لم أتوقف عند العمل الإذاعي والصحفي، فجاءت الفرصة لأعمل كمعدة ومقدمة برامج تلفزيونية، ما فتح لي نافذة جديدة نحو العالم. شعرت أنني أقترب أكثر من تحقيق رسالتي، وأن صوتي بات يصل إلى عدد أكبر من الناس نظرًا إلى سرعة الانتشار التي يحقّقها التلفاز. ففي كل مرة وقفت فيها أمام الكاميرا، كنت أستحضر مسؤولية أن أكون صوتًا لمن لا صوت لهم، وأن أوصل قضايا ذوي الإعاقة إلى شاشات التلفزيون، وأن أكسر الحواجز التي تحول دون فهم المجتمع لهم.

جاءت الحرب الأخيرة  كعاصفة عنيفة أجهضت أحلامًا وجهودًا امتدّت لعشر سنوات، وكنت أرى أمامي كل ما عملت عليه من تطوير الذات، وكل ما سعيت لبنائه، يتناثر كأوراق في مهب الريح. شعرت بثقل الخسارة، ليس فقط على المستوى الشخصي، بل على مستوى الرسالة التي كنت أعمل من أجلها، فالحرب لا تقتل الأرواح فقط، بل تقتل الأمل في النفوس

لم أكن لأتجاوز كلّ التحديات في هذه الرحلة لولا دعم والدي الذي شجعني على إكمال مسيرتي التعليمية بالالتحاق بالدراسات العليا في قسم الصحافة والإعلام بالجامعة الإسلامية. بدت هذه الخطوة أكثر من مجرد مرحلة تعليمية، بل كانت نقطة تحوّل في حياتي، إذ أكسبتني أدوات جديدة في عملي.

إلى جانب دراستي وعملي في المجال الإعلامي، عملت كناشطة في مجال حقوق ذوي الإعاقة، فشاركت في مبادرات عديدة، وأطلقت مشاريع تهدف إلى رفع مستوى الوعي بحقوق هذه الفئة، وتعزيز قدراتهم، وتمكينهم من أخذ مكانهم الحقيقي في المجتمع. كان لديّ حلماً كبيراً؛ أن أرى مجتمعًا يتقبل الجميع، مجتمعًا يحتضن التنوع ويقدّر الاختلاف.

لكن كما هو الحال دائمًا في حياتنا بغزة، جاءت الحرب الأخيرة  كعاصفة عنيفة أجهضت أحلامًا وجهودًا امتدّت لعشر سنوات، وكنت أرى أمامي كل ما عملت عليه من تطوير الذات، وكل ما سعيت لبنائه، يتناثر كأوراق في مهب الريح. شعرت بثقل الخسارة، ليس فقط على المستوى الشخصي، بل على مستوى الرسالة التي كنت أعمل من أجلها، فالحرب لا تقتل الأرواح فقط، بل تقتل الأمل في النفوس، وتبعثر الخطط، وتعيدنا إلى نقطة الصفر. لم أسمح لهذه الحرب أن تسلبني ما أؤمن به، فكنت أحدّث نفسي: إذا كانت الإعاقة لم توقفني، فكيف يمكن للحرب أن تفعل ذلك؟

من مخيم المغازي إلى النصيرات.. فإلى المغازي مجدّداً   

حلّت الحرب كابوسًا علينا دون سابق إنذار، كما لو أنّها وحش متربّص مزّق كل خيوط الأمان التي نسجناها بصبرنا على مدار سنوات طويلة. تبعثرت العلاقات؛ غادر من غادر، استشهد من استشهد، ونزح من نزح، ووجدت نفسي أواجه واقعًا لم أكن أتصور أنه سيكون يومًا جزءًا من حياتي.

البداية كانت مع اضطرارنا إلى النزوح من مخيم المغازي، المكان الذي احتضن طفولتي وأحلامي، إلى مخيم النصيرات. وهناك، كان التنقّل بين البيوت أشبه بمحاولة الإمساك بظلّ يهرب منك، ولم يكن هناك استقراراً ولا راحة، مجرّد هروب مستمر من الموت الذي يلاحقنا بلا هوادة. لم أعتقد يومًا أنني سأعيش حياة كهذه، فكوني سيدة بإعاقة بصرية اعتدت أن أعيش في غرفةٍ الصغيرة، غرفتي التي صارت عالمي الآمن الذي بنيته بعناية. كل شيء كان هناك، كل ما أحتاجه لأعيش مستقلة، لأحافظ على حياتي دون الحاجة إلى مساعدة أحد، وهذا ما كان يشعرني بالراحة ويمنحني الخصوصيّة.

لا تنتظرنا الحرب، ولا تمنحنا رفاهية البقاء حيث نريد.. اقتُلِعتُ فجأة من عالمي الصغير، وألقي بي في حياة  مزدحمة، بلا استقرار، بلا حدود تفصلني عن الآخرين وتشكّل جزءًا من وجودي. الأمر أشبه بأن تُجرَّد من نفسك، أن تُسحب من مكان تعرف فيه كل زاوية وكلّ ملمسٍ، إلى أمكنة تجهلها تماماً. ووسط هذه الحياة التي بدأت تضيق عليّ أكثر كل يوم، ظهرت شعلة صغيرة من النور، شعلة أعادت إلي شيئًا من الأمل والطمأنينة، وتحمل اسمي: وردة.

وردة هي ابنة أخي الصغيرة، التي تماهت مع اسمها إلى أن نبتت كوردةٍ وسط كل ذلك الخراب. لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، لكنّها كانت تفهمني من دون أن أتكلم، تقرأ احتياجاتي من حركة صغيرة مني. ظننت أنني سأغرق في حياة فقدتُ فيها السيطرة على كل شيء، لكن وردة كانت طوق النجاة.

في كل بيت ذهبنا إليه، حمتني هي بطريقتها، ليس بالكلمات أو الأفعال الكبيرة، بل بالتفاصيل الصغيرة التي لا يفهمها إلا من كان يحمل قلبها. حفظت لي خصوصيتي دون أن أطلب ذلك، ورمّمت لي شيئًا من عالمي القديم، من دون أن تتذمّر أو تشكو، اكتفت بالسير بجانبي كظلٍ هادئ كأنها خُلقت لهذا الدور.

 مع الهدنة الأولى، عدنا إلى المغازي، ظنًّا منا أنّ شيئًا من الاستقرار قد يعود إلينا، لكن العودة كانت بداية لفصلٍ جديد من الألم والدمار.

في 31  كانون الأوّل (ديسمبر) 2023، حوصرت حارتنا بالكامل، وأصبحنا هدفًا لنيران الجيش الإسرائيلي التي لا تفرّق بين حجر وبشر. الأحزمة نارية ملأت السماء، والأرض لم تعد سوى ساحة لأشلاء الشهداء التي تناثرت في كل مكان. تطايرت الأعمدة الإسمنتية كأوراق خريف تقتلعها العواصف، كأن الحارة نفسها كانت تئن من قسوة ما يحدث. ووسط هذا الجحيم، وبمعجزة لا أستطيع تفسيرها حتى الآن، خرجنا من الحارة بمساعدة أهلها، لكن ما تركناه خلفنا كان أكبر من أن تصفه كلمات.

ظلّ بيت في العراء

قرّر والدي في ذلك اليوم أن ننتقل إلى مدينة خانيونس، بحثًا عن الأمان. وكانت من أسوأ الأماكن التي نزحنا إليها، مع غياب أيّ احترام لذوي الإعاقة، وانعدام الخصوصية. عشنا في خيمة، نحاول التأقلم مع وضعنا الجديد بقلوبٍ مثقلة بالخوف والقلق، وكنت أبحث عن أي لحظة لالتقاط أنفاسي، دون أن تمنحنا الحرب إيّاها.

بدت الخيمة أشبه بظلّ بيت، بيت بلا جدران حقيقية، مجرد قماشة هشّة تفصلك عن العالم، لكنها لا تمنحك أي شعور بالستر أو الخصوصية. هنا، الخصوصية ليست مفقودة بينك وبين من يعيش معك في الخيمة فحسب، بل بينك وبين سكان الخيام المجاورة. تصل أصواتهم إليك كما لو كانوا يجلسون بجانبك، حتى أنفاسهم تبدو أنها تخترق حدود المسافات القليلة بينكما. كل شيء مكشوف، كل شيء بلا حدود، كنّا في حياةٍ معلّقة بلا أبواب.

كان هذا الوضع كافيًا لإثقال القلب، وما جعل الألم مضاعفًا هو الخيمة المجاورة التي كانت تقيم فيها سيدة بإعاقة حركية. كلّ حركة تقوم بها كانت أشبه بمعركةٍ، وكل لحظة تمرّ بها كانت مليئة بالتحديات. عملي الطويل مع الأشخاص ذوي الإعاقة جعلني أعرف تماماً ما تعنيه تلك الحياة بالنسبة إليها، وأعرف كم تحتاج إلى بيئة تُشعرها بشيء من الأمان والراحة، لكن ما لاحظته أمامي بدا كمهزلةٍ قاسية: خيمة في قلب العراء، أرض من تراب، حياة أشبه بالنفي الى صحراء.

كنت أراقب حالها وأشعر أن الحرب لا تكتفي بتدمير المدن، بل تطحن إنسانيتنا بلا رحمة، وأردّد لنفسي أنّ هذا المكان لا يليق بأحد، حتى لو كنا نعيش في زمن حرب، فهناك أشياء لا يجوز التنازل عنها، هناك كرامة لا يُفترض أن تُهان بهذا الشكل، بيد أنّي كنت عاجزة ومشلولة أمام واقع أقوى من كلماتي، وأقوى من قدرتي على الحلم بمكان أفضل.

وجدنا بيتنا، ذلك المنزل المكون من خمسة طوابق الذي كان ملاذنا الوحيد، قد تحول إلى كومة من الركام، شقاء عمر والدي ذهب في لحظة واحدة، كأن كل ما بنته عائلتي طيلة حياتها قد تلاشى برمشة عين

ثم جاء اليوم الأسود، 22  كانون الثاني (يناير) 2024. دخل الجيش الإسرائيلي منطقة الصناعة في خانيونس بالدبابات والطائرات، وتحوّلت المدينة إلى جحيم مفتوح، تنهال الصواريخ عليها من كل جانب، ويخترق الرصاص الخيام التي يفترض أن تحمينا، حتى الخيام المجاورة اشتعلت بالنيران، وصراخ الأطفال والنساء ملأ المكان. شعرت في تلك اللحظة أنني وصلت إلى حافة الانهيار، قلت لعائلتي “اتركوني هنا، لا تعرضوا أنفسكم للخطر من أجلي”. شعرت بالعجز التام، وكأنني عبء ثقيل عليهم، إلا أنّ أخي الأكبر رفض الاستسلام، فأخذني بيده، متحديًا الرصاص والقناصة، وتحت حماية الله وحده، نجحنا في عبور تلك اللحظة المميتة.

بعدها نزحنا إلى رفح، حيث وجدنا مأوى آخر في خيمة. كان الوضع هناك أقل قسوة، لكنه لم يكن بعيدًا عن المعاناة، وبقينا هناك أسبوعين، نحاول استيعاب ما مررنا به، قبل أن نعود إلى المغازي الذي كانت العودة إليه مريرة حد البكاء. وجدنا بيتنا، ذلك المنزل المكون من خمسة طوابق الذي كان ملاذنا الوحيد، قد تحول إلى كومة من الركام، شقاء عمر والدي ذهب في لحظة واحدة، كأن كل ما بنته عائلتي طيلة حياتها قد تلاشى برمشة عين.

أبي يُطيل صمته

نهار كلّ يوم جمعة، اعتدتُ أن أعود مع والدي إلى ما كان يومًا بيتنا. أجلس معه على أطلال حياتنا، حيث الحجارة المتناثرة تحمل بين شقوقها بقايا أحلامنا وصدى أيامنا الماضية، وأشير إليه قائلةً “هنا، يابا كان مطبخنا، أتذكر كيف كنا نجلس فيه معًا؟ نشرب القهوة قبل صلاة الجمعة، وضحكاتنا  تُسمع في الصباح، وهناك، في الحديقة، تحت ظلال شجرة السرو، كنا نهرب من حر الصيف، نحكي الحكايات ونتشارك الصمت الجميل..”. فينظر والدي حوله بصمت، يطيل التأمل، كما لو أنّ كلماتي تحاول أن تمنح الدمار معنى، لكنه في النهاية يهز رأسه بحسرة ويقول “هنا، وهنا كل شيء صار ركامًا”.

كلماته كانت ثقيلة كالصخور من حولنا، تخترق القلب كأنها اعتراف بالفقد، واعتراف بأنّ الفقد لا رجعة عنه. مع ذلك، كنت أعود معه كل أسبوع، ليس لأن الركام يملك شيئًا ليمنحني إيّاه، بل لأنني كنت أرفض أن أتركه يذهب وحده، وأرفض أن أترك المكان بلا روح، حتى لو كانت مجرد تفاصيل من ذكرى.

لم نملك خيارًا سوى قبول هذا الواقع القاسي، فبقينا بين الأنقاض نحاول بناء حياة من جديد. مرت الشهور كأنها سنوات، وحمل كل يوم معه جروحًا جديدة. وبينما كنا نحاول التمسك ببعض الأمل، استشهد والدي، فكانت تلك الخسارة بمثابة الطعنة التي أعادت فتح كل الجروح القديمة، وجعلتني أدرك أن الحزن أصبح جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا.

انتقلتُ بعدها من خيمة بالكاد تقي جسدي من البرد والعيون الفضولية، إلى مركز نزوح يعج بالناس والقصص التي تثقل الروح. كلّ وجه كان يحمل حكاية تشبه الحطام، وكل صوت ينطق بجانبي كان يفضح ألمًا أعمق مما يبدو عليه، مع ذلك، عرفت أنّ عليّ تعلّم العيش وسط هذا الزحام الذي لا ينتهي. كنت أواسي نفسي بفكرة واحدة أن هذا كله مؤقت، منتظرة لحظة وقف إطلاق النار التي باتت حقيقة الآن، اللحظة التي يمكن أن أُمنح فيها حياةً جديدة.

هذه حكايتي، حكايتي التي تشبه حكاية الآلاف من أبناء غزّة. نعيش في دائرة لا تنتهي من السعادة القصيرة والحزن الطويل.. نحاول أن ننهض كلّ مرّة نتهاوى فيها ..